اجتماع الشمل
في الوقت الذي كان فيه بطرس البحريني يحادث السلار شاهين، ويشترط عليه أجره في إدخاله المدينة، والحارث بن كلدة حبيسًا هو وصاحباه في مرفأ لوكياس في غرفة السفينة — كان ورقة وأورست قد عادا إلى الإسكندرية، ولقيا الأمير بما كان معهما من رسائل الإمبراطور السيء الحظ، وإذ عرف الأمير ما فيها من استحالة إمداد الإسكندرية بشيء من المئونة أو الجنود — أمر من فوره بدعوة جميع أعضاء المجلس الحربي؛ ليبلغهم رد الإمبراطور، ويتذاكر معهم فيما يجب عليهم فعله؛ لتموين المدينة، وزيادة حاميها، وإلا سقطت في يد الفرس، وطلب إلى أورست أن ينتظر؛ ليحضر المجلس، ولأنه يريده هو ورقة بعد انصراف الأعضاء؛ للتكلم معهما في أمر خاص جاء إليه في الرسائل. فانصرف أورست وورقة مثقلي القلب بما بدا على وجه الأمير من الهم، وشعرا أن هناك أمرًا يشغل باله غير أمر المؤنة والجنود، وقدّرأنه توقع سقوط المدينة في يد الفرس، وإذ إن أمور الحياة مرتبطة فقد اتجه فكرهما إلى ما هما قادمان عليه من أمر الزواج حين أن المدينة ساءت حالها، وملك اليأس القلوب فيها، والزواج أمر يجب له انشراح القلب، وطمأنينة النفس، وامتلاؤها بالأمل المشرق. فقال أورست: لقد فكّرت في أن أنتقل بهيلانة إلى الغرب يا ورقة، وأقضي في قيرين ما يشاء الله لي من الزمن، ثم أعود إلى الإسكندرية بعد ركود العاصفة. إن لي سفنًا في كانوب، ومن السهل أن أرسل في طلبها إلى مرفأ القصر لو سمح الأمير لي بذلك؛ لأرحل عليها، وليتك يا ورقة تكون معنا! قيرين آمن مكان، ولكنك لا تستطيع فراق مولاك، ولا هو يستطيع فراقك حتى ولو رحل عن الإسكندرية. من يكتب عنه نيقتاس إلى مولاه بمثل ما كتب عنك لا يتركه بل ولا يجمل بك أن تتركه. قال: لن أتركه حتى نموت معًا. قال أورست: ولمياء وأمها؟ قال: سأجيء بهما إلى بيت هيلانة هي وقوزمان؛ لكيلا أضطر إلى تركه لحظة. هكذا اقترح الأمير يوم سافرنا. كما أنه قال لي إنه إذا رحل عن الإسكندرية — وهو ما أكاد أراه الآن — رحلت معه، ولقد ذكرت الأمر لهما ولقوزمان في حينه فأقروه، وأقرته السيدة هيلانة أيضًا، وهي تؤثر الرحلة إلى إحدى جزائر البحر الرومي على أن تتجه إلى الغرب كما كان أبوها يرى. قال أورست: إذن فإلى جزائر البحر أنتقل بها ما دامت تؤثرها. ليس لي حاجة خاصة في قيرين على أني أرى في هذه الحالة أن أكون معكم. ترى هل يأبى الأمير ذلك؟ قال ورقة: لا أظنه يأبى. هذا أمر لا تعب عليه فيه، ولكننا نرجو الله ألا يلجئنا إلى فراق الإسكندرية، وفيما هما يتذاكران دخل عليهما حارس الباب يقول لورقة: إن بالباب غلامًا عربيًّا لا يعرف من الرومية كلمتين يريد لقاءك. فضحك ورقة، وقال: فكيف عرفت قصده إذن؟ قال: إنه يكرر اسمك، ورقة، ورقة، ويحمل رسائل أبى أن يسلمها إلا إليك يدًا بيد. قال: هاته هو والرسائل، وأخذ ورقة يسائل نفسه: ترى من يكون هذا الغلام؟ ولكنه لم يهتد إلى جواب حتى رأى الغلام قادمًا في عباءة وعقال وسيف كأنه بطل صغير.
ولشد ما كان فرحهما باللقاء، فقد تعلق رؤبة برقبة ورقة، وأخذ يقبله ويقبله، وورقة محتضن له يقبله كذلك، وأورست يتأمل هذا المشهد ويعجب، وقد خطر له أنه أخوه أو أحد أقربائه، ولكنه علم بعد ذلك نبأه، ونبأ الشملالة، ولما هدأ الحال تناول ورقة الرسائل، وأخذ يقرؤها واحدة بعد أخرى، والغلام لا يغمض له عنه جفن لشدة سروره وإعجابه، وورقة يسائله عن أخبار بيت رسول الله، وما فعل المشركون بالمسلمين في هذه الأيام، والغلام يجيب بالقول الفصيح والبيان الذي عرفه منه ورقة، ولشد ما كان فرح ورقة عندما علم أن أجواد قريش لم يسعهم بعد ما أكلت الأرضة صيحفة الأذى إلا أن ينقضوا ما كانوا تعاهدوا عليه من مقاطعة بني هاشم جزاء حمايتهم رسول الله، ويعيدوا المياه بينهم إلى مجاريها.
أما قصة رؤبة فهي أنه جاء مع البريد منذ أشهر، ولكنه علم أن ورقة لم يكن قد عاد بعد من بلاد الروم، فوجد من الخير أن يبحث عن بيت سيدته لمياء؛ ليستضيفها فقد علم من الرسول أنه تزوجها — فذهب إليها، وبقى كل يوم يتردد على القصر؛ ليسأل الحارس عن ورقة حتى علم الآن أنه عاد، فرجع إلى لمياء يخبرها وعاد إليه بالرسائل؛ فسُرّ ورقة بتصرف الغلام، وأطلع أورست على ما فعل، وأخذ يسائله عن أحوال آل بيت لمياء؛ فطمأنه، وذكر له أشواقهم وتحياتهم.
وإذ شعر ورقة أن أعضاء المجلس أخذوا يتوافدون أشار إليه أن يعود إلى بيت قوزمان حتى يوافيه هناك، وأخرجه من غير طريق الوافدين مشيعًا بكل محبة وكل ثناء.
