في كنف الأسقف
كان بين الحارث بن كلدة وبين أسقف نجران الشيخ البصير بالدنيا مودة قديمة، وثّقها — فيما يقول الناس — العلم. فهذا عالم بدينه وذاك بطبه، ولكن طبيعتي العلمين مختلفتان كل الاختلاف فهما حريتان أن تفرقا بين صاحبيهما تفريقًا جوهريًّا لا أن تسمحا بلقاء أو تحدثا مودة. علم الدين كان في ذلك الزمان رطازات وأساطير، وبعض حقائق هينة الأمر يتوارثها الخلف عن السلف ويذيعها، وأشكالًا وصورًا من العبادات يجرون عليها، ويجري غيرهم على غيرها. فما هو إذن بعلم، وإنما هو طقوس وحركات وأدعية وتراتيل وأوهام وأراجيف مادتها الجهل المطبق وإسقاط المنطق، وكلما أغرق الإنسان فيها وبالغ وأفتى في أمرها عن هوى وتشيع وتوفر على الجهل كان العالم العلامة والحبر الفهامة، ولا علم في ذاك ولا فهامة، وأما علم الطب فصناعة من الصناعات التي توارث الخلف فنونها عن السلف، وذاعت حقائقها بين الجمهور، وتنقلت في البيوت والمصانع وأعمال الناس كالزراعة والتجارة والحدادة، والناس لا يدرون أنها تنطوي على حقائق ثابتة اهتدت إليها القرون من غير سوء قصد ولا تعمّل. حقائق لا تحتمل باطلًا ولا وهمًا، وإلا لظهر عيبها فيما تنتج فماتت بدائها. صناعة أساسها المشاهدة والتجربة والمقارنة والقياس. كلما أوغلت فيه باحثًا خلصت من إيغالك إلى حقيقة تلو حقيقة، ونفيت بما تصل إليه ما يكون قد تسرب إليه من خطأ المقارنة، لا سوء القصد ولا تعمد الإيهام. نعم كان أساسه السحر، ولكن هذا لم يكن إلا في عصور جهالة الإنسان العميقة. على أن هذا السحر كان أساسه العلم؛ أي: الحقائق الطبيعية التي اهتدى إليها الإنسان لنفسه، ولم يذعها إلا عرضًا؛ فالبخور الذي كان يطلقه الساحر عندما كان يُدعى ليطرد الشيطان عن مريض بالتشنج مثلًا إنما كان دواء يهدّئ العصب ويردّ الإنسان إلى رخاوة، والرقى التي كان يشفى بها بعض المرضى إنما كانت نوعًا من الإيعاز يتقوَّى به الموعز إليه على ضعفه، وليست التعاويذ التي كانوا يحملونها للدخول على الحاكم أو لخوض غمار الحروب إلا نوعًا من الاستقواء الذاتي يوقظ في النفس شيئًا من الطمأنينة والشجاعة ينفع إلى مدى. أما أنواع السحر الأخرى التي تواردت إلينا أنباؤها فيما بقي من تاريخ الأمم البائدة فكثير منها له تعليله اليوم فيما أعطانا العلم من أسراره. فإن بقي معظمها بلا تعليل، فما يعجز العلم عن تقديم سببه لأنه سحر، بل لأنه لم يحصل فعلًا، وإنما هي أكاذيب رواها الناس وهمًا أو كذبًا أو تدليسًا ودعاية، وتناقلها الناس على التصديق حتى أصبحنا وفينا من يصدق مثلًا أنهم فيما مضى كانوا يستطيعون نقل الجدار من مكانٍ إلى مكان بالرقى والتعاويذ، وفينا من يستغل بقية جهالة الناس لنفسه حينًا، ثم تتناوله المحاكم والسجون لتريح الدنيا منه أيامًا. على أن من أعمال السحر في الماضي ما هو سحر حقًّا؛ أي: أمر له علله وأسبابه، ولكنا لا نعرف له حتى الآن تعليلًا علميًّا. كالسحر الذي كان يصنعه سحرة فرعون، فهذا صدق لا شك فيه له أساس علمي. بيد أن هذا الأساس غائب عنا لم نكشفه بعدُ، ولا يطعن في صدقه أننا نجهل تعليله مع كل ما لدينا من العلم؛ فالتحنيط مثلًا كان صنعة عند سلفنا في وادي النيل، فهو حقيقة لا شك فيها لم يطعن فيها ولم يزِّيفها أننا نجهل طريقته العلمية، وكم من اختراعات اليوم ما كنا نسمع أكبر العلماء يقسم بكذب ما يروى عنها؛ لأنه كان يجهل أسبابها، فلما عرفها صدَّقها وعدها من بسائط الأمور، وكم بين أيدي تلاميذ المدارس اليوم فيما يدرسون من علمي الطبيعة والكيمياء وعلوم الحيل ما لا يزال يلعب به الأطفال في المجامع الأهلية وفي البيوت باسم سحر، تسمية له بما كان يسمى به في الماضي؛ إذ كان أساسًا مبهمًا لبعض أعمال السحر التي وردت إلينا أخبارها.
