حراس الباب
اخترقت الناقة براكبيها بلدة نجران حتى انقطعت دورها، ولم يبق من مبانيها إلا الكنيسة قائمة في ذراها. فمضى إليها مصعدًا، وكان القمر في تلك الساعة قد بزغ، ولكنه كان قمرًا منقوصًا؛ لأنه كان في الثلث الأخير من الشهر، فلم تستفد منه إلا ناحية الشرق من نجران. أما ناحية الغرب فظلت في عتمتها حتى علا قبيل نهوض القافلة. على أن الكنيسة وقفت في ضوء القمر إذ ذاك وباتت تلقي ظلها الأدهم على ما جاورها، ولولا قنديل باخ ضياؤه كان معلقًا على بابها ما عرف ورقة أين هي؟ وإن كان قد سبق له أن قصدها ودخلها وقضى زمنًا بها حين نزل مع أستاذه الحارث ابن كلدة الثقفي الطيب وولده النضر ضيوفًا على الأسقف يوم جاء الأستاذ بامرأته الرومية هرميون وابنته لمياء مهاجرًا إلى نجران. على أنه استعد للقاء الأسقف، فأخرج رسالة إسحاق من رحله، وأوصى رؤبة بانتظاره حيث ينيخ حتى يعود إليه.
بلغ ساحة الكنيسة فأناخ، وذهب من فوره إلى الباب، وكان بابًا عريضًا لا يفتح إلا في المواسم الكبيرة. أما في الأيام العادية فكان دخول الكنيسة من خوخة فيه. على أن هذه كانت مقفلة أيضًا، ولكنه كان يعلم أن للأسقف في جانب من فناء الكنيسة من داخلها منزلًا ذا طبقتين، سفلاهما تشتمل فيما تشتمل على حجر لبعض الشمامسة؛ ليكونوا في حراسته وخدمته. فإذا هو قرع فلا شك أن يسمعه أحد هؤلاء الحراس ويفتح له، ولذلك قرع الخوخة في انتظار من يفتح له. ولكن لم يجبه مجيب وعاد إلى القرع مرةً بعد أخرى فلم ينتبه له أحد من أهلها. فحار ورقة ماذا يفعل، وعاد إلى مبرك الناقة يستأنس برأي رؤبة وإن لم يؤمل أن يهديه إلى صواب. على أنه ما خطا نحوه بضع خطوات حتى خيل إليه أنه يسمع بعضهم من داخل الكنيسة ينادي بصوتٍ ضعيف، يا جريس، يا حنا. فعاد أدراجه في انتظار أن يجيبه جريس هذا أو حنا، أو المنادي نفسه ولكن لم يأته أحد. فأخذ هو ينادي عليهما من ناحيته ويطرق الباب علهما يسمعان، ومع ذلك لم يجبه أحد فسكت وسكت الصوت الذي كان ينادي من الداخل، وعاد ورقة إلى ما كان فيه من الضيق، ولكنه خشي أن يذهب أثر ذلك النداء سدى بطول سكوته، فأخذ ينادي الأسقف نفسه: يا مولانا الأسقف! رسالة إليك! رسالة! ولكنه لم يوقظ بندائه هذا اهتمامًا من أحد. إلا أنه سمع صوت يد تعالج مزلاج باب الخوخة وتحاول جره من عضادته فأفرخ، ولكن الباب لم يفتح، فقد كان المزلاج مستعصيًا على صاحبه حتى لقد يئس هذا من مطاوعته له فتركه، وأخذ يسأل بصوتٍ مبهم: من الطارق؟ ولكنه كان سؤالًا لا يراد به جواب، سؤال مخمور تشتهي نفسه أن يترك لينام، ولذلك لم يجبه ورقة، وإنما أمره بشدة أن يفتح الباب، وشتمه، فتنبه المخمور وجمع قواه وجرَّ المزلاج فانفتح الباب وسقط الفاتح وراءه.
