إلى أثريب
عاد الجمالة بالجمال بطانًا من خيرات الله في مرابض معان، ريًّا من مياهها العذبة الجيدة، فأناخوها في مدرأ من هواء الخريف، ثم ضربوا لأنفسهم مخيمًا يقضون فيه الليل في جوارها لحراستها، ولكنهم صعدوا إلى ورقة؛ ليقضوا معه ما بقي من اليوم، وقد بدا الآن في نظر اليثربيين مثل الشجاعة والمروءة والعقل الراجح فقد ذكر لهما غلام إياس ما كان منه من قتل عملاق بني قريظة وفارس بني النضير في الدفاع عن سيدهما ابن زرارة في يوم بعاث الذي انقلب في النهاية على الخزرج، وأن سيده إياسًا اضطر أن ينقذه من أيدي اليهود بترحيله عن يثرب في قطع من الليل كما اضطر المسلمون في مكة إلى إنقاذه بترحيله عن مكة إثر ما تآمر المشركون على قتله جزاء إفساده عليهم كل ما كانوا يعدون من الأذى للمسلمين ولرسول رب العالمين، وانبرى موليًا بني أيوب يدعوان له ويثنيان عليه؛ لإنقاذه سيد الخزرج، ويأسفان على أنهما لم يكونا في يثرب في ذلك اليوم.
وكان العصر قد آذن فنهضوا للوضوء والصلاة، وتعاهدوا جميعًا على الأمانة والصدق والعفة والتقوى، ونصر الله. ثم انصرف اليثربيان إلى مضربهما بجوار المطايا حامدين شاكرين تاركين الأمير في عناية ورقة واثقين بفضله ومروءته.
أما ورقة فجلس يفكر طويلًا في أحداث هذا اليوم حتى إذا ذكر هيلانة، تنبه إلى أنه وعد أن ينظف جرحها ويكسوها غير كسوتها؛ فنادى غلامه، وأمره أن يغسل ماعونًا مما لديه، ويغلي فيه ماء، ويغلي اللبن كذلك ليطعم الأمير، وكان قد عزم في نفسه على الرحلة إلى أيلة فالإسكندرية، فأعد كتابين أحدهما إلى إياس، والآخر إلى أسعد يشكرهما فيه على ما لقي من البر والخير، وحدثته نفسه أن يكتب رسالة إلى باقوم وأمه؛ ليخبرهما بما اعتزم من السفر إلى الإسكندرية، ويرجو من إياس أن يرسلها إليهما مع من يكون ذاهبًا إلى مكة من رجاله فكتبها كذلك.
فلما انتهى الغلام من مهمته، وجاء بالماء الساخن واللبن، أمره ورقة أن يدخل به غار الأمير، فلما عاد خطر له أن يبعده عن المكان، فأرسله إلى سوق عمان؛ ليشتري خبزًا ونسيجًا لعمامته. فانصرف الغلام في ذلك. أما هو فأخرج من جوالقه قميصًا من الكتاب وخرقًا كالمنديل وعصابة من عصائب عمامته، وفتح جوالق الغلام فاستخرج منه قدرًا كبيرًا من ملح الطعام، ودخل بذلك على الأميرة. فلما رأته بدت عليها علامات المسرة بمرآه، وابتسمت ابتسامة المحبة الخالصة، فقال لها: أعددت لك الغسول يا سيدتي، وجئتك بقميص مما ألبس، فلا تعيبيه، إنه ليس كقميصك الذي من الحرير، ولكنه خير منه الآن. بيد أني أرسلت غلامي إلى سوق عمان؛ ليأتي لنا بنسيج، قالت: ليس لي معك رأي، افعل ما ترى. قال: شكرًا. ثم أنهضها برفق وحل اللفاعة ونزعها، ثم وضعها تحت خاصرتها؛ ليقي بها الماء عن الفراش ساعة الغسيل، وحل أزرار الدراعة، وأتى بالماء فوضع فيه ما أتى به من الملح، ووضع الخرق فيه، وأخذ يبلل الجرح بالماء المملَّح، ويزيل الدماء والمدة عن الجرح شيئًا فشيئًا، وعندما لان اللحم والجلد الجافان تلطف فأخذ ينزع حلقات الزرد المشتبكة فيهما من أثر سيف اليهودي، والأميرة تتألم ولا تجرؤ أن تتأوه، حتى أخلى الزرد كله عنها، واستمر ورقة يغسل الجرح حتى نظف، جففه بخرقة مما أعد، ولفَّ خصرها بعصابة عمامته، وجعل منها نطاقًا، ثم غطاها بغاشيتها التي كانت تتغطى بها في فراشها، وعندئذ أغمض عينيه؛ لكي لا تتأذى الأميرة بوقوع بصره على بدنها، وتناول كمي الزرد واحدًا بعد آخر؛ ليخلعه عنها، وكذلك فعل بالقميص الحريري الذي كان تحته وهو في إغماضه لا يرى. ثم التفت عنها مظاهرًا، وقدم لها بيده ممتدة إلى الوراء قميصه لتلبسه؛ فأخذته منه ولبسته، حين كان قد انحنى يأخذ ماعون الماء والخرق الملوثة؛ ليخرج بهما من الغار مظاهرًا، وعاد ورقة بعد ذلك يأخذ الدرع وقميصها الملوثتين بالدماء فلما تناولهما رأى في عينها علامة التردد فأدرك أنها لا تريد أن يبدو قميصها للعين فيراه الجمالة ويعجبوا. فابتسم ورقة وقال: لولا أني أخشى أن نحتاج إليه في الطريق؛ لتركته على حاله، ولكني سأغسله بيدي على الفور قبل أن يعود غلامي، وأدع له اللفاعة ليغسلها هو، وسيجفان ولا شك قبل الصباح، قالت وقد ابتسمت: افعل ما بدا لك بيد أن لا حاجة بنا إلى القميص، أما نستطيع أن نشتري من هنا نسيجًا أو من أيلة، إني أستطيع أن أخيط ما نشاء. قال: كذلك ولكن لا بأس بغسله، إنه لا يكلفني شيئًا. ثم خرج فغسله مما عليه من الدماء وعاد به بعد قليل فنشره على حجرين في غرفتها على صورة لا يبدو منها حقيقته، ولاحظت الأميرة ذلك وابتسمت، وقالت أراك تحسن التمويه يا ورقة، قال: إلا في الخير يا سيدتي. قالت: قصدت ذلك بالطبع، معذرة إليك وفيما هما في ذلك عاد الغلام بالخبز والنسيج فتناوله منه وشكره، ورجا منه أن يغسل لفاعة الأميرة فقد تركها له عند السقاء، وانصرف ورقة يطعم السيدة شيئًا من اللبن والخبز، حتى إذا طعمت لففها في النسيج وهو لا ينقطع عن مؤانستها بأدبه وأحاديثه وتأميلاته، فذكر لها أنه سيقضي في معان يومًا واحدًا؛ لتقوى على الرحلة إلى أيلة، ولا يقيم بعدها فيها إلا ريثما يستعد للرحلة إلى القلزم.
وكانت الشمس قد غربت في ذلك الحين، وكاد الغار يظلم فخرج بها ورقة إلى خيمته؛ ليقضيا بعض الليل في ضياء النجوم حتى إذا غلبها نوم العافية المؤاتية حملها إلى مرقدها فنامت، وانصرف هو؛ ليسهر عليها وعلى لمياء.
•••
في صبيحة اليوم الموعود كان ورقة يسير بهيلانة إلى أيلة بعد أن ودع اليثربيين الثلاثة وأكرمهم جميعًا، وحمَّلهم الرسائل التي أعدها لأصحابه وأهله، ونقل إليهم جميعًا فرط شكر الأميرة — وقد ظلت في اعتقادهم أميرًا جريحًا — ودعواتها الخالصة لهم.
وفي صبيحة اليوم الرابع كان يسير بها في قافلة عظيمة اتخذت درب الشعوى طريقها إلى القلزم (السويس).
كانت القافلة مؤلفة من أخلاط من الناس على مثل ما شهد في بطاح يثرب ومعان، جاءوا من أدنى الشام وأعلاها، ومن شرقيها وغربيها، بين روم وشاميين، فارين بأنفسهم وبأولادهم من ويلات الحرب في تلك البقاع منهم الثاكل والمحزون، ومنهم المحروب والمغلوب. جاءوا في الصحراء من القدس وقيصرية وبصرى وغزة إلى أيلة وغير أيلة قاصدين مصر من غير طريقها القريب منهم — طريق رفح والعريش والفرمة — لعلمهم أن الفرس كانوا قد استعدوا لفتح مصر، ويوشكون أن يسيروا إليها من ذلك الدرب فتركوه، وصعدوا في الصحراء، وعطفوا على بطرة، ومنها إلى أيلة؛ ليخترقوا صحراء سيناء إلى القلزم من طريقها هذا القصير.
