القديس اﻷناني
ذهب أهل بيت قوزمان بلمياء إلى القصر؛ ليلقوا الأمير طوعًا لمشيئته، واستعدادًا للنزول على إرادته، وكانت هيلانة أشد الذاهبين فرحًا بما هم في صدده. أما هرميون فكانت على ما ترى من أن ورقة أليق الشباب بابنتها وأحبَّهم إليها، تشعر بأن سعادتها ينقصها شيء؛ لتوصف بالسعادة التامة من غير مبالغة. كانت تذكر الحارث زوجها الطيّب المفعم القلب بالمحبة لها، والذي دلّ على صفاء معين نفسه بما ذكر في صومعة الأسقف من عواطف برٍّ كان ينضج بها قلبه، وما بدا منه من تمام الرعاية لها، والعناية بها حيث تنقل، وبما رضي أن ينزل عن أملاكه كلها في الإسكندرية ومريوط إكرامًا لها ومغالاة بها، فتأسف في نفسها؛ لأنها ذاهبة باختيارها إلى قصر الأمير لتشهد بعينها، وتقر بلسانها زواجًا تعلم حق العلم أن الحارث لا يرتاح إليه تمام الارتياح، وإن كان في ذاته صوابًا كل الصواب، ومغنمًا لها ولابنتها كل مغنم؛ لأن الحارث كان على فرط حبه لورقة وثقته به، وقوله لها إنه المثل الأكمل في الرجولة والفضيلة — يتحسر على أنه لا يملك أن يزوجه ابنته؛ لأنه ليس ثقفيًّا ولا قرشيًّا، ولا من بيت من بيوت السيادة في العرب. نعم، إن هذا السبب غير وجيه إذا ووجه بالحق من أمر ورقة الذي لم يبالغ أبوها فيما وصفه به لنيقتاس من أنه قديس وفيما تعلم هي وهيلانة ونيقتاس، بله لمياء وكل من اتصل به من أنه الفتى النقي الذي لا يستطيع القلب مهما كان غفلًا أو كان مريضًا إلا أن يتلقاه بالترحاب والحنو والإعجاب والإجلال، ولكن المسألة عرف، والحارث يعيش من عربيته في جو له كغيره من عرف الشعوب الأخرى خصائص وأعاجيب؛ كأن يزوجوا لمياء الزهرة الهيلنية الموطّنة بجلف من أجلاف بني عبد الدار، ويأبوها على ورقة الكامل المهذب؛ لكيلا يقال زوج الحارث بن كلدة الثقفي ابنته من ابن النجار الذي كان يعيش على فضل أبناء عبد الدار وأمثالهم من بيوتات مكة. على أن هرميون لا ترى من حقها أن تقول له: لكل قاعدة استثناء، وورقة ممن يجب أن يوضع لهم عرف خاص. فهي إذا جاءت اليوم إلى قصر الأمير؛ لتزويج ابنتها فلن تكون فرحتها على شدتها كاملة خالصة. إن لزوجها عليها حقوقًا حتى ولو كانت بعيدة عنه كل هذا البعد، مقطوعة عنه هذا الانقطاع. بل لو كانت مطلقة منه ما نقصته هذه الحقوق.