تنفس ورقة الصعداء، وأخذ يتأمل الفاتح، فإذا هو رجل بادن شحم في الأربعين من العمر، عاري الرأس، مدلى الشعر طويله، مثقل الجفنين مقفلهما، مفتوح الفم، مدلى الشفتين غليظهما، حافي القدمين قذرهما قد ارتدى جلبابًا أسود مشقوق القبة إلى مدى بعيد لاح من ورائه صدرًا كأنه نام ولم يخلعه، وكانت تفوح ريح الخمر من كل نواحيه، وإذ اعتاد من يفتح الباب ولاسيما في الليل أن يسأل: من الطارق؟ فقد سأل هو كذلك: من الطارق؟ وما كاد يبين، وإذ لم يكن يهمه الجواب استند إلى عضادة الباب، وانحنى على ذراعه وغاب عن الوعي نائمًا، ولكن ورقة لم يتركه يهنأ بهذه اللحظة فناداه ليوقظه: هيا جريس! أفق. جريس! أفق!! لعن الله الخمر وشاربها. يا جريس! قل لمولاك الأسقف إني آتٍ إليه برسالة من أمير صنعاء. فلم يهتم الرجل لهذا الكلام. وإن كان قد فتح فاه للجواب، ولكنه ما تهيأ له إلا ليصحح اسمه فقد استطاع حسه في أول تنبّهه أن يدرك أنه سماه جريس، وليس هذا اسمه. فاشتغلت نفسه بذلك وهو وسنان فرد يقول: أنا حنا. وأشار بيده إلى حيث ظن أنه ساحة القافلة وقال: جريس … ثم عاد إلى سباته.
وكان في عرصة الكنيسة شخص آخر يسمع هذا ويرى. امرأة مسنة من أهل بيت الأسقف كانت قد استيقظت على القرع، وأدركت أن الحراس لم ينتبهوا فنزلت لتوقظهم، وإذ رأت حنا مخمورًا لم يسعها إلا أن تتقدم إلى الباب لتنوب عنه في لقاء الطارق، ورآها ورقة قادمة عليه فعرف أنها بربارة قهرمانة بيت الأسقف، فلم يمهلها حتى تلقَاه، وقال: معذرةً يا خالة وعفوًا. إني أنا غلام الحارث بن كلدة إن كنتِ تذكرين. كيف حالك وحال مولانا الأسقف. قالت: مرحبًا بورقة وأهلًا. ثم قال: ما كان لي أن أزعجكم بطروقي في هذه الساعة من الليل لولا أني رسولٌ من صنعاء، جئت لمولانا الأسقف برسالة من أحد الأمراء، ولا بد أن يطلع عليها الآن، وإلا ذهب ما لقيته من المتاعب من أجله سدى، وهاهي ذي. أرجو أن تقرئي مولاي الأسقف تحيتي وسلامي، وتسلميها إليه على الفور. ثم قدّم الرسالة إليها. فتناولتها منه وقالت: حبًّا وكرامة، ولكنها لم تجد من حقها أن تدعوه للدخول حتى تعلن سيدها بأمره. فاكتفت بأن كررت قولها حبًّا وكرامة. انتظر حتى ألقى سيدي وآتيك بجواب. ثم التفتت إلى الحارس فوجدته قد قعد ونام فتناولت يده لتنهضه، وساعدها ورقة على إنهاضه، وأخذت تنبهه وتقول له: تعال يا حنا، تعال. عد إلى مرقدك، ونم ملء جفنك. ما أصلح مثلك للحراسة والخفارة! ثم أخذت تسانده وسارت وسار معها في ثقل النائم مجانبًا، مندفعًا وناكصًا حتى إذا بلغت به باب غرفته أمرته أن يدخل وينام. فتنبه لهذا ودخل، وارتمى، وسمع ورقة لسقطته عجيجًا فضحك في نفسه وأسف ألا يتعظ الناس بمثل ذلك فيتجنبوا الخمر.
وفيما هو ينتظر عودة القهرمانة سمع من ورائه وقع أقدام تتخبط في الطريق على غير هدى، وسمع معها وعيدًا خائرًا. فالتفت فإذا هو يرى رجلًا يتقدَّم نحو الباب ويسير متجانفًا. فخطر على باله أنه جريس الذي كانت القهرمانة تناديه هو وحنا، وكان الرجل جريسًا حقًّا، ولكنه لم يكن كصاحبه متفضلًا عاري الرأس حافيًا ولا مخمورًا مثله وإن كان على ملابسه أثر من السقطات واللطمات ورقع من الروث والأوحال. فلقد استطاع حسه أن يدرك أن بالباب رجلًا، وأن هذا الرجل يحمل سيفًا وأنه متجه إليه، وزاد تنبهه حين رأى ورقة أن يلهو به قليلًا وينبهه، ويقول له: مرحبًا بجريس الهمام! وأن يتراجع جريس الهمام، ثم يفزع، وينظر إلى وجهه متأملًا ثم يرتد جاريًا صوب الزريبة خوفًا منه وهو يقول: وحق القديسين جميعًا ما أنا الذي سرق السقاء بل هو حنا والراقصة، ولذلك سكر وحمله الناس على حماري ليعود إلى الكنيسة. قال ورقة وقد استطاب أن يستمر في عبثه معه: تعال لا توجل، هنيئًا لك ولهم ما شربوا، ولكن خبرني لماذا لا أجد أثرًا للحمار معك. ألم يعودوا به إليك؟ قال وهو متنفخ متغيظ: اللعين ميكال! قال ما خطبه؟ قال: لم يرد أن يحرم نفسه شهود سامر القافلة، فما كاد أصحاب حنا يلقونه في مرقده حتى أفاق وركب الحمار، وجاء إلينا؛ ليأخذ نصيبه من هذه الليلة النادرة. قال ورقة: أراه أحسن صنعًا، ولكني أراك عدت ماشيًا. لماذا لم تعد على حمارك؟ بعد ما عاد به إليك ميكال؟
قال: لأن ميكال اللعين غافلني وترك السامر قبل أن أتركه؛ ليظفر بركوب الحمار دوني ويعود. قال ورقة: كان حقًّا عليك أن تجري وراءه وتأخذ حمارك منه بالقوة. قال: لقد فعلت ولكنه أبى. واجتمع الناس علينا فقال لهم: إنه أخذ الحمار من باب الكنيسة ولا يدري حمار من هو، فإذا تركه لي كان مفرطًا في حق الناس، وأصر ألا يفارقه إلا هناك. فحكموا له ألا يسلم الحمار إلا عند باب الكنيسة عينًا.
