الفصل الرابع والثلاثون
في الإسكندرية
يخيل إلينا وورقة تسير به هيلانة في سفينتها الأميرية ناشرة قلوعها في النيل عند
أثريب،
ثم منسابة في الترعة الفرعونية فقاطعة جزيرة منوف على خط مستقيم حتى تصل إلى فرع رشيد
بجوار نيقيوس
١ ثم هابطة مع النيل قليلًا؛ لتنحدر هناك مغربة في جوف الفرع الكانوبي
٢ وتسير حتى تصل إلى تيمنهورس (دمنهور) وبعدها إلى الكريون
٣ على مدى ثلاثين كيلو مترًا منها؛ لتدخل هناك في خليج كليوباترا
٤ السائر بمائه إلى الإسكندرية، فيدخلها من جنوبها، ويخترقها حتى يصب في البحر
عند ما يسمى الآن مينا البصل — يخيل إلينا أن ورقة كان لفرط تعجبه مما رأى في شبه ذهول.
ما
أعظم الفرق بين ما كان فيه في بلاد العرب وما هو فيه الآن. هناك صحراوات قاحلة ماحلة،
وهنا
مزارع ناضرة زاهرة. هناك جبال وأحقاف، وهنا سهول ومروج. هناك آبار وعيون ضئيلة أو أفلاج
وخيران جافة، وهنا النيل والترع والخلجان والسواقي المترعة. هناك الخيام والمضارب، وهنا
الدور والقصور. أعظم ما رأته العين هناك من الحصون بيوت منيعة لسادة اليهود والعرب مبنية
من
الحجر فوق الجبال حول يثرب، وأهون ما ترى العين هنا صروح عالية، وثكنات كالجبال قائمة
على
جبوانب الطريق هنا وهناك. حتى إذا وقعت عينه على منوف ونيقيوس والكريون، ورأى كلًا منها
مجموعة من الحصون الشاهقة الكبيرة الأحجار والأبواب يعمرها جند الروم مدججين بالسلاح
في كل
وقت استعدادًا للطوارئ قال في نفسه: لا! هذه دنيا أخرى وعالم آخر غير دنياي التي كنت
فيها،
ولكنه كان قد سمع من باقوم ما سمع عنها أبد سبع سنوات متوالية، وعززته هرميون والحارث
ولمياء فيما روي له فصدق القول ووعاه، ولذلك لم تكن دهشته لتذهله الذهول المنتظر. على
أنه
لما رأى بعض حصون تراجان في منوف ونيقيوس مهدمة من أثر ما فعل بها بونوسوس أمير الشرق
قائد
قواد فوقاس، والجيوش المصرية مجدة في إعادة بنائها — تعجب كيف استطاع هذا الرجل الجبار
أن
يهدمها؟ ويغلب عليها من كان في جيش هرقل الأخضر:
٥ وكانت هيلانة في أثناء ذلك تروي له ما فعل بونوسوس هذا منذ سبع سنوات في مصر
من القتل والهدم والتدمير انتقامًا للإمبراطور المكروه فوقاس. روت له أنه قتل كل حكام
أثريب
وسمنود ومنوف والكريون، وكل ضباطها العظام، ونهب وسلب حتى إذا بلغ الإسكندرية واستعصى
عليه
دكها لمناعة أسوارها عاد يخرِّب ويقتل متراجعًا إلى تنيس، ونشر مناسر اللصوص في كل مكان،
ثم
هرب إلى أنطاكية قصر إمارته، ومنها إلى القسطنطينية.
٦
هناك أراد قتله أنصار القائد هرقل فرمى نفسه في البسفور وغرق
٧ وأعقبوه بإمبراطوره فقتلوه وأحرقوه
٨ وولوا هرقل بدله. ثم استمرت هيلانة تقول: ولكن هذا
الإمبراطور السيء الحظ هرقل لم يهدأ يومًا واحدًا. فقد استمر كسرى أبرويز في الحرب مع
أنه
إنما جاء؛ لينتقم من فوقاس جزاء قتله حماه لإمبراطور الطيب موريقوس أبي زوجته مارية.
