الفصل التاسع
الأمين
ظل الغلام في بني هاشم ونوفل مرعي الجانب محبوبًا؛ لحبهم لأمه، ولأنه كان على شيء
ظاهر من
الذكاء، وعفة النفس. كما أنه كان حلو الحديث سريعًا إلى إجابة سادته إلى ما يطلبونه إليه
من
المهام. بيد أن ابن نوفل كان أشدهم تعلقًا به وأرعاهم له إذ لم يكن له عقب، حتى لقد شغل
نفسه بتعليمه القراءة والكتابة، وكان العارفون بها في مكة قليلين،
١ ولذلك صار لابن العفيفة مقام في مكة على صغر سنه، وصار يقرأ للناس ويكتب.
وأخال أن منهم سيدته أم المؤمنين، وإن كانت ممن تعلموا القراءة والكتابة.
كان عمر الغلام في ذلك الوقت عشر سنين، وكان قد حدث سيل في مكة انحدر إليها من شعابها
ووديانها فصدّع بناء الكعبة لقدمه، وأذاب في تياره كثيرًا من بيوتها،
٢ وأغرق عديدًا من أهلها، وكاد يذهب بورقة وأهله لولا أنهم اعتصموا ببعض الجبال.
وإذ كان لا بد لقريش أن تعيد بناء هذا البيت المقدَّس، بيت أبيهم إبراهيم وأمهم هاجر
أم
إسماعيل، الذي يطوفون به، وينسل إليه جميع القبائل العربية من أصقاع جزيرتهم المترامية
الأطراف، والذي يجعل لهم من سدانته وحجابته وسقاية حجيجه ورفادة أهله شأنًا أي شأن؛ فقد
أجمعوا على بنائها في أحسن تقويم، وان يسقفونها حتى لا تبدو كما كانت في كل عهودها الماضية
عارية معرضةً للأعاصير، وإذ لم يكن يوجد من مكة بنّاء يحسن البناء بالحجر، ولا في أسواقها
ما يحتاج إليه من أدوات العمارة، اللهم إلا أحجارها المقدسة فكروا في إرسال وفد منهم
إلى
مصر؛ لشراء حاجتهم من الخشب، وليستقدموا معهم بناءً خبيرًا بعمارة بيوت الله، ولكن حاجتهم
إلى البنّاء الماهر وأدوات البناء الصالحة لم تطل فقد حدث أن دفعت الريح إلى شاطئ
جدة
٣ سفينة كبيرة كانت محملةً بالأخشاب والرخام
والحديد وسائرة في طريقها إلى الحبشة لبناء كنيسة هناك. اصطدمت السفينة بصخور المرفأ
صدمةً
شديدة أتلفتها حتى لم تعد تصلح للمسير، وكان لا بد من تفريغ شحنتها، وإلا تناولها البحر.
يومئذ تكاتف أهل جدة على إنقاذ شحنتها وحملها في قوارب صغيرة سالمة إلى البر، حتى يُعدّوا
سفينة أخرى أو سفنًا صالحة لتحملها إلى بلاد النجاشي.
ولكن القوم تسامعوا في مكة بخبرها، فجاء وفد أعيانها ليأخذوا حاجة البيت من أخشابها،
ويدفعوا ثمنه سواء رضي صاحبها بالبيع أو لم يرض. غير أنهم لم يضطروا إلى ذلك فقد أجاب
صاحب
السفينة طلبهم على الفور، وإذ عرف مقصدهم عاد معهم إلى مكة؛ ليرى ما هم بصدد بنائه.
كان الرجل روميًّا من أهل بيزنطة يدعى باقوم،
٤ وكان
رجلًا وديعًا طيب الخلق في الخمسين من عمره. بدأ حياته بنَّاء في القسطنطينية، فلما تولى
الإمبراطور موريقس
٥ ود أن يستغني عن مسترزقة الجند من الصقالبة والأرمن والعرب بجنود من أبناء
الروم أنفسهم، فكان باقوم أحد هؤلاء.
وبقي باقوم عشرين سنة في الجندية لم ير فيها خيرًا، ولم يتزوج، ولم يستقر بمكان إلا
يوم
أسعده القدر فكان من حرس أحد قصور الإمبراطور، ولكن هذه السعادة لم تطل، فقد قُتل
الإمبراطور بعد تعيينه في الحراسة بقليل، ودارت الدائرة على أقرب الجند إليه، وإذ كان
باقوم
أحد هؤلاء الأقربين في نظر الثوار فقد كان أوشك أن يذهب ضحية هذه الأوهام لولا أنه اختبأ،
وفرَّ قبل أن يكشفوا مكمنه.
