الفصل الثاني
أحداث الشام
لم يكن الشمامسة صادقين ولا كاذبين حين قال المجلّي: إن الأسقف راحل غدًا مع القافلة،
ولا
حين قال المصلّي: إن رسالة جاءته من أسقف بني تغلب
١ في الحيرة يرجو قدومه إلى ديار ربيعة
٢ ليجتمع به
هناك، ويتذاكرا فيما وقع بالشام من الأحداث، ولكنهم على كل حال نفذوا مشيئة الأسقف فيما
أراد من تأجيل سفر القافلة إلى الغد.
نعم جاءته أخبار متوالية مع الركبان في مدى السنين السبع الماضية عما كان جاريًا
في أدنى
الأرض من اقتتال الفرس والروم، واندحار جيوش الإمبراطور فوقاس، وخلفه هرقل في أرمينية
والشام أمام جيوش كسرى أبرويز ووقوف القائد الفارسي شاه ورز على شاطئ خليج القسطنطينية
يحاول عبور الماء؛ ليضرب المسيحية الرومية في عقر دارها ضربةً قاضية، وانصراف زميله القائد
شاهين إلى دمشق وبيت المقدس؛ ليجهز على مملكة الروم في الشام وفلسطين، وحقًّا إن هؤلاء
الشمامسة الثلاثة اشتركوا في صلاة الشكر الحارة للرب على زوال دين الكفر الرومي من بلاد
المسيحية، وعلى ما أنزل الفرس باتباع مذهب خلقيدونية
٣ الملكي من الويلات بالتقتيل، وتهديم الكنائس وتفضيح الأعراض جزاء مخالفتهم لدين اليعاقبة
٤ الحق، دين أهل الشام وبلاد العرب ومصر والحبشة، ولاشك أنهم سمعوا بعض القساوسة
والرهبان يشيرون على الأسقف في فرحهم بهذا الفوز الباهر أن ينهض فيقصد بهم إلى الحيرة،
ويدعو أسقف بني تغلب؛ ليذهب معهم هو وقسانه وفدا إلى مارية زوجة كسرى أبرويز وأختهم في
المسيحية اليعقوبية، رافعين إليها آيات الشكر على برها بدينها، إذ حملت زوجها على قتال
الروم وإبادة دين الكفر، ويقيموا الصلاة تلو الصلاة في الكنيسة التي أقامتها لعبادة الرب
في
بلاد المجوس؛ ليتم لها النصر بالاستيلاء على بيت المقدس، وتخليص الصليب المقدس من أيدي
أدعياء الولاية عليه من بطارقة الروم على أن تعطيهم إياه؛ ليحفظوه عندهم في كنيسة نجران،
بعيدًا عن أيدي الطامعين، وأن الأسقف أقرهم على هذا الرأي السديد، وعزم على تنفيذه عندما
يسترد شيئًا من العافية التي فارقته بسبب كبر السن، وهو يأبى إلا أن يعزوها إلى الجو،
وتقلب
الأحوال، ولكنه ما كلف الشماسة إلا أن ينطلقوا فيوقفوا سلمان عن الرحيل، ويدعوه إليه.
نعم
سمعوه يقول في صوت المريض شيئًا عن إزماع أحد الناس السفر في الغد، ولكن لم يخطر على
بالهم
أن في نجران أحدًا تتأخر القافلة عن الرحيل من أجله، إلا بنو عبد المدان، وهؤلاء كان
يمكنهم
أن يقفوها من تلقاء أنفسهم بغير حاجة إلى الوساطة من الأسقف، ولذلك قدروا أنه الأسقف
نفسه
قد عزم على تنفيذ ما أجاب إليه القساوسة، وكذلك أنهوا إلى سلمان أنه مسافر في الغد، وتطوع
الشماس الثاني بإبداء سبب سفره، فكان ما كان من غضب التجار، واستهزاء يهوديِّ صنعاء،
ووثني
مكة بالأسقف الموقر على مسمعٍ من أشياعه وأتباعه، ولذلك عنفهم الأسقف على سوء ما قالوا،
وأوكل إلى كاتبه معاقبة القائلين عقاب الحمقى بضرب العصا وصفع القفا.
أما ما جرى فحقيقته أن باذان الوالي
٥ الذي كان على اليمن أخبر معاونيه في الحكم من اليهود في صنعاء بما كان من
اندحار جيوش هرقل في الشام، وتسلط الجنود المجوسية على الكنائس والأديار بالهدم والتقويض
جزاء عناد أهليها وإقفالهم الأبواب في وجوه الجيوش.