اجتمع المجلس وأنهى إليهم الأمير رسالة الإمبراطور، وأخذ يتذاكر معهم فيما يجب عليهم فعله إزاء استحالة تموين البلد بشيء من القسطنطينية فلم يهتدوا إلى رأي سريع، ولكنهم اتفقوا على أن يرسلوا سفنًا إلى والي إفريقية (تونس) ليشتري لهم برًّا وغلالًا، ويلتمسوا منه أن يجمع لهم من يستطيع جمعه من متطوعة البربر؛ لتعزيز الحامية، وخطر لأحدهم أن يجندوا من في الإسكندرية من اليعاقبة واليهود، ويجعلوا عليهم ضباطًا من الروم، ولكن المجلس لم يستحسن ذلك قائلًا: إنه لا أمان لهم فقد يتركون أمكنتهم على الأسوار، ويخلون للدبابات الفارسية مكانًا هادئًا يدخل الجنود منه. خير لنا ألا نفكر فيهم، أو نذيع أننا فكرنا فيهم خشية أن يتخذوا من ذلك دليلًا على ضعفنا؛ فينشطوا للمؤامرات والثورات، وهي شر ما نخشى في هذا الوقت، أو يعلم به السلار فيقوي قلبه ويزداد عنفه، ولكنا نرجو من سمو الوالي أن يتجاوز لنا عن بعض زنوجه؛ لنعزز بهم الأبراج. قال نيقتاس بعد تفكير: خذوا كل حرسي منهم ومن غيرهم، ولكن اتركوا لي عشرة لحراسة باب الميناء، ومثلهم لحراسة الباب الشرقي من القصر لا يسعني غير هذا. سيكون هؤلاء تحت إمرة ورقة فخذوا ضباطهم كذلك، وسأكتب إلى والي تونس يجمع لنا متطوعة من البربر.
فشكر القواد للأمير فضله، ونهضوا ليدبروا ذلك، ويدبروا معه السفن الذاهبة إلى أفريقية، إلا أن الأمير استبقى أكبرهم، واختلى به، ثم عاد به يتحادثان، وفي يد هذا الضابط الكبير طومار لاح إنه ذو خطر؛ إذ كان مما يمنح عادة في التولية أو الترقية. حتى إذا انصرف الضابط وخلا المكان إلى من نيقتاس وورقة وأورست — رؤي نيقتاس يروح ويجيء في القاعة مفكرًا، ثم وقف والتفت إليهما يسألهما: ألم يكلفكما الإمبراطور بشيء تبلغاني إياه غير ما في الرسائل؟ قال أورست: لم يطلب إلينا يا مولاي شيئًا معينًا، ولكنه أطلعنا على ما هو فيه من الضيق، وأبدى لنا استحالة إمداد الإسكندرية بشيء، وقال: إذا لم يساعدنا الله هنا فالقسطنطينية واقعة لا محالة في أيدي الفرس، ويحزنني يا مولاي أن أقول إن عينه اغرورقت بالدموع، وهو يقول: من لي بمثل نيقتاس يكون إلى جواري، إني لا أجد معي صديقًا لي آتمنه أو أستشيره، ولكن ماذا أفعل وعاصمتي الثانية توشك أن تقع في يدي أعدائي. فلما سمع نيقتاس هذه الرواية أغرورقت عيناه بالدموع، وقال: اسمع يا ورقة، وأنت يا أورست. أنا أعرف أنكما متلهفان الآن على رؤية عروسيكما. هذا أمر فطري، ولكن ما قيمة التقائكما بالعروسين إذا كانت المدينة على وشك أن تقع في يد الفرس، أجِّلا ليلة زفافكما إلى يوم تطمئنان فيه. لم يبق عندنا من الجند ما يكفي للدفاع، ولو عرف السلار ذلك؛ لأقلع عن هذه الأحجار التي يرميها بغير طائل، ولهجم بجنوده على الأسوار مرة أخرى وعلاها. نعم، سيذهب نصفهم قتلى في الهجوم، ولكنه سيدخل الإسكندرية بالنصف الباقي بعد أن يفني الحامية كلها، وهذا ما لا بد أن ينتهي إليه أمره، ولذلك عوَّلت على السفر خفية. إن الإمبراطور يبيح لي ذلك، بل إنه يأمرني به في صورة نصيحة؛ لأنه يريدني، وأنا أرى الخير فيما نصح، وهو يرى ليوحنا الرحوم هذا الرأي، ويلح فيه اتقاءً لأذى أهل كنيسة الإنجيليون، فهؤلاء لا يهمهم من هذه الحرب إلا أن يروا بطريق الروم قتيلًا أو مطرودًا، وأنا لا أشك في أنهم يقتلونه وإن كان قد أحسن إليه. ألم يقتلوا سلفه! فقال ورقة: ومن يتولى أمر المدينة من بعدك يا مولاي؟ قال: رئيس الجند، وقد أسلمته الآن أمرًا بذلك وتفويضًا. اسمع يا أورست، إنك رومي فإذا بقيت في الإسكندرية فأنت قتيل وامرأتك سبية، وكذلك أنت يا ورقة وإن لم تكو روميًّا فأنت حارسي الأمين، وامرأتك وأهلك كلهم روم؛ وأخشى أن يقتلوا أو تفضح أعراضهم، وإذ أن أيام الزواج الأولى أسعد أيام المرأة فقد رأيت ألا أحرمهما هذه النعمة. قال أورست: أنرحل معك يا مولاي إن سمحت؟ قال نيقتاس: هذا ما أردت: والآن فاذهب إلى دارك هات كل مالك، وكل ما ترى نقله، ودع وكيلك فيما فيه من انتظار عودتك، أو فافعل ما ترى، ولكن اذهب إلى يوحنا الرحوم إنه صديقك، وبلغه عني دعوة الإمبراطور له، وقل له ينقل ما يحتاج إلى نقله معه الآن، ويأت به إلينا هذا إذا شاء، وسيشاء حتمًا. لقد خبرني برغبته في النقلة منذ أيام، ولا بد أن نرحل فجر هذه الليلة جميعًا. إني إذا بقيت في الإسكندرية ليلة استعصى عليّ الخروج منها. لست من المتطيرين، ولكن النفس إذا انطلقت من إسارها كرهت أن تبقى في سجنها لحظة ولو كانت تملك الفكاك، وأنت يا ورقة، حذار أن تذهب إلى لمياء حتى آذن لك إني أريدك الآن. كل دقيقة غالية، ثم يكون لك ما شئت بعد ذلك. إن البحر هادئ هذه الأيام. أليس كذلك؟ قال: لقد تعودته. قال: حسن لتكن ليلة زفافك في البحر إذن أنت وأورست. كل منكما في سفينة خاصة. أيرضيكما ذلك؟ قالا: ما أشد حمدنا لله عليك، قال الوالي: سأعد حمولي الخاصة وما يهم نقله، لا بد أن تكون معي، وإذا جاء أورست وحنا الرحوم فانقل كل متاعنا إلى السفن، وإذا سُئلت فقل بضاعة للإمبراطور ستعود بها أنت وأورست. قال ورقة: ألا يحسن أن يجيء قوزمان بأولاده كذلك يا مولاي إلى بيت سيدتي هيلانة؛ ليكون قريبًا؟ قال: عجبًا. ألم أقل ذلك يا ورقة؟ فظهر على ورقة الإنكار فقال الأمير. زعمت أنني قلت لأورست شيئًا من هذا؟ وإلا فكيف يرحل بدونها؟ قال ورقة: فليذهب أورست إذن إليهم وينقل حمولهم كذلك قال: نعم. نعم. على أن يجري الأمر سرًّا وإلا أثار بفعله الغوغاء. قال أورست: كن مطمئنًا يا مولاي، سأكون عند حسن ظنك، إن منزلي يجاور منزل قوزمان فلن يلتفت الناس إلى شيء كثير، وسأنقل متاعنا في جوالق القمح فلا يلتفت إليّ أحد. قال: إذن فاذهب من فورك.