اخترقت القافلة درب الشعوى في اتجاه الغرب لم تمل عنه يمنة ولا يسرة إلا فيما كانت مضطرة إليه من تفادي جبل أو التماس بطحة على أنها لم تلق في هذا الدرب ما اعتادت أن تلقاه مثلها من الوعث والمشقة؛ إذ كان طريقها معشبًا كثير المياه والأودية، كثير المباءات والمنازل، ولذا عد الركب أيامهم في سيناء نزهة مباركة، وعلامة طيبة على رضا الله الذي أنقذهم من أذى الفرس واليهود ومسترزقة العرب.
بلغوا القلزم على الهوينا في ستة أيام، وبلغوا بلبيس في يومين، ونهضوا في اليوم التاسع قاصدين أثريب.
ولشد ما كانت دهشة ورقة حين كان يخترق حقول مصر ومزارعها فلا يرى على جانبي الطريق إلا خضرة، ومياهًا وماشية وأنعامًا، ورزقًا غير منقوص، وكان الجو في أوائل كيهك (نوفمبر–ديسمبر) قرًّا جميلًا منعشًا، والشمس دفيئة كريمة، تسطع على البقاع فتجلو جمالها وتمنحها رونقًا، وتكشف للعين دقائق فضل الله على هذا البلد الذي جعلت الأمم القوية حيازته علامة استكمال مجدها، وبلوغها سدرة المنتهى في الحياة الدنيا، وهيلانة في أثناء ذلك مغتبطة بما تسمع من ورقة من أحاديث عجبه، معقبة عليه بما لديها من أخبار ما يمران به من البقاع في عهدها القريب، وكان الجرح قد أمعن في الالتئام، فارتدت إليها العافية، وزها وجهها بنور الصحة، فلاحت بين تلك الخضرة كالزهرة الحالية الأنيقة تلقي عليها من جمالها الفتان جمالًا تبدو فيه كأنما هو بعض نضرتها؛ ذلك حينما كانت تنسى همها في جوار صديقها ورقة، وفيما كانت تجده من اللذاذة بالحديث معه عن مصر وفتنتها، وما تستشعره من نشاط نفسها لدن تقديرها أنها ستتمكن في القريب العاجل من رد جميله إليه، واستخلاصها لنفسها بعد ذلك أخًا وصديقًا.
قربا من أثريب (بنها) فإذا هما يريان أشرعة سفن كثيرة تمخر من الشرق متجهة إلى أثريب، كأنما هي سرب متواصل من حمائم بيضاء، فزعم أنه النيل وتاقت نفسه مشتهية أن ترى على الفور ذلك النهر الذي طالما حدثه عنه باقوم والحارث أعجب الأحاديث، ولكن هيلانة عجلت فأنبأته أن الذي يرى إنما هو فرع من النيل يخرج من أثريب وينتهى عند تنيس، وقدرت أن هذه السفن التي تمخره إنما تحمل اللاجئين من بلاد الشام والموت الزؤام إلى بلاد مصر والإسكندرية، وكان الواقع كذلك فقد كانت تحمل جموعًا من أروام الشام الفارين منها من كل ملة، حتى من اليعاقبة الذين أمَّلوا الخير كله من اندحار الروم وانتصار المجوس، فلما لم يعرهم المجوس اهتمامًا، ولم يشغلوا أنفسهم بالسفاسف، ولم يتدخلوا في عقيدة أحد، وإنما تدخلوا فيما يملكه الناس، وعملوا على أخذه منهم — فروا هم أيضًا مع الفارين.
بلغا بعد قليل ميناء أثريب العظيمة، وكان ورقة في أثناء قدومه يرسل ببصره إلى صفحة النيل ممتدًا على الأفق من الجنوب إلى الشمال، فيرى أمامه أعجب ما وقعت عليه عينه منذ خلقه الله — يرى النيل! يرى السلسبيل — يرى فيض الخير الذي ترسله السماء إلى الخلق كل عام بالري والخصب والنماء، ويرى الفلك تجري هادئة على صدره، فما إن يغفل الطرف عنها حتى يراها قد أوغلت وانحدرت إلى مستقرها، فهي تحكي نعمة الله التي يرسلها إلى الموعود بها فتأتي إليه سلسة هادئة، حتى إذا استبطأ سيرها وجدها قد غمرته من حيث لا يدري، ولقد ازدحمت الميناء بالفلك الصادرة عن أثريب والواردة إليها على صدر الفرع التنيسي؛ لتقطع النيل، وتنحدر منه إلى الترعة الفرعونية التي شقها أحد ملوك مصر السابقين؛ ليصل بها ما بين الفرعين الشرقي والغربي مارة بحصن منوف القوي، وصاعدة في مرورها إلى أرباض نيقيوس حتى تفيض منها في النيل من الجانب الآخر.