أوغل
في أرمينية، ووصلت طلائعه إلى خليج القسطنطينية. ثم علقت هيلانة على ذلك بقولها: وكان
المرجوّ إذ أن الشعب ثار على فوقاس قاتل حمى كسرى، وأن هرقل قبض عليه وقتله اقتصاصًا
منه
لجنايته أن يكف كسرى عن القتال ويعود إلى بلاده، ولكنه لم يفعل بل استمر يحاربنا حتى
أجلى
جيوش الروم عن أرمينية والشام معًا، وها هو ذا قد ملك القدس، واستولى على الصليب المقدس،
وأكبر الظن أنه آت بجيوشه إلى مصر ليفتحها، ولكن هيهات أن يدخل الإسكندرية! إذا كانت
قد
استعصت على بونوسوس وهو شيطان الشياطين فهل تسهل على قائده شاهين! إن أسوارها سميكة جدًّا
لا تفعل فيها قذائف المجانيق، نعم إن في الإسكندرية يهودًا يبلغون أربعين ألفًا يتربصون
بنا
الدوائر، وفيها يعاقبة يدفعهم القساوسة إلى العبث، ولكن سلفي نيقتاس لن يفوته أمره.
وكانت السفينة منذ دخلت بهما الترعة الفرعونية تمر مسرعة بقوة الريح ومجاديف النوتية
الأشداء الذين كانوا في خدمة السفن الأميرية، ولذلك استطاعت أن تبلغ الإسكندرية في أيام
قليلة، وتيسر لمن كان فيها أن يروا أعاجيب ما كان يجري في تلك الأيام: رأوا مئات من السفن
بين صغيرة وكبيرة تحمل أخلاطًا من أهل الشام وجنودها وقساوستها، بل ويهودها فارين بما
معهم
من الذرِّية والأزواج وما أمكنهم أن ينقذوه من المتاع قاصدين الإسكندرية أو غيرها من
البلاد
الحصينة فرارًا من ويلات الحرب في تلك البقاع الشقية، وكانوا كلما مروا بمرفأ من مرافئ
القرى على جانبي هذه الترعة العظيمة، أو على شواطئ النيل في فرع رشيد والفرع الكانوبي
وخليج
كليوباترا غربيه يلتقون بسفن تحمل غلالًا وحيوانًا وبيضًا وسمنًا بعضها سائر في طريقه
إلى
الإسكندرية، وبعضها يوسق من من أجلها، وكانت هذه السفن في غالبها يحرسها جند من الروم
لهم
سمة خاصة تدل على أنهم من جنود يوحنا الرَّحوم بطريق الروم في الإسكندرية، وبعضها في
حراسة
شمامسة من أتباع بطريق اليعاقبة الوطنيين، والواقع أن الكنيسة الرومية كان لها بحكم النظام
العام في القطر أملاك واسعة مستقلة عن أملاك الأمير، وكانت تزرعها وتأخذ غلتها للكنيسة،
وتنفق منها في سبيل الإحسان وإطعام الناس الذين لو تركت لهم هذه الأراضي لم يكونوا في
حاجة
إلى إحسانها. بل كانت لها في الغلال تجارة واسعة
٩ وكان للبطريق اليعقوبي أملاك وأوقاف كثيرة، تأتي له في مواسم الزراعة بغلالها؛
لتنفق على سكنة الأديار، وفي الإحسان إلى الجياع، وإذ كان ولاة أمر الناس يتوقعون غزو
الفرس
مصر، فقد أمر كل بطريق أن تنزح البلاد في الصعيد والدلتا وبلاد القطر من غلَّاتها وخيرات
زرعها وضرعها؛ لتخزن في الإسكندرية استعدادًا لويلات الحصار العصيبة، ولكنها نزحت كذلك
لغاية أخرى. فقد بلغ يوحنا الرحوم ما وصل غليه حال أبناء كنيسته في القدس، ولاسيما على
أثر
أسر الفرس زخرياس عديله في البطرقة هناك، وحملهم إياه إلى مدائن كسرى، وبلغه أن الفرس
شبعوا
من القتل والهدم بل بدأوا يرون أن اليهود انتهزوا فرصة الحرب فأعملوا سيوف الغل والحفيظة
في
الآمنين، وهدموا وقوَّضوا باسمهم، واستعملوا كل المغريات في سبيل حمل الجنود الفرس على
هدم
البيع والدور المسيحية العظيمة بدعوى البحث فيها عن كنوز الذهب والفضة، فارتدوا عليهم
ببعض
الأذى، وسمحوا للمسيحيين بإعادة بناء بيعهم وأديارهم، والعودة إلى ديارهم.
