يمين النضر
بلغوا صنعاء ونزلوا وقضوا فيها ثلاثة أشهر كانوا يجتمعون فيها كل يوم بولاتها وأحبارها وعلمائها، ويستمتعون بخيراتها، ولكنَّ ورقة لم يبتسم في كل تلك الأيام مرةً واحدة؛ لأنه كان حزينًا لفراق لمياء، وكان يقضي أوقات فراغه يفكر فيها، ثم يغلبه الحنين واليأس فيسقط دمعتين كبيرتين يهدأ على أثرهما قلبه فينام مفكرًا فيها، وهو في تلك الأثناء يؤدي فرض العتاب الذي أوجبه عقله على نفسه فيقول: أيتها النفس المغرية في أكثر أمورك بما لا يجمل. لماذا تضعفين مني وتؤملينني ما لا يؤمل؟ وما لا يصلح لي أن أرجوه؟ لا تخادعيني! لست كفؤًا للمياء. ما أمي كهرميون، ولا أبي كالحارث، وإن من الكنود والجحود أن أرفع نفسي إلى حيث أبيح لها أن أؤمل لمياء عروسًا لي وسكنًا. هي فرحة أمها وفخر أبيها، ولن يرضيا لي بها. إنهما لم يذكرا لي شيئًا من هذا حتى فيما كان ينهمر به قلبهما من عواطف البر لي. نعم إنهما ينعتاني بالبنوة ويرياني كذلك، ولكنهما ينضحان عن طبيعة الخير، لا الجهل ونسيان ما في ذلك من الأذى لنفسهما. وإن من الخسران أن يجهل الإنسان قدر نفسه، أو يغالط قلبه فيحكم بأسباب شيء لشيءٍ آخر، ولا يزال على هذا حتى يعلو الصبح، فيذهب إلى الماء؛ ليتوضأ ويصلي صلاة الضحى، ويدعو الله أن يلهمه الصبر فيلهمه على الأثر، ويذهب إلى أستاذه؛ ليكون في خدمته وصحبته. حتى إذا خلا إلى نفسه عاد إلى مثل ما كان فيه لا يفارقه حتى يتوضأ للعصر ويصلي ويدعو ويصرف الله عنه همه، ويعود إلى أستاذه وصحبته، ويرافقه في زياراته وسهراته وارتياداته الأسواق.
وكان كلما مر في السوق ورأى شيئًا مما يحسن أن يهدى إلى النساء — لفت إليه نظر الحارث في خفية عن ولده؛ ليشتريه ويرسله إلى هرميون أو لمياء هديةً منه، أو يحفظه لديه حتى يعود فيكون هدية القادم، وقصده من ذلك أن يرد إلى قلب الحارث ما يكون النضر قد سلبه من العطف على امرأته وابنته؛ لأنه كان كثير الذم لهما والإنكار لما يسميه عقوقهما، وكان الحارث يبتسم لورقة كأنه يقول له: إني أدرك قصدك النبيل يا بني؛ ويأمره على الفور أن يشتريه له، ويتصرف فيه؛ إما بأن يرسله على الفور، أو يبقيه لديه حتى يعود فيكون كما أراد … وإنما كان يكلف ورقة شراءه عنه؛ لكيلا يلفت إليه نظر ولده، فيتدخل في شأنه، أو يجعله سببًا لشجارٍ جديد. بيد أن ورقة كان إذا اشتراه أعد كتابًا رقيقًا إلى هرميون بالرومية يمضيه الحارث، ويرسله مع الهدية مع برد الأحبار الذاهبين إلى بلاد القدس أو العراق مارة بنجران. فقد كانت هذه البرد تسير بغير انقطاع فيما بين مدائن كسرى وأتباعه من حكام اليمن.