فالخلاصة من هذا: أن القول بأن رابطة العلم بين الحارث والأسقف كانت هي الجامعة بينهما، قول كان يريح الناس لتعليل المودة التي بينهما، ولكن الواقع أن الحارث لم يكن يربطه بالأسقف هذا الرباط.
كان الأسقف، على خبرته بطقوس دينه، وعلى ما أعطي من بيان وطيب لسان وبصيرة بالطبائع، كأمثاله جاهلًا تمام الجهل بكل علم، غفلًا بعيدًا عن كل صواب في العلم ولو أصاب، ولا يمكن أن يكون غير ذلك إلا إذا أراد أن يلحق بصفته الدينية الحقيقية صفة أخرى. أما الحارث فكان عالمًا بقدر ما وسعت صناعة الطب من الحقائق يومئذ.
ومن طعمة هذه الحروب؟ من الذي دارت عليه رحاها الفارية؟ هم الناس. الأتباع المساكين. كانوا نهبًا وطحنًا لكل قوي، وهم لا يدركون ولا يشعرون، ولا ناهبوهم أو طاحنوهم يدركون أو يشعرون؛ لأن الأمر موروث من ألوف السنين، موقّر في النفوس قبل أن تخلق لها أبدان. حتى إذا شعر الناس بالحقيقة هبّوا على القويين فأدالوهما، وكان العرب بما أشعرهم دين الإسلام صاحب الراية؛ لأنه قضى على الملك بجعل الخلافة انتخابًا، وقضى على الكاهن؛ لأنه لم يجعل في الإسلام أكليروس ولا بطريقًا.
كان الأسقف أحد هؤلاء الذين لا يدركون ما يفعلون ولا يشعرون، بل يرون أنهم مصادر الخير الدائم بكلمات بركة يرسلونها، وصلوات يتلونها. فعلاقة الحارث به كانت؛ لأنه سيد منيع، ولأنه رجل طيب الخلق يصلي ويصوم، بعيدًا عن رغبة الأذى وابتزاز الناس؛ لأنه في غير حاجة إلى ذلك، فليس هناك ما يوقظ طبيعة الشر فيه. فإن تيقظت بكل شرورها فعلى غير نجران وإخوانها من المسيحيين، أي على الروم؛ لأنهم مسيحيون من نوعٍ يخشى على منزلته منه، ولذلك كان يتمنى أن ينتصر المجوس عليهم، ويفرحه خبر اندحار الروم في الشام، ولكن كانت هناك علة أخرى لهذه العلاقة. ذلك أن الحارث كان ممن عاشوا في الإسكندرية زمانًا طويلًا، واتصل بأهلها، وتزوج منهم وخلف، وسافر إلى فارس والعراق والشام واليمن، واتصل برجالها اتصالًا وثيقًا، فهو لهذا أعرف بأخبار الدنيا من كل من يدعي العرفان، وكان الأسقف على عربيته راهبًا من رهبان مصر اليعقوبية، قبل ان يرسم أسقفًا في نجران. فالحارث لهذا يستطيع أن يتحادث مع الأسقف عن مصر وأهلها، وعن شئون الكنيستين: اليعقوبية والرومية، وتنافرهما، ويتذاكر معه فيما أصابها وما يمكن أن يصيبها من الويل والثبور على يد الفرس؛ إذ كانوا قد غلبوا الروم على أرمينية والشام، وأجلوهم عن مواطن المسيحية الأصلية، ويوشكون أن يملكوا بيت المقدس، ويستولوا على الصليب المقدس، ثم يذهبوا من بعده إلى مصر، وكانت هناك علاقة أخرى: علاقة المريض بالطبيب، فالأسقف كان شيخًا لا يفارق صومعته المظلمة إلا إلى الكنيسة، ولا يخرج لزيارة أحد إلا بني عبد المدان، وذلك مرة في العام؛ ليمنحهم البركة، ثم يعود إلى فراشه في صومعته، ومن ثم كان محتاجًا إلى من يصحح له جسمه ودمه بالعقاقير ما دام أنه لا يسعى في مناكب الأرض ويأكل رزقه بالحق، ويعطي جسمه ورئتيه ما تحتاجان إليه من عملٍ وحركة يبعدان عنه السأم والمرض.