١٠
بلغ يوحنا الرحوم ذلك فأمر فأعد لإسعاف أهل القدس وللمساعدة في إعادة الكنائس
١١ إلى ما كانت عليه ألف أردب من القمح والخضر وألف بغل وألف سفينة من السمك
المملح وألف دن من الخمر وألف رطل من الحديد وألف صانع وألف قطعة من الذهب، ولذلك كانت
هذه
السفن عائدة من الإسكندرية في سبيلها إلى أثريب وتنيس
١٢ لتنقلها ألوف الجمال في البر أو السفن في البحر إلى العريش وغزة؛ لتصل إلى القدس.
بلغت السفينة الأميرية براكبيها ضواحي الإسكندرية، تلوح على مدى منها عشرات من أديارها
الحصينة صوب البحر في الشمال وبحيرة مريوط في الجنوب، وتتوسطها مدينة الإسكندرية في سورها
القاتم تعلوه شهبة ناصعة كأنها قطعة من أحقاف اليمن العالية تجللها ثلوج، ذلك بأنها كانت
في
أسفلها محوطة بسور عظيم عالي الجدران قاتم اللون لقدمه، ولما يتسلق عليه من نباتات الصحراء
البحرية في ذلك الجو الرطب الذي تشتهيه الأعشاب وتمرع فيه. ثم تعلو الجدران من ورائها
بروج
مشرقة وقباب لامعة من الرخام والمرمر والحجر الأبيض هي صوى الكنائس الكثيرة والمعاهد
العظيمة، والآثار الباقية في الإسكندرية عروس البحر الأبيض المتوسط، وأجمل مدائنه وأغناها
وأطيبها.
لاح السور العظيم محيطًا بالإسكندرية أمام عينه إحاطة السوار بالمعصم حتى على شاطئ البحر
فقد رآه ينعطف انعطاف مجد في سيره، وكانت هيلانة قد خبرته بعض أمره فكان يتبين البعيد
كأنه
قريب، ويرى بعين فكره ما لا تطلعه العين الناظرة على تفاصيله؛ رأى إذ ذاك أحجارًا صماء
كبيرة بني بها السور العظيم، تعلوها على فترات قصيرة أبراج مستديرة وصروح مربعة ازدحمت
بالمقاتلة من أنواع الجند الرومي والزنجي وبالمسترزقة من العرب وأهل برقة وطرابلس وإفريقية
(تونس) ولاح باب الإسكندرية الشرقي، باب عون (المطرية) أو باب الشمس، داخلًا في السور
إلى
مدى تلوح على جانبيه عضادتان مقوستان من البناء الأصم، وكأنما الباب صدر كمي هازئ، أو
صنديد
لا يبالي بمن يواجهه. قد درَّع وكفت بصفائح من الحديد والنحاس ثبتت بمسامير ذات رءوس
كبيرة،
وجعلت له فيما روى له مزاليج من قضب الحديد لا يهزها وقع قذائف المجانيق عليها فهي لا
تئن
لها، ولا ترن إلا رنين الضاحك الهازئ، ولا يؤثر فيها لهب النيران المدمِّرة، فهي هي لا
تتزحزح ولا تتجانف، والويل لمن يقرب من الباب أو يقف يقرعه، إن كان له أن يقرع، فهناك
تنصب
عليه من ناصية الباب ميازيب من نفط وكبريت ونيران تشعل لهبًا لا ينطفئ حتى ينقله إلى
من
أرسلوه فيحرقهم ويحرقه معًا.