سيدي الأمير
حاولت مدى بضعة أشهر أن أدخل الإسكندرية؛ لأرى زوجتي هرميون بنت العالم قوزمان أخت امرأة أخيك هيلانة، وأرى ابنتي، وأكون معهما في هذه الضائقة فلم أوفق. حتى هداني الله إلى مينائك بعد جهد جهيد، ورجائي من الأمير أن يأذن لي بالدخول، وله جزيل شكري وعظيم ولائي.
فدهش ورقة لهذا وقال: بضعة أشهر. إذن فرسول مولاي لم يلقه في جدة قال: ولا في مكة، وإنما التقى بولده الأكبر فأسلمه الرسالة، فما وقف على ما فيها حتى جمدت أصابع يده عليها ولم يقو على تركها، فأخذوها منه فإذا هو قد انشل، أهذا الذي أهدر دمك يا ورقة؟ قال: نعم يا مولاي، قال: لقد نال جزاءه العادل. قال ورقة: ألا ليلطف به الله، وليحسن إليه ويهده إلى الحق. إنه رجل شرير يا مولاي. كان يريد قتل رسول الله غيلة. فلما فضحت أمره بقتل القاتل أهدر دمي، فشردني عن بلادي وعن نبيي. قال نيقتاس: ولكنه هو الذي شرد لمياء وأمها كذلك، وجمع بينكما في الإسكندرية. لماذا لا تذكر فضل ربك في ذلك. قال: ما قمت للصلاة مرة إلا وذكرت فضل الله عليّ في ذلك وفضلك، وفي أني وجدت فيك أبًا وسيدًا، فكانت صلاتي كلها بقلبي وروحي. قال: أنت مني كولدي يا ورقة. ثم ابتسم، وقال: أتأذن لحميك بالدخول؟ قال ورقة: لا أدري أين يذهب؟ إن ذهابه إلى بيت قوزمان يشغلهم عن التحميل، وأرى أن يبقى حيث هو حتى نلقاه ويرحل معنا. قال: بل يأتي ويدخل بيت هيلانة حتى إذا انتهينا من تحميل الحمول دعوناه أو ذهبنا إليه، وستأتي إليه هرميون وابنته، وتكون إذ ذاك مفاجأة طيبة، وسأتولى الكلام معه فيما كان من تزويجي إياك ابنته، وأنا الضمين بموافقته ورضاه، بل وبالحمد لله على ما تم. أقلع عما أنت فيه الآن من الاضطراب فإني أكاد أسمع وجيف قلبك. قال ورقة باسمًا: شكرًا لمولاي، قال: خلِّ عنك الشكر، واكتب لضابط المرفأ يأذن للحارث بن كلدة بالدخول بنفسه دون حموله. سيرحل معنا هو أيضًا إلى القسطنطينية إذا شاء، وإلا فرحلتي جزيرة رودس، وهي أقرب إلى بلاد العرب من القسطنطينية. ثم نادى نيقتاس جندي الحراسة، وأمره أن يرسل إلى لوكاس حارس بيت السيدة هيلانة من ينبه إلى مقدم ضيف كريم، ويوصيه بإعداد الدار، والتفت إلى ورقة يقول: إذا أتممت الرسالة فأدركني في غرفي. ذهب الأمير، وجلس ورقة يكتب بطاقة الإذن للضابط بإدخال أستاذه، وأعطاها إلى الجندي الحارس، وهو لا يدري كيف كتبها؟ ولا ماذا كتب؟ فقد اجتمعت عليه كل هواجس الدنيا، وغاب عن وعيه بما ملأ فؤاده من الوساوس، وعاد إلى ما كان فيه من قبل من تصوير الحال لنفسه في صورته التي أصغرته في عيني نفسه، وقدر أن الحارث سيرضى تسليمًا بالأمر الواقع، ولكن عينه ستنم عن أسفه، واقتضاب كلماته سينم عن عتبه على ورقة كيف لم يساعده — وهو الابن البار — على الاحتفاظ بكرامته بين بني عبد الدار وجمح وبني مخزوم وغيرهم من بطون قريش الذين يعيشون على عرف بينهم من لم يرعه أسقطوه، ولم يذكر ورقة حق لمياء عليه في هذا، ولا ما قال من أن خير الخلق وسيد قريش سيبارك على زواجه، ومضى مطرق الرأس إلى غرف مولاه؛ ليكون في خدمته من إعداد حقائب الرحيل وصناديقه، وقد رأى ورقة أن يقول لأستاذه عند البادرة الأولى منه: يا مولاي، ما كان زواج ابنتك كله باختياري. إني أحبها حبًّا مقدسًا ومطهرًا، ولقد أراد الله الذي يعرف نجوى نفسي أن يمكنني من أن أقف منك موقف الولاء والرعاية، وها هي ذي ابنتك كما كانت معك في هدى ومكة ونجران، إن ضاعت حياتي على أثر تسريحها فما يهمني إلا أن تحسن الظنَّ بي. ليس عندي للبرهان على عرفاني حقك إلا هذا. هذا ما فكر أن يقوله للحارس. أما ما قاله لنفسه فهو أن لا قيمة للحياة بعد لمياء، ولن يأبى عليه مولاه بعد هذا أن يتركه في الإسكندرية؛ ليدافع عنها بقدر ما يستطيع، ويموت مرتاح القلب.
