الشملالة
استيقظ ورقة في موهن الليل على رغاء الراحلة التي أمر إسحاق بإعدادها. فرمى عنه غاشيته، ولم تكن غير برنس سميك اشتراه من إحدى أسواق الساحل في بعض رحلاته؛ ليكون مزدوج النفع: غطاء في الليل، ورداء في النهار. ثم نهض فانتعل خفيه، واحتمل سيفه وقوسه، وأصلح مكان خنجره من حزامه، وعمد إلى سقاء الماء فنطل على وجهه بعض ما فيه، وخرج ليأخذ سمته إلى نجران.
لم يكن ورقة خبيرًا بالغ الخبرة بالإبل، ولكن ما وقعت عينه على الراحلة باركة على باب الخيمة حتى تبين أنها من أكرم النجائب، فلم يتمالك نفسه من فرط الإعجاب بها والتحدث إليها بذلك إلى رجال عيره الصغير، وكانوا قد أفاقوا هم أيضًا على رغائها، وجاءوا لخدمته قبل الرحيل.
رأى عيطاء طويلة القوائم عصلبية فرهة، مخيفة النظرة كأنها مارد في مسلخ عيطبول، فقطع أنها شملالة عبر بواد، ودنا منها يربت على صفحتي عنقها بيديه اغتباطًا بها وازدهاءً بركوبها.
ثم إذ مال الكور ليرى ما عليه، مالت بعنقها تتفحصه هي أيضًا تفحص العروس خاطبها، فلما رأته في ثوبيه وسلاحيه، وشمت ريح عارضيه، وكانت قد أحست وقع يديه، لاحت كأنما ارتاحت إليه، فأرزمت إرزامًا، ورجَّعت في وجهه حنينًا، وكأنما أدرك ما قصدت فسره رضاها، وتناول رأسها في يديه وهو يقول لها: إيه يا شملالة. نضو أسفار مثلك وحليف قفار، بيد أني أحمي الذمار، وأنبو عن مظنة العار، ولقد عركت الدهر فما وجدت أعدل من الرمح ولا أمضى من الحسام البتار. هلم في سبيل نجران.
ما كاد يمسك بالعنان ويعتلي الكور حتى نهضت كالكثيب، وهمت بالمسير في طريق الجبل، وما كاد ورقة يودع أصحابه ويوصيهم بحوامله وحموله حتى كانت قد غاصت في مجرى النهر إذ كان جافًّا وعبرته واعتلت جانب الطريق، فلاحت في مواجهة نور القمر البازغ كأنما هي شغف في الجبل، أو قطعة من سُحُبٍ دهماء تدفعها الريح على لبة السماء.
سارت به النجيبة دبيبًا أشبه بزميل، ثم وجيفًا أقرب إلى الإرقال، فهي تطوي الأرض طيًّا كانت تتلاصق به المرئيات وتتواصل كأنما هي متراصَّة، وورقة من فوقها كراكب السفينة في البحيرة الهادئة. فانصرف إلى التفكير فيما يحيط به من جلال الله وبدائع صنعه، وتواردت عليه في سكون الليل ذكريات ممَّا رأى ومما شهد، فأخذ يتأملها ويتعجب ويحمد الله على أنه نجا بنفسه من غوايات الشيطان، وأغناه بفضله عن الإذعان لغير ما يتبين فيه الخير والصدق، وظلَّ على هذا الحال حتى وهن الليل فتنبَّه إلى نفسه، وإلى القمر البازغ، وإلى وقع خفاف الناقة على الطريق وقعًا منتظمًا، أثار في نفسه ميزان الشعر فألفى يحدوها بأبيات لا يدري كيف انطلق بها لسانه، ولا متى كان أول ما قال منها:
ولكن القمر لم يعره أذنًا، بل زاد إشراقًا ظهرت به ابتسامة إنسانه الساخر وضوحًا، ولاسيما حين بلغ أذنيه عواء قريب شاهد على إثره ذئبين يدبان على جانب الطريق عن يمينه حتى إذا حاذاهما جريًا نحوه في همهمة الجائع ودمدمة الظافر، والناقة ترعاهما ولا تعيرهما التفاتًا، بل ترقل في طريقها كالنسر الجامح، ولكن ورقة كان كما قال نضو قفار وحليف أسفار، وكم مر به مثل هذا فجازه مع السهم المارق، ولذلك نزع قوسه عن مشجبها في قتب الراحلة، واستخرج سهمًا من كنانته، والذئبان يراوغانه ويعتورانه ميامنة ومياسرة، ويهمان به وبالناقة حتى إذا أوشك أحدهما أن يعلق ببطنها ليبقره كان السهم قد اخترق يافوخه فهوى على الأرض صريعًا، ولكن كان الذئب الثاني قد قفز عن الأرض قفزة حاذى فيها رأس الناقة، ووقع على عنقها؛ ليعقرها عقر النمر حين شوّح بذيله ليلطم ورقة على وجهه على عادة الذئاب في القتال، ولكنه لم يلطم إلا كتفه، وتدلى على لبان الناقة، وسرعان ما استل ورقة خنجره من قرابه، وحاول أن ينال من الذئب مقتلًا، ولكن الذئب كان أبعد من منال يده؛ إذ كان ورقة على سنام الناقة والذئب على قفاها، فشد ورقة عنانها؛ لترفع رأسها، ويدنو قذالها فيدنوا الذئب منه، ولكن الذئب كان أسرع منه وأبصر، فما كاد ورقة يغمد الخنجر في خاصرته حتى كان الذئب قد لطمه بذيله مرةً أخرى على صفحة عنقه فارتدت الطعنة عن المقتل، وأصابت فخذ الذئب، فوقع على إثرها على الأرض يحاول الجري على ثلاث.
عند ذلك وقف ورقة ناقته، وأناخها وترجل، وأخذ يتفحصها، ولكنه لم يجد بها إلا جرحًا على صفحة العنق اليسرى من ناب الذئب، وجر وحافى لبانها من مخالبه لم تجز إلى اللحم. ذلك بأن قذالها كان مغطى بالأديم، فلم يبلغ الناب منه مأربًا كبيرًا، وكان الذئب في ذعر ممن وراءه فلم يتمكن من فريسته.
حمد الله ورقة على هذه العاقبة، وتناول سقاءه، وأخذ يغسل جروح الزميلة، وفيما هو كذلك رأى جثة الذئب المصروع فأخذ يتأمل حتى إذا ملأ عينه منه وقلبه رأى نفسه يحدثه حديث الظافر المطمئن، ويقول: إيهٍ يا ذئب العرب الأبي الكريم الذي لا يستخذي، ولا يماري، ولا يبيع حياة الحرية مع الجوع بكل فضلات موائد الأمراء والأقيال كما فعل بعض قبيلك في الراحلين إذا استكلب وارتضى عيشة المذلة والهوان من أجل لقمة يلقيها إليه بنو الإنسان. لا لعمرك لقد أنصفت، فإن كنت قد خُذلت الليلة فطالما ظفرت، وإني لأراك سيدًا عملسًا، عليك كسوة كريمة لم ينسجها لك غير ناجذيك وأظفارك، وتلك لعمري من أردية الأسعدين، ولكنك يا ذئب حاولت أن تأكل أكرم خلقين أنا وهذه النجيبة: حبيبين لم يجتمعا إلا منذ قليل، وقد تعاهدنا على الوفاء، فاعذر إذا أنا حميت إلفي، وجعلت حتفك فداء حتفي. ثم تناول ورقة قبضة من تراب الصحراء فعفر به الجروح، وإذ أنّت الشملالة وعجت من ألم الضماد ربت على عنقها، وهوّن الأمر عليها، ثم اعتلاها فنهضت به، وأخذت في المسير كما كانت وكأن لم يصبها شيء.