وكانت كنيسة مرقس الرسول
١٣ تتبدَّى عالية بقبابها إلى الجانب الشرقي البحري من الجدار، وتلوح وراءها صوب
الباب مسلتان عظيمتان
١٤ عرف ورقة يومئذ أنهما قائمتان أمام هيكل يسمى القيصريون
١٥ أنشأته كليوباترا تكريمًا لزوجها أنطونيوس، وجعلت فيه معبدًا لعبادة القياصرة،
ومدرسة ومكتبة لرواد العلم، ومطعمًا للطلبة، ثم أتمه وزاد فيه القيصر أوغسطوس حين استولى
على مصر وجعلها من أتباع رومة. من ذلك الحين نسب إليه، وظل كذلك حتى انقلب المعبد في
المسيحية كنيسة للصلاة والترتيل، ولاح له إلى الجانب الجنوبي في قرية رقودة عمود السواري
١٦ الذي وقف يندب السرابيوم
١٧ ودار الحكمة المدمرة ومكتبتها التي كانت عامرة
١٨ ثم أتت عليها فيما دمرت، نيران المسيحية في أوائل عهد المصريين بها؛ لتقيم
مكانها كنائس الإنجيلون وغير الأنجليون من البيوت المعظمة للدين وحده.
ولاحت لعينه كذلك قبل عمود السواري إلى الجانب الشرقي الجنوبي مشرفة (جبلاية) الپانيوم
العالية مجللة بالأزهار وأوراق المتسلقات من النبات بين أشجار باسقة تظل مروجًا هناك
١٩ كانت مسرح الظباء من أوانس مدينة الإسكندرية اللاتي لم ترعين سائح في الأرض
أجمل منهن، ولا أعرق في الحضارة منهن
٢٠ ومستراد المزهوين بفتوتهم، وثرائهم من شاب الإسكندرية وأولي النعمة المؤاتية من
سراتها.
وقفت بهما السفينة عند مفترع ترعة البراكيوم
٢١ الآخذة من الخليج؛ لتروي تلك البساتين العامة من يمينها وشمالها وبساتين قصور
الإمارة والحكومة على شاطئ البحر حيث تصب فيما بين رأس لوكياس
٢٢ والهپتستاد
٢٣ ليملأوا منها الصهاريج الكثيرة التي كانوا يدخرون فيها المياه لأيام الجفاف
والحصار في حي البراكيوم العظيم وما يجاوره.
وقفها النوتية كأنما يستأذنون في أن يسيروا في هذه الترعة؛ إذ هي أقرب إلى قصر الإمارة،
واعتادت سفن القصر أن تخترقها، ولكن هيلانة كانت منذ دنت بها السفينة من الإسكندرية في
عراك
نفساني كبير: أتقصد إلى دارها التي كانت فيها من قصور الإمارة وزوجها — أخو نيقتاس أمير
الإسكندرية والديار المصرية — حي، أم تعود إلى البيت الذي يردها القدر بقتل زوجها في
القدس
إلى مثل ما كانت عليه فيه من الوحدة؟ ورأت في أن تلجأ إلى قصر نيقتاس دعوى لم يعد لها
محل،
ولا سيما بعد أن انقطعت صلتها بنيقتاس بقتل ولدها من أخيه. لم يبق لها إذن إلا أن تسير
إلى
بيت أبيها، ولذلك أشارت أن تسير بها السفينة إلى مدخل الخليج في الجانب الغربي الجنوبي
من
المدينة في حي رقودة؛ إذ كان بيت أبيها غربي السرابيوم.
ازدحم الخليج هناك عند باب فيلاق
٢٤ بالسفن الواردة إلى المدينة فكست بأجرامها لبة الماء كما تكسو أسراب الأوز
العظمية صفحات البحيرات البعيدة عن أذى الإنسان، ولكنهم لم يكونوا يسمحون إلا للسفن
الأميرية وشباهها بالدخول والسير إلى مرفأ شارع كانوب
٢٥ الذي يتوسط المدينة مارًّا من الشرق إلى الغرب. أما سائر السفن فكانت تنعطف إلى
اليسار، وتدخل بحيرة واسعة هناك؛ لتنزل حمولها.
وإذ كانت السفينة التي تركبها هيلانة وورقة تحمل شارات القصر فقد سمح لها بالدخول،
وسار
في رفقتها على الشاطئ بعض الجند؛ ليكونوا في حراستها حتى تقف عند مرساها بالقرب من جسر
شارع
كانوب.