•••
جمعت قهرمانات القصر وخصيانه ما رأى الأمير حمله من الأموال والتحف والملابس والكتب القيمة وأضابير مراسلات الإمبراطور، ونُقلت بإشراف ورقة وتدبيره إلى السفن الإمبراطورية بدعوى إبعادها عن الخطر، وكان أورست ويوحنا الرحوم قد فعلَا مثل ذلك، كل من ناحية لم يلفتوا إلى عملهما أحدًا، وهوَّن الأمر على أورست أنه كان يملك عربات كثيرة لنقل غلاله، وكان له عمال كثيرون أخبرهم أنه يريد أن ينقل متاعه ومتاع نسيبه العالم قوزمان إلى مكان أمين غربي الإسكندرية تفاديًا من ثورات القساوسة واليهود.
أما قوزمان وأهل بيته فقد جاءوا إلى المنزل الذي كان لهيلانة في القصر ومعهم ضيفهم الصغير رؤبة، وقابلهم لوكاس بتحية الولاء، وقد زعم أنهم هم الذين عناهم رسول الجندي الحارس حين طلب إليه أن يستعد للقاء ضيف كريم، فقال قوزمان: عجبي يا سيدي، لقد أرسل إليّ سيدي الضابط ورقة يأمرني أن أعد الدار لضيف عظيم، وهل أنت ضيف يا سيدي؟ وظن قوزمان أنَّ القول تمويه من ورقة فابتسم وقال: كيف لا يا أخي لوكاس! ألا تدري أن صلتنا بهذا القصر قد انقطعت منذ أصبحت سيدتك هيلانة زوجة للسيد أورست نائب المدينة وكبير تجار الغلال فيها! فبهت لوكاس، وقال بعد صمت قليل: مبارك يا سيدي. مبارك. إنه والله لرجل عظيم كثير الخيرات. نعم يا سيدي هو يستحقها. إيذن لي أن أذهب لأهنئها. نعم، لم يكن في الدنيا أطيب قلبًا، ولا أكرم نفسًا من سيدي تيودور، ولكن ما حيلتنا في إرادة الله. ليس علينا إلا أن نتقبل المقدر بالصبر وبالرضا كذلك إن أردنا أن نكون مسيحيين حقيقيين، ودخل لوكاس يقدم تهنئته الحمية إلى هيلانة.
وفيما هم في ذلك جيء بالشريف العربي — الحارث بن كلدة — ينتظر مقدم الأمير، ولم يكن من صعد به السلم يعلم أن في الدار أحدًا؛ لأنه جاء من الميناء حين كان لوكاس مشغولًا بتهنئة سيدته هيلانة.
وكان الحارث يزعم أنه سيدخل مكانًا معدًّا لضيافة الرجال، ولذلك دُهش إذ رأى في صدر القاعة أشباح سيدات تخالط أشباح رجال فتراجع يُسائل صاحبه عمَّن يرى، وخطر على باله أن مصاحبه أخطأ، ولكن فؤاده كان قد ترجم ما حملت إليه عيناه من صور زوجته وابنته وقوزمان فتردد، وكانت هرميون قد تنبهت لشبح زوجها فنهضت صائحة تقول: الحارث! الحارث! في الوقت الذي كانت لمياء قد رأت فجرت نحوه: أبي! أبي! وسمع الحارث صوتهما فعاد إلى القاعة عجلًا؛ ليرى القائل، وإذا هو يجد لمياء تتعلق بأكتافه، فتناولها وتناولته بالعناق والتقبيل والبكاء، ثم أتت زوجته فعانقته طويلًا، وبكت على كتفه بكاءً مرًّا، وبكى الحارث معها حتى لم يعودا يستطيعان الفراق لولا أن قوزمان تقدم إليه هو وهيلانة فسلما عليه متعجبين لمقدمه، وعادوا به جميعًا إلى حيث كانوا، وهم يسائلونه كيف جاء! ومن أرسله إليهم! قال: ما عجبكم بأشدَّ من عجبي. تمهلوا قليلًا. ثم أخرج من جيبه البطاقة التي كتبها ورقة وأمضاها، وقال: من ورقة الذي أمضى هذا الإذن بدخولي الميناء؟ قالت هرميون: ابن العفيفة يا حارث، وانبرت هيلانة تتكلم عنه بما وسع قلبها من الحب لورقة، وقوزمان بما وسع فؤاده من الإكبار والإجلال. فقال قوزمان: هيلانة ردت إليه بعض فضله عليها فعرفته على حقيقته إلى الأمير نيقتاس ساعة كان الأمير في أشد الحاجة إلى القوي الأمين، فأدخله في خدمته، ومنحه من أجلها رتبة على الفور عالية، وهو الآن حارسه الخاص، وصاحب الكلمة العليا في القصر وفي الإسكندرية برمتها؛ لوفائه للأمير ونزاهته في كل عمل، ورشده النادر في كل حادث، وكبره عن دنايا الدنيا وغوايات الشباب. قالت: والله ما استطعت أن أرد له جميلًا، وإنما أحسنت إلى نيقتاس. فضل هذا الفتى عليّ أعلى من أن يبلغه شكر أو تصل إليه يد بيد. إنه قديس. قال الحارث: هذا ما أعرفه فيه. قال قوزمان: وقد منحه الإمبراطور هرقل فيما علمت منذ ساعة لقب حارس خاص عندما أرسله نيقتاس في مهمة عليا لمجلس الجيش. على أنه لم يعد من القسطنطينية إلا ظهر اليوم ولم نره بعد. قال الحارث: لقد رأيت سفينة بيزنطية عائدة من القسطنطينية، وأهل الميناء يحيون من فيها. كان فيها اثنان ظاهران، ولكني ما قدرت أنه أحدهما.
