ورقة بن صليح
ما كاد إسحاق يستقر في خيمته، وينهي إلى رفقته ما استقر عليه رأيه حتى بلغ أذنهم صياح استغاثة ودقدقة أقدام غير بعيدة عن الفسطاط. فنهض من مجلسه فزعًا ونهض من معه كذلك، وخرجوا إلى ظاهره ليروا ما هنالك، وإذا بهم يصطدمون بمقدم جمالتهم فارًّا من القتل، وإذا هم يرون فتى من عنفوان الشباب يجري محنقًا مغضبًا وراء الجمّال، والسيف مصلت في يده. فاعترضه إسحاق قائلًا: على رسلك يا فتى! من أنت؟ ولماذا تجري بالسيف وراء الرجل؟
وإذ لم يرد سؤال إسحاق عاد إسحاق يسأله وهو يعمل على تهدئته: ما سبب هذا يا ترى؟ هل أساء الرجل إليك؟ فأجابه الفتى، وقد عرفه؛ لأنه رآه هو وبعض من معه في صنعاء: إن هذا الجمّال لصٌ غادر. ثم تعجب للسائل كيف لم يتذكره فقال: ألا تذكرني أيها السيد الحكم؟ إني أنا ورقة ابن صليح المكي وقد تلاقينا قبل اليوم.
لم يذكره الحكم، ولا أحد من رفقته. فصمت متأملًا ثم قال: أنا تلميذ الحارث بني كلدة الثقفي الطبيب ألم ترني معه؟ قال إسحاق: أنا أعرف الحارث حق المعرفة فهو من أصدقائنا، ولكني لا أذكر أني رأيتك معه. قال: أو لا تذكر أنّا تحادثنا في سوق صنعاء؟ قال: ما أكثر نسياني، قال ورقة: ويحي أيها السيد إسحاق! ألا تذكر مجيئك أنت وهذا الحبر الجليل عند نعيم الصيدلاني فبعتك شيئًا من عقاقيره، وإن نعيمًا خبَّركم أني من مكة، وأن الحبر سألني عن رجل من بني إسماعيل اسمه محمد قام في مكة يدعو إلى الحنيفية ملة أبيكم إبراهيم، فلما أجبته مصدقًا قال الحبر: هذا مصداق ما ورد في التوراة!
ولقد رأيت مخيمكم من فوق الجبل، وأنا لا أدري من أنتم، وكان قد أدركني التعب، وحنّت نفسي إلى الراحة، فملت نحوكم لأستريح وأريح الجمال، ثم أرى لي رأيًّا فيما بقي من الطريق. فما كدت أنيخ حتى أبصرت بالرجل قادمًا نحونا، يتعرفنا وهو لا يدري من أنا، بل ما كان يخطر بباله أني يراني. حتى إذا قرب مني وعرفني أدرك ما وراء ذلك فصرخ من الذعر لما تبيَّنه في وجهي من الغيظ لدن رؤيته وثوران رغبة الانتقام منه على الفور، وجرى إليكم وجريت وراءه لأقتله أولًا إراحةً لقلبي فما عاد يهمني المال، وكان الجمّال في أثناء الحديث قد أخرج المال من جيبه مصرورًا في قطعة من ثوبٍ خلق، وأخذ يقاطع حديث ورقة لكي لا يتمه ويقول: خذ مالك. خذ مالك. إني لم أجد جمالًا صالحة، ولم أملك أن أعود إليك. ثم رماه في صرته عند قدمي صاحبه، فلطمه إسحاق إذ ذاك على وجهه لطمةً شديدة من شدة ما عراه من الغيظ، ثم تناول رقبته ودفع به حيث ألقى الصرة، وهو يقول لورقة: دونك رأسه فاعله بالسيف. لعمري لهو أهون جزاء. فانبطح الرجل على وجهه يستغيث ويسترحم، ولكن ورقة ركله برجله وشتمه، فنهض وجرى إلى حظيرة الجمال، وانحنى أحد اليهود فتناول المال من الأرض، وقدمه إلى صاحبه. فأخذه هذا وانصرف إلى بعرانه.
أما إسحاق فقد عاد إلى خيمته وتبعه إخوانه، وهم آسفون لما أصاب الفتى، وحانقون على الجمال لغدره وخيانته، وودوا أن يتركوه حيث هم لولا أنهم كانوا في قلة. بيد أنهم قرروا ألا يروا له وجهًا طول الطريق، وأن يجعلوا أحد جمالة ورقة سائق العير، ورئيس التحميل إذا هو آثر الرحيل معهم. ثم ذكروا الفتى وما بدا لهم من كمال رجولته، وعظيم شجاعته التي هوَّنت عليه أن يسير في ثلاثة بعران في طريق محفوف بكل مكاره البادية، وتساءلوا فيما بينهم: ترى ألا يقبل هذا الفتى المكي أن يسير في مهمتنا ويعوق نهوض القافلة؟
نعم إنه لا يحمل رسالة إلى ملك الملوك مثلنا، ولا هدية ثمينة، فلا حاجة به إلى العجلة، وقد قال ذلك فعلًا، ولكنه كان يود أن يدركهم حتى قطع المفازات مغامرًا ليرحل معهم لولا ما أصابه من غدر ذلك الجمّال، وقد لا يكره أن يدرك عيد آلهته الكبرى إذا نحن أيقظنا في نفسه الذكرى، وأريناه السبيل إلى ذلك، ولكن من لنا بمن يحمل القافلة على الانتظار حتى ولو بلغتها رسالتنا! إنها قافلة قرشية، وهؤلاء القرشيون لا يرون لنا عليهم حقًّا، بل لعلهم يؤثرون أن يحرجونا، ولو لم يكن لهم مصلحة في هذا الإحراج.
فأشار عليهم أحدهم أن يرسلوا في طلب ورقة للعشاء معهم، وأن يتلطفوا معه في الحديث، ثم يبلغوه حاجتهم، ويجعلوا له لإنجازها أجرًا بمقدار كرامتهم وشدة حاجتهم — عشرة دنانير ذهبًا — وخمسة ينقدها منادي القافلة في نجران؛ ليحمله على قبول التأخير. فوافق الوفد على هذا الرأي، وذهب أحدهم يدعو ورقة، فلما دخل عليهم نهضوا تجلةً له من حيث لا يشعرون، وأجلسوه أكرم مجلس، ودعوا بالطعام فلم يأكل إذ كان قد تبلّغ لليل وانتهى، وعرضوا عليه الرأي فقبل، وعرضوا عليه المال فرفض، وأبى أن يُقدِّم رشوة للمنادي، بل اقترح أن يقصد إلى الأسقف وهو السيد المطاع في نجران، برسالة من إسحاق وتحية، ورجاء منه أن يؤجل سفر القافلة يومًا ليلحقوا بها. فإذا بلغوها فيها، وأكرموا منادي القافلة وحداتها بما ودوا أن يكرموه به على يديه، ولكنه طلب إليهم أن يعدوا له خير رواحلهم وأصبرها، على أن يأتوا برواحله ورجاله في الغد معهم إلى نجران.
كبر الفتى في عيون اليهود لمروءته وإبائه، وشكروا له فضله وحسن رأيه، ووعدوا أن يعدوا له أكرم النوق، وعلى هذا استأذن في الانصراف ليدرك شيئًا من ساعات النوم استعدادًا لمشقة السفر في الغد فنهضوا لتوديعه حتى غاب، وعادوا ليعطوا الأمر بإعداد خير نوقهم لركوبه ساعة يفيق.