من الذي يرسلونه في هذه المهمَّة الخطيرة؟ أورست أكبر تجَّار الغلال في الإسكندرية، وأعرف الناس بإحصائيات المخزون والمدخر، وعضو مجلس المدينة الذي يستطيع أن يتكلم باسمها كما تكلم من قبل، على أن يرافقه الحارس الأول للأمير: ورقة، وعذرهم من هذا الجمع أن نيقتاس لم يكن حسن الظن بأورست، وقد سبق له أن اتهمه بالتشيع للإمبراطور فوقاس، ولم ينجُ من الاضطهاد إلا بشفاعة يوحنا الرحوم نفسه، فقرنوا به ورقة؛ لأنهم يعلمون أنه موضع ثقته، ولن يقيم اعتراضًا على سفره، كما أنهم قدَّروا أن الإمبراطور سيسأل عن دخائل الأمور في عاصمة إمبراطوريته الثانية، ولا بد أن يتذاكر في شئونها مع الرسول، وإذ كان ورقة مطلعًا على كل شيء في الإسكندرية؛ لعلاقته الدائمة بالأمير، وحضوره مجلس العسكر معه، واطلاعه على أسرار الدولة، ولوقوفه على ما كان يدبّره اليعاقبة واليهود من المؤامرات، ولأنه حسن المدخل لا يتهيَّب أن يلقى البراطرة بما عوَّدته الصحراء كما يتهيّب الرومي الذي نشأ وعاش بين الواجبات والتزامات أهل القصور، فهو أفضل من يرسل في هذه المهمة، ورأوا أنه يحسن أن يرسل في طلب أورست الليلة؛ ليستعد للسفر، وليتعرَّف إلى رفيقه، قال ورقة: إنه من أصدقائي وأشد الناس ولاءً للأمير وللإمبراطور. قال البطريق وقد فرح لهذه الشهادة المفاجئة التي جاءت مؤيدة لحسن ظنه في أورست: نعمت الشهادة يا ورقة، إن الله يرسل برهان الحق المجهول على ألسنة من ليس لهم مصلحة في ترويجه. هذا أيها الأمير نيقتاس الذي وشوا لك في حقه فأبعدته عنك من غير أن تتبين. قال نيقتاس رادًّا لهذه الشماتة: سيذهب له ورقة برضاي ويستدعيه إليَّ. إنَّ خطأ ورقة — إن أخطأ — أصدق عندي من برهان سواه! وكان ورقة يعرف سبب هذا الرد المؤلم للبطريق في مجلس الجيش فقد كان الأمير يرى أنه يعطي لنفسه من الحقوق ما ليس له، ويتدخل في شئون الحاكم في حين أن مهمّته في الدنيا الصلاة والصوم وما يلحق بهما. فكان هذا الموقف معبرًا عما في نفس الأمير من استرابة البطريق ومقته. فسارع ورقة إلى تغيير الجو بقوله: فداء الأمير دمي وحياتي.
على أن الأمير كان يشتهى ألا يفكر المجلس في حارسه الخاص، ولكنه لم يكن له بعد هذا الإيضاح إلا أن يوافق. غير أنه قبل أن يقول لا بأس بذهاب ورقة مع أورست — أخذ ينظر إليه مدّة طويلة ذكر فيها أن سيُحرم رؤيته، وقد أصبح يحبه كما لو كان ولده، وتذكر أنه وعد أن يلقى اليوم لمياء ليعقد عليها، وفى السفر تأجيل لذلك، وهو ما كان يشتهي أن يذاكر فيه ورقة على الفور، ولكنه لم يستطع فاكتفى بحديث العين، وكان ورقة في تلك الأثناء يفكر في بعده عن لمياء ووقْعِ هذا النبأ عليها، ولكنه وجده أخف من أن تعلم أنه على شدة هيامه بها، ورغبته في أن تكون له — كان سيبدي للأمير إذا اجتمعا أنه يرى إرجاء العقد حتى تستأذن هرميون زوجها، ووجد في غيبته في القسطنطينية فرصة لذهاب الرسول إلى الحارث وعودته، أو ما كان سيبدي له من أن الحارث إذا قبل فمعنى قبوله أنه سيتحمّل تعيير الناس من أجله، وهو ما لا يجمل به قبوله، ثم طار به الفكر في أجواز الأرض فانتقل إلى بلاد العرب والنضر وقريش، وغاب وراء أجواء وادي النيل، ثم عاد إلى الإسكندرية فرأى الأمير يبتسم في مواجهته كأنما يقول له ما رأيك في هذا الذي لم يكن في الحسبان؟ فقال له: نعم أذهب يا مولاي، لا أجد خيرًا من ذلك مخرجًا.
