نقض الصحيفة
لم يجد رسول نيقتاس أبا لمياء في جدة، وخبَّره أهل الميناء أنهم شاهدوه يركب سفينة مصرية إلى عيذاب منذ أربعة أشهر، وإذ كان الرسول معروفًا لهم بأنه بريد، فقد أشاروا عليه أن يسلم الرسالة إلى ولده النضر، ويفرغ من أمرها ما دام راحلًا إلى مكة؛ لتسليم رسائل أخرى إلى بعض أهلها، وقالوا له: لعل النضر يستطيع أن يجيب عليها بما يرتاح إليه فؤاد المرسل، أو يدله على مكانه، أو يفيده بما ينتفع به المرسل من الأخبار.
على هذا رحل البريد إلى مكة، وقصد إلى بيت النضر، فلما استأذن عليه ودخل وجده في جماعة من أعيان مكة تبدو عليهم سيماء الكآبة والغيظ، وكأنهم كانوا يتحدثون في أمر جلل قطعه عليهم البريد بدخوله، فنظروا إليه جامدين وهو يحييهم، ثم رد النضر تحيته مقتضبًا ولم يدعه إلى الجلوس. فجثا الرجل على ركبتيه وأخذ يقول: إني رسول سمو حاكم مصر، جئت إلى السيد الحارث بن كلدة برسالة من عنده، ولكني لم أجده في جدة كما قيل لي. قال النضر: هات الرسالة فأعطاه الرجل إياها واستمر جاثيًا ينتظر جوابًا: فلما نشرها النضر ليقرأها وجدها بالرومية فطواها، ونظر إلى البريد مغضبًا، وقال: أنا لا أعرف الرومية. تتركها الآن حتى نجد من يقرؤها لنا ويترجمها. قال أحد الجلوس: لعله يعرف القراءة بالرومية أتعرفها يا فتى؟ قال: لا. إني عربي الأصل وإن كنت أتكلم الرومية، قال: فهل تدري فيم كتبت؟ قال: خبر سار؛ إن مولاي الأمير نيقتاس يخبر سيدي الحارث بزواج ابنته حفيدة العالم قوزمان من كبير حراس قصره، وهو فتًى من أصل عربي شريف، عظيم الهمة، أصبح لفضله وأمانته وبره بمولاه صاحب الكلمة العليا في قصره، قال: ما اسمه يا ترى؟ قال: اسمه ورقة بن صليح، قال النضر مشدوهًا ونهض من مجلسه قليلًا: ما اسمه؟! قال البريد: ورقة بن صليح! قال: ابن الجارية والنجار القبطي! أهذا هو الخبر السار الذي جئت به. إنه لأسوأ خبر. فأُخذ الرجل بما رأى من استيائهم ولم يجب، وأخذ يقلب وجهه من الجالسين من طرف إلى طرف، فرأى النضر قد استطال وجهه وفمه، وجمدت أصابعه على الطومار، وحاول أن يتكلم فانعقد لسانه، وخشي أحد الحاضرين أن يخرج الوجد بالنضر؛ لما رأى من فرط ما دهاه لدن سماع هذا النبأ، فيؤذي الرسول.
أدرك ابن معيط ذلك فأرسل من فوره إلى حجام؛ ليحجم النضر، وجاء وحجمه، وحملوه إلى داره.
كان هذا الغلام رؤبة غلام القرضاب الذي أنقذه ورقة، أغرى أمه بالحج؛ ليأتي معها إلى مكة، ويرى سيّده وصديقه الذي تعلق به قلبه، فجاءا ونزلا في بيت باقوم، ثم أغراها بالبقاء في مكة فقبلت، ورأت العفيفة في وجودهما في بيتها شيئًا من السلوى، فعرضت عليها أن يبقيا معها فقبلا ذلك شاكرين، وعاشا معها منذ ذلك الحين يعملان في خدمتها، وفي خدمة مولاتها أم المؤمنين.
وكان قد سبق لمن نقضوا الصحيفة أن اجتمعوا في بيت النضر بإخوانهم من المشركين، وتذاكروا في شأن نقضها مع أبي جهل والنضر وابن أبي معيط عندما علموا بقدوم أبي طالب، وما لقي إخوانهم بنو هاشم من الأذى طوال السنوات الثلاث التي قضوها في الشعب، وأعلنوهم بعزمهم على نقض الصحيفة. فرماهم هؤلاء بالنكوص والخيانة، وحدث بينهم في بيت النضر ما حدث من التشاتم والتنابذ قبل مقدم رسول نيقتاس. فلما خبَّره خبر زواج لمياء من ورقة كان في خبره الصدمة الكبرى لفؤاده فأصابه ما أصابه.
علت الزغاريد في حي بني هاشم، وتوارد الموالي على الأسواق يشترون ويستبضعون وهم آمنون، وشهد رسول نيقتاس هذا فسره الأمر، ولكنه كان قد اشترى حاجة الغلام وخرج بها فلقيه قادمًا عليه وهو مطمئن فهنأه بما كان، وشكره رؤبة على فضله، وأبلغه أن باقوم في انتظاره.
قضى المصري يومين في مكة كان فيهما محل الرعاية من باقوم وتماضر وبلال وزيد بن حارثة، وذكر فيهما زواج ورقة من لمياء بنت الحارث بفضل الأمير، فزغردوا فرحًا وسرورًا، وذكر ما يلقى من رعاية الأمير، وما بلغ إليه من العزة والمكانة، وخبرهم أن في نية ورقة أن يأتي بأهله إليه عندما تستقر الأمور في الإسكندرية، وطمأنهم عليه قولًا بأن الفرس يوشكون أن يتركوا المدينة يأسًا من حصارها، وأيده باقوم في هذا الرأي، وكان بلال يسائله: هل رآه يصلي؟ قال: إنه لم يره يصلي، ولكنه علم من الجنود الذين تحت أمره أنه يصلي مرتين في اليوم بعد أن يغتسل اغتسالًا خاصًا لهذه الصلاة، والأمير يحبه لهذا حتى لقد قيل إن الأمير يصلي معه.
لم يكن هذا صدقًا فيما يختص بالأمير، ولكن حب الجنود لورقة، وتأثرهم بما يروى عنه، وما يعلمون من تمام صلاحه، وارتياح الوالي إليه — جعلهم يتقولون أشياء مما ينسجم فيما يعلمون، وعند ذلك عن لبلال — رضي الله عنه — أن يهدى القبطي رسول نيقتاس إلى الإسلام؛ لأنه عربي من مواليد الإسكندرية اليعقوبيين، ولذلك لم يغادر رسول نيقتاس مكة حتى كان قد أسلم وصلى، وأخاله لقي رسول الله مبايعًا ومتمليًا من نوره، ومعاهدًا له على التوحيد والأمانة لله.
وكان رؤبة قد هامت نفسه شوقًا إلى صديقه وسيده ورقة، واشتهى أن يراه، وألحَّ على أمه في ذلك، ولكنها لم تكن تستطيع أن تجيب هذا الرجاء على الفور حتى ترى رأي من معها، وكان الجمع قد سمعوا قصته فوافقوا على سفره مع الرسول تحقيقًا لرغبة الغلام الوفيّ، وليكون في خدمة ورقة في وحشته.
ولذلك زوَّدوه بما يجب للطريق من المال، وحمله كل منهم رسالة إلى سيده ورقة، وخرج به الرسول عائدًا إلى الإسكندرية من طريق الصحراء فالبحر فميناء لوكياس، ومنها دخل إلى القصر بفضل ما معه من جواز المرور، وبأنه من برد القصر المعروفين.