ولكن كيف جاء هنا؟ إني علمت أنه في يثرب عند خئولة رسول الله؛ فانبرت هيلانة وقوزمان يخبرانه بما كان من أمره في يثرب ومعان وفي الصحراء، والحارث يقول معجبًا طربًا: هذا ولدي. هذا تلميذي. هذا مثال الفتى المسلم الذي سيكونه كل عربي عند ما تتم دعوة سيد العرب محمد بن عبد الله. قالت لمياء، وكانت وكل هذه الأثناء تحت جناح والدها: وكل فتاة عربية يا أبي. قال: أحسنت يا بنية، ولكن لماذا لا أراه هنا. قال قوزمان: إنه مع الأمير يعدُّ عدة الرحيل عن الإسكندرية، وقد أمره ألا يرى لمياء ولا تراه حتى يفرغ من إعداد حموله، ونحن راحلون معه، وأدركت لمياء أنه سيذكر حكاية زواجه فتركت المجلس تفاديًا من موقفها الحرج، وقال الحارث دهشًا: لماذا يحرم عليه لقاء لمياء خاصة وعليها لقاءه خاصةً ولا يحرم ذلك على من عداهما؟ قال قوزمان مغالطًا: لأننا مسافرون جميعًا. قال عجبى لك يا سيدي، من ذا الذي تعنيه بالجمع في قولك؟ ألا ترى أنك تتكلم بالأحاجي. قال: لا أحاجي في ذلك، ولكن الأمير رأى الإسكندرية توشك أن تقع في أيدي الفرس؛ إذ لم يبق من حاميتها من يكفون لمداومة القتال، وقد أرسل الإمبراطور يقول: إنه لا يستطيع أن يرد إليها من كان قد أخذه من حاميتها، ولا أن يموِّنها بشيء من الغلال، وأباح لنيقتاس ويوحنا الرحوم أن يجيئا إليه، وقد رأى نيقتاس صواب الرحيل، وإذ كنا أقرب الناس إليه وإلى حارسه الخاص ولده ورقة الذي لا بد أن يصاحبه، وهو يعلم ما سيلقى كل رومي من سيوف الفرس عند دخولهم — فقد أرسل إليّ صهري وعديلك الجديد أورست؛ ليحمل حمولنا، ويأتي بنا إليه هنا؛ لنسافر الليلة في غفلة من المدينة. قال: ولكني سمعتك تذكر وتستثني هرميون وحدها. قال قوزمان مستمرًّا في تجهيله وإبهامه: ذلك لأن أمرها أصبح موكولًا إلى زوجها بعد ما جاء. قال الحارث وابنتي أليس لي عليها ما لي على امرأتي؟ وكانت لمياء في هذه الأثناء واقفة تتسمع بجوار عضادة الباب من الغرفة التي انسحبت إليها وهي هلعة من هذا الحديث خاشية ألا ينتهي إلى خير، وزاد هلعها أن رأت رؤبة يدخل القاعة مستبشرًا، ويتقدم نحوها ليخبرها بمقدم ورقة، فاضطرب قلبها لذلك، ولما لاح ورقة في المدخل لم تقو على الوقوف فارتمت على مقعد كان وراءها. دخل ورقة في لباسه العسكري الجميل تراه ولا يراها. فاتجهت إليه العيون معجبة ومزدهية، والقلوب تحييه بمحبتها وإجلالها، والأفواه تعجل له آيات الرضا والحمد لله عليه ببسمات، إلا الحارث فإنه غضب أن يكون الحال في هذا البيت بحيث يدخل ضابط من ضباط القصر على النساء بلا استئذان، وتنهض إحداهن للقائه بتحية شوق، وهو لا يدري من هو، وكان على قوزمان أن يرد على كلام الحارث، فلما رأى ورقة داخلًا قال للحارث: ليس في الأمر أحاجي، ولكنك لا تريد أن تفهم القول الذي ليس فيه خفاء. سل إذن هذا الضابط فلعله يستطيع أن يعطي لك جوابًا. فاضطر الحارث أن ينظر إلى القادم فإذا هو يرى فتًى أروع يتقدم نحوه بخطى كريمة، وإلى جانبه سيفه العربي الملتوي الذي كان الحارث يعلم أن زيد بن حارثة أهداه إياه وقال: هذا من سيوف رسول الله. فلما تبيَّنه نهض هو أيضًا للقائه وهو يصيح: ولدي ورقة! وسمعت لمياء هذا النداء فخارت قواها، وبكت حيث هي، ولكنها نهضت بقوة الحب لترى، وإذا الحارث يضمه بين ذراعيه ويقبله ثم يقبله وهو يقول له: أنت ورقة! ما أسعدني برؤيتك، وأخذ كل منهما يذرف الدمع من سروره بهذا الاجتماع، وانحنى ورقة يقبل يده فلم يمنعه الحارث أن يقبلها؛ لأنه كان يشعر أنه ولده الذي يخصه بكل حب وكل رعاية، وجلس حيث كان آملًا أنه يجلس بجانبه، ولكن ورقة انتحى في مجلس أمامهم، وكان في نيته أن يفتح الحديث في أمر لمياء على الفور. فما إنه سأله الحارث عن حاله حتى انبرى له في الرد عليه يقول: يا سيدي وأستاذي وأبي. أنا على ما تعهد في ّ، وكما تركتني، ولدك وتلميذك وخادمك، فباركني. قال الحارث: ليبارك عليك الله ورسوله، قال: فاعف عني. قال: علام أعفو. ما أسأت إليّ في حياتك قط. قال: استمع لي يا أبي، إني ما جهلت منزلتي منك لا بيني وبينك خاصة، فهي منزلة البنوة، ولا بيني وبين الناس، فما أنا إلا ابن نجار من أهل هذه البلاد، وأنت من أنت في الدنيا وبلاد العرب.
