الفصل التاسع والعشرون
في يثرب١
بلغ ورقة منازل بني النجار خئولة بني عبد المطلب بن هاشم، ونزل في كنف كبيرهم سعد
بن
زرارة أحد زعماء قبيلة الخزرج، وقد كان لمقدمه عليهم شأن كبير فقد علموا منه خبرًا عظيمًا
تجردت على إثره السيوف من أغمادها، وانتظرت كلمة النزال؛ لتسيل الدماء على إثرها في أودية
يثرب، وتعلو أصوات العويل والبكاء في كل دار. بيد أن ورقة لم يعن هذا، ولم يكن يعرف ما
وراءه، وإنما كان كلامه مرسلًا على عواهنه وإن تشممت منه الخزرج ما كان يعدّ لهم الأوس
٢ من الشر فثار ثائرهم، ذلك أنه روى فيما روى من حديث سفره أنه جاء في عير لأبي
الحيسر الأوسي، وأن ابن أختهم
ﷺ التقى بهم في بعض الدور في مكة،
٣ وكانوا سبعة نفر فدعاهم إلى الإسلام كما كان يدعو كل من يلقاه من قبائل العرب
في منى وعرفات، وتلا عليهم بعض ما نزل عليه من كتاب الله القويم، فصدقه العير في قلوبهم
ومالوا إليه، ولكنهم لم يروا أن يجهروا بإيمانهم ولا بإسلامهم، وقالوا إنما جاءوا مكة
لغير
ذلك، إلا واحدٌ منهم يدعى إياس بن معاذ الأشهلي
٤ فقد
قال لهم وقد امتلأ قلبه بنور الحق: أي قومي، هذا والله خير مما جئنا له. فضرب وجهه أبو
الحيسر بحفنة من حصباء البطحاء، وقال: دعنا منك فلقد جئنا لغير هذا …
٥ قال بنو سعد: زعمنا أنهم ذهبوا يعتمرون! ألم يعتمروا؟
٦ قال: بلى. قالوا: ففيم إذن ملامة الغلام؟ وفيم وردوا مكة؟ فأجاب أحدهم: يلتمسون
من قريش ما كانوا يلتمسونه منها ليوم معبس ومضرس
٧ لتحالف قريشًا علينا نحن الخزرج، وأظهروا أنهم يريديون العمرة، وعلقوا كرانيف
النخل على بيوتهم؛ ليموهوا علينا قصدهم، ويحموا أنفسهم من أذانا
٨ وقد فعلوا اليوم مثل ذلك. قال سعد: إن القوم يبيتوننا فأعدوا لهم ما تستطيعون
من قوة ومن رباط الخيل، وأجمعوا واحشدوا في خفاء.
والواقع كذلك. فقد كانت الأوس تتجهز لحرب ضروس تريد أن تأتي بها على الخزرج، ولذلك
جددوا
الحلف مع أنصارهم من قبائل اليهود النازلين في يثرب، وهم: بنو قريظة وبنو النضير على
المؤزارة والتناصر، وراسلت حلفاءها من مزينة. ثم جعلوا على رأسهم زعيمهم أبا أسيد حضير
الركائب. وجددت الخزرج حلفها مع يهود بني قينقاع، وراسلت حلفاءها من القبائل المجاورة
أشجع
وجهينة، وجعلت على رأسها عمرو بن النعمان البياضي، وأخذ كل فريق يستعد للقتال في خفاء.
على
أنهم ما كانوا يأبهون؛ لظهور أمرهم، فقد كانوا قبل هذا وفي كل وقت أعداء صرحاء كل منهم
مهدر
الدم؛ لما بينهم جميعًا من الثارات والعداوات المستحكمة من أيام حروب الفجار.
٩
ولقد أحس ورقة في تلك الأيام بالوحشة فكان يخرج إلى أسواق يثرب؛ ليأتنس بالناس، ويتعرف
شئونهم، وهناك التقى بصنوف متضاربة العقائد والمذاهب، من اليهود والنصارى والمجوس والصابئة
والبوذيين الذين كانوا يأتون بمتاجرهم من الهند إلى يثرب، وبفئات من الروم والفرس والشاميين
واليهود جاءوا فارين من ويلات القتال في بيت المقدس.
وسمع منهم أخبار اقتتال الفرس والروم في أدنى الأرض من بلاد العرب، وعلم أن الفرس
قد
تركوا أنطاكية وقيصرية، واتجهوا إلى بيت المقدس، وأن شاهين قائد جناحهم الجنوبي على وشك
أن
يدخل بيت المقدس، ويستولي على خشبة الصليب المقدس؛ ليرسله إلى مارية علامة على نصر المذهب
اليعقوبي على المذهب الرومي الذي لا يقره البطارقة اليعاقبة، ولذلك فهو كفر.
