الصحيفة
الآن وقد عرفنا ورقة من قبل أن يخلق، وعرفنا تاريخه مدى اثنتين وعشرين سنة، وعرفنا أهله وسادته وأساتذته، وبلده وجيرانه، والجو الذي عاش فيه، والعناصر التي كونت ذاتيته — فإن في مقدورنا اليوم أن نفهم ما يجري بينه وبين أسقف نجران من الحديث، ولكننا لم نعد في حاجة إلى أن نكون معهما؛ لنسمع ما جرى بينهما من أخبار الحارث وهرميون ولمياء والنضر، فقد أجمله القسيس لنا في دار الصيدلاني بصنعاء، ولذلك نطوي صفحته على عجل؛ لنتعرف ما لم نعرف، ويكفي لذلك أن نقول: إن الأسقف حذر ورقة من غدر النضر به؛ لأنه أنذر أباه بذلك إثر بادرة عطف بدرت منه، وكلمة خير أرسلتها هرميون، وحذره كذلك من محاولة لقاء سيده في مكة، وبالأحرى زوجته وابنته ضنًّا بهم من أذى النضر وبنفسه كذلك، ونزيد على ذلك أن اليهود جاءوا بحمولهم وحمول ورقة، وسافروا في صبيحة اليوم الثاني من أيام الربيع إلى مكة شاكرين للأسقف عظيم فضله عليهم في ذلك، وأنهم نزلوا لورقة عن الشملالة شكرًا له على ما تجشم من أجلهم، فقبل هديتهم شاكرًا مغتبطًا.
وما زال سائرًا مع القافلة ورؤبة معه حتى بلغ طريق خولان، فأنزله واكترى له راحلة تنقله، وأوصى به عيرًا كانوا ذاهبين إليها، ونقده فوق هذا بضعة دنانير؛ ليدخل بها على أمه، وليتمكن من اللحاق به في مكة إذا شاء فإن اهتدى إليه فبها، وإلا فليسأل عنه في بيت رسول الله محمد بن عبد الله، وسارت القافلة في طريقها المعتدل حتى بلغت هدى في العصر بعد عشرين يومًا من نهوضها من نجران.
وفيما هو يتأمل الجبل ومصعده الذي اعتاد أن يرقاه إلى دار خالد بن الوليد، ويتذكر طويفًا وسعدى وفتنة، ويسائل نفسه ترى ماذا لقيت؟ وماذا جرى من الأحداث في غيبته؟ رأى رجلًا يحث نحوه بعيرًا هزيلًا كان راكبًا عليه. فتأمله فإذا هو طويف بعينه الذي كان يفكر فيه. كان ذاهبًا إلى مكة؛ ليستبضع فتلقاه بعظيم الفرح، وسأله عن حاله وعن فتنة وأخته فقال الرجل: إنه خير حال، وأن الله قد رزقه منها منذ شهرين غلامًا جميلًا سماه ورقة ذكرى لذلك اليوم المبارك الذي جاءه فيه بفتنة، وأنه قد غير اسمها فعلًا وسماها ناجية كما سماها له ساعة عرفهم إليها، ثم سارا يتذاكران حتى قطع عليهما الحديث دقدقة خيل ورادة من طريق مكة وعليها جماعة من سادة قريش: منهم أبو الحكم المخزومي، والنضر بن الحارث، والمطعم بن عدي، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وبغيض بن عامر … وآخرون. فلما اتصلوا بالقافلة وقفوا ووقفوها، وقالوا لتجارها: أيها التجار! إنكم قادمون إلى مكة ببضاعة عبد العزى، وبطعام وكساء لأهلها. قالوا: نعم. قالوا: وقد علمنا أن مقدمكم اليوم، فأرسلتنا إليكم قريش تنذركم ألا تبيعوا بني عبد المطلب شيئًا مما معكم من طعامٍ أو كساء، فإن فعلتم قاطعناكم، وتناولكم منا من لا نرده عن أذاكم، وإن نزلتم على إرادتنا عوضناكم وأكرمناكم، وسيكون منا في الأسواق نفر يدلونكم على من تبيعون إليه ومن لا تبيعون، كي لا يكون لكم عذر من خطأ، فتنبهوا لأنفسكم، ولم يمهلوا التجار حتى يردوا بالقبول أو الرفض، وارتدوا على ظهور جيادهم إلى مكة مهطعين.