ولكن سيّدتي هيلانة اطلعت على نجوى نفسي وأنا وحيد في الصحراء قبل أن أعرف من هي، وعلمت بفرط حبي للمياء، وفرط حبها لي قبل أن تعلم أنها هنا. فلما وجدتها هنا رأت أن الخير في زواجنا في هذه الغربة الدائمة فأبلغت الأمير قصتنا على غير رجاء مني، والتمست منه أن يسقط كل حقك عليّ وعلى ابنتك وامرأتك ويعمل على الجمع بيننا. فدعانا الأمير إليه، وطلب إليّ أن أبدي سبب رفضي أن يعقد لنا، فأبديت له أنك لا تملك بين قومك أن يُقال زوّج الحارث بن كلدة الثقفي ابنته من ابن سبيَّة ونجار، وأنك إن رضيت بهذا الزواج كنت مضحيًا بكرامتك في قومك من أجلي، وأنا لا أرضى أن تضحي لي بشيء فأنعَم أنا وتشقى أنت، ولكن مولاي الأمير قال: إني قديس أناني؛ لأني رعيت كرامتي لديك وحقك عليّ في غيبتك ورضيت أن أضحي بلمياء وحب لمياء، وألزمني أن أقبل العقد، بل عقده يقينا برضاك، وكان ذلك في حضرة سادتي هؤلاء، وأرسل إليك في مكة بخطه كتابًا مع رسول خاص يسترضيك ويطلب بركتك، ولكنك كنت هنا قبل سفر الرسول ولا نعلم. على أن الله أنقذني من حيرتي فقد جاء سفري إلى القسطنطينية على أثر العقد، وجاءت عودتي للقاء لمياء بعد لقائك، وها أنا ذا وربي طوع أمرك، فما إن تقلها كلمة حتى أقولها كلمة، وكأن لم يكن شيء. إن مولاي يرحل بكم الليلة تفاديًا من وقوعكم في الأسر، ولن يطول شقائي من بعدكم؛ سأبقى في الإسكندرية أدافع عن بلد أبي وأهلي. بلد آواني، ولقيت فيه نفحة من نفحات السعادة بقرب لمياء مني. حتى إذا حمَّ القضاء قتلت نفسي بسيف رسول الله هذا إذا أيقنت بالهلاك داعيًًا لكم بطول الحياة وللمياء بالسعادة في جوار سواي.
فلما سمع الجمع هذا الكلام بكوا، وسُمعت لمياء تنشج في بكائها في الغرفة المجاورة، وإذا الحارث ينهض من مجلسه ويرفع يديه في غيبوبة من تأثره، ويتناول ورقة متأثرًا من كلامه، ويصيح: إليّ يا ولدي، إليّ يا نعمة الله. بُعدًا لبني عبد الدار وثقيف، بُعدًا للأكاذيب والأراجيف! لترابُ نعليك أشرف من هاماتهم جميعًا. تعالي يا لمياء، خذي زوجك وعيشي معه في بركة مني وسلام من الله، واذكراني دائمًا بالدعوات، فإن نفسيكما أطهر النفوس. فأتت بها خالتها بين يديه فتناولها وقبَّلها وقبَّل ورقة بين بكاء الحاضرين من فرط السرور، وجمعهما بين يديه يقول: خذ زوجتك، وإذا بالأمير قادم فلما رأى هذا المشهد أدرك ما جرى فقال على عادته من السماحة: حسبت أن الأمر يحتاج إلى مقالي ودفاعي عما فعلت، قال الحارث وهو يتقدم لتحيته: لقد كان الحق الذي رأيته وفعلته أبلغَ مقالٍ يا مولاي. تقبل شكري ودعائي لك بطول البقاء. ثم تقدم إلى الأمير وانحنى وقبل يده، فبارك له الأمير بزواج ابنته، وقال: أنت إذن معنا. قال: نعم، قال: فانصرفوا من فوركم إلى السفائن. ستجدون هناك يوحنا الرحوم وأورست. فقال الحارث: إن معي يا مولاي رجلين: أحدهما خادمي زياد، والآخر صديق لي من اليهود ولكنه بغير عقيدة. قال مرحى! من هذا؟ فالتفت الحارث إلى ورقة يقول: من تظن يا ورقة؟ قال: نعيم الصيدلاني وربي. لقد كان مشوقًا إلى الإسكندرية. قال الحارث: إنه يا مولاي صيدلاني من يهود صنعاء مغرم بالأسفار، وله في الحياة فلسفة خاصة أسلم من كل فلسفة، ولشد ما كانت فرحتي وعجبي إذ وجدته في قافلة رومية كانت خارجة من الفيوم تلتمس الشاطئ مجانبة معسكر الفرس. قال نيقتاس: ليكن هذا الفيلسوف النادر المثال معي أنا؛ لأني أحب أهل الآراء الخاصة متى كانوا راشدين، وليجيء خادمك معك. إنا سننزل رودس. فمن شاء العودة إلى بلاده فهي قريبة من الشاطئ. مرحبًا بالأضياف. قال الحارث: شكرًا للأمير وحمدًا لله عليه. فالتفت الأمير إلى لمياء وتناول يدها وقال: هلم يا لمياء معي أنا. ستكونين في صوني حتى نبلغ السفائن، حين نكون جميعًا في صون زوجك ورقة. قال ورقة: كلنا فداء للأمير، واستمر الأمير يحادث لمياء وهي تسير بجانبه يقول لها: وسيكون زفافك إليه في السفينة، وكذلك خالتك هيلانة إلى أورست. ثم اتجه إليها يقول: إنه الآن هناك ينتظرك يا هيلانة وبه من نار الشوق إليك ما لا يبرد أواره ماء البحر كله، وضحك وضحك الجمع، وساروا وراء الأمير نحو القصر الكبير من الطريق الذي جاء منه يتقدمهم ورقة، ويتعقبهم رؤبة في ملبسه العربي الجميل، وسيفه الملتوي القصير.
فما فتح الباب الذي يؤدي إلى قصر الأمير حتى توارت على الآذان في سكون الليل وظلمته الحالكة أصوات عويل وصياح وجلبة بعيدة، وهتافات بالفارسية وأخرى بالعربية. فأدرك الجمع أن الفرس قد فتحوا أحد الأبواب ودخلوا. أما كيف دخلوا فهذا ما لم يكن أحد من أهل القصر يعرفه؛ لأنهم ما كانوا يظنون أن في إمكان أحد اقتحام الأسوار التي استعصت على كل قائد قبل السلار إلا أن يكون الأمر بخيانة من أهلها، ولذلك التفت المقوقس إلى الجمع وقال: خيانة وحق آلهة روما وأوليمبيا معًا! لا يفتح في الإسكندرية باب من خارجها، ولو اجتمعت عليه جيوش الفرس والروم معًا! أسرعوا إلى مراكب البحر، وانجوا بالنساء أولًا.
