دار طويف
عاد ورقة إلى بيت فتنة بعد ارفضاض المسلمين من المسجد؛ ليأخذ جواده ويسير إلى هدى، ولكن فتنة لم تمكنه من ذلك؛ لأن الحر كان شديدًا جدًّا، فالشمس تلفح الوجوه وتشويها، وسموم شهر تموز على حالها كأنها نفثات الجحيم، وأقسمت عليه إلا أن يقضي ساعات الهجير عندها؛ ليتبلغ، ثم رحل على بركة الله إلى هدى في العصر.
أجاب ورقة دعوة فتنة، ودخل الدار، وفتنة تتقدمه فرحةً به وصلفة أن يدخل دارها مسلم، وهي تقول: الحمد لله الذي طهر بيتي وطهرني، وجعل من فضله عليّ أن يدخل المسلمون بيتي، ويجعلني فيمن يشفع لهم النبي الأمين. قال ورقة: دعاءٌ كريم يا فتنة، أرجو أن يتقبَّله الله منك، ولكني أخشى ألا يتقبله يا أختاه حتى تنزلي هذا عن مكانه: وأشار إلى نصب أغبر مشوه موضوع على ناصية الباب، كالتاج من الرءوس. فلما تبينت قصده قالت: صدقت يا ورقة، لا أدخلك غرفتي حتى أنزعه بيدي. انتظر قليلًا، والله ما كان له عندي من قبلُ كرامة حتى يكون له اليوم، بل لعله كان أدعى إلى الشر منه إلى الخير. كم كنت أقسم به للناس فيما لم يكن من نيتي الوفاء به أو قصد الصدق فيه. فضحك ورقة لهذا الاعتراف، وأخذ يتأمل صنع النصب فلم يجده إلا قطعة من طين مجفف ومجصص، ذا رأسٍ خليط فوق كتفين ويدين، لا تناسب بينها، ولا معنى لها. فابتسم وقال: مسكين هذا الإنسان: إنه يجب الله ويريد أن يلقاه، ويدفعه فرط الحب إلى تقريبه، ويرضيه لخالق الزهرة، والعين والإنسان والحيوان مثل هذه الصورة! إنه والله لكنود. قالت: لم يعد للكنود ولا لله من صورة عندنا إلا في جمال الحق، ثم أهوت على الصنم بهرواة أتت بها فتكسر وهوى، وقالت لورقة: ادخل. أمتقبل ربي الآن دعائي؟ قال: أجل فيما أعتقد، وقبله كذلك، ولكني شئت أن ألفتك إلى ما لم يخطر ببالك وجوده. قالت: شكرًا لك. ادخل حتى أعود إليك.
وجد ورقة في الغرفة حصيرًا من سعف النخل مفروشًا بها، وبعض حشايا من جلدٍ موضوعة إلى أحد أركانها، والغرفة على فرط الحر في الخارج رطبة طيبة، فانتعشت نفسه، وإذ جلس واتكأ أخذ يعرض حوادث يوميه، فإذا هي جسام جسام؛ ذكر لمياء وحبه إياها وعزمه على أن يقف به عند حد الأخوة الخالصة، وذكر الناعي في الصباح وهول ما نعى، وسيده وما لقي وألقى في قلبه من الحزن عليه، ثم ذكر حراء وسيدته خديجة وما كان له مع زيد من حديث انتهى بإسلامه؛ إذ كان بينه وبين الحق خطوة لم تستبن له حتى كشف له عنها زيد بن حارثة بما عرفه من رسول الله، ثم ما كان من إسلام حمزة وعمر، وخروجه في المسلمين أول يوم أعلن فيه الإسلام في مكة، ثم عاد فذكر لمياء وما تلقى الآن لفراقه، وما يجد لها من الشوق في قلبه، فاستوى قلقًا، وحدثته النفس أن ينهض من فوره إلى هدى ليلقاها، ويتبرد بمرآها، وكاد يهم بذلك معتذرًا بما يحضره لولا أن دخلت عليه فتنة وفي يمناها جرة ماء صغيرة، وفي يسراها جفنة فيها لبن، وخرقة من ثوبٍ علقتها بخنصرها، وفوق رأسها أقراص رقيقة من الخبز؛ فتلقاها ورقة بالشكر، وعاونها على تخلية يديها منها.