نزل الحارث عند الأسقف بأهله عندما ورد إلى نجران، فتلقاهم بالترحاب والمسرة، وأنزلهم ناحية من بيته الواسع المهجور، وأقسم عليه لا يفارقه ما دام في نجران، وأخذ عليه مواثيق بذلك، ولكي يزيد في طمأنينة الحارث وراحته أمر أن يزال التراب الذي تراكم على الباب الخلفي الخارجي الذي يخرج منه إلى ذروة الجبل وطريق منعطف إلى المدينة بغير حاجة إلى المرور بساحة الكنيسة، وأمر كذلك بتجديد كثير من فراش الدار بما وصل إليه من القباطي الكتانية من مصر، وما أهدي إلى الكنيسة من الأدم النجرانية والثياب اليمنية والعروض الحبشية. فشكر الحارث فضل الأسقف شكرًا جزيلًا، وقبل ذلك قبولًا حسنًا، وشكرته هرميون على هذا البر شكرًا قلبيًّا؛ لأنه إنما بالغ في هذه المكارم رعيًا لها، إذ هي بنت العلم والعز، وصار الحارث كل يوم يجتمع هو وولده بالأسقف ومن معه من القساوسة ويتذاكرون في أحداث الشام ما ينتظر منها وما لا ينتظر. حتى إذا فرغ ما كان عندهم من المشوِّقات إلى التلاقي، تراخت بينهم الزيارات، ودب السأم في فؤاد النضر والحارث كذلك، وأخذا يحنان إلى الرحيل إلى صنعاء؛ حيث الدنيا أملأ بالحياة، وأدعى إلى مرور الزمن في رخاء، وحيث يجدان في جوار أحبار اليهود متعة للنفس واستزادة من العلم، وحركة وحياة، وكان ورقة يميل إلى ذلك ولكنه لم يبده، وإن كان قد شغل فراغ أيامه بالاتصال في نجران برجل من يهود صنعاء كان يتجر في العقاقير ودعوى التطبيب؛ ذلك لأن ورقة وجد أن سوق العقاقير هي صنعاء فلا بد له من ارتيادها والوقوف على تجارتها ما دام قد اعتزم أن يفتح متجرًا في مكة؛ لبيعها نزولًا على إرادة مولاته أم المؤمنين.
على أن تغيبه هذا كان يؤلم لمياء كثيرًا، ولكنها لم تكن تستطيع أن تبديه إلا في شيء من الازورار عنه إذا رأته. فلما كثر، خشي أن يكون قد أساء إليها من حيث لا يدري، فسألها عن سببه، فلم تبده له أول الأمر، ثم فاجأته ذات يوم بقولها: عجيب منك يا ورقة أن تترك أبي وتمضي إلى الأسواق تقضي بها طول يومك. قال: إني لا اتركه إلا بعد الفراغ من العمل معه في كتابه، بله إنه هو الذي سمح لي بذلك. قالت: ولكنّ أمي في حاجةٍ إليك دائمًا. فصمت الفتى إذ أدرك حقيقة قصدها، ولكنه على عهده لنفسه لم يشأ أن يسايرها حتى تبين. فقال: ما حسبت أنني أسيء إليها بما أفعل. بأبي هي وأمي، يا لمياء: وددت لو ابتلعتني الأرض ولا أسيء إليها، ولكني رأيت هذا أدنى إلى بقائي معكم وأكرم. قالت: لا أفهم ما تعني. قال: إن أخاك النضر لا يحبني، ولا يرى لي ولا لكم أن أجتمع بكم. قالت: وما شأن النضر؟ قال: شأن الولد الكبير في بيت أبيه؛ ولقد سمعته غير مرة يكلم أباك في شأني ويغريه بي، وأنا وحقك يا لمياء ما أحب نور الصبح ولا خطرة النسيم كحبي إياك أنت وأمك؛ عرفانًا بالجميل وحمدًا لله عليكم.
