وداع الأحباب
ضاقت الدنيا في وجه هرميون، فلم تدر ماذا تفعل إزاء ما بدا من رغبة الحارث في الرحيل إلى صنعاء، وما جرى بينها وبين النضر من المشادة والتنابذ بالألفاظ، وأحست كأنما حدثًا عظيمًا يوشك أن يقع؛ لأنها كانت تعلم ما للنضر على والده من السلطان، وتعلم من ناحيةٍ أخرى أن الحارث لا بد راحل إلى صنعاء، وأن أهون ما يفعل إزاء ذلك هو تركها هي وابنتها في نجران حتى يعود، ولا تدري متى يعود، وأنه سيأخذ ورقة معه، بل إنها لا تستطيع أن تستبقيه بجوارها؛ لأنه إنما يسير معهم لأن الحارث معهم، وهو رفيق الحارث وتلميذه، يرافقه رغبةً في التعلم على يديه نزولًا على إرادة الخير من سيده ابن نوفل المتوفي، وطوعًا لأمر مولاته خديجة سيدة قريش، وأحست كأنما النضر سيوغر صدر أبيه من جديد عليها، وربما حمله على أخذ ابنتها منها إذا هي أصرت على مخالفته فيما يريد من التنقل بها من بلدٍ إلى بلد، وأحست كأنما أخطأت؛ إذ تمسكت بالمقام بنجران حتى أقسمت ألا تفارقها إلا إلى الإسكندرية، ثم ذكرت الإسكندرية وما فيها من شرور ومخاطر، وذكرت وادي النيل في مصر وما يملؤه اليوم من عصابات اللصوص، وما يحمل الناس في قلوبهم لكل رومي الأصل من الضغن والحقد، وذكرت ذلك وغيره مما لا بد أن يذكره الباحث في أمر نفسه، وما يحيط بها من احتمالات الشر، فنبا بها مجلسها، وأقضها مضجعها. فرأت نفسها تهرول إلى صومعة الأسقف وتدخل عليه بغير استئذان، ثم تنفجر أمامه باكية مما هي فيه.
ذُعر الأسقف لهذا، وأخذ يسائلها عن سبب بكائها، حتى استطاعت أن تجيب فشكت له بثها، وأنحت باللوم في ذلك على النضر بن الحارث، وعزت إليه كل ما هي فيه من الشر، وكادت وهي تذكر قصة وجدها أن تدع شكواها وتذهب من فورها؛ لتنفيذ فكرة شريرة خطرت لها بين الدموع والشجن، وهي أن تستعدي عليه ورقة، وتغريه بقتله جزاء ما يقتلها بما يفعل، ولكنها استفاقت ووجدت الأسقف يعزيها ويعدها خيرًا ويطمئنها، وهي لا تزداد إلا نحيبًا بين يديه؛ إذ ذكرت ما كانت فيه من العز والطمأنينة في بيت أبيها في الإسكندرية، حتى قضى سوء الطالع فتزوجت من الحارث.
كان الحارث قد دخل في هذه الأثناء، وسمع بعض شكايتها، ولا سيما عتبها على القدر، فأحزنه منها هذا القول، وقال: ما أردت لك إلا المتعة بالنقلة إلى بلدة فيها من الحضارة ما ليس في سواها، وأنا طبيب لا بد لي أن أرتزق ولو كنت غنيًّا، وأنا فار بولدي من مكان كان يحيط فيه الأذى به وبغيره منه، وقد سئم المقام هنا. فإذا أنا لم أسارع إلى تشريد السأم عنه حنّ إلى العود إلى صحبه فما أكون فعلت شيئًا، وأنا ما أردت شرًّا لك. أما وقد رفضت وزدت الرفض تعقيدًا فما لي إلا أن أتركك في حمى الأسقف، ولكني لا أدري متى أعود؟ وسأترك لك ابنتك فما بيني وبينك خلاف حتى اليوم يقضي بالانفصال، ولكن اعلمي أني قد حزنت لما سمعت منك من كرهي، ولما أبديت من أسفك على أن زوجك أبوك مني. لن أكون بعد اليوم مضاعفًا حزنك، وها هي ذي نفقتك أنت وابنتك لعامٍ كامل. فإذا عدت إليك في غضونه فبها، وإلا فسأرسل إليك نفقة عامٍ آخر. فإما قضيته هنا أو سافرت بها إلى أهلك ولن تجدي هناك إلا اليسر بما ملكتك من ثروتي وعقاري في رقودة وأنت إذ ذاك حرة طليقة. أستودعك الله يا صديقي الأسقف، وأوصيك بها خيرًا أنت البر كله والتقوى كلها.