فر إلى الإسكندرية، وهناك عاد إلى صنعته الأولى فكان بناءً ثم كان متعهد بناء، ومن
ثم
اتصل ببناة الكنائس والبيع ومنهم أنستاسيوس بطريق اليعاقبة الذي عهد إليه في بناء الكنيسة
التي كان ذاهبًا إلى الحبشة بالأدوات اللازمة لإقامتها.
وعاد الوفد به إلى مكة وأروه الكعبة التي يريدون هدمها بعد ما تصدعت، وبناءها من جديد.
وطلبوا إليه أن يدبرهم في أمرها، ويستقدم لهم بناء من مصر مع الخشب الذي سيرسل في طلبه
بدل
ما أخذوه منه، وعرضوا عليه أجرًا كريمًا لهذا البناء.
لم يكن باقوم قد أخبرهم من أمره إلا بأنه متعهد أعمال، فلما رأى العرض وجيهًا، وأن
مدة
انتظار مجيء سفينة إليه من مصر تكفي لبناء الكعبة أعلن أمره إليهم، واستعداده لبناء الكعبة
لهم.
على أن الكعبة لم تكن تتطلب من الرجل في بنائها خبرة ممتازة بالبناء، ولا فنًّا دقيقًا؛
لأنها لم تكن إلا بيتًا من غرفة واحدة أبعادها عشرة أمتار في عشرة تقريبًا، ولعل أصعب
ما
كان فيها هو تعريش كل تلك المساحة بسقف من الخشب، ولذلك استأذنهم في أن يقيم في باحتها
أعمدة ستة تحمل السقف. فلما وافقوا على بناء الأعمدة، وحدد يومًا للشروع في البناء أهدوا
ونحروا، ودعوا وصلوا، ورتبوا للخدمة فيها أبناء قريش الأكرمين؛ إذ هم أحق بهذا الشرف
من
سائر قبائل العرب، ولذلك كنت ترى بينهم من بني هاشم أصحاب السقاية: أبا طالب والعباس
وحمزة
ومحمدًا ﷺ وبني أعمامه، ومن بني أمية أصحاب الراية: أبا سفيان بن حرب وأولاده، ومن
بني نوفل أصحاب الرفادة: الحارث بن عامر وأهل بيته، ومن بني عبد الدار أصحاب السدانة
والحجابة ودار الندوة: عثمان بن طلحة وعشيرته، ومن بني أسد يزيد بن زمعة بن الأسود صاحب
رياسة الشورى، ومن بني تيم أصحاب الأشناق والديات والمغارم: أبا بكر الصديق — عليه الرضوان
— وعبد الله بن جدعان، ومن بني مخزوم أصحاب القبة والأعنة: الوليد بن ربيعة وابنه خالد
وعمرو بن هشام (أبا جهل) ومن بني عدي أصحاب السفارة: الخطاب وابنه عمر وسعيد بن زيد بن
نفيل، ومن جمح أصحاب الأزلام والقداح: صفوان بن أمية وإخوته، ومن بني سهم ولاة الأموال
المحجرة لآلهة قريش: الحارث بن قيس وعشيرته.
فلما بلغ البناء قامة الرجل وأرادوا وضع الحجر الأسود في الركن الشرقي من الكعبة
كما كان
اختلفت قريش فيمن يكون له هذا الشرف الأعظم
٦ برفعه ووضعه بمكانه لتعنو الجباه عنده لرب الكعبة، وادعى كل فريق أنه أحق بهذا
الشرف من سواه فاحتدم الجدل واللجاج، وتنافرت القلوب التي كانت مجتمعة على بيت الله،
وظل
الجدل خمس ليال بيّت كل قبيلة مناهضه وقرّبت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دمًا، ثم تعاقدوا
هم
وبنو عدي وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم، ثم اجتمعوا في المسجد الحرام للفصل فيما اختلفوا
فيه
بحد السيف، ولكن الله ألهمهم الصواب فإنهم ما كادوا يهمون بالشر حتى رُئي أسن قريش يومئذ
أبو أمية حذيفة بن المغيرة يعتلي كومة مما كان هناك من الأنقاض وينادي في القوم: «يا
معشر
قريش كلكم في السؤدد سواء، والغالب منكم في هذا اللجاج مغلوب. ثوبوا إلى أنفسكم، ودعوا
الفصل فيما اختلفتم فيه لأول قرشي يدخل علينا من باب الصفا؛ فإما رفعه هو بيديه، أو قضى
لنا
بمن يرفعه، ولا تعقيب لحكمه».