فلما سمع ورقة هذا الكلام تألم ألمًا شديدًا، وتذكر ما كان الحارث قد ذكره منذ عام من ائتمار قريش ببني عبد المطلب ليلة عتق فتنة، وطلبه إليه أن يصلي لله ويدعوه أن يكف عنهم هذا الأذى، وصمت ورقة يفكر في حال سادته، وأهل بيت نبيه الذي يفتديه بروحه، وصح عزمه على ألا يدخل مكة إلا ومعه مقدار عظيم من الطعام الذي في القافلة، وأن يعمل كل حيلة في إيصاله إلى بيت رسول الله في الحصن المحصور؛ ليأكلوا منه عشية يومه، ثم اتجه ورقة إلى السماء رافعًا يده إليها، وتمتم بكلمات عاهد فيها ربه على أن لا يذوق من ساعته زادًا حتى يأكل رسول الله وأولاده.
اشتغلت قريش بالقافلة، فأنزلوها في أبطح بني كنانة، وأقاموا عليها الحراس بالليل؛ ليمنعوا بني هاشم أن يشتروا من أهلها، كما أقاموهم بالنهار لذلك، وهم يزعمون أنهم دبروا ما يجب لإجاعة أهل بيت النبي وعشيرته، وأنهم يوشكون لهذا أن يسلموا إليهم سيدهم ونبي الله؛ ليقتلوه لقاء لقيمات يسمحون لهم بشرائها من الأسواق.
ولكن الله كان يخيِّب فأْلهم حين يؤملون، ويرد كيدهم في نحورهم حين يبيتون؛ فقد كان ورقة يسير بجمال الطعام والكساء في تلك الساعة على مدرج جبال أبي قبيس قاصدًا حصن أبي طالب من وراء البيوت، وإذ كان منزله وراء الحصن في طريقه إلى دار رسول الله فقد وقف بعرانه عنده، ودق على أمه الباب ففتحته، وقبَّلها وقبلته، وسألها عن مكان مولاتها سيدة المؤمنين من الشعب فدلته عليه حين دخل على باقوم فقبل يده واعتذر له من اضطراره إلى تركه قليلًا، ثم استودع أبويه بضاعته وجمالته؛ ليدخلوا عقاقيره في الدار، وجماله في مربط جواده، وانصرف على الفور إلى بيت سيدة قريش، من حصن أبي طالب.
كان ورقة يعرف هذا الحصن معرفةً تامة؛ لكثرة ما ذهب إليه في أيام طفولته ومراهقته، وكان يعلم أن له مدخلًا عجيبًا، شقًّا من شقوق أبي قبيس يفضي إلى رحبة واسعة تكاد تكون مربعة، وأن للحصن على هذه الرحبة بابًا لا يستعملونه كثيرًا؛ لأنه إن أدى إلى شيء فإلى ظهر جبل أبي قبيس، لا إلى سوق مكة وبيت الله، ولكن هذا الباب كان أقرب إلى البيت الذي نزل فيه رسول الله بأهله، ولذلك قصد إليه ورقة، وأدخل الجمال في تلك الحظيرة الموفقة، وكان صوت الجمال قد نبه الآذان، ففتح زيد بن حارثة باب الحصن محاذرًا، وإذ رأى ورقة، ورأى الجمال تملأ الرحبة صاح مكبرًا: الله أكبر. الله أكبر! وجاء أهل البيت؛ ليروا ماذا حدث …
ثم لاحت سيدته سيدة المؤمنين خديجة وبنات رسول الله فهرع إليهن ورقة يقبل أيديهن جميعًا، وهو يقول: بأبي أنتن وأمي وبنفسي من كل سوء. هذا رزق أرسلني الله به، اشتريته من القافلة عندما علمت بحصاركم. فرفعت أم المؤمنين وبناتها أيديهن شكرًا لله على بره ودعون له، ثم أمرت بإدخال الحمول ساحة الحصن. فانصرف أهل البيت إلى معاونة الجمّالة على ذلك، ولم تمض ساعة حتى كان رزق الله قد استوى في الساحة، وعاد الجمالة بالجمال إلى ما وراء مكة كما اتفق التجار مع ورقة مشكورين مكرمين.