وأن إخوانهم النازلين في أنطاكية وأذاسا
٦ انضموا علانيةً إلى كسرى، وسبقوا المجوس فيما اقترفوه من أعمال التخريب، وعلموا
كذلك أن الفرس في طريقهم إلى بيت المقدس، ولا بد أن يصنعوا فيه ما صنعوا فيما قبله من
بلاد
المسيحية. فتيقظت في نفس هؤلاء الحكام اليمنيين أمنيتهم القديمة، ألا وهي! إعادة مملكة
أورشليم
٧ في فلسطين إلى ما كانت عليه في عهدها الماضي، ورأوا أن يرسلوا إلى هؤلاء
الإخوان وفدًا يوقظ فيهم هذه الأمنية الغالية إن لم تكن قد تيقظت من قبل، ويشتركوا معهم
في
التدبير لتحقيق غاية الأماني هذه.
عينوا هذا الوفد سرًّا، وجعلوه تحت إمرة واحدٍ من رجال الحكم النابهين اسمه إسحاق
بن
مردة، وجعلوا معه رفقة من أمثاله وبعض الأحبار، ولكنهم أذاعوا أنهم راحلون برسالة ولاء
مجدد
إلى متبوعهم الأعظم، ومولاهم الأكرم كسرى أبرويز ملك ملوك الأرض، وبتهنئة خالصة على فوز
جيوشه على عاهل المسيحية، وتطهير أرض المعاد
٨ من دين ابن يوسف النجار،
٩ على أنهم كانوا يحملون معهم هدايا وتقدمات إلى كسرى وزوجته مارية؛ ليلقوه بها
غير ما سبق لهم تقديمه إليه من قبل، ولكنهم لم يشاءوا إعلانها لئلا يغروا بهم الأشرار
فموّهوا على الناس أمرهم بأن خرجوا من صنعاء في عيرٍ قليل العدد، وساروا بغير ما حرس
كبير؛
لأنهم كانوا يسيرون في بلاد لهم فيها المكانة العليا، وهي بلاد صنعاء وصعدة وجرش،
١٠ أما نجران فما بعدها فكانت لبعدها عن مستقر السلطان مما يستوجب أن يسير العير
في حمى عير أكبر. فكان مقصدهم أن يسيروا في ركب مكة، ولكنهم ما بلغوا صعدة حتى مرض إسحاق
فاضطروا أن يقضوا بها ما كان في نيتهم قضاؤه في نجران قبل رحيل القافلة. فلما أبلَّ عاودوا
الرحيل، وواصلوه من بلدٍ إلى بلد في طريق نجران حتى إذا كان اليوم الثاني لإفاضتهم من
جرش،
وذلك قبل أن ينصرم الشتاء بيومٍ وليلة — كانوا قد وردوا حلة في الطريق على نهرٍ هناك
من
الأنهار الكثيرة التي تخترق بلاد اليمن، وتكثر حولها الزروع والأشجار؛ وإذ كانوا يزعمون
أن
بينها وبين نجران بضع ساعات، حين كانت في الواقع على مسيرة يومين أو حوالي ذلك، آثروا
في
جهلهم أن ينيخوا في جوارها قبل موعد الإناخة، ويقضوا العصر والليل في حمى أهلها، ويرتاحوا
واثقين أنهم بالغوا نجران في ضحى الغد قبل نهوض القافلة بساعات من النهار وساعات طويلة
من
الليل.
وكان مقدم جمالة الركب يزعم أن بين يومه ويوم نهوض القافلة من نجران ثلاثة أيام أو
مثل
ذلك؛ لأنه جلس في حظيرة الجمال هو وإخوانه الجمّالة وعبيد العير يعدون الأيام والشهور
على
أصابعهم، وإذ كان غلام الحبر الذي في العير، في نظر نفسه، أحق الناس بأن يصدق؛ لأنه متصل
بسيده الذي له التوقيت والتاريخ فقد أقنع مؤتمرهم أن أول أيام الربيع يوم الخميس، أي
بعد
يومين وليلة وأربع ساعات من حين إناختهم تلك الليلة.
اجتمع جهل الوفد بالطريق إلى جهل الجمالة بالمواعيد، فكان كل منهم في العشي سعيدًا
بما هو
فيه، ولكن حدث أن خطر على بال أحد العبيد الذين وافقوا غلام الحبر من غير علمٍ بالزمن
ولا
بغير الزمن، أن يسأل سيده في ذلك، لا ليتزكى ولا ليشي بأحدٍ بل شعورًا منه بأن هناك شيئًا
مما كان بين سيده وبينه من الكلفة قد رفعته صحبة الطريق، ولكنّ سيده كره منه هذا، ونظر
إليه
شزرًا ولم يجبه. فتطوع أحد رجال الوفد وأجاب بالحقيقة في لغةٍ يفهمها العبد فقال له:
إذا
طلعت شمس الغد يبقى بينك وبين الربيع يوم كامل، أي نهار كامل وليلة واحدة.