فلما سمعت قريش هذا الرأي قبله البعض حقنًا للدماء، وعقَّب سائر الجمع بالرضاء، وعلى
ذلك
اتجهوا بأنظارهم نحو باب الصفا ليروا أول قادم؛ فإذا نور ينبعث من مدخل الباب يتقدم صاحبه
كأنه نور القمر يسبق مطلعه، وإذا محمد بن عبد الله يشق فضاءه، ويطلع عليهم من ذلك الباب.
فلما شامته العين الشاخصة سرّت بمرآه، وصاحت ألوف الأفواه من فرحها بأنه هو القادم تقول:
الأمين! الأمين! إذ هكذا كان يُدعى في قريش. ادن منا أيها الأمين واحكم بيننا. ثم خبروه
خبرهم وما اتفقوا عليه. قال: «لا بأس عليكم. هلموا إليّ بثوب» فأتي به فأخذ الحجر الأسود
فوضعه فيه، ثم قال: «لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعًا» ففعلوا. فلما
بلغوا
به موضعه وضعه بيده في مكانه، وبنى عليه بين تهليل الناس فرحًا وثنائهم على الأمين، وكأنهم
بأصوات عالية تعلو أصوات التهليل تتجاوب من حول المطاف في جهاته الأربع يلقي بها أربعة
رجال
بعضهم تلو بعضه، وهم يقولون: الله أكبر. الله أكبر. مكررين! يا معشر قريش، ويا أبناء
إبراهيم جميعًا، ليكن هذا اليوم فاصلًا بين أمسكم وغدكم طهروا هذا البيت مما طهره منه
إبراهيم من قبل، واعبدوا الله وحده لا تشركوا به أحدًا، وكسروا هذه الأصنام الصمّاء التي
تعدون هذا البيت؛ ليتحملها فقد كسرها قبلكم أبوكم إبراهيم.
٧
يا معشر قريش، لقد أظلكم زمان يظهر فيه نبيٌّ من أنفسكم ورد ذكره في التوراة والإنجيل،
وله علامات ومخائل، ولقد قضينا ما قضينا نتفحص الناس، ونستهدي الأحبار والرهبان حتى عينوه
باسمه وأرومته فعرفناه، واطمأنت إليه نفوسنا، وقد جئنا نشهدكم علينا قبل مبعثه بخمس سنين
٨ أننا به مؤمنون وبدعوته مقرّون. فلا ندري أنحيا حتى نلقاه ونشدّ أزره أم يقبضنا
الله إليه في الصديقين. يا معشر قريش، ستكون لكم به الدنيا فارقبوه، وستكون لكم الآخرة
فاتبعوه. انظروا فيما حولكم وتأملوا: إن الذي وضع لكم الحجر بيديه هو نبي هذه الأمة وهاديها
إلى الصراط المستقيم. ذلك هو محمد بن عبد الله الأمين.
وكان الناس قد التفتوا يتعرفون القائلين فإذا هم شيوخ أولو وقار وكرامة في قريش زيد
بن
عمرو بن نفيل،
٩ وورقة بن نوفل،
١٠ وعثمان بن الحارث،
١١ وعبيد بن جحش،
١٢ وكانوا معروفين في مكة وبلاد العرب بأجمعها بأنهم أعيان الحنفاء
١٣ الذين يدينون بدين أبيهم إبراهيم خالصًا من عبادة الأوثان، ويحرمون على أنفسهم
الخمر والميسر والنصاب والأزلام، ويفتدون الموءودة، ويدعون إلى عبادة الواحد الأحد
القهار.
ولكن القوم كانوا لاهين بما هم فيه مغتبطين بأن يعبدوا آلهتهم حيث كانت من الكعبة،
وإن
كان لهم أن يغيروا دينهم فلن يكونوا هم البادئين إنما عليهم أن يثبتوا على دينهم ويجاهدوا
في سبيله غير متسائلين، ويسفهوا كل ما عداه بغير نظر ولا بحث، ولذلك صمّوا عن هذا النداء،
بل انبرى بعضهم بزعامة الخطاب أبي عمر الفاروق يسبون هؤلاء الشيوخ الأجلاء، ويطعنون عليهم
بكل لسان ويرمونهم الأحجار، وما زالوا بهم يرجمونهم ويطاردونهم جزاء سبهم آلهتهم، حتى
أخرجوهم إلى ما وراء مكة في طريق غار حراء، وكان قد أصاب الإعياء كبيرهم زيد بن عمرو
بن
نفيل، وبرحت به جراح الرجم، فقضي في ذمة ربه من ذلك اليوم، وكان الأمين ﷺ عاد إلى
بيته في شعب بني عامر يتعجب لما روى عنه الشيوخ الأجلاء، وكانوا أعلم من في قريش بما
في كتب
الله، يقص على أهله ما رأى وما سمع.