هناك التقى بأخيه في الإسلام الفتى إياس بن معاذ الأشهلي الذي رافقه في العير القافل
إلى
يثرب فأنس به وسعد، وصار في رفقته في أكثر أوقاته، ومن ثَمَّ جمعه إياس برجل من الأوس
عظيم
القدر يسمونه الكامل
١٠ لأنه كان شاعرًا وحكيمًا، وكان عالي الشرف والنسب فيهم قوي القلب جلدًا صبورًا
اسمه سويد بن الصامت. كان هذا الرجل يفخر في قومه بأنه سبقهم إلى نعمة الله؛ إذ أسلم
وآمن
بمحمد بن عبد الله — عليه أفضل الصلاة وأزكى التحية — اجتمع به في بعض أيام الحج في مكة
حين
كان يخرج إلى الحجيج في منى وعرفات وعكاظ وغيرها من مجامع الحاج يدعوهم إلى التوحيد فيؤمن
به من يؤمن، ويجمد على جهله من يجمد، وأنه
ﷺ دعاه إلى الله وإلى الإسلام، وتلا عليه
بعضًا مما أنزل الله عليه من القرآن، فصغرت في عينه حكمة لقمان التي كان يستهدي بها في
رأيه
وشعره، وطابت نفسه للقرآن، وآمن برسول الله، وعاد إلى موطنه يتحدث عن رسول الله، ويقول
للأوس ولكل من كان يتصل به: يا قوم، إن الذي يخبرنا اليهود بمقدمه قد جاء. هذا الذي في
يده
خلاصنا من ذلة الإيمان بغير الواحد الأحد. هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم.
نور
الله الذي يرتقبه اليهود رجاء أن يعتزوا به علينا يوم تتم دعوته في قريش. فانهضوا إليه
وآمنوا به، وبايعوه لا تسبقكم اليهود إليه.
والواقع أن لليهود فضلًا غير مقصود في أن كان الأوس والخزرج على تمام الاستعداد لقبول
دعوة الإسلام، وحمل أمانته. فقد كانوا في عهود جوارهم لليهود يرجون لو يتهوَّدون كما
تهودت
حمير، ويدخلون في دين اليهود لا حبًّا في اليهود، بل فرارًا من ذلة النفس بابتاع دينٍ
غير
كريم هو دين الوثنية المكية التي كانوا عليها، ولكنَّ أحبار اليهود كانوا يأبون عليهم
هذا
التهود
١١ ويحولون دونه قائلين: «إن اليهودية وقفٌ على بني إسرائيل من أولاد إبراهيم» حين
أن المانع الأكبر كان في أن إدماج الأوس والخزرج فيهم معناه زوال شخصيتهم الإسرائيلية
برجحان العربية عليها، وزوال اختصاصهم بالعز والسلطان، ولذلك أبى الأحبار أن يهوِّدوهم،
ومن
ثم بقي الأوس والخزرج على وثنيتهم الكريهة التي كان اليهود مع ذلك يعيِّرونهم بها، ويسفهون
أحلامهم للاستمساك بها.
١٢
من أجل هذا كان حديث سويد وإياس وورقة مع من يتصلون بهم من الأوس والخزرج حديثًا مشتهى؛
لأن الرسول ﷺ عربيّ وهم عرب فهم أحق به، وهو أحق بهم من كل إنسان، ودينه دين توحيد
وإخاء ومساواة، فهو خير بديل من دين اليهودية المحتكر، ثم هو لا ينكر أحدًا من الأنبياء
كما
يفعل اليهود مكابرةً وأنانية ويعظم عيسى بن مريم تعظيمًا هم يعلمون أنه يستحقه وإن أنكره
اليهود وكذبوه؛ ولهذا أكبر الأوس والخزرج هذا الدين، ولاسيما لأنه دين الحنيفية السمحة؛
دين
أبيهم إبراهيم أبي إسماعيل وإسرائيل الذي هم عليه فعلًا لولا ما دخل عليه من بدعة
الأوثان.
وحنت نفوسهم إلى اعتناقه وإعلاء كلمته، ولكن الناس إذا حنت نفوسهم إلى أمر كان لا
بد لهم
أن يأتموا بزعيم منهم تجتمع في نفسه عواطفهم وأعراضهم؛ ليقودهم حيث يريدون. غير أن الزعماء
كانوا مشغولين يومئذ بما يملأ نفوسهم من العداوات والأحقاد، والتوفر على الثأر والانتقام
بعضهم من بعض. مقفلي الأعين عن النور الذي لو تأملوه؛ لاهتدوا به إلى السلام، وإلى المنعة
وسعادة الدارين، ولذلك لم يستطيعوا أن يبصروا هذا النور، حتى أفرغوا في ميادين الحرب
ما كان
في قلوبهم من دماء الذئاب. يومئذ صفت النفوس وراق الجو للمبصرين، ومن ثم تأخرت بيعتهم
الرسول على الإسلام، ودعوته إلى الهجرة إليهم ست سنين.