كان ورقة يقول هذا وهرميون داخلة عليهما. فقالت: ما هذا يا ورقة أأنت تصلي لربك؟ قال: إني لأدعوه أن يطيل في حياتك يا سيدتي أنت ومولاي الحارث ولمياء. قالت لمياء: إنه يشكو أخي النضر. قالت: هل من جديد؟ قال: أنا ما شكوته يا سيدتي بل ذكرت بعض أمره في سياق عذري. قالت: كيف؟ قال: مولاتي لمياء أخذت عليَّ تقصيري في خدمتكم وقضائي وقت الفراغ عند الصيدلاني. قالت هرميون: خدمتنا! هل أنت خادمٌ لنا؟ أنت ضيف يا بني، ضيف مكرَّم وعزيز. لست في حاجة إلينا، بل الحاجة منا إليك، ولعل هذه الحاجة أشعرت لمياء بغيابك. أنت ولدنا وأخو لمياء. نعم إن النضر قد أغرق هذه الأيام فيما يعيبه علي ولكنه ظالم، وقد ذكرت للحارث ما كان منه فلم يعتد به، وأثنى عليك ودعا لك. فلا تأبه لما تسمع. قال: فديتكم يا سيدتي من كل سوء، ولكني أرجو ألا تأخذوا عليَّ ما ترون من تغيبي، فإني وحق الله أشد منكم ألمًا لهذا الابتعاد. قالت: أعرف ذلك يا ورقة وربي فكن على هواك، وإن كنا نتمنى أن تكون معنا هنا كما كنت في هدى. فنظر ورقة إلى لمياء مستفسرًا فوجدها غاضبة كأنها تقول: حتى بعدما جاءتك دعوتي ألا تفارقني تعود إلى ازورارك وتعلننا به؟ فأجابها وهو يرد على كلام هرميون: الشكر لك يا سيدتي على برك، ولكني سأعمل على أن أكون بين يديكم ما استطعت.
وفيما هم في هذا دخل الحارث فحيا وجلس، واستفسر من ورقة عما وجد في نجران من الأعاجيب. فانصرف ورقة يجيب أستاذه بما عرف أنه يحبه من الحديث، والحارث منصت إلى حسن وصفه ودقة نظره. على أن هرميون ضحكت إذ ذاك، وقالت: لعل أعجب عجيبة فيها أن هرميون الرومية بنت الإسكندرية ومصر والبحر الخضم والهواء العليل وماء النيل تعيش الآن في ذرى جبل من جبال نجران في صحراء العرب! فقهقه الحارث لهذه الملاحظة وقال: وهكذا الدنيا يا هرميون بنت الشرق للغرب، وبنت الغرب للشرق؛ وأكرم بالزواج حاديًا، ومع ذلك فإنا راحلون في القريب العاجل إلى بلاد المتعة والرفاهية: بلاد صعدة وصنعاء.
فما سمعت هرميون هذا الكلام حتى صاحت: صنعاء! قال: نعم، صنعاء. ماذا بها؟ قالت وقد فار غضبها: بعدًا لصنعاء وكل صنعاء! ما هذا؟ أنحن ممثلون من يتنقلون في الدنيا من بلدٍ إلى بلد في طلب الرزق بألاعيبهم؟ ما هذه الحياة التي تحياها هرميون الشقية! وما عيب نجران يا إلهي حتى نغادرها ولما يمض شهران! رضينا بالعزلة في هدى، وبالعزلة في نجران، وكان لنا في كل منهما نعمة تنسينا حرور مكة وشرورها، وأنت تريد أن تحملني مرةً أخرى على ركوب الجمال والبغال، وقطع القفار إلى صنعاء وغير صنعاء! ماذا لك في صنعاء! أم أن هذا من إيعاز ولدك النضر! لكي لا يقرني على حال أرتضيه. دعه يذهب حيث يشاء، أما أنت فلا حاجة بك إلى السفر إن ثروتك لا تفنى … وإن شئت أن تسافر معه فارحل وكن على هواك. تزوج هناك ما شئت وعش هناك ما شئت، فوحق مريم ما أكره منك هذا. لقد بلغت حد اليأس فكرهت الدنيا، وكرهت نفسي، وكرهت أبي الذي لم يقدر أنك ناقلي ذات يوم إلى صحراء مقفرة، وكرهتك أيضًا، وهذه ابنتك خذها وأبعد عني. رضيت بعيشة الضبِّ في هذه القفار بين أقوام غلف القلوب سفهاء الأحلام، لا يعرفون من الدنيا إلا الثريد والعصيد، حتى إذا وفقت إلى شيء من راحة العيش على شظفه ونضوبه وقلة شأنه تريد أن تخرجني منه. أأنت موكَّل بشقائي؟ لا! لن أسافر من هذا البلد وحق ابن الله الواحد إلا إلى الإسكندرية ولو على قدمي! ولو تخطفني الفرس واللصوص أنا وابنتي.