ظهرت الدهشة على وجه الرجل، وبدا شيء من القلق في عينيه، وأخذ ينظر إلى زميله المفتي
غلام
الحبر، وهذا ينظر إليه متوسلًا أن يصمتَ، ولكن مقدم الركب كان قد دخل وسمع بما جرى، وما
قيل، فاضطرب وأعلن الأمر لسادته على الفور، واتهم غلام الحبر بخداعه، وأنكر العبد نيَّةَ
الخداع بل أنكر أنه قال شيئًا بتاتًا إلا ما قال جميع الجمالة، وأراد إسحاق أن يصرف هذه
الضوضاء، فقال: لا بأس، لم يصبنا من هذا الخطأ أذى والحمد لله. فليس بيننا وبين نجران
إلا
نصف نهار، ومن ثَم يبقى لكم يومٌ طويل عريض تقضونه في نجران؛ لتستبضعوا ما تشاءون لرحلتنا
في بلاد الوثنية.
هنا دقَّ الجمال على صدره دقة يأس، وقال: ست ساعات! يا سيدي الأمير! إن بين هذه الحلة
ونجران مرحلتين كبيرتين لا يقطعهما الركب إذا جدَّ في أقل من يومين متواصلين.
فقال إسحاق: ويحك! ما هذا! فاستمر الجمال يقول: وإذا كان بيننا وبين قيام قافلة مكة
يومين
فمعنى هذا أن تموت الجمال إعياءً.
فانزعج إسحاق ونهض يقول: ويلٌ لك يا عبد السوء! ألم تقل لي هذه حلة الأراك؟
قال: بلى يا سيدي. قال: ألم تقل لي إن حلة الأراك على نصف مرحلة من نجران؟ قال: بلى
يا
سيدي. فقال إسحاق: فما هذا إذن؟ فقال مقدم الركب: لقد كان مولاي يسألني عن تخوم البلاد
ومرابضها، وبين بلدة نجران وتخومها من ناحية جرش مرحلة كبيرة
١١ وحلة الأراك على مسيرة ست ساعات من هذه التخوم.
سقط في أيدي الوفد اليهودي، وضاق صدرهم؛ إذ تبينوا أنهم لن يبلغوا نجران في أول الربيع،
ولن يدركوا القافلة، وملكهم اليأس من كل جانب، وكاد إسحاق يضرب الرجل بسيفه لقاء ما أنزل
به
من الهمِّ، ولكنه اكتفى بشتمه، وسبِّه وطرده من حضرته، وهو محنق مغضب حتى كاد الرجل ينصعق
ذعرًا.
وجلس إسحاق وصحبه صامتين يفكرون فيما تبينوا ولا يهديهم الفكر إلى سبيل. أيغامرون
بأنفسهم
في الطريق إلى مكة فيسيرون عيرًا تغري قلته أعراب نجد والحجاز بتخطفهم وقتلهم وسلب ما
معهم؟
أم ينتظرون قافلةً أخرى تخرج من نجران، وهي لا تسير في العادة إلا مرة في الشهر أو الشهرين
يضيع على أمراء اليمن في غضونه فرصة العمل لتحقيق أمنيتهم في قيام مملكة أورشليم! أم
يرسلون
رسولًا يستمهل القافلة حتى يبلغوا نجران؛ عَدَّاء لا يستقر ولا يتلوَّم حتى يبلغ ساحة
الركب! ولكن أين العدّاء وهم في حلة من حلل البادية لم يجدوا فيمن مرَّ بهم من أهلها
إلا
أنقاضًا من الناس أكلت الصحراء جسومهم؟ وأين من لا يهاب غوائل الطريق إذا هو سار وحده
في
تلك المهامه والأحقاف؟ لقد حاولوا أن يغروا الجمالة بوافر الأجر والجزاء إذا قام أحد
منهم
بهذه المهمة، فأبوا كلهم وذعروا ونكصوا على أعقابهم معتذرين بأن في هذه البادية جنسًا
من
الناس يعرفون بالنسانيس يسيرون على قدمٍ واحدة،
١٢ ما إن يروا أحدًا من غير جنسهم حتى يجتمعوا عليه، ويحملوه إلى غيرانهم في
مجاهل الصحراء يرقصون حوله ويعزفون، ثم يلقونه في النار ليشووه ويأكلوه.
ملك اليأس فؤاد إسحاق كما ملك سواه، ولكنه لم يطق البقاء في مكانه فنفر من مجلسه وخرج
إلى
ظاهر فسطاطه يستنشق نسيم الصحراء، وينفس عن صدره بالمشي في الخلاء، وقد صور له اليأس
أن
يهمَّ هو نفسه بهذه المهمة؛ ليستوقف القافلة حتى يرد عيره بما معهم من الأثقال والحمول،
ولكنه لم يكن بصيرًا بالطريق. ثم تواردت عليه أخيلة مما صوره له جمالته من مخاوف الصحراء،
وكانت الشمس قد آذنت بالغروب، وأخذت الأرض تصطبغ بألوان دهماء، وتعد النفس للأوهام، فخطا
نحو رفقته يستأنس، وقد عوَّل على المضيِّ إلى نجران في هوادة، وينتظر بها حتى يرحل إلى
الحجاز عيرٌ آخر.