من أجل عين
لم يشأ ورقة أن يتعجل الكلام مع مولاه في شأن فتنة تلك الليلة، وإنما اكتفى بأن انتهز فرصة اجتماعه بهرميون فذكر لها أمرها كله، ورجا منها أن تتلطف فتخبر الحارث في وقتٍ آخر، فإن وجدته مستعدًا للشفاعة لفتنة عند سيدها ابن جدعان — أذنت له أن يصحب سيَّده إلى دار طويف؛ ليجمعه بالفتاة التعسة عسى أن يكون من وراء رؤيته إياها ما يعطفه عليها، ويحمله على التفكير لها في وسيلة للنجاة. قالت هرميون: وأي وسيلة يا بني لإنقاذ فتاةٍ في مثل سنها إلا أن تعيش في كنف رجل يتزوجها ويحميها. لا وسيلة سواها إلا أن تكون وسيلة عرجاء، ولقد أحزنني حالها يا بني، ولا أدري بم أشير على زوجي. لقد كان في نيتي أن أتكلم معه في شأن تزويج زياد من سودة، وأظن أن سودة عرفت ذلك من سيدتها لمياء، فلم يبق لنا …
انتبه ورقة لهذه الملاحظة المفاجئة وقال: أنا يا سيدتي أتزوج! قالت: ألا يمكن أن يحدث ذلك! قال: محال أن أتزوج لا بها ولا بغيرها. فضحكت هرميون لهذا، وقالت: هذا ما تستشعره الآن، ولكن تنكرك للزواج يدل على أنك لا تعرف قيمة للزواج، ومثلك، لهذا، يرى النساء سواء، ولذلك أخشى عليك الخطأ عندما يمتلئ قلبك بالرحمة.
قال ورقة: افعلي ما بدا لك يا سيدتي، ما كنت أعترضك في أمرٍ كريم كالذي تتطوعين له بمحض إرادتك الطيبة، ولكني يا سيدتي أرجو أن تثقي أنني استخرت الله في أن أعيش في هذه الدنيا راهبًا. قالت هرميون: إنما تهون حياة الرهبنة على الراهب؛ لأنه يحبس نفسه في صومعة فلا يرى شيئًا من الدنيا، ولا يستشعر ما يستشعره من كانت الدنيا بين عينيه سوقًا ينغمس فيها. كيف تملك أن تعيش راهبًا؟ أيكون في فؤادك اليوم ما يؤلمك؟ مطمع ترى تحقيقه محالًا، فأنت ليأسك منه تعيش في مثل رهبنة، وتظن أنك لن تتغلب على يأسك، أو أن يأسك لن يزايلك، فأنت مترهب؟
أوشكت هرميون أن تقرع باب السر الخفي من نفسه، بل قرعته فعلًا وهي لا تدري، ولكنه لم يجرؤ أن يرد على الطارق. فأمسك ورقة لسانه، ونظر إليها نظرة يستشف بها مصدر سؤالها، وأدركت هي هذه النظرة، ورأت أنها تطرق حمًى ليس من حقها طروقه. فقالت: ليس لي أن أسأل هذا السؤال، ولكنك حملتني عليه. عش ما شئت، ولكني سأحاول تدبير أمر هذه الفتاة من أجلك أولًا، ومن أجلها ثانيًا. هذا حقك على أمك يا ورقة.
كانت نفس ورقة قد تزعزعت في هذه اللحظات الأخيرة. تذكّر حاله من لمياء، وأدرك أن ما ملكه من الرغبة في العيش مترهبًا إنما هو أثر من آثار ما اعتزمه من أن يقطع تلك الخيوط الحريرية التي تختلط بما يربطه بلمياء من الخيوط الأخرى: خيوط المودة الأخوية، فمال على يد سيدته هرميون وقبلها شكرًا، وأسقط عليها بغير اختياره دمعةً حارةً انتطلت من قلبه المحترق. فشدهت هرميون لذلك؛ ولكنها لم تشأ أن تتقصى الحقيقة، أو كأنها توهمتها فلم تشأ أن تتحقق منها؛ لأنها تواجه إن عرفتها أمرًا عصيبًا، ورضيت من الأمر بحاضره، فعزت تلك الدمعة إلى فرط بر الفتى بالجارية، وثبتها فيها ارتضت أنه استعطفها عليها من جديد. قالت: دع لي الأمر كله، وانصرف أنت الآن.
