بطرس البحريني
لم تكن هيلانة تعرف بطرس البحريني الذي ذكره أهل الحي ونعتوه بأنه كاتب أبيها؛ لأنها سافرت من الإسكندرية — كما علمنا — قبل اتصاله به بسنوات.
ولكن هيلانة لم تهتم بخبر بطرس هذا؛ لأنها كانت تعلم أن أباها مقصد الطلاب والمتعلمين والنساخ والمطالعين، فهو إذن من هؤلاء، إلا أنه مقرب إلى أبيها، ولكن الحوذي رأى أن يسلي الراكبين بالحديث فذكر لهما أنه رأى بطرس وهو يحمل الصندوق الذي تكلم عنه الجار، على إحدى عجلات النقل عند مرفأ فيلاق، وأراد أن ينفث رأيه في بطرس، فروى لها أن الشرطة استرابوه، فأخرج لهم برهان أستاذه، فتركوه ينزل السفينة، ومع ذلك فقد كانوا يريدون حجزه انتقامًا منه؛ لما كان يقع بينه وبينهم من المشاحنات التي كان يبلغ فيها صوت الجدل أجواز الفضاء، ويجمع عليهم الناس؛ ليعرض عليهم حكايته فيما لا يترك للناس مجالًا لسماع قصة الجندي، وإبداء سبب القبض عليه. كان في كل مرة يقول للناس: إن هذا الجندي الرومي يضطهدني؛ لأني يعقوبي ومصري، لا لأني أجرمت أو أسأت إلى أحد. فإن كان يرضيكم أن أظلم فأحبس؛ لأني لست على دينه فأمري للرب ينصفني، ولكن لا تستنصروا بعد هذا بإخوانكم يوم يسيئون إليكم؛ لأنكم مصريون ويعاقبة. بهذا وبمثله كان الشرطي الرومي يتركه بالرضا أو بالكره، وكم مرة نشبت موقعة بينه وبين الشرطة فضربهم وضربوه، وحبسوه، وكان سيّدي قوزمان يخرجه بأمر المقوقس حتى أصبح الشرطة يهابونه، وأصبح يسير في رقودة كأنه الثور المقدس.
جاء بطرس البحريني من جزيرة منوف، على أثر ما أنزل بونوسوس سنة ٦١٠ بمطرانها وقساوستها من الويل. فقد كان الفتى تلميذًا أو شماسًا في الكنيسة التي قتل المطران في رحابها، وخشي أن يلحقه السيف هو أيضًا ففر إلى دير في وادي النطرون. حتى إذا اطمأن باله بجلاء بونوسوس عن الديار — خرج من مخبئه فارًّا إلى الإسكندرية، حيث الحياة أقرب إلى مطاليب الشباب، وكان قد تعلم في الدير صناعة النسخ والتذهيب وتزيين الكتب، فعول على أن يرتزق من صناعة النسخ في الإسكندرية مدينة الكنائس والأديار، وأخبار القديسين ومعجزاتهم، وما بقي من علوم اليونان في الكتب، وقد وفق الفتى في عمله الجديد توفقًا ملأ قلبه أملًا وحياةً، وأنعشه إنعاشا مضاعفًا، وقد أغرم بالطب على أثر اتصاله بالعالم قوزمان فيما كان يعهد إليه به من النسخ، لاعتقاده أن الطب أعود عليه بالكسب؛ لأن في العلم به ما يشبع نفسه التوَّاقة إلى التمكن من الناس؛ فالطب فيه شفاء، وفيه قتل، وفيه امتلاك لقوة الكيمياء وتمكن من حيل الطبيعة، وفيه خفاء وفيه حماية، ولذلك أقبل يلتهم ما كان في مكتبة الأستاذ الكبير؛ ليشبع هذه الخلة من ناحية، ولينسخ ما يرى في نسخه وبيعه مغنمًا كبيرًا.
كان الفتى ضليعًا شديد النشاط قوي الذكاء. له رأي في كل شيء عن وثوق بعلمه أو بحدسه، ولذلك كان شديد الاستهزاء بالناس إذا خالفوه. فإذا اشتد أحدهم معه فالويل كل له من لسانه البذيء، ومن ثم كان لا يستطيب مجلسه أحد، ولا يطيل الحديث معه إلا أمثاله في خلقه من الحمَّالين، وعمال الأسواق، ومع ذلك فقد كان عريض الدعوى، يقول: إن أباه كان من أهل الثراء في منوف، وإن له أملاكًا ورثها عنه في جزيرة أبشادي، وأنه إنما جاء إلى الإسكندرية ليتعلم الطب، وكان ما يكسبه من النسخ وتزيين الكتب والنقش المموه بالذهب معينًا له على هذه الدعوى الكاذبة. فهو لم يكن إلا ابن خادم من خدام الكنيسة في منوف فلما مات أبوه ضمه المطران إلى الكنيسة، وهناك تعلم القراءة والكتابة، وطمع أن يكون شماسًا، لولا ما جرى من قتل المطران وهروبه به هو إلى الدير.
على أنه كان فوق هذا كثير الارتياد لأماكن اللهو السافل في الإسكندرية، يتظاهر فيها بالثراء فيما كان ينفق في الخمر وفي الميسر حين أنه كان في الواقع ينفق مما يبتزه ابتزازًا من خليلة كانت له في بعض المواخير، وإذا كان العالم من أخيار الناس بعيدًا عن أن يتسمَّع أو يسمح لأحد بالوشاية فيه، بل ولا أن يصدق ما كان يرويه له ضباط الشرطة من سيئاته؛ لأنه كان يراه هادئ الطبع مكبًّا على العمل لا يتكلم معه إلا بصوت خافت، ولا إن حادثه؛ لينظر إليه معاينة — فقد احتضنه، وعمل بطرس من ناحيته على دوام هذه الثقة؛ لينتفع بجواره، ونسخ ما لديه من نفائس التأليف فكان يسعى في خدمته، ويرعى مصلحته.
وإذ كان الأستاذ مترملًا من زمن بعيد، ثم زادت وحشته بعد سفر الحارث بهرميون ولمياء فقد خطر له أن يستأنس بالمجاور في داره فعرض عليه أن يخصص له في جانب البستان غرفة مما ألحق بمكتبته ينزل فيها ويقيم، وأن يكون أمين مكتبته بأجر مقدر فتفضل بطرس بالقبول! ولكنه التمس، أو بالأحرى اشترط، أن يسمح له بارتياد كنائس الرب؛ لكي لا ينقطع عن موارد الهدى والتقى! ومن ثم أصبح من قوزمان بمثابة «سكرتيره» الخاص، إلا أنه كان قد اقتطع لنفسه كل ما يحتاج إليه من الزمن لارتياد مباءات الخنى لا لالتماس موارد الهدى.