سكت الجميع لدى ثورة الغضب من هرميون، وأطرقوا يفكرون، وكان ورقة قد انسل من هذا المجمع الخاص، لا يشعر به أحد، وإذا بالنضر قد دخل على عادته ينظر إلى هرميون ولمياء نظرة خالية من كل مودة أو رعاية، فتأملته العيون لحظة، ثم أغمضت على الفور كما كانت، ولما رأى ما هم فيه أدرك أن أباه أعلن زوجته بعزمه على النقلة إلى صنعاء، وأنها رفضت، وأنه لا يدري ماذا يفعل إزاء رفضها. فأراد أن يتكلم ولكنه وجد الباب مغلقًا فسكت هو أيضًا حتى يستبين وقت الكلام، والواقع أن هرميون لم تعارض في النقلة إلى صنعاء حبًّا في نجران؛ بل لأنها وجدت فيها إخوة في الدين تستأنس بهم، وإن كانوا على غير مذهب أهلها في المسيحية، وصحبة من نساء كريمات في بيت بني عبد المدان أصحاب نجران وسادتها كن يزرنها وتزورهن، وتجد بينهن حبًّا ومودة وإكرامًا. فأحبتهن وتعلقت بهن، ووجدت لابنتها لمياء صحبة في بناتهن. نعم كانت تعلم من صاحباتها وزوجها أن صنعاء مدينة عظيمة ذات مياه وبساتين، وقصور وميادين، ولكنها كانت تعلم أنها بلدة يهودية، وهي أشد كرهًا لليهود منها لأولئك السفهاء المساكين الذين رأتهم عاكفين على العزى واللات يتعبدون، وحول مئات من الأنصاب والأصنام في مكة يطوفون وينحرون ثم ينصرفون أشد سفهًا مما جاءوا. على أن هرميون قطعت هذا السكوت فقالت: اذهب إلى صنعاء كما تشاء، وغب فيها ما تشاء، ودعني هنا في انتظارك أنا وابنتي. قال الحارث: كيف تعيشان وحدكما؟ قالت: ماذا يصيبنا؟ نحن في حمى الأسقف وفي بركته. قال: ما قيمة هذا الحمى وهذه البركة وليس معكما رجل! فسارع النضر يقول: لعلها تزعم أنك تارك لها ورقة!
قالت: ما زعمت شيئًا من هذا يا غلام، وخير لك ولكرامتك أن تحفظ لسانك، وإلا لطمتك على وجهك بنعلي هذا! وأما وحق الله ما يزيد كراهتي لصحبة أبيك إلا أنه يصحب فدْمًا قليل الحياء مثلك. قال النضر: أنت امرأة وقحة، لا أدري كيف يعاشرك أبي، وخير لأبي أن يخلص إلينا منك وتذهبي أنى شئت. قال الحارث: أقصر يا نضر ما لك ولهذا. قال ولم يأبه لكلام أبيه: إنا راحلون في الغد إلى صنعاء رضيت أو لم ترضي، وآخذون ابنتنا معنا، فافعلي ما تريدين. قالت لمياء: لا أدري علام كل هذا اللجاج؟ إذا كان أبي في حاجة إلى السفر إلى صنعاء فليفعل. إنا سننتظره هنا. ليست هذه أول مرة فارقنا فيها، ولن أكون معك على أمي إلا أن أكون عاقة. قال النضر: إنك لحمقاء يا فتية، اسكتي. قالت: إنما الأحمق من يقول حمقًا ولو كان ذا لحية! تريد لأمي أن تبقى هنا وحيدة، وأنا معك في صنعاء ولا تَرى هذا سفهًا! حسبك هذا. أنا لا أرحل إلا مع أمي.
لم يدرِ الحارث ماذا يفعل إزاء هذه الثورة؟ ولا ماذا يقول في هذا الموقف؟ فنهض من مجلسه صامتًا، وخرج يتبعه ولده، وفي نيته الرحيل على كل حال عن نجران.