قال الأسقف: ما أنت يا حارث من ينظر إلى ظاهر الأمر ويحكم على باطنه. فهذه زوجة غريبة عن هذه الديار، سئمت كثرة الأسفار، وهي قطع من العذاب، فإذا هي كرهت أن تهم بسفرة أخرى فلها لديك من إبائها عذر. إن تقبله كله وعفوت فأنت عادل، وإن قبلت بعضه وعفوت فأنت بارٌ رحيم، ولكنها في الحالين غير ظالمة. هي زوجة آثرتك على نعمة الحياة في الإسكندرية، وسارت معك تشم ريح السعادة في جوارك. فإذا وجدت اليوم هذه الريح قد اختلطت بما يفسدها وكنت أنت الخالط فقد حملتها بملكك على إتلاف سعادتها وتنفيرها منك، وأنت على هذا إن عاتبتها أو لمتها أو هاجرت عنها لا تكون على معدلة معها ولا منصفة. قد يكون لك العذر فيما كان، ولكنها لا تكون هي الظالمة، وللزوجة على زوجها حقوق أخرى توجبها المودة وحسن الأمل والوفاء؛ حقوق تجعل شديدها هينًا وهينها دلالًا وثقة بمحبة الزوج ومكانتها لديه، وأنت يا حارث تريد أن تسقط هذا كله، ولعمري لهو من غيرك ظلم ومنك منكر؛ أنت الحكيم العليم، التقي البار، والبصير الذي لا يجعل كل لفظ ينطلق به اللسان في الغضب حجة على صاحبه، فالغضب يا حارث شيطان يركب الإنسان؛ ليتكلم بلسانه لا بجنانه، ليوقظ في السامع شيطانًا يسمع بآذانه لا وجدانه، ومن ثم يحكم شيطانان عن إنسانين، ويقضيان بينهما وهما لا يدريان.
إني لأعرف وجه عذرك، وأدعو لك بالطمأنينة، ولكني لن أضع يدي في يدك حتى تعفو وتصلح وتسترضي هذه السيدة الوفية، وتبارك لبنتك قبل رحيلك.
كانت هرميون ولمياء تبكيان أثناء حديث الأسقف، وكان الحارث مطرقًا. فلما سكت الأسقف عن الكلام قال: والله ما أردت سوءًا ولا بيّت شرًا، ولكن الزوج إذا وجد نفسه في غير منزلة الكرامة نبت به الكرامة إلى مكان تستطيبه، والنفس كالنجم تنزل في أحوال رضاها وغضبها منازل وبروجًا تتغير فيها آثارها وأعمالها، ولقد حملني شر ولدي وخشيتي عليه أن أكون اليوم على غير عادتي من تمام البر والرعاية لزوجتي ابنة صديقي وأخي قوزمان. بيد أني كنت أرجو أن تتئد وتصبر، وتساعدني على ما أنا فيه، ولكنها نفرت على الفور، ونفرتني قبل أن أستمسك، وأخذت كلامنا عزّته في غير وعي؛ إذ كان شيطان كل منا يتكلم بلساننا كما قلت ويسمع بآذننا. فأنا الآن أعفو وأعتذر معًا، وأمنح زوجتي وابنتي البركة والرضا، وأدعو الله لهما بالسلامة والتوفيق حتى ألقاهما في القريب؛ وأرجو أن تتبينا وجه عذري في متابعة ولدي، فإنه إن عاد إلى مكة حمله صحبه على ما خيّب الله سعيه فيه ليلة الحجون التي ذكرت لك، وربما مكنه الشيطان من قتل أبر خلق الله محمد بن عبد الله، نقطة العطر المشتارة من ربيع بني هاشم، بل ربيع بني عدنان وإبراهيم، وإذا لم يرضني من أمره إلا أن أقتله بيدي وأنا أبوه وهو وحيدي، فماذا يرضي بني عبد المطلب منا أجمعين!
نهضت هرميون ولمياء إلى الحارث تقبلانه وتبكيان وتعتذران إليه، ثم تعرضان عليه أن تذهبا معه، على أن يغفر لهما الأسقف الحنث باليمين، ولكن الحارث أبى قائلًا: إن العزم صح على سفره بولده وتلميذه حتى حين، وهو يرجو ألا يغيب عنهما طويلًا، ورأى الأسقف وجاهة الرأي فأقره، وشكر لهرميون ولاءها، وللحارث عفوه، ودعا لهما بالرضا، وعلى هذا ودعهم الحارث ومضى يسقط من جفنيه دمعة.