لم يكن ورقة يريد بقوله «مخرجًا» ما فهم القوّاد منه، فقد زعموا أنه يريد المخرج مما كانوا فيه، ولذلك أثنوا عليه، وانبرى بعضهم يهونون عليه المشقة؛ فذكروا القسطنطينية وجمالها، والإمبراطور وأبَّهته، وغبطوه على رؤية الدنيا وجلال الملك، وإذ استقرّ الأمر على ذلك نهض الأمير فنهضوا، وودعوا بأطيب الدعاء.
خلا المكان إلا من الأمير والبطريق وورقة، وإذا بأحد الخصيان يتقدّم فيبلغ ورقة أن العالم قوزمان وأولاده ينتظرون دعوة الأمير للقائهم كما أمر. فالتفت نيقتاس يسأل ورقة: فيم جاء الخصي؟ فقال له ورقة مبتسمًا وموعزًا برأيه: الأستاذ قوزمان لم يعلم أنى مسافر إلى القسطنطينية، وأنه يحسن قبل أن يمضي شيء أن يرسل إلى الحارث بطلب إذنه في زواج لمياء، فهو يعلن مولاي بقدومه طوعًا لأمره ليلة أمس. قال نيقتاس: ماذا؟ أأنت تريد إرجاء العقد على ابنة الحارث حتى تعود؟ قال: قد يرى مولاي ذلك. قال: بل لا أراه، وسيتم العقد اليوم على أن تتزَّوج بعد عودتك. سيكون ذلك أدعى إلى تعجيلك بالعودة، ولقد دعوت السيد البطريق ليبارك زواجك. ثم التفت نيقتاس إلى يوحنا؛ ليكلمه في هذا الصدد. فلم يكن لورقة بعد هذا التضييق إلا أن ينظر في مخرجٍ آخر، فألهمه، ولذلك ردَّ يقول: فضل من مولاي ونعمته، ولكنا نحن العرب لا نتزوج كما يتزوج الروم يا مولاي. قال البطريق: كيف ذلك يا بني؟ فقال: إني كما يعلم مولاي مسلم أدين بدين محمد بن عبد الله. قال البطريق وقد شغله اسم الرسول ﷺ عما هم في صدده: أجل سمعت بقيام رجل في بني إبراهيم يدعو إلى إله إسرائيل. أهو هذا الذي أنت على دينه؟ قال ورقة: نعم يا مولاي البطريق، إنه يدعو العالمين كافة على توحيد الله لا ينكر أحدًا من أنبيائه، ولكنه رسول الله على الخلق أجمعين؛ ليوحدوا الله، ويسقطوا الشرك. قال البطريق: أهو يؤمن بالمسيح؟ فقال: أجل على أنه ﷺ نفخة من روح الله، وأنه عبده ورسوله بعثه رحمة للعالمين. أما أنه ابن الله أو أنه إله فلا. فغاظه هذا الكلام، وسأل ورقة: وأنت تدين بهذا؟ قال: وأدعو إليه يا سيدى، قال: أنت كافر يا بني بديننا فكيف نزوجك منا! قال نيقتاس: ليست العروس منا أيها السيد البطريق، إن أباها مثله عربي: الحارث بن كلدة الطبيب الذي تعرفه، قال: حقًّا، فما دخل الكنيسة إذن في هذا الزواج؟ لا هو من ديننا ولا هما من قومنا. خير له أن يتزوج على ملة أهله! قال ورقة: هذا ما أردت يا مولاي، ولكن مولاي الأمير أراد أن يخصني بفضله في أن أظفر بدعاء مولاي البطريق وبركته. قال: أعفني يا بني، إني لا أدرى كيف أدعو لكافر بربوبية المسيح أو أبارك له زواجًا. قال: ادع لي كما تدعو لجوادك. قال: ولا هذا يا بنيّ. ثم نهض على نية الخروج وورقة يقول: شكرًا لمولاي البطريق إن الإنجيل يأمر أهله أن يحبوا أعداءهم، وكنت أولى بمحبتك؛ لأني لست عدوًّا لك. قال: أنا أحبك حبًّا عظيمًا جدًّا، ولكن الحب شيء، والدعاء لك شيء آخر. ثم مضى يحاول ستر غضبه المزدوج من نيقتاس؛ لإيوائه كافرًا، وما كان من رغبته في أن يعقد له على حفيدة قوزمان، وخرج بعد أن ودع وداعًا صوريًّا جافًا.