ولشد ما كان اضطراب نفس هيلانة ووجدها عندما وقعت عينها على مكان عزها: على المدينة
التي
كانت فيها ثانية اثنتين في المجد والعز والمتعة بل أولى نساء مصر؛ إذ كانت سلفتها زوجة
نيقتاس قد قضت نحبها قبل مقدمه، وأصبحت اليوم كأية امرأة، بل دونهن جميعًا. فما عز المرأة
إلا شعاع من شمس أبيها، فإذا تزوجت كان عزها من شمس زوجها، فإن ترملت انطفأ عنها هذا
الشعاع
وذاك. شعرت هيلانة في قرارة نفسها بهذه الحقيقة المؤلمة فبكت وسح دمعها سخينًا؛ لأنها
كانت
تفجر دمعها من أعماق قلبها المحترق بالحزن والترمل، وشهد ورقة هذا المنظر المؤلم، وأدرك
سره
فتألم، ولم يجد من حقه أن يحاول تعزيتها بشيء من القول. فقد كان يعلم حق العلم أن هذا
الحزن
أبعد من أن تصل إلى الأذن فيه كلمة تعزية. بل كان يرى — وبحق ما يرى — أن كلمة التعزية
التي
يتعجل بها المجامل في مثل هذا الظرف أدعى إلى إيلام نفس المرجو عزاؤه، بل من شأنها أن
تطلعه
على خلو نفس المعزِّي من الحس أو صواب التقدير؛ لأنه لو كان صادق الحس لبكى معه، وندب
معه.
أما وهو يرى الأمر من الهوان بحيث يملك المعزي عقله ولسانه فيتكلم، ففيه الدليل على أنه
غفل
القلب أناني جامد الحس يبتغي أن يعود المحزون إلى سابق حالته التي كان للمعزي مصلحة فيها
وفائدة. كان ورقة يعرف ذلك بفطرته المخلصة، ويدرك قدر ما تلقى هذه المرأة من الشِّقوة،
ويعرف سر بكائها الآن، وتمثله لنفسه، فاغرورقت عيناه بالدموع أسفًا لحالة صديقته الثاكلة
الأيمة وحزنًا عليها، وإذ نظرت إليه وهو يراقبها في حزنها وجواها ولا يتكلم إلا بهذه
القطرات المترددة — أدركت قدر نبل الفتى وصدقه فرقأت عبراتها في تأملها جلال روحه، واستطاعت
أن تنهض من مجلسها قائلة: هلم بنا. لقد وصلنا أيها الصديق الوفي. هلم نذهب إلى البيت
الذي
ولدت فيه لمياء، وكانت بذكر لمياء تحاول مخادعة نفسها، وتتظاهر بالتشجع؛ لكي لا تقصر
في حقه
عليها من مشاركته فيما لا بد أن يكون فكر فيه من أمر لمياء، ولكنه كان بصيرًا بخلجات
القلوب
فلم يأبه لذلك، واستمر في العناية بصديقته الثاكلة. فقال وكأنما ذكر لمياء لم يوقظه:
هلم يا
سيدتي، ولكنك نسيت أن تأمري بإكرام غلمان السفينة. قالت: سأكرمهم في بيت أبي. مرهم يحملوا
متاعنا. إن البيت قريب من هنا، والأمر لا يحتاج إلى عربة. قال: بل الخير أن يكون إكرامهم
قبل أن نغادر السفينة. فابتسمت وقالت: إذن فأعطهم ما تشاء. قال: بل تأمرين يا سيدتي،
فما
ركبت قبل اليوم سفينة، ولا نقدت نوتيًا في حياتي شيئًا. فقالت: أعط كلا منهم إذن نصف
دينار.
ففعل ورقة كما أشارت، وتقبل النوتية عطاءها بفرط الشكر، وانصرفوا يحملون متاع ورقة القليل
إلى الشاطئ في أثرهما، ولم تجد هيلانة بدًّا وقد أعد لهما حارس السفينة عربة إلا أن يركبا،
ولاسيما لأن هيلانة لم تكن في ملبس يليق بكرامتها، وإن لم يعرف أحد من هي.
سارت بهما العربة شرقًا في شارع كانوب الواسع العظيم مارَّة فوق أرض مرصوفة بالحجر
اللامع
بين صفين من القصور والمباني العظيمة ذات الأعمدة الإغريقية والقباب الشاهقة والحدائق
تتخللها تماثيل العظماء الغابرين وأعيان الناس، وكان أبين تلك القصور قصر المحكمة تحرسه
جنود من الروم والزنج في ملابسهم البهيجة.