ذهبت هرميون إلى غرفتها، وألقت نفسها على الفراش خائرة القوى تتحدر دموعها، وذهبت لمياء في وجدها إلى إحدى الكوى المطلة على رحبة الدار تراقب العير، وتتزود لقلبها بنظرة إلى من تحب وهو يغيب عنها، وقد استبان لها خطؤها في أنها لم تهوِّن على والدتها النقلة حتى لا تحرم جوار ورقة؛ ورأت قلبها يندك تحت ذلك ويهلع، وهي تعنف نفسها على تسرعها، وكانت ترجو أن يلتفت ورقة صوب الكوة التي تطل منها؛ لتحادثه حديث الوجد بنظراتها، ولكنها لم تجده التفت، بل استمر بربط الحمول ويستعد للرحيل، كأنما ليس في الدار قلب يتمنى أن يتسع ويلتقطه من رحبة الدار في غفلة الناس ويخبئه بين ألفافه، وفيما هي على هذا الحال رأت ورقة مال إلى أستاذه الحارث يستأذنه في توديع السيدتين، فأشار له الحارث نحو الدار آذنًا، ولكن النضر التفت واعترض على هذا قائلًا: لا حاجة إلى التوديع! إن الوقت قصير. قال الحارث: دع الفتى يودع سيدته. من الإجرام أن تمنع أحدًا أداء واجبه. قال النضر: أي واجبٍ هذا؟ فلم يأبه ورقة لكلامه، وجرى نحو الدار والنضر يناديه من ورائه بصوت المنذر الناهي، ولكنه كان قد صعد. فلما رأى هرميون طريحة الفراش جثا على ركبتيه وتناول يديها يقلبهما ويبكي وهو يقول: برغمي يا سيدتي أن أفارقك، ولكن هذه مشيئة الله. ادعي الله يا سيدتي أن يجعل هذا الفراق إلى لقاءٍ قريب. كان يقول هذا والنضر يناديه ويستعجله، ويقطع عليه الوداع بكلماته وهو مستمر في توديعه، ولكنه نهض يقول: أنا عند حسن ظنك بي يا سيدتي، ولدك وصديقك وأخو لمياء. فأخذت تبكي بكاءً مرًّا لم يسع ورقة وقد انفطر له قلبه إلا أن يتناول رأسها ويقبل شعرها. فشهقت لمياء عند ذلك شهقة أذعرت أمها فأنهضتها من فراشها، وإذا هي ترى ابنتها متعلقة برقبة ورقة تقول له: لا تفارقنا. كل ذلك والنضر ينادي. فاستودعهما الله ونزل يمسح دموعه، ولكن النضر تلقاه بالشتائم المقذعة بين سمع الناس أجمعين، والحارث لا يملك أن يصون تلميذه؛ لئلا يتخذ ولده هذا عذرًا له في العود إلى مكة، ولكنه قال له: حسبك يا نضر. إن هذا الفتى بار بسيدتيه. قال له النضر: إنهما لا تريانه خادمًا، بل كفؤًا وضريبًا، وسترى عاقبة مكارمك. قال الحارث: ولا أنا. إنه ولدي وتلميذي وصاحب الكرامة عندي. فشكر له ورقة بره بنظرة مُلئت عرفانًا بالجميل، وسار مثقل القلب إلى الحمول كظيمًا يفكر في نهاية استفزاز النضر إياه وإهانته التي لا تنقطع. لم يكن له من سبيل إلا أن يكظم، وإلا أن يتقبل الأذى إذا أراد أن يكون مع الحارث، ولم يكن له إلا أن يسكت؛ لأن الحارث نفسه يسكت، ولم يكن له إلا أن يشرد أسباب نفور النضر من أبيه، ما دام أبوه يتوخى قصدًا من ذلك: هو إبعاد هذا الفتى الشرير عن أذى رسول الله، ولكن لماذا يحتمل هو والحارث وهرميون ولمياء كل هذا الأذى؟ لماذا لا يريح رسول الله من عدو مبين لا ترجى له الهداية؟ وفي استطاعته أن يضربه بسيفه ضربة غير ظالمة تقطع لسانه، وترد أوصال السعادة التي قطعها بيديه كما كانت. الجواب لأنه ابن أستاذه الحارث البار به الذي طالما نظر إليه نظرات الاستشفاع أن يعفَّ ويعفو من أجله، ويعرض عن جهله من أجله. أجل سيبقى على هذا الخلق من أجل أستاذه فلن يعفو عنه أستاذه إذا هو قتله أو أهانه ردًّا لاعتداء أو دفاعًا عن النفس، أو احتفاظًا بكرامة. الوالد والد ومحال أن يعذر من يؤذي ابنه ولو كان الابن ظالمًا مفتريًا. نعم يرى ولده أوغر صدر من أذاه، ولكنه لا يعذره في أذيته، وهو لا يطيق أن يجعل لنفسه في فؤاد الحارث شبحًا مظلمًا يلعنه كلما تمخض به قلبه. إذن فليستمر على خطة الإعراض عن سفاهة النضر وأذاه، ويعمل على تألفه في كرامة عسى أن ينقلب ودودًا، أو يبصره الله بما يجب.