وفيما ورقة غارق في تأمله وتفكيره، انتبه على حديث هيلانة إذ تقول: ماذا نفعل بالجمال؟ لم تعد لنا بها حاجة، فالطريق إلى الإسكندرية طريق النيل. لم يكن ورقة قد أعد لهذا السؤال جوابًا، ولا هو يستطيع الآن جوابًا. أما البعير الذي تركبه فكان هينًا عليه أن يبيعه إذا وجدا شاريًا، أما الشملالة التي يحبها وتحبه والتي أصبحت جزءًا منه، ففراقها عنده كفراق لمياء، ولكنه اضطر إلى فراق لمياء رعيًا لها ولأهلها ولأنه لم يكن يملك غير ذلك، وأما الشملالة فماذا يجبره على فراقها؟ سكت ورقة على الجواب فقالت هيلانة: أنا أعرف قدرها عندك وإن لم تعد لك بها حاجة، ولن يكون لها عمل في الإسكندرية. قال: وفي الصحراء وسيناء وبلاد آدوم وثمود، وفيما بين يثرب ومكة. قالت: لن تعود إليها، لن أسمح لك. فابتسم ورقة وقال: أليس هناك من سبيل إلى أخذها معنا إلى الإسكندرية في سفينة؟ إنها آخر ما بقي لي من بلادي. قالت: إنك تجهل ما تتكلف من النفقة في نقلها وعولها، ولكنك لا تقيم لذلك وزنًا. ثم تذكرت أنه يحب ناقته حبًّا تهون إلى جانبه النفقة فقالت: هي المحبوبة المعززة، لا بأس سأدبر الأمر. خير لك وأرخص أن يأخذها لك أجير إلى الإسكندرية. قال: وهل يؤمن عليها الأجير؟ هبي أنه ذهب بها قالت وقد ابتسمت: إنك يا صاحبي تنسى من أنا من نيقتاس حاكم هذه الأرض، وإني إن شئت أن أحملها إلى الإسكندرية على أعناق الرجال حملوها شاكرين، ولكني لا أريد أن ألقى منهم أحدًا، إلا إذا عجزت.
وفيما هما يتحادثان سمعا صوتًا من ورائهما ينتهرهما قائلًا: إلى متى تقفان تتكلمان وتزحمان الطريق! قبح العرب والقبط جميعًا! انصرفا من هنا على الفور وإلا ضربت راحلتيكما فألقيتكما في النيل طعامًا لسمكه.
التفت ورقة وهيلانة إلى القائل فإذا هو جندي رومي مميَّز ممن أعدتهم الحكومة لمراقبة الواردين من الشرق إلى أثريب والطالبين الإسكندرية في سفن الترعة الفرعونية، على رأسه خوذة، وفي يده درع من النحاس، وفي منطقته سيف سميك، وقد ترك شواربه تتدلى على جانبي فكيه، وتملأ وجهه وحشية تنفعه في القتال.
تأملاه فشد ورقة خطام ناقته استعدادًا للسير، والتفت إلى هيلانة كأنه يلفتها إلى ضرورة الابتعاد عن المكان الذي يتحكم فيه هذا الجندي، ولكنه رآها تتمعن في وجه الرجل ورأى شفتيها تسايران نجوى نفسها في النظر إليه، ثم انطلقت كلمة منها في مواجهته تقول: كوسموس!