ولقد كان ورقة محل الرعاية والمودة من كل أوسيّ يتصل به وكل خزرجي. يدعونه إليهم
ويسائلونه عن رسول الله فيجيب بما يعرف، وهل كان ورقة إلا لسان حالهم يتكلم ويشرح فيزيدهم
هيامًا وحنينًا إلى الإسلام! وما كان أشد اغتباطه حين كان يلتقي بالمهاجرين إلى يثرب
فيسائلونه هم أيضًا عما سمعوا من ظهور نبي في قريش يدعو إلى الله وتوحيده، والمؤاخاة
بين
الناس، وإزالة الفروق فيجيبهم بالإيجاب، ويخبرهم بشأنه وبدينه وغايته إخبار الطبيب البصير،
وكان أهم ما يحاول ورقة تبصير هؤلاء المجوس والنصارى المثلثين الذين يتناحرون فيما يبدو،
على كلمة واحدة: هل جسد المسيح يفنى أو لا يفنى؟ واليهود الذين لا يريدون لأحدٍ غير بني
إسرائيل شيئًا مما وعدهم الله به في التوراة؛ خشية أن تنفد نعمة الله!!! أو لا يصيبهم
من
القسمة إلا رذاذ! نقول كان ورقة يقول لهم: إن الإسلام يمتاز عن سائر ما انقلبت فيه الأديان
بالتسوية بين الناس في الحقوق والواجبات
١٣ وبالإخاء العام، ورعاية الحرية للفرد إلا ما آذت غيره، وهو ما لم تعرفه الدنيا
يومئذ؛ إذ كان متاع الدنيا وكرامة الحياة قسمة بين أهل السلطة الزمنية، والسلطة الدينية.
أما السوقة؛ أي: عامة الناس بعدهم، فأمرهم في المرتبة الثانية، هم الموالي والخدم والعبيد،
وإنما يتفاضلون فيما يسمحون لهم به من الرزق بقدر وفائهم لهم، وتضحيتهم في سبيلهم، ولذلك
كان أكثر هؤلاء المهاجرين يتمنون على أربابهم أن ينصروا هذا الدين وصاحبه على عجل في
أصقاع
الأرض عسى أن يبلغهم فيريحهم مما هم فيه من الاختلافات التي لا يدركون لها معنى، بل ولا
يعرفون ما هي، وهي تتقاضاهم رقابهم ورقاب أولادهم وتستبيح أموالهم وأعراضهم.
واستمر ورقة على هذا الحال من الاجتماع بسويد وإياس بن الأشهل وغيرهم من رجال الأوس،
كما
كان يجتمع بالخزرج وغير الخزرج، ولكن حُماته من بني النجار آخذوه على ذلك، وقالوا له:
كيف
تصادق الأوس! إن صديق أعدائنا عدو لنا. فانصرف عنهم أو فانصرف إليهم. إنا قادمون على
حربٍ
مع الأوس، ولا بد لنا أن نعرف اليوم عدونا من الصديق. قال الفتى: إنما المؤمنون إخوة،
فأنا
آنس بإياس؛ لأنه مسلم مثلي لا لأنه عدوٌ لكم، وأما وربي ليس الأشهلي براغب في هذه الحرب
ولا
بمروّج لها، وما يكره من الأشياء شيئًا كأن يقتتل أخوان؛ لتظفر يهود من بعد تضعضعها بالمنعة
والسلطان، ولقد أسلم إياس يوم ذهب الأوس يلتمسون الحلف عليكم من قريش فأبوه عليهم، وعدّ
ظفره بالإسلام خيرًا مما جاء فيه أهله، ولن يحارب إياس خئولة نبيه. هكذا قال لي. قال
الأسعدي اللائم: ليس من الحرب مفر ففي أي جانبٍ أنت؟ قال: في جانب خئولة مولاي رسول الله،
ولكني لا أريق دمًا عامدًا. أكون في الساقة أحمي متاعكم ومئونتكم، وأحمل الماء إليكم،
وأضمد
الجراح؛ فسكت ابن النجار على هذا.
على أن ورقة انقطع من يومه عن زيارة صاحبيه؛ لئلا يتهم بالتجسس على الأوس، وكان يخرج
إلى
أرباض يثرب وجبالها في نهاره، ويعود إلى يثرب في ليله، وهو يدعو الله أن يلهم الأخوين
السلام.