ثم صفق نيقتاس، وأمر الحارس أن يرجو من السيد قوزمان وأهل بيته القدوم. فلما انصرف قال: وسأكتب أنا للحارث في ذلك، وأنا الضمين لك برضاه. إنه في مكة أليس كذلك؟ قال: بل في جدة يا مولاي، قال: هذا أهون، بل لماذا لا يأتي! سأرجو منه الحضور. فقال ورقة: ألا تنتظر يا مولاي حتى يجيء الحارث من مكة وتحادثه. قال: لا أنتظر. لماذا أنتظر؟ إن من عادتي أن أنفذ الأمر على الفور ما إن تبينت وجه الحق فيه. ثم أرى ما يجد بعد ذلك. أما الانتظار الذي يسميه بعض الناس حكمة وحسن نظر، ويأتون على صوابه بألف دليل من سيئات العجلة، فاعلم أن هذه الأدلة هي عقاب التلكؤ. زواجكما واجب، واجتماع قلبيكما حق، فمن العدل والحزم عقده على الفور. بل التعجيل به أوجب؛ لأنه أمر غير عاديٍّ يتطلب معالجته بعملٍ حاسم. أما إذا أنا رضيت أن أؤجل تنفيذه إلى ما بعد ورود رأي الحارث، فقد نزلت عن يقيني بصواب رأيي فيه، وأسلمت الأمر إلى ذي هوى أو متورِّط لا يملك فضيلة الحكم متجردًا. إن حكم كما حكمت أكون قد أنفقت زمنًا في غير طائل، وإن حكم بغير ما حكمت أكون قد امتهنت العدل بالتماسه من المتهم، وهو الحمق كله. لم يبق إذن إلا أن أعقد العقد.
فانحنى ورقة يقبِّل يد الأمير من فرط فرحه لولا ما كان يتجاذبه من عواطف الخجل من أستاذه؛ لأنه كنا يشعر كأن يأخذ شيئًا من وراء صاحبه، ولكنه في الواقع كان يرى في سفره إلى القسطنطينية فرصة؛ لمعرفة رأي الحارث قبل أن يعود منها، فهو إذا عقد له على لمياء كان سفره وسيلة لتأجيل يوم الدخول بها حتى يرجع، فإن كان جواب الحارث بالرضا — وهو ما يرجوه — لم يعر ما وراءه شيئًا من همه، وإلا فما العقد بشيء عصيب وإن قطع نياط قلبه وأسلمه الأمر إلى الوجد والجنون. ثم تذكر ما قاله نيقتاس من حبِّ لمياء إياه، وأنها تؤثره على الدنيا وعلى أبيها، وتؤمل فيه أن يؤثرها على نفسه وعُرف قريش، وأنه بما انتوى إنما يخون ما تؤمِّله فيه من رعايتها ولو أدى الأمر إلى شيء من التضحية، وهو شيء جديد لم يكن قد خطر له على بال، فوجف قلبه وخجل منها، وأحسَّ أنه لم يعر أمنيتها تلك شيئًا من تقديره، ورأى قدر ما تفعل بإيثاره حتى على رضا أبيها، وتذكّر فتى نجران من بني عبد المدان، وفتى مكة من بني عبد الدار، وفتى مناف ابن حاكمها، وأنها تركتهم كلهم رعيًا لذكراه، فعلاه الخجل من نفسه، وصاح قلبه: بأبي أنت وأمي يا لمياء، سأكون لك على الدنيا كلها. إن الحق فيما قال نيقتاس وفيما قلتِ بما فعلتِ. إليّ. إليّ. سيبارك زواجنا سيد قريش وسيد الخلق أجمعين. فماذا يهمني من بني عبد الدار وبني جمح الذين لا يزالون لحمقهم وفساد رأيهم يعبدون الأصنام! ويريدون أن ينحروا أمثالنا على قدمي وثنٍ من عرفهم الممقوت، كما ينحرون البدن على الأنصاب الصماء.إليّ. إليّ. إن الله يبارك لنا، والراشدون شهود على الحق فيما نحن في صدده، فماذا يهمنا من السفهاء!