ولشدة ما شده ورقة لما رأى وتعجب، ولكنه لم يكن في دهشته هذه أرعن فضاحًا لعواطفه
بما
يبدي من القول والإشارة، بل كان على عادته متزنًا ينظر ويتأمل، ويقارن ويعجب، ويتذكر
باقوم
وما كان يروي، ولعل أعظم ما لفت نظره في تلك الجولة أنه كان يرى الشارع الأعظم تقطعه
دروب جانبية
٢٦ كأنما خطت هي والشارع الأعظم يوم مهد على مثل رقعة الشطرنج الذي رأى أهل اليمن
يتسلون بلعبه في مجالسهم، وكان في دكانة نعيم رقعة منه يقدمها لأصحابه الذين كانوا يأتون
إليه؛ ليقضوا بعض الوقت في متجره. أدهشه النظام والعناية، وشعور حكام المدينة أن حياة
المدن
تتطلب حسن التدبير حتى تتوافر فيها السعادة والراحة، وكان في ذلك مقارنًا بين الإسكندرية
ويثرب ومكة بل وصنعاء، حيث الدروب رسوم أفاعي منسابة، أو مجازات للراجل ذات حفر ونقر،
ولشد
ما كان إعجابه عندما انعطفت بهما العرفة في حي رقودة حي المصريين والجند والأعراب
٢٧ مارة في أسواق الخضر والفاكهة تتخللها دكاكين القصابين والجدالين باعة الدجاج
والطير، والبدالين، مخترقة أحياء الصناعة والتجارة التي كانت تصدّر إلى جميع بلاد الشرق
القريب والحبشة وبلاد الروم والرومان: صناعة الثياب الكتانية والحريرية المزخرفة بالألوان،
وبأسماط الذهب والفضة التي امتازت بها الإسكندرية أبد قرون، وصناعة البسط المصورة والأستار
والنمارق، وأواني الزجاج المزخرف والملون، والخزف المتقن، والنجارة والحدادة، والنحت
والحفر، وصياغة الذهب والفضة والنحاس، وتقليد الجواهر من الزجاج والبلور. كل ذلك كانت
عامرة
به أسواق رقودة. بعضها مما يصنع في ذلك الحي العظيم الذي يشغل نصف المدينة العامرة، وبعضه
واردٌ إليه من بلاد القطر في شمالي مصر أو صعيدها، ومن ثمَّ كانت الإسكندرية أعظم بلاد
العالم وأغناها وأروعها. بل كانت المثل الأعلى في النظام والمدنية والحضارة.
٢٨
لم يطل سير العربة بين ميناء الخليج والدرب الذي سمته هيلانة لسائقها، فقد كان في
غربي
السرابيوم بجوار كنيسة الأنجيلون على غير بعد كبير من الجسر، ولكنها اخترقت بهما حي رقودة،
فكانت نظرات ورقة على جانبي الشوارع وتأمله ما فيها، وما تعرضه المتاجر من مبيعاتها كافيًا؛
لتبصيره بما هنالك. على أنها ما انعطفت بهما في شارع الإنجيلون حتى قالت هيلانة: ها هو
ذا
بيت أبي، وأشارت إلى حديقة مسورة ذات أشجار مختلفة الطول تزين فيما بعدها صدر بيت ذي
طبقتين، ضخم البناء على صغره، مزين النواصي بالنقوش والحلي، وبدرج من الرخام الأبيض يصعد
عليه إلى باب جميل الصنع، كأنه بعض أبواب الكنائس إلا أنه صغير. هناك وقف السائق وترجل؛
ليقرع باب الحديقة، فقد كان على غير عادته مقفلًا، وكان منظر كل شيء يدل على خلو المكان
من
الناس.