انصرف ورقة إلى غرفته مفكرًا في حديث هرميون وفي نفسه — أي في لمياء، وكأنما أطارت لها هرميون طائرًا كان في صدره، فلم يستقر في فراشه، فجلس في فراشه يفكر، ولكنه لم يهتد إلى شيء، وأحس أن غرفته تحبس عنه موارد السلوى، فنهض وانتعل ثانيًا وارتدى، وخرج يستنشق نسيم الجبل سائرًا على غير هدى، حتى وجد نفسه عند نهر المعسل، فوقف ينظر إلى مائه وهو ينحدر متموجًا متألقًا فيما أبقت ساعات العشاء من الهلال. ثم خطر له أنه لم يصل العصر، فخلع نعليه واقترب من الماء يتوضأ، حتى إذا أتم وضوءه نهض متجهًا نحو الكعبة قبلة إبراهيم يصلي لله كما علمه زيد، وكما رأى رسول الله في الحرم، ولكنه لم ينهض بعد ركعتيه بل استمر جاثيًا يدعو الله أن يثبته، ويقويه على احتمال ما في قلبه، ولم يطاوعه هذا القلب فيدعو ربه أن يزيل ما فيه من الحب للمياء؛ لأنه كان يرى أن هذا الحب من حقها: هو جزاء حبها له. بل هي التي استودعت قلبه الحب فلا يملك أن يزيله منه، ولا من المروءة أن يطلب إلى الله إزالته، وإن هذا الألم الذي يعانيه هو ما بقي له من الصلة بها. فإذا هو إزاله — والفرض لا حد له — حرم نفسه الخيط الوحيد الذي يربطه بحياة روحه لمياء.
لو كان ورقة غير مشغول اللب لما هو فيه؛ لسمع من حيث جثا حديثًا يجري بين رجل وامرأة في ظلام العشية بعد أن هبط الهلال قادمين نحوه على غير قصد. كانا يتكلمان عن ورقة وفتنة بالرومية، وهما لا يشعران أنهما على مقربةٍ منه يسمعهما ويعرفهما وإن لم يكن يتبينهما. كان هذان بالطبع أستاذه الحارث وزوجته هرميون خرجا بعد العشاء ليستريضا، فقد شعر الحارث أنه عوفي، وأنه يود أن يستنشق الهواء، فخرج هو امرأته؛ ليسيرا قليلًا ثم يعودا. لم يدر ورقة ماذا يفعل؟ أيترك المكان لهما منسلًا في جهةٍ أخرى؛ ليتمَّا الحديث؟ وفي هذا الترك ما يلفتهما إليه، ويقطع عليهما الحديث! إذ يشتغلان بالنظر إلى الشبح والتفكير فيه؟ أم يتنكر ويبقى؛ ليتسمع ويعرف ما استقر عليه الرأي في شأن فتنة، ويكون في هذا مسترقًا متجسسًا فهو غير كريم؟ الواقع أنه كان في مأزق لم يدر كيف يكون خروجه منه. فظل في مكانه حائرًا وهو خجل من نفسه مضطرب. وكلما تنبهت نفسه لما هو فيه تنبهت أذنه لما كان يجري بينهما من الحديث بالرغم منه، ولكن الله أخرجه من ذلك المأزق، فقد وقف الحارث وامرأته على بعد يتحادثان. فلما انتهيا مما كانا فيه مالا عن طريق النهر، وانحدرا نحو البيت. قال الحارث: أرى وجه الحق في إبعاد فتنة عنه. نعم إن حالها تغير، وقد لا تطمع أن تتزوج منه؛ لأنها أسن منه كما قلت بعشر سنين، ولكن لا أمان لها، ما في الدنيا امرأة ترى نفسها أكبر من أصغر رجل أو تتورع أن تشتهي الزواج ممن هو أعلى منها ولو كان ملكًا، ولكن اليأس يحبس لسانها عن الكلام، وقلبها عن الرجاء، في أن تسنح سانحة أو يمر بذهنها وهم، حتى يفك اللسان من عقاله، والقلب من إساره، وورقة في حالته هذه سانحة، وعمله معها مما يوقظ في نفسها الأمل قويًّا، ولا غرو أن تعمل على تحقيقه. كما أني لا أرى أن نزوجها من زياد. سترى زيادًا دونها. لقد طالما اجتمعت بأعاظم رجال مكة، وسمعت كلمات الثناء والتغزل القبيح منهم فيها، فلن يكون زياد شيئًا. كما أني اكره أن أراها في بيتي ولو كانت حياتها قد تغيرت، ستبقى سمعتها عليها ولو أصبحت قديسة.