فرشت فتنة الثوب سفرة وضعت عليها الطعام، وتناول ورقة جرة الماء فغسل أصابعه وجففها في الخرقة وفعلت فتنة مثله، وقالت: بسم الله. فانصرفا إلى الطعام وهي مغتبطة به سعيدة بأن تضيفه، وتذاكرا فيما كان من حوادث اليوم، وما جرى من عمرو المخزومي إذ لقي رسول الله، وما فعلت هي به، وسألته عما جرى بعدئذ فخبرها بما كان فانتعشت وسرّت، وانتقل الحديث إلى شئونه الخاصة فأخبرها بأمره، وأنه بمثابة تلميذ للحارث بن كلدة، وأن الحارث يعيش بين أهله في هدى فرارًا من حر مكة؛ إذ كانت زوجته رومية من أهل الإسكندرية، ولها ابنة جميلة ترعاه وتخصه بمحبتها. قالت: وهذا ما كان يدعوك أن تستهدف لنيران الهجير. قال: قد يكون ذلك حقًّا، ولكني غبت عنهم كثيرًا وهم يأتنسون في وحدتهم بي، وأستاذي ابن كلدة رجل كثير المطالب وليس من يقضيها له سواي. قالت: لا تجمع على نفسك نارين: شوقك والهجير، وإذا رشدت فلا ترحل إلا في العشي. فضحك ورقة وقال: وإذا جاء العشي قلت الليل آذن فانهض في السحر. قالت: هو ما يجب وربي، ولكنك لا ترضى أن تبيت عندي. قال: لم يعد عليّ أن أبيت عندك جناح بعد إذ طهرك الله، ولكنّ لي بيتًا، ولي أمًّا في مكة كما تعلمين، ولن يقول الناس إلا سوءًا. على أني عزمت على المسير في العصر. قالت: كذلك، لقد أطعمت جوادك وسقيته منذ ساعة، وأراه أصبح صديقًا لعنزتي، فقد تركتهما الآن يتداعبان. فضحك ورقة لمزاحها وشكرها، ودعا الله أن يهيئ له رد مكارمها. وفيما هما كذلك سمعا الباب يُقرع فتأذت لذلك وأجفلت؛ لأنها كانت تتوقع شرًّا من أبي الحكم المخزومي جزاء ما لقي منها، وحدثت ورقة في ذلك. قال: لا بأس عليك، ولكن خير لك ألا تفتحي ولا تردي. قالت: كذلك، واستمر القارع يقرع فلما تعب ناداها باسمها، فعرفته، إذ كان عبيد سيدها ابن جدعان، وأخبرت بذلك ورقة همسًا. قال: لا تفتحي ولا تتكلمي … فكرر العبد نداءه وقرعه، وإذ يئس قال: محال أن تكون في البيت ولو نائمة، ماذا علي لو عدت إليه أخبره بذلك؟ وانصرف فعلًا.
هناك في الثنية لقيته وركبت وراءه، وسار في غير ما اعتاد من الطرق إلى هدى، ولكن فتنة كانت تعرف الطريق حق العلم فما زالت به تقول من هنا ومن هناك حتى اعتدل في طريق هدى الذي يعرف.
بلغا هدى قبل العصر، ولكنه لم يشأ أن يذهب بصاحبته على الفور إلى بيت الحارث حتى يلقى زوجته هرميون، ويعرض أمرها عليها فيها، فإن عطفت عليها فبها، وتكلم مع الحارث في شأنها، وإلا تدبر في شأنها.