وإذ أتم باقوم بناء الكعبة وكان قد تعرّف إلى أهل الفن من الصناع بمكة، وعرف من بينهم
أبا
ورقة صليحًا، وتوثقت بينهما الصداقة بالمحبة والإخاء، فقد نصح لقريش أن يصنع لهم نجر
البيت
الكريم، وأثبت لهم اقتداره في ذلك بما صنعه من قبل، وإذ كانوا يعرفونه ويعرفون دقة صنعه،
وكان أبو الوليد بن المغيرة، مستقدمه إلى مكة صاحب الرأي الأعلى في شئون البناء شهد له
بالنبوغ، عهدوا إليه في تسقيف الكعبة وصنع بابها
١٤
فأقام السقف على أحسن وضع، وصقله بذوب من الشمع، وصنع بابها على نحو ما كان يصنع في مصر،
فطربت قريش لصنعه، وجزته على ذلك جزاءً كريمًا.
ولكنه ما حمل أدوات العمل بعد انتهائه وعاد إلى منزله حتى ملكته حمى شديدة من أثر
ما
خلفته السيول، ومرض بضعة أيام، ثم قضى نحبه تاركًا ورقة وأمه في كنف الله.
حزن بنو عبد المطلب ونوفل لما أصاب العفيفة في زوجها، وتباروا في مؤاساتها، وبالغت
سيدتها
في تعزيتها، وكانت تود أن تنقلها إلى دارها لولا أن باقوم كان قد مرض هو أيضًا ولجأ إلى
دار
صديقه صليح، ومات صليح وباقوم في منزله يفيق وينتكس، والعفيفة وابنها يقومان بخدمته في
مرضه
حتى شفاه الله، ولكنه كان هزيلًا فبقي في رعايتها بضعة أشهر حتى أبلّ، وإذ ذاك لم يجد
من
المروءة أن يرحل عن البيت بعدما دخله وهو عامر، وأخذته شفقة على الغلام وأمه، ففكر في
أن
يقضي أيامه الباقية في مكة؛ ليكون أبًا للغلام يرعاه كما كان يرعاه أبوه، وإذ كان الرجل
أعزب فقد خطر له أن يبني بالعفيفة إذا رضيت به بعلًا ليعيشوا كلهم معًا، واستأذن سيدتها
في
ذلك، فأذنت وباركت هذا الزواج.
ظل ورقة منذ ذلك الحين إلى أن بلغ من العمر ست عشرة سنة في كنف باقوم، وباقوم يتولى
بناء
دور السراة في مكة وغير مكة من بلاد الحجاز، وكان يود أن يعلم الغلام صنعة البناء، ولكنه
وجده يصلح لما هو أفضل من هذا وأعود عليه بالخير. فأخذ يعده لما توسمه فيه، وكان لا يفارق
الغلام لحبه له، وإذ لم يكن يحسن العربية فقد تعلم ورقة منه الرومية وقراءتها، وصار لا
يكلمه في خصائصه إلا بها، وتزكى بما كان يقصه عليه باقوم من أخبار مصر ونيلها العجيب،
والإسكندرية وما فيها من الدور والقصور والكنائس والمدارس، وبلاد الشام والروم وما جرى
فيها
من الأحداث، وكيف أنهم إنما غضبوا على إمبراطورهم موريقس الطيب، وانحازوا إلى قاتله فوقاس
بدعوى أنه أذل الروم بدفع جزية لبرابرة من الشرق يعرفون بالتركمان.
١٥
وكان إذا عاد إلى مكة في انتظار عملٍ جديد يخرج بالفتى إلى ما وراء الدور؛ ليعلمه
الرماية
والمسايفة على نحو ما كان يقاتل وهو جندي، ويقول له: إنك لا شيء ما لم تحسنهما، والولد
يزداد كل يوم تعلقًا به، وهيامًا بالبلاد التي كان يصفها، وباقوم يعده أن يسافر به إلى
الإسكندرية ليريه الدنيا وأنواع الحياة، إلى أن كانا ذات يوم يسيران في بعض شعاب مكة
عائدين
إلى دارهما، وبعير شارد يرقل بجوارهما وعثر وانحل تحت خفه حجر صغير تلاه حجر كبير نال
قدم
باقوم فهشمها وانحدر وكاد يقضي عليه، وسرعان ما حمله ورقة إلى داره، ثم ارتد من فوره
إلى
بيت سيده ورقة بن نوفل؛ ليخبره خبره، ويستفتيه فيما يعمل لأبيه هذا وصديقه المحبوب.