ولشد ما كانت دهشة هيلانة إذ لم يجب قرع الباب أحد فلا حارس البستان أجاب، ولا تنبه
أحد
من خدم البيت إلى القادمين. على أن الوقت كان بعد الظهر من كيهك أي في شتاء مصر الحقيقي،
فلا حرَّ ولا فتور حتى يكون الخدم نائمين، وفيما هي في حيرتها أقبل عليها بعض أهل الحي
يخبرنها أن والدها سافر منذ شهرين إلى منف إجابة لدعوة جرجيس واليها؛ ليعوده في مرض انتابه،
وأنه أرسل منذ أيام مجاوره بطرس البحريني فأخذ حملًا من أضابيره ومجلداته وعاد إليه.
لم تجد هيلانة بدًّا بعد هذا من أن تقصد إلى القصر، فأمرت سائق العربة أن يذهب إلى
البروكيوم وينزلها عند الباب الخلفي الجنوبي من القصر، فعادت بها العربة إلى شارع كانوب،
وانحدرت بها إلى حي الإمارة، ومنه إلى القصر مشرفة في سيرها على البحر من وراء السور
القائم
على الشاطئ، ومسمعة ورقة هدير أمواجه وزمجرتها في مناطحة اليابسة وارتدادها عنه خائبة
خاسرة، وهي مع ذلك لا تفقد الأمل في الغلبة فهي ترتد؛ لتجتمع بأتيّ من أخواتها وتعاود
الكر
عليه في أمل لا يفنى حتى تفنى اليابسة وتردها إلى القاع كما كانت.
لم يجد ورقة للبحر من شبيه في روعته وجلاله إلا ما رأى في بلاده من مهامه البيداء.
هي بحر
من رمال وهو صحراء من أمواه. ما إن يحاول الإنسان اكتناه ما وراء ملقى النظر حتى تحجبه
عن
العين قبة تنزل خاصة من السماء؛ لتحد بصره، وتقول له بلسان التعجيز: حسبك من أمر البحر
ما
ترى؛ سفائن كالبيوت المشيدة لن تكون أثبت من الخيام في الصحراء يعمرها من أهل البر عتاة
يكونون من رهبة البحر كالحملان.
ثم دار بصره مع الأفق فإذا هو يرى جسر الهبتستاد الذي وصل به البطالسة بين أرض رقودة
وجزيرة فاروس، ثم طرح البحر من سديمة على جانبيه فقسم الميناء جفنتين شرقية وغربية، وقامت
المنارة على ناصية الجزيرة تهدي السفائن الحائرة إلى بر السلام.
هناك أمكنه أن يرى المنارة، إذ كانت العربة مجدة بهما نحو القصر ومنعطفة قليلًا في
مواجهتها. فإذا هي بناء عظيم جدًّا مؤلف من ثلاث طبقات؛ الأولى
٢٩ مربعة، والثانية مسدسة، والثالثة أسطوانية، وكان بابها عاليًا يصعد إليه بمدرج
من السلالم من الجهة الجنوبية، وكانت جدران جميع الطبقات مخرمة بنوافذ للنور والهواء
٣٠ — وبدا لعين ورقة أن في زوايا سطح الطبقتين الأولى
والثانية تماثيل من النحاس الأصفر لمردة بحرية تزين هذه الأركان.
أما الطبقة الثالثة: فبعضها بناء أسطواني أقيمت عليه أعمدة علم ورقة أنها ثمانية جعلوا
بينها المرايا الشهيرة والمصباح الكبير الذي يُشعل ليل نهار؛ ليلقي من ضوئه على المرايا
ما
يرد على البحر فيهدي الطرف البعيد، وفوق الأعمدة قبة، وفوق القبة تمثال من البرونز.
وعلم ورقة من هيلانة أن في هذا البرج العظيم صهريجًا عظيمًا مملوءًا بالمياه العذبة
للشرب، وفيه روافع يرفع بها الماء إلى الأدوار العليا والوقود للموقد أو المصباح الذي
يواجه
لهبه، وهناك مصعد للدواب من الطبقة الأولى إلى الطبقة الثانية إذا احتاجوا إلى إصعاد
الوقود
على ظهورها، وفي الطبقة الثالثة درج في داخل الجدار يصعد عليه إلى الموقد والمصباح، وأن
سمك
الجدار متران.
أما الوقود فكان من نوع الخشب المعروف بالشراق، وأما المرايا التي كانت تستعمل لعكس
نور
اللهب فكانت محدبة؛ ليكون ما تعكسه من الأضواء أبعد مدى.