والواقع كذلك، فقد تمكن بطرس البحريني في شرذمة من جنود الفرس الذين ألبسهم ثياب الصيادين وأركبهم سفن السمك وبكلمة «الأمانة» التي حفظهم إياها أن يدخلوا من باب البحر على فم خليج كليوباترا، ويبلغوا جسر شارع كانوب، ويصعدوا إلى البر، ويسيروا تحت ستار الليل في السحر يحملون تحت أثوابهم سيوفًا أعدت لهذه الليلة الرهيبة إلى باب القمر. هناك وجدوا الحراس نيامًا على عادتهم إلا من أعدوه للسهر عليهم، فقتلوه قبل أن يتيقظ سائر إخوانه، وينهضوا إلى سلاحهم. ثم أعملوا السيوف فيهم على الفور، وفتحوا الباب للألوف التي كانت واقفة في الخارج تنتظر فتحه. فدخلت وتدفقت في المدينة وهي بعدُ نائمة، واعتلت الأسوار من الداخل والخارج، وجرت بينا وبين الجنود على الأسوار ملاحم كانت تتساقط فيها الجنود على الجدران على جانبي السور، وانصرف سائر الجند إلى المدينة يضربون هنا وهناك، ويقتلون كل من يلقونه رجالًا ونساءً وأطفالًا، وينهبون ويسلبون، ويفضحون العرض ويبغون. حتى إذا انتبهت جيوش الحامية التي على الأسوار الشرقية خلَّتها، وجاءت لتلقى الفرس في الطرقات مستيئسة مستمية في الدفاع عن القصر والكنيسة.
كانت موقعة دامية فاصلة دالت على أثرها دولة الروم في مصر، كما دالت من الشام وأرمينية. دالت بسقوط الإسكندرية عاصمة مصر وعروس البحر الأبيض المتوسط كما سقط من قبلها سائر القطر من شماليه إلى جنوبيه، وقضي في ذمتها بقية الجيش الرومي وقواده إلا من استطاع النجاة بركوب البحر فيما كانوا أعدوه لأولادهم ومتاعهم من السفائن ضنًّا بهم وبه، أو يقعوا في أيدي جنود الفرس، أو في أيدي الغوغاء من اليعاقبة واليهود إذا دفعتهم أيدي القساوسة والأحبار للثورة والشغب.
فما كاد النساء يبلغن الشاطئ حتى رئي جماعة من جنود الفرس يجرون وراء الجمع، وحراس القصر يتساقطون تحت سيوفهم؛ إذ فاجأهم جنودب الفرس، وهم مشغولون بتعجبهم؛ لما يرون من نهوض الأمير مبكرًا هو وحارسه والبطريق الأعظم يوحنا الرحوم، وأتباع له من القساوسة ونساء ورجال لم يشهدوهم من قبل.
كان الفرس ممن دخلوا مع بطرس في مراكب الصيادين. جعلهم السلار شاهين تحت إمرته، وأمرهم أن يكونوا طوع أمره فيما يرى، ولذلك لم يذهب بهم إلى باب القمر مع سائر إخوانهم، بل سار بهم إلى بيت قوزمان؛ ليستعين بهم على سبي لمياء، وهناك اقتحموا باب الحديقة، وقتلوا الحارس؛ ليأمنوا استغاثته، وصعدوا الدرج الذي شهد منه النساء إذلال ورقة لبطرس، واقتحم باب الدار أيضًا، وصعد يبحث عن أهلها وهو متنكر ملثم الوجه. فلما لم يجد بالدار أحدًا، ووجد أثر التحميل والرحيل سقط في يده، وأدرك أن الفريسة فرت من بين أصابعه، ولكنه على عادته لم ييأس فنزل بالجند مسرعًا وهو في أشد الأسف؛ لقتله الحارس المسكين، إذ كان يستطيع أن يدله أين ذهبوا؛ ليقتفي آثارهم، وفي نيته أن يبحث عنهم في كل مظنة، ولذلك لم ينقطع جهده عند ذلك الحد.
ذهب بهم إلى بيت أورست مارًّا من باب المكتبة الذي كان له منذ عهد غير بعيد، واقتحم بهم بيت الغائب، وإنما ذهب هناك؛ لأنه كان وهو متنكر بحرفة الصيادين لا ينقطع عن بيت خليلته بعد أن نقلها إلى مكان آخر، وعرف ممن يتصلون به في صورته الجديدة أن هيلانة تزوجت من أورست، ولمياء من ورقة، ولكنهما سافرا إلى القسطنطينية في مهمة للأمير. فقدر بطرس أن الرجلين عادا، أو أن هيلانة انتقلت إلى بيتها الجديد، وأن أهلها ذهبوا إليها في زيارة، وقدر غير ذلك. فسار إلى بيت أورست؛ ليرى أي وجوه حدسه أصدق.
لم يجد بغيته في بيت أورست كذلك، ورأى أثر تحميل لرحيل فكاد يصعق لخيبته، ولكنه كان يقول: إذا مات الأمل جد أمل. بقي لي أن أذهب إلى القصر فقد يكونون في البيت الذي كان لهيلانة، وهو في معزلٍ عن الجند والحراس. لم لا يكون كذلك! إن كان الرجلان قد عادا وليس لهما أثر في بيت أورست ولا قوزمان فلعلهما في القصر. لعلّ المقوقس قد أذن لحارسه أن يدخل بلمياء في بيت هيلانة. لعلّ … لعلّ … هلم بنا يا رجال إلى القصر الصغير.
ذهبو إلى باب لوكاس مسرعين، وكان لوكاس حارسه قد سمع صوت صياح وعويل ففتح الباب، وخرج إلى العراء يتسمع ليطمئن، وإذا هو يجد أعوان بطرس قادمين نحوه فدلف نحو الباب؛ ليقفله، ولكنه ما كاد يلمس المزلاج؛ ليوثقه حتى دفعه بطرس ومن معه فسقط تحت أقدامهم بلا حراك.
صعدوا فلم يجدوا أحدًا في الدار، ولكنهم رأوا باب الرواق مفتوحًا فأموه، ووقفوا ينظرون إلى ساحة القصر فيما كان قد ظهر من نور الفجر، وهناك رأى بطرس أشباح قوزمان والحارث يسيران مع الأمير ولمياء وأمها وخالتها، ورأى ورقة يتقدمهم ورؤبة في أثرهم، ولكنه لم يعرف من هو؟ فهبطوا مسرعين نحوهم، ولكن الأمير كان في ذلك الوقت قد أدرك ما جرى عند باب القمر فأمر قوزمان والحارث أن يعجلا بإدراك المراكب بالنساء فبلغوها، وسار هو يحادث ورقة أنه يحسن — وقد حم القضاء — أن ينظر فيمن يبلغ القهرمانة الأمر عسى أن تتمكن من النزول هي ومن ترى فيما تجد في الميناء من السفائن الإمبراطورية. لم يكن ورقة يستطيع أن يفعل الآن شيئًا فلم يجد غير رؤبة فأدناه، وأمره أن يذهب إلى القهرمانة — وكان قد جاءت إلى بيت هيلانة؛ لتحييها وتودعها — ويقول لها كلمتين بالرومية معناهما: «انجي بنفسك» فحفظهما رؤبة، وعاد ليصعد إلى بيت هيلانة، ولكنه ما كاد ينعطف؛ ليصعد السلم إلى البيت حتى رأى جنود الفرس في قتال مع حراس الرواق فعاد أدراجه يخبر ورقة بما وجد، والفرس في أثره، وقد أصبحوا الآن خمسة؛ إذ سقط نصفهم في العراك مع الحراس، وإن كانوا قد تركوا الحراس بين قتيل وجريح، وكان النسوة قد نزلن المراكب، واشتغل قوزمان والحارث بأمرهن، فلم يبق إلا الأمير وورقة؛ ليقاتلاهم قتال المهارة والشجاعة.