قال ورقة: وأنت رأيت العدل فيما قال وما حكموا! قال حنا: نعم. إنها لحجة بالغة وإن كان الحمار حماري. قال ورقة: لأن الحمير تتشابه. قال: صدقت، هذا ما احتج به ميكال، وقد أقرّه الجمع على ذلك. فضحك ورقة ملء شدقيه، وقال: يعجبني من الرجل أن ينزل على الحق وإجماع الناس ولاسيما إذا كان أتانًا مثلك.
كان هذا الحديث يجري ورؤبة يستمع، فما أن بلغه قول ورقة في جريس أنه «أتان» حتى ضحك ضحكة عالية رنت في ساحة الكنيسة فضحك ورقة وضحك جريس كذلك، ورأى ذلك وقتًا مناسبًا للدخول، ولكنه تعجل فعثرت قدمه بعتبة الباب وهي عالية، وكاد يسقط على ما وراءها من الصخر لولا أن القهرمانة كانت عائدة إلى ورقة بجواب الأسقف، فدفعته بذراعيها وحمته أن يقع، ولكنه ما كاد يتبين أنها بربارة قهرمانة الأسقف وصاحبة القول الأعلى في البيت، حتى أخذ يتضرع إليها أن تستر أمره فلا تبلغه إلى مولاها. فوعدته خيرًا وانصرفت للحديث مع ورقة، وانصرف هو إلى مرقده.
والواقع أن الحراس الثلاثة لم يطيقوا أن يحرموا أنفسهم الاشتراك في مسرات القافلة وطيباتها من مأكولٍ ومشروب وملموس، وكان حنا وجريس أشد رغبةً في ذلك من ثالثهم ميكال، أو أجرأ منه في مخالفة الواجب فاشتريا منه تبكيرهما في الذهاب بدرهمين على أن يلحق بهما إذا شاء بعد أن ينام الأسقف، وعلى أن يترك الباب مفتوحًا، وقد أغراهما رقص القيان وغناء الغلمان بالإغراق في الشراب فكان ما كان، ولكن ميكال كان أشد حرصًا من صاحبيه وأشد مكرًا، فقد ترك ساحة الركب ساعة أن رأى جريسًا يتهيأ للعودة؛ ليسبقه إلى ركوب الحمار ويعود مرتاحًا كما جاء مرتاحًا، ولكنه لما بلغ الكنيسة وجد الخوخة مقفلة، إذ كان حنا قد وضع المزلاج وراءها على العادة؛ لأنه لم يكن في تمام وعيه، فلم يتنبه إلى أن له زميلًا بل زميلين لا بد لهما أن يعودا إلى مرقدهما مثله، ولذلك اضطر ميكال أن يستضيف الحمار فعاد إلى الإسطبل، ورقد في مذوده ملء جفنيه!
أجابت القهرمانة ورقة بأن مولاها الأسقف اهتم للرسالة، وعزم أن يوقف القافلة إجابةً لرجاء الأمير، ولكنه لما كان مشغولًا بالصلاة فسيدعوه إليه إثر انتهائها فلم يبق إلا أن يدخل حموله ويريح مطيته وينتظره، ولكنها لم تجد بدًّا من أن تتولى هي العناية بشأن ورقة ومطيته، بعدما رأت من حال الحراس، واستعانت على ذلك بورقة نفسه معتذرةً إليه بما رأى وما سمع. فرجت منه أن ينقل حموله إلى فناء الكنيسة؛ لتكون في صونها، وأن يسير براحلته إلى حظيرة الدواب.