فالتفت الجندي إليها إذ كانت هذا اسمه فعلًا، ولكنه لم يعرف مناديه؛ لأنها كانت قد تزيت بزي العرب في مرافقة ورقة منذ خرجت من معان وتلثَّمت، فلاحت في صورة لا تدل على شيء، ولأن العهد بينهما بعيد، والصلة بينهما مقطوعة من زمن طويل، وأدركت هيلانة أنه لم يعرفها؛ لتنكرها، أما هي فلم يخف الرجل عنها، وإن كان قد كبر قليلًا عنه يوم كان من حراس زوجها في منوف، وإذ التفت إلى القائل كأنما يسائله من المنادي، لم تشأ أن تعرّفه من هي إذا أمكن أن يتذكرها ويعرفها هو بالنظر إليها، ولكنه لم يعرفها، فقال وهو ينظر إليها: من يناديني؟ فأزاحت هيلانة شيئًا من لثامها؛ ليلوح له شيء من أنوثتها لعله يتذكرها، وقالت: ألا تزال تنكرني؟ فتمعن الرجل في وجهها، وقال متسائلًا في شكٍّ عظيم: سيدتي هيلانة! قالت: نعم. قال: مرحبًا بسيدتي العالية، مرحبًا! كيف حالك يا سيدتي، وحال مولاي؟ قالت: وقد جهدت نفسها على التجلد: نحمد الله، وأنت يا كوسموس وأولادك؟ قال: نحن لا ننساك يا سيدتي، ولا ننسى سيدي، ثم تناول كوسموس خطام بعيرها، وأشعرها أنه يريد إناخته فأذنت، ولما بلغت قدماها الأرض تناول الجندي يدها فقبلها، ووقف في خضوع يحادثها وفي نفسه ألف سؤال وسؤال، ولا سيما لأنه رآها وحيدة ورأى معها فتًى عربيًّا، ولكنه آثر ألا يحرجها بأسئلته فلعله يستطيع أن يعرف من حديثها معه ما يريد أن يعرفه، وكان ورقة قد أناخ هو أيضًا، وجاء ليكون معها ساعة الحديث. فلما رأته قالت لكوسموس: هذا فتًى نبيل يا كوسموس. أمكن إخوانك أن يخرجوا بي من القدس؛ ليوقُّوني شرور الفرس، وجئت هنا في حمايته. فالتفت كوسموس ينظر على الفتى نظرة ثناء وتحية ردها ورقة بمثلها حين كانت هيلانة تتم كلامها، وهذه الناقة العظيمة عزيزة عنده، وهي كذلك عندي؛ لأنها تسابق النعام، فهل لديك حيلة هينة؛ لتكون معه في الإسكندرية؟ قال: والله إن لدي شاريًا لها يريد أن يبلغ القدس في أقصر زمن، ولو طلبت فيها مائة دينار ما تردد. قال ورقة: لا أبيعها بألف. قال: إذن فلنجعلها في إحدى سفائن الجماهير والبضاعة الذاهبة إلى الإسكندرية وما أكثرها. قالت: بل أرى أن تستأجر لها راكبًا يلحق بنا في بيت أبي الذي تعرفه. قال كوسموس: حبًّا وكرامة. قالت: وأما البعير فأرجو منك أن تبيعه. قال كما ترين يا سيدتي. أما الناقة فإن لدي صديقًا من أكبر تجار الغلال في الإسكندرية ونوابها في المجلس اسمه أورست يريد العودة إلى الإسكندرية مسرعًا، وسيكون سعيدًا بأن أعرض عليه ركوبها؛ لأنه يستطيع أن يبلغ بها الإسكندرية في ضحى الغد، ولكني أخشى أن سيبقى في مريوط أسبوعًا. قالت: لا بأس. هذا أصلح. قال: حسن جدًّا وسيدفع الراكب أجر ذلك لصاحبك دينارًا. إن الأجور اليوم عالية جدًّا، والرواحل عزيزة جدًّا قال ورقة: شكرًا لك، ولكني لا أريد أجرًا. حسبي من أجره أن يعنى بها ويوصلها إليّ سالمة. قال: ليكن ما تريد. سأبيع هذا البعير قبل أن تركبا السفينة. إن لدينا من سفن القصر واحدة خالية. هل أعدها يا سيدتي؟ قالت: إذا لم يكن في ذلك بأس فافعل قال: أي بأس يا سيدتي! هي سفينتكم، وهل يملك التصرف فيها أحد أكرم منك! قالت: أعدها إذن، ولكني أرجو منك أن لا تخبر أحدًا بأمري إن شئت حتى أرحل عن أثريب. قال: لك الأمر يا سيدتي، ثم دعاها للاستراحة في جوسق له على النيل ريثما يعد السفينة، ونادى بعض رجاله؛ ليحملوا الجوالق إلى الجوسق، ويبقى أحدهم لحراسة الجمال.