قالت هرميون: أنا معك في هذا، ولكني وعدت الفتى — من أجله هو — أن أنظر في أمرها. أليس لك حيلة؟ قال: سألكم ابن جدعان في أمرها، ولعلي أستطيع أن أحمله على عتقها، فإن أبى فسأشتريها وأعتقها. أما الباقي فليس في مقدوري حله. قالت: نحن على وشك الرحيل عن هدى ومكة وفتنة، والواجب — إن كان ثمت واجب — أن نعجل برأي حاسم.
وكان الحارث وزوجته قد انعطفا نحو دارهما، فبعدا وبعد الصوت معهما، فلم يستطع ورقة أن يسمع شيئًا. فلما أمن أن يرياه نهض في خفة، وسار نحو طويف؛ ليزوره كما وعد، ويطمئن على فتنة.
كانوا في انتظاره، فلما دخل عليهم نهضوا لاستقباله فرحين، ودنت منه الأرملة مرحة طروبًا واحتضنته وقبلته على غير انتظار منه قبلات بعضها عن شوق وبعضها تقليد، وهي تقول: كل عذارى المعسل يشتهين هذه القبلات، ولكنهن لا يظفرن بها، فرأيت أن آخذها؛ لأفرقها عليهن عند ما يزرنني في الغد، وربما بعتها بثمنٍ كبير. قال طويف: ويحك يا سعدى، إنك لجريئة، أو تفعلين هذا أمام أخيك؟ قالت: خل عنك هذا. ألم تقل لي أنت نفسك إنك تحب ورقة، فكيف بي؟ قال ورقة: بورك فيكم جميعًا. كيف حالك يا ناجية؟ قالت: خير حال. ما رأيت سعادة كالتي أنا فيها الآن. إن طويفًا وسعدى يملآن النسيم مسرة. قالت سعدى: بل أنت مصدر هذا، ولعمري لا أدري كيف يكون حالنا إذا أنت فارقتنا. قالت: وددت ألا أفارقكم أبدًا، ولكن هل أملك ذلك؟ ثم نظرت إلى ورقة كأنما تستفسر. قال: الغد فصل الخطاب، وسأجيء إليك في مثل هذه الساعة أو قبلها إن استطعت. سيذهب أستاذي الحارث إلى صاحبك في الغد. قال طويف: ثم يكون من وراء ذلك أن تأخذها منا؟ قال: والله لا أدري بماذا أجيب، ولكن الأمور مرهونة بظروفها. قال طويف: اسمع يا ورقة، إنك لم تشأ أن تصارحنا عنها بشيء. ليست ناجية أختك إلا في الإسلام، وما تُدعى ناجية بل فتنة. هكذا عرفنا منها، وهي فارة من ابن جدعان. إنها وثقت بنا وأخبرتنا. فإذا استطاع الحارث أن يحمل سيدها على عتقها فبها، وإلا فاعمل أنت على ذلك، وإليك هذا. ثم وضع يده في جيبه وأخرج منه كيسًا فيه نقود ورماه إلى ورقة. هذا عتقها أو مهرها، أو ما شئت فسمه. إن يكن قد حملك إسلامك على البر بها، فإنما يحملني على ما أفعل ما نحس لها من الحب أنا وأختي. قالت سعدى: فإن لم يكف هذا فأقرضنا الباقي.
نظر ورقة إلى فتنة مبتسمًا ومستفهمًا. قالت: لا رأي لي في ذلك. لقد علقت رضاي على رضاك؛ فإن استحسنت الأمر فهو فيما أظن تدبير الله. قال: جل جلال الله؟ ليس وراء ذلك من رجاء يُرجى إلا أن يهدي ابن جدعان إلى الخير، وسيكون ذلك إن شاء الله. إنه لن يرفض شفاعة الحارث بن كلدة. ثم التفت إلى طويف وأخته، وقال: لقد كنت عزمت أن أفك رقبتها بمالي، ثم أسألكم إيواءها حتى حين فإذا أنتم تسارعون إلى الخير. شكرًا لك يا سعدى. شكرًا جزيلًا. قالت: تشكرني أنا! إن كان هناك شكر فهو لعينيها اللتين أيقظتا في هذا الفتى الأرمل المتشايخ قلبه النائم. قال: ومن حمله على التشايخ سواك؟ أما حرَّمت عليه أن يتزوج حتى تتزوجي؟ أما وقد أذنت فأنا أقبّلك الآن عن نفسي لا عن عذارى المعسل ولا رجاله، ثم قبلها بين ضحك الجمع وسرورهم، وقال: أستميحكم الآن عذرًا في الانصراف. عموا مساءً جميعًا، حتى ألقاكم في العشية غدًا أو قبلها إن استطعت.
فودعوه أحسن وداع وانصرف إلى داره خفيف القلب سعيدًا.