مرت هذه الأخيلة كلها حين كان ورقة يلمس أصابع سيده الحكيم يقبلها شكرًا له على براهين بره الشديد وحبه إياه، فقبلها مرةً أخرى، وكانت قبلته في الثانية طويلة، وذلك حين كان قوزمان وهرميون وهيلانة ولمياء داخلين، وأدرك نيقتاس سر هذه القبلة الثانية الطويلة، وكانت عينه قد لمحت لمياء فيما لمح، ورأى زهرة أنضر من زهرات الربيع تخطر على بساط القاعة خطرة مائسة، فملكته هزة الحبور بأنه أنفق جهدًا في محله، وأن عمله كان صوابًا من جميع النواحي؛ لأن ورقة كان على كمال رجولته حسن الخلقة فمزج نيقتاس تحيته للقادمين بما كان فيه من الحديث، وقال يحادث لمياء: انظري يا لمياء، لقد جعلت من هذا القديس رجلًا مثلنا؛ ليعرف كيف يقدر هذا الحسن، وهذه الرقة. ثم تقدم إليهم وسلم عليهم، وانبرى أهل لمياء يشكرون الوالي بالدعاء، وكانت هيلانة أفصحهم في ذلك قولًا، ولما جاء دور لمياء ومدت يدها للسلام وانحنت لم يترك نيقتاس يدها، بل قال للجميع مازحًا: لم يشأ ورقة أن يعقد له أبونا البطريق يوحنا الرحوم نفسه، الذي يتصرف وهو في الإسكندرية في ملكوت السموات والأرض، وبالأحرى لم يشأ البطريق نفسه أن يتولى هذا العقد؛ لأنه علم أن ورقة يؤمن بإلهٍ واحد لم يلد ولم يولد! ولذلك عزمت على أن أزوّجهما أنا بما لي من حق الولاية على الناس، والزواج مسالة دنيوية خالصة، لا يصح أن يتدخل فيها الإكليروس بتاتًا. هي أمر يترتب عليه حقوق والتزامات وواجبات ومواريث. فما شأن أهل الكنيسة في ذلك! ألا ترى ذلك يا قوزمان؟ قال: ما عجبت لشيء عجبي أن يتدخل أهل الآخرة في شئون أهل الدنيا، وسكوتنا نحن أهل الدنيا عن ذلك. كان يجب أن يكون أمر الزواج في يد الشرطة لا الكنيسة. هذا افتئات على الحقوق، وتفريط من ولاة أمر الناس في حقوق الناس، وقالت هرميون: إنهم في بلادهم يعقدون الزواج بأهون من هذا: بالقبول وحده، ولكنهم يعلنونه بما لديهم من وسائل الإعلان: بالدعوة إلى وليمة، أو الاحتفال بالزفاف. قال نيقتاس: وأنتم راضون بذلك؟ قالوا: كل الرضا. قال: وأمها؟ قال قوزمان: إن لها وحدها حق الولاية عليها في الزواج؛ هذا شرط شرطناه على زوجها يوم زوجناه منها، وإليك صك ذلك، فتناوله الأمير وقرأه، ثم التفت إلى ورقة، وقال: ففيم إذن ما كنت فيه؟ قال: إنّ مولاتي لتعلم سري، وهي على ما ترى ما كانت تريد أن تصدر إلا عن البر بزوجها قال: هذا من أمرها، أما اليوم وهذا الصك معنا فقد عدونا ذلك. أأنت راضية عن هذا الزواج يا هرميون؟ قالت: أما عن نفسي فكل الرضا، وأما … قال نيقتاس مقاطعًا: لا يهمني ما وراء ذلك؛ لأن في يدي صكًّا بحقك، فلم يبق إلا لمياء، ثم ابتسم وقال: هل هي راضية؟ فأجابوا: نعم. قال: أريد أن أسمع صوتها فلا بدّ أن يكون جميلًا كوجهها، فابتسمت لمياء حياءً، وحرضتها هيلانة وقوزمان أن تقول نعم. فقالتها في النهاية. فقال نيقتاس: صدق حدسي، ثم التفت إلى ورقة وقال: وأنت أيها القديس؟ قال: نزلت عن قداستي يا مولاي، إنى كما تشاء لي. قال: أشاء لك أن تكون زوجًا للمياء وأخًا وصديقًا ووليًّا أمينًا. هات يدك. فلما تناولها جمعها إلى يد لمياء، وقال: لقد تحاببتما زمانًا طويلًا حبّ نقاء وتقى، ورجولة صحيحة وأنوثة مطهرة، وتمنى كل منكما أن يكون زوجًا لصاحبه، ورفيقًا في الحياة الدنيا على سنة الولاء والتعاون والرعاية الخالصة. فليكن ما أردتما برضاكما ورضا من لهم الولاية في أمركما، وأنتما من هذه اللحظة زوجان. فركع العروسان يقبلان يده فقبلهما معًا وبارك عليهما، ثم قال: سأكتب لكل منكما وثيقة تختم بخاتم القصر، وتمهر بإمضائي، ويشهد عليها الحاضرون، وسأكتب لك يا ورقة وثيقة أخرى أرفع بها رتبتك درجة حتى تلقى الإمبراطور في القسطنطينية برتبة أعلى، وأخرى بتمليكك عقارًا في الإسكندرية هدية منى إليك لعرسك بعد عودتك، وأنت منذ اليوم إلى حين سفرك في إجازة تقضيها بجوار لمياء. فركع ورقة ولمياء شكرًا للأمير، وتناولا يده يقبلانها فقبلهما نيقتاس وبارك عليهما. حين كانت تبكي هرميون وهيلانة بل وقوزمان؛ لفرط مسرتهم، وتأثرهم بفضل الأمير، وشكروه على هذا البر، وتأثر الأمير لهذا المشهد، وخطا متراجعًا وهو يقول: لو كانت معركة من معاركنا مع الفرس ما أجهدت نفسي هذا الإجهاد. أفٍ للقديسين والقديسات!
فضحك قوزمان لهذه الملاحظة، وضحك ورقة والأختان معه؛ لأنه كان يعلم أنه يشير بها إلى تردد ورقة في إنفاذ مشيئته. كما أنه كان يعلم أن نيقتاس رجل له مذهب خاص في الدين لولا تملكه منه ما تم زواج ورقة بلمياء.
على أن الأمير كان يشير أيضًا إلى رفض البطريق أن تكون له يد في هذا الزواج ما دام ورقة كافرًا بربوبية المسيح، ولذلك تساءل: خبروني بربكم أليس هذا التزويج أكرم وأصحّ؟ فقال ورقة: هو ما يفعله العرب يا مولاي، ويكفي في الإسلام قبول الطرفين، والشهود للإعلان، والكتابة للإثبات. قال: سأزيد على الوثائق أن زواجكما على سنة الإسلام إذن، ثم توجه إلى لمياء مسائلًا في غير حاجة إلى علم: هل أنت مسلمة يا لمياء؟ قالت ولم تتردد: أجل، والحمد لله يا مولاي. فشده الحاضرون لذلك، وقالت أمها: متى كان ذلك يا بنية؟ قالت: منذ أحببت ورقة. فقال ورقة: ولا أدري! فضحك نيقتاس وضحك الحاضرون معه، وقال نيقتاس: واشهدوا يا شهود العرس أنني أنا أيضًا اليوم على يد ورقة من حيث لا يدري. إنه قديس حقيقة. ثم نهض الأمير وانصرف؛ ليترك للأهل والعروسين فرصة النعيم بعشية العرس.