وإذ علمت سيدة قريش بما كان من قدوم وفد الكفار على القافلة وإنذارهم التجار بالويل إذا هم باعوا بني عبد المطلب شيئًا — أدركت ما يحيط بورقة من الشر، فأمرته أن يذهب إلى أمه لكيلا يُرى، وأوصت كل من أرى وشهد أن يكتم أمر ورقة، وإذا سألهم سائل أن يقولوا له: جاءت جمالة فأنزلوا الحمول وانصرفوا ولا يعرفون من هم، وهذا صدق كله، ولكنه لا يُبين عن المرسل. على أنه هو الله وحده الذي دبر هذا، ورد كيد المشركين والكفرة القساة القلب إلى نحورهم وأكبادهم.
ولم تر أم المؤمنين أن تلجأ إلى فراشها في تلك الليلة، حتى توزع فضل الله على عشيرة الرسول، مؤمنين وغير مؤمنين؛ ليطعموا عيالهم الذين يتضوَّرون جوعًا، ولكنها ما كانت تصدر عن أمر إلا بمشورة رسول الله، وكان ﷺ عند عمه أبي طالب، فأرادت أن ترسل إليه؛ ليجيئها، ولكنه كان قد جاء فعلًا، وتلقاه مولاه زيد بالخبر السار؛ فحمد الله — فيما أخال — ودعا لورقة وأثنى عليه، كما أخال أنه ﷺ وافق زوجته على ما رأت من إسعاف أهله في نفس الليلة بما جاءها من الطعام. فأرسلت إلى كل بيت كيلًا عاجلًا من كل صنف ورد على أن تقسم بقية ما جاء بالعدل والرحمة في الغد. أما الثياب فتركت أمرها إلى الغد كذلك حتى ترى حاجة كل بيتٍ منها فتوزعها عليهم تبعًا لذلك.
مضى يومان بعد هذا، والقافلة يحرس سوقها حراس من المشركين، ولكنهم لم يروا أحدًا من بني عبد المطلب دنا من السوق؛ ليشتري طعامًا أو يلتمس خرقة. فتعجبوا لهذا أيما عجب، ولكن لم يطل عجبهم كثيرًا فقد أخذوا يتبينون الحقيقة شيئًا فشيئًا من روايات بعض أهل القافلة. خبَّرهم بعض تجارها أنهم لا يرون عير اليهود الرحل، وأنهم يرجحون أنهم باعوا تجارتهم لبني عبد المطلب وانصرفوا، وقال بعضهم: إنهم رأوهم يتأخرون عن القافلة ساعة دخول مكة، ولا بد أن يكون هذا تدبيرًا منهم للذهاب ببضاعتهم إلى شعب أبي طالب على الفور، وادعى بعضهم كذبًا أنهم كانوا يعلمون أنهم قادمون بطعامٍ وثياب خصيصًا لعشيرة أبي طالب، وقال غيرهم بل لعشيرة محمد بن عبد الله عينًا، وأتى على ذلك ببراهين وشواهد كاذبة ليدعم بها روايته. فسقط في يد أهل الصحيفة المشركين، وكادوا يتميزون من الغيظ؛ لحبوط ما دبروا، وودوا لو يستطيعون إدراك عير اليهود القافل، ولكنهم كانوا قد رحلوا عن مكة قبل أن تعرف قريش أمرهم بيومين، بل لو خرجوا وراءهم في حينه ما أدركوهم؛ لأنهم كانوا قد أخذوا طريقًا آخر غير طريق البر إلى اليمن، وهو ما كانت قريش تسلكه؛ لتدركهم، وإنما فعل العير ذلك؛ ليستبضعوا لبني هاشم شعيرًا وسمنًا من أسواق جدة وجيرتها بعد ما علموا من سوء حالتهم، وإجماع المشركين على إجاعتهم وإذلالهم، وإمكان أن يستفيدوا من هذا الحادث ربحًا مضاعفًا. على أنهم كوفئوا على حسن النية خيرًا معجلًا؛ ذلك أنهم لم يرحلوا خفافًا، بل رحلوا محمّلين، وكان لهم في الحالين أكرم أجر، وإليك ما جرى.