هكذا ساروا في صنعاء، وكانت أسعد أوقات الحارث وورقة وقت خلوهما لنفسيهما في غيبة النضر، ولم يكن الحارث ليخفي هذا، ولكن ورقة كان على عادته مؤدبًا كريمًا، فلا يذكر النضر لا بخيرٍ ولا شر، وإنما كان يدعو الله له بالهدى.
وكان ورقة معروفًا في صنعاء وجيرتها وفي كل مكان بأنه غلام الحارث أو ولد الحارث؛ لأنه كان منه بمنزلة مبهمة لا تدل عليه صراحة. تارة يرونه قائمًا في خدمته قيام العبد لسيده بحاجته، وأخرى يرونه جالسًا معه يذاكره ويحادثه ويباسطه مجالسة الند للند والولد لأبيه، وهو على الحالين في عزةٍ ووقار وتوقير.
كان بعضهم يراه غلامًا للحارث فيناديه بذلك، أو يعرِّفه إلى الناس به وهو لا يتأذى ولا يعترض، بل يشعر في قرارة نفسه بشيء من الرضا إذ يجيء هذا التعريف أو ذاك النداء دليلًا على أنه لم يقصر في خدمة أستاذه، وأنه لم تبطره منزلته فتجعله في غير مظهر الغلام من مولاه، ومنهم من لم يره معه إلا في مجالس الأعيان يتذاكرون، فإذا ناداه ناداه بابن الحارث، فيتقبل التسمية؛ لكيلا يشغل الناس بأمره، ثم يعتذر إلى الحارث من صنعه فيثني عليه أدبه مع الجلساء؛ بل كان الحارث نفسه يدعوه أمام الناس يا بني، وكأنه يفخر أن يكون مثله ولدًا له؛ لأنه كان يسمع الثناء عاطرًا عليه من جميع الأفواه. على أن ورقة كثيرًا ما كان يصحح للناس خطأهم إذا وجد في السكوت أذى لكرامة أستاذه أو منزلته. فيقول لهم: إنه ليس إلا تلميذًا من أتباع الحارث، وأنه يدعى ورقة بن صليح فيعرف الأمر من يسمعه، ومنهم نعيم الصيدلاني الذي كان الحارث قد جمعه به وعرَّفه إليه، وأوصاه أن يلزمه في أوقات فراغه؛ ليعرف منه تجارة العقاقير. ومع ذلك فقد كانت تغلب التسمية عليه، ويعود من عرف حقيقته إلى ندائه بالنسبة إلى الحارث، حتى إذا يئس منهم وبدا ذلك عليه قال له الحارث: أقصر عن دأبك وتقبل كلَّ تسمية، فصار يتقبلها إلا في كبار المواقف.
ولكن حدث أن اجتمع الحارث وولده وورقة في مجلس كان فيه ورقة محل الإكرام الأبين من الناس، وكانوا ينادونه في الحديث بابن الحارث، ويخصونه بالرعاية؛ فحسده النضر على منزلته، وتملَّكه الغيظ في المجلس، ولكنه لم يجرؤ أن يفصح عنه، فما إن بلغوا دارهم حتى انفجر النضر في ورقة سابًّا وشاتمًا، وعد عليه جريمة، وأذى متعمدًا أن يتقبل تسميتهم إياه بابن الحارث، وكلما همَّ الحارث يبين لولده وجه عذر الفتى، وأن الأمر أهون مما يجد له، أو همَّ ورقة يعتذر وينيب — زاد النضر في سبه وأذاه وتعييره، حتى بكى ورقة. فحزن الحارث لهذا حزنًا شديدًا، ودعا على ولده وشتمه ففار مرجل شره، وأقسم باللات والعزى لا يبقي ورقة مع أبيه بعد يومه، وجرد السيف وأنذر ورقة بالقتل إن لم يخرج على الفور، فوقف الحارث دون الفتى؛ ليحميه، والتفت إليه يقول: اذهب يا ورقة من فورك إلى نعيم الصيدلاني وخذ ثيابك معك. هكذا قدر الله لي أن أحرم الولد والحبيب.