كان نيقتاس علمًا من أعلام المسايفة المشهورين بمقاتلة الجموع، ولذلك لم يهتم برجحان عددهم، والتفت إلى ورقة ينشطه، فقال له بروح المرح المستهين بالمخاطر: مرحى لورقة وأمير ورقة! هذا يومنا! أرني كيف تدافع عن لمياء! قال ورقة: وعن أميري. ثم هجم على منازله، وهو يصيح على عادته: يا رسول الله! والتحموا؛ فإذا الأمير يطيح برأسًا وراء رأس كأنما هو يبري قلمًا، حين كان ورقة يتأمل عينًا براقة في ظلام السحر كانت تصب عليه نيران ألف من صغار الحباحب. فأدرك على الفور أنه غريمه بطرس البحريني، وزاد يقينه بذلك حينما سمعه يقول: اقتلوا لي هذا. إنه غريمي، وما هي إلا لحظة حتى كان السيد البحريني مقطوع اليد مشطور الفك، وملقى على الأرض جاحظ العين واللسان معًا. ضربه ورقة كما ضرب العملاق، وهي الضربة التي تعلمها من باقوم: ضربة من أدنى إلى أعلى تطيح باليد فإن قطعها السيف استقر صدره تحت الفك؛ فإما هشمه أو انحدر إلى الرقبة فقطعها، وهذا ما لقيه السيد بطرس، وكان الأمير قد لمح ورقة وهو في مواجهة خصمه، فلما رأى هذه الضربة النادرة المثال قال له في سماحته معجبًا: مرحى! ستعلمني هذه الضربة عندما نركب السفن! اضرب ضربة أخرى مثلها؛ لأرى ثانيًا كيف تكون! ولكنه لم ينتظر حتى يرى؛ بل سار إلى الميناء مطمئنًا إلى العاقبة.
لم يبق من الخمسة إلا اثنان حاولا الهرب من حيث أتيا، ولكنهما لم ينجوا؛ فقد سقط أحدهما بضربة صرعته قبل أن يدري من أين جاءته؟ ولا من الضارب لها؟ على أنها جاءته من رؤبة. زعم أن في الحراس أحياء يكفون للمعونة فانسل كالصلِّ إلى القهرمانة يخبرها، ولما عاد تلقى الرجل فقتله حين كان ورقة يجري وراء الخامس في هروبه، ولكن الرجل ألقى سلاحه، والتفت صائحًا: الأمان يا ورقة! ثم جثا على الأرض، ورفع يديه ضارعًا.
لم يعرفه ورقة أول الأمر، ولكنه تأمله ورأى أنه مسعد اليثربي الذي لقيه في معان. فقال ورقة: مسعد! قال: معذرة يا ورقة وغفرانًا، جئت لك برسالة من سيدي أسعد بن زرارة، ولكن الفرس أخذوها مني، وضموني بالرغم مني إلى جيوشهم، وحملني إخواني من أهل مدين وتبوك على ذلك — وكانوا في جيش الفرس — وكان نصيبي أن أقاتلك وأنا لا أدري. اعف عني. قال: انهض عفا الله عنك، ولكن ماذا كان في الرسالة؟ قال: إن سيدي ابن زرارة لم ينس فضلك عليه، وإذ إن الخزرج والأوس اتحدوا واتفقوا فيما بينهم على الإسلام، ودعوة رسول الله إلى الهجرة إليهم؛ ليعزوه وينصروا دينه … فقد أرسلني لأستدعيك. قال: ارجع إلى بلادك بسلام مني إلى ابن زرارة وشكر، وخبِّره بما رأيت. قال: لا أستطيع العودة الآن. ليس لي راحلة. قال ابحث عن متجر التاجر أورست في حي رقودة، وخذ منه شملالتي فعد بها هدية مني إلى إياس بن معاذ، وخذ هذه الأمارة إلى رئيس المتجر وانصرف على عجل. ثم أعطاه الورقة التي كانت بينه وبين أورست، وقال له: إني راحل إلى القسطنطينية فأستودعك الله.
وكانت القهرمانة قد تمكنت من إعداد الحمول، وجاءت بالخصيان والجواري فساروا جميعًا إلى السفائن، ونزلوها حين كان الحارث وهرميون ولمياء في سفينة ذات شطرين؛ ليكون أحدهما لورقة وعروسه، وكانت هيلانة وأورست في أخرى بجوارهم، وكان الأمير والبطريق، والصيدلاني نعيم معهما، في سفينة إمبراطورية واقفين إذ ذاك يرقبون مقدم ورقة؛ ليرحلوا.
وكان البحارة قد علموا بما جرى، فلما رأوا ورقة صاحوا مع الجمع مرحى! مرحى! وخطا ورقة يتبعه رؤبة إلى سفينة الحارث فتلقاه أهله بالقبلات والتهنئة على سلامته، والإعجاب بشجاعته التي أذاعها الأمير وهو منصرف إلى سفينته، وإذا بالأمير عن ظهر سفينته يناديه. فتركهم ورقة وذهب يحادثه من فوق حيزومها. فقال له الأمير: ماذا خبرتني عمَّا أُوحي إلى نبيك الكريم؟ قال: عزاء يا مولاي وتأميل، لا بد أن يتحقق. قال: قله للبطريق لعله يتعزى. فقال ورقة: إن الله يقول: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِين.
أمِّلُوا الخير يا سادة بيزنطة، وارقبوا يوم النصر على بني ساسان، وصلوا لله الذي يجزي كل نفس بما تعمل. فرفع البطريق يديه إلى السماء داعيًا ومصليًا، ورفعت السفائن قلوعها مثله مؤمنة، وهي خارجة من ميناء لوكياس؛ لكي تعود إليها بعد تسع سنين — ٦٢٧ ميلادية.