فعل ورقة كما رأت القهرمانة شاكرًا فضل الأسقف وبرها، وفيما هو يسألها عن مكان يرقد فيه تابعه رؤبة، ويشير إلى مصطبةٍ هناك بجوار الباب ويستحسنها مرقدًا للغلام سمع صوتًا يناديه ويحييه من كوة في علّية: عم صباحًا يا ورقة. اصعد إليّ، ولقد كان الصوت ضعيفًا فيه شيء من أنين المرضى فلم يتبينه ورقة، ولم يعلم أنه الأسقف يناديه ويحييه، لولا أن نبهته القهرمانة إلى ذلك فجهر يرد التحية معاجلًا؛ ليستدرك لحظات تأخره عن الرد على الأسقف الكبير، وتقدمته القهرمانة إلى السلم لتصعد به، ولكنها سمعت الأسقف يقول لها: أرسلي الشمامسة إليّ. قالت سمعًا يا سيدي. ثم التفتت إلى ورقة وأشارت إلى غرفة الأسقف، وقالت: اصعد أنت وحدك. ها هي ذي غرفته. لعلك لم تنسها. قال: أهي على عهدها منذ زرته فيها أنا والحارث وأهله؟ قالت: نعم، وهو على عهده، ثم استأذنت منه في أن ترسل الغلام رؤبة؛ ليوقظ ميكال من مرقده في مذود الحمار. ولكن رؤبة لم يمهلها حتى يطلبا إليه ذلك، فقد كان مرهف الأذن بما عودته صحراء القرضاب، وكان عند باب الكنيسة ساعة نطقت باسمه واسم ميكال. فقال: سأنهضه على الفور وآتيكما به من غير عنان! ثم اختفى ذاهبًا إليه.
صعد ورقة للقاء الأسقف، وعادت القهرمانة لتوقظ السكارى، وهي لا تدري كيف توقظ أمواتًا. ولكنها استطاعت على كل حال أن تأتي بجريس وحنا ليقفا تحت الكوة حين كان رؤبة قد أتى بميكال من الإسطبل مبلل الوجه واللحية من أثر ما صبَّ على رأسه من الماء لينعشه، ولكنهم كانوا متعبين فارتكن حنا إلى جدار البيت تحت الكوة وارتكن جريس عليه. أما ميكال فوقف فاتحًا رجليه بغير سبب. فلما رأتهم بربارة على هذه الصورة لم تتمالك نفسها من الضحك، وعلا صوتها فتنبه الأسقف لها، وقال: ما خطبك يا بربارة؟ قالت: حضر الشمامسة يا مولاي. فقال لهم في صوته الضعيف: اذهبوا إلى سلمان فادعوه إليّ على الفور، وأوصوا أبناءنا من حداة الكنيسة وجمالتها أن يؤجلوا الرحيل بالقافلة إلى الغد. قال الأسقف ما قال ولكن الشمامسة لم يسمعوا منه شيئًا كثيرًا وإن كانوا قد أرهفوا سمعهم وحولوا آذانهم نحو الكوة، وإذ كانوا قد فهموا جملة الغرض من إيقاظهم ولم يستطيعوا أن يستعيدوه أجابوا الأسقف بالسمع والطاعة، ومالوا للخروج إلى القافلة وهم كارهون. وكان حنا أشدهم امتعاضًا؛ لأنه كان أشدهم سكرًا، فقال لرفيقيه، وقد تحولوا نحو الباب بجوار مرقد الغلام: لماذا نذهب كلنا في أمرٍ كهذا؟ دعوني هنا للحراسة واذهبا أنتما. قال ميكال: بل أبقى أنا وتذهب أنت؛ لأني يقظ أما أنت فسكران والمشي نافعٌ لك والهواء ينعشك، وإذ أخذ جريس يقترح أن يكون هو الذي يبقى دونهما ولا يبدي سببًا لذلك، تدخل رؤبة بينهم فقال: أما ورب يعوق لئن لم تنتهوا وتدعوا هذا الكلام الفارغ لأعلمنَّ مولاكم بسكركم ورقصكم وسرقتكم سقاء سيدي، وحديث الجارية التي كانت مع أحدكم، و … فلم يمهلوه حتى يتم وعيده، وخرجوا يقفزون عن عتبة الباب قفز التيوس في سبيلهم إلى القافلة؛ ليبلغوا سلمان ما بقي في آذانهم من كلام القهرمانة.