وكان ورقة يعرف بدّالًا ثقفيًّا في هدى يدعى طويف يجيء هدى كل عام في الربيع، ويبقى فيها إلى ما بعد الصيف؛ ليبيع المصطافين حاجتهم من مؤونة الحياة، وكان يسكن هو وأخت له أرملة تُدعى سعدى في بيت لهما وراء ضفة النهر في طريق الهابط إلى مكة، وكان سبب معرفته بهما أنه كان يبيع لبيت الحارث ما قد يحتاجون إليه. كما أنه زاره ذات يومٍ هو والحارث إذ كانت أخته مريضة، وكان يتردد عليها بأمر الحارث؛ ليراقب حالتها، ويصنع لها الدواء وفاق أمره، ثم صار يقف على دكانته يحييه، ويستأنس به وهو في طريقه رائحًا إلى مكة أو غاديًا منها، وربما جلس معهم بعض الوقت؛ إذ كان الرجل وأخته يمين في حديثهما ولقائهما، ومن ثم توثقت بينهما مودة كانت سببًا في رواج حاله؛ إذ علمت فتيان المعسل أن ورقة يتردد عليه، فكن يقصدن إلى دكانته؛ ليشترين منها ما يكن في حاجة إليه، ثم يقضين في بيته مع أخته بعضًا من الوقت يتحادثن فيما يشغل نفوسهن من شئون حياتهن، ومنها ورقة الفتى السمح الذي يركب الجواد. فإذا وجدنه هناك، أو جاء وهن عندها، أخذت كل منهن من وجوده نهلة لنفسها بالحديث معه، وعدت نفسها أسعد من رفيقتها إذا هو اختصها بدقائق في الحديث أكثر من سواها، وإذا ظفرت إحداهن منه بابتسامة أو سمعت منه على إثر حديثها معه مزحة معها أو مع الثقفية أخت البدال عُدت ذلك مزية، ولذلك لم يتردد البدال في أن يرجو منه الإكثار من زيارته وإن لم يبدله من علة هذا الرجاء إلا رغبته في الائتناس به، وشعوره بعظيم المحبة له، وكان أبين ما يجتمع الفتيات عند البدال عشي ليلة البدر وصباح يومه، وعشي الهلال وصباحه، وقد فعلن ذلك هذه المرة أيضًا، ولكن ورقة ذهب عشي الهلال ورأينه وحادثنه، وملأن عيونهن الجميلة منه، ولم يعد في صباحه، فصببن فرحتهن حيث نهلن؛ وإذ علا النهار ولم يعد من مكة عدن إلى دورهن آسيات لذلك، ولم تخف هذه العاطفة على الثقفية؛ إذ انطفأ ما كان يعلو عذارى المعسل من نور الابتهاج، فلم تتردد لإنعاشهن في أن تذكر لهن ذلك مباسطةً ومتألفة ومغرية لهن بالحديث عنه بلا تنكر، ولكنه لم يجئ صباح اليوم الثاني، وعلا النهار كذلك فعدن إلى دورهن كما عدن في ضحى الأمس.
جاء ورقة مبكرًا قبل العصر، ولم يكن يرجى أن يخرج أحد من مكة في الهجير؛ ليبلغ هدى في مثل هذا الوقت، ولذلك كان بيت الثقفي خاليًا من زوّاره.
هناك ترجل وترجلت فتنة، وأنزل جوالقها عن الجواد، ورآه الثقفي وأخته فخرجا للقائه مرحبين، وهما مشغولان باكتناه من معه، ورأيا على فتنة شيئًا غير عادي فيمن يعرفن من النساء كان سببًا في عجزهما عن الحكم من هي؟ لا يمكن أن تكون أمَّه؛ لأنها أصغر من أن تكون أمه، ولا يمكن أن تكون من جواري بيت الحارث في مكة؛ لأنهن يرتدين غير هذا الملبس، ولهن سحنة أخرى. هذه قوية النظرة كالصقر، عليها مسحة من قوة الاعتزاز بنفسها، وأولئك لا يكن كذلك. فتركا الأمر حتى يبين من نفسه.
دخلوا الدار بين ترحيب الثقفي وأخته. فقال ورقة للثقفي: هذه أخت لي يا طويف اسمها ناجية. أدعها عندك حتى أجيء فآخذها. لن يطول مقامها عندكم فيما أرجو، ولكني أرجو منكما ألا تذكرا من أمرها لأحد شيئًا، حتى ولا بعد أن أجيء لآخذها، وها أنذا أقول لكما شيئًا من حقيقتها؛ لتعرفا أنه إذا ظهر من أمرها شيء كان في ظهوره أذى لها ولي: هذه الأخت كانت في براثن الشر، فأنقذتها منه في غفلة من صاحبه، فإذا عرف أين هي الآن عرف من غلبه عليها، وما ترضيان لنا هذا. قولي إن شئت يا سعدى فلن يسألكما إلا النسوة، إنها ابنة خالتك جاءت في زيارة، ولا تزيدا على ذلك.
قال طويف: حبًّا وكرامة، وطمأنته الأرملة على ما أراد، وأظهرت استعدادها؛ لأن تكون معه على الدنيا إذا هو شاء، وقالت: ستكون ناجية في صون الله وستره ما دامت معنا، فاطمئن.
شكر ورقة لها برها وللثقفي فضله، واستأذن في الانصراف على أن يعود إليهما في العشية، وامتطى جواده؛ ليقطع بقية الطريق إلى بيت أستاذه.