تمهيد
متى بدأت تونس تتخذ طريقها نحو وضعها المعاصر؟ أو بعبارة أخرى: متى بدأت العوامل الفعالة في تشكيلها بشكلها المألوف لنا؟ نرى أن ذلك كان في القرن العاشر الهجري، عندما امتدَّ نفوذ الدولة العثمانية إلى ذلك القُطْر، وقد ترتَّب على ذلك من أول الأمر اتخاذ الأقطار المغربية قاصيها ودانيها التقسيمَ الجغرافيَّ السياسيَّ المعروف، كما ترتب عليه اندماج القُطْر التونسي في العالم العثماني بكل ما في هذا من نتائج خطيرة.
وقد تعرَّضَتِ الأمم العربية والأوروبية التي دخلت في نطاق العالم العثماني لأحداث أكسبَتْها لونًا من الوحدة التاريخية، كما أن القوة العثمانية حالتْ بلا شك دون اتصال تلك الأمم بالحضارة الأوروبية الناهضة، وإن كان الباحث المنصفُ لا يستطيع أن يُسلم بأن الأوروبيين في القرن السادس عشر، وما تلاه من الأزمنة كانوا على استعداد لأن يقدِّموا للمسلمين وللمسيحيين من رعايا السلطان العثماني ثمراتِ نهوضهم العلمي هديةً خالصة، والمُنصِف لا يجهل أن تقدُّم الحضارة الأوروبية كان في أغلب الأحايين اسمًا مرادفًا لما كانت تقوم به الأسرات المالكة في أوروبا من الحروب في سبيل المجد، يشدُّ أزرَ الملوك — ولكن في سبيل المجد الأعلى — رجالُ الدين، وفي سبيل الاستغلال رجالُ المال. إلا أن ما يُؤخذ على الملك العثماني بحقٍّ أنه لم يَقُمْ على فكرة سياسية أو اجتماعية جديدة، ولم يفتح لرعاياه العديدين المختلفين بابًا لتنظيم علاقاتهم المختلفة على غير ما عرفوا من المبادئ، فضاعت عليهم بذلك الإفادة مما كان للعالم العثماني من موقع فريد في نوعه، ومن ميزة اشتماله على أمم لها ما لها من نصيب كبير في تقدُّم الإنسانية.
وقد أكسب العهدُ العثمانيُّ تونسَ — كما أكسب مصر — عنصرًا حاكمًا جديدًا في بابه، لا يقوم على عصبية قبلية أو دينية، ولا يدعو لأية فكرة عامة من أي نوع كان، بل ليس له من همٍّ إلا الاستيلاء على أَزِمَّة الحكم مستعينًا بأعوانٍ على شاكلته، والمتصفِّح لتاريخ الدايات والبايات والأغوات والأسطوات والرؤساء العثمانيين فيما بين القرنينِ العاشر والثالث عشر الهجريينِ لا يمكنه إلا إقرار ما ذهبنا إليه، حقيقةً كان من هؤلاء الصالحُ والطالح، الخيِّرُ والشرير، ولكنهم جميعًا ينطوون على نوع واحد من أنواع السلطان.
وثَمَّ اختلاف بين هذين العهدين المضطربين من تاريخ تونس ومصر. ففي الأولى — في تونس — كان بين العنصر الحاكم فيها وأوروبا حرب مستمرة، أما في الثانية — في مصر — فلم يحدث إلا ما كان بين الحكام والتجار الأوروبيين من سوء العلاقة.
ومما ينبغي أن يُعترف به لذلك العنصر العثماني الحاكم ما توافرتْ فيه من صفاتِ قوة القلب والرياسة والاضطلاع بمهام الأمور، وهي صفات ملَّكَتْه رقاب الرعية الكادحة، وجعلت منه الأداة الأولى لتطوُّر تونسي جديد، وذلك أن الكتخدا حسين بن علي تقلَّد أمر تونس في سنة ١١١٧ﻫ، وتمكَّن من جعل البايوية وراثيةً في بيته — البيت الحسيني — واستمرَّتْ فيه إلى يومنا هذا، وقد تقدَّمت تونس، مصر — في هذا، فقد تولى محمد علي باشويةَ مصر في ١٢٢٠ﻫ وأسس بذلك البيت المحمدي العلوي.
وقد نجح البيتان الحسيني والعلوي نجاحًا تامًّا في تقويض النظام الذي أنبتهما، وحطما العصبيات المسلحة وغير المسلحة التي ترعرعتْ في ظل السيادة العثمانية، وأقاما سلطانهما على شبه نظام قومي. فمهَّدا بذلك لنمو قومية تونسية وقومية مصرية بالمعنى الحديث للقومية.
والمتتبِّع لتاريخ تونس في ظل البيت الحسيني يلحظ مروره بالأدوار الآتية — وهي بصفة عمومية شبيهة بالأدوار التي مر فيها التاريخ المصري في القرن التاسع عشر.
أحس أمراء تونس إحساسًا قويًّا بضرورة إنشاء قوة حربية مجهزة تجهيزًا حديثًا، تحلُّ محل العصبيات المسلحة التي يخشونها، وتمكنهم من بسط حكمهم على سائر أجزاء المملكة، وتصون حدودهم. فبدءوا بهذا وفعلوا ما فعله سليم الثالث ومحمود في الدولة العثمانية، ومحمد علي في مصر.
ثم وجدوا أن هذا يستلزم تنظيمًا جديدًا لشتَّى المرافق والإدارات، كما أنه يستلزم تنمية الموارد الاقتصادية لزيادة الجباية، ويقضي بإعداد جديد للناشئين.
وقد انبعث من هذه الحركة كل ما واجهته تونس وما تواجهه من مسائل ومشكلات.
من هذه المشكلات ما يرتبط بالعلاقات بين البيت الحاكم والمحكومين، فقد زاد شعور المحكومين بتضامنهم القومي، وبوجوب نيل ما يكفل منع سوء الحكم، ويقي كرامتهم القومية اعتداء الغير، ويضع بلادهم الموضع اللائق بها في مختلِف الحركات التي هزَّت العالم الإسلامي هزاتٍ متواصلة، فأدَّى هذا إلى اكتساب الأمة حقوقًا وضماناتٍ مختلفة، أعمها وأهمها ما اشتمل عليه عهد الأمان الصادر في ١٢٧٤ﻫ/١٨٥٧م. يذكرنا هذا بعهود محمد علي باشا، وسعيد باشا، والخديوي إسماعيل، المتضمنة حقوقًا وضمانات مختلفة للرعية، والمنتهية بقيام المجالس النيابية في عهد إسماعيل، وأوائل عهد توفيق، وفي تونس — كما في مصر — لم تُتَح لأهل البلاد حكامًا ومحكومين فرصةُ العمل على وَضْعِ العَلاقة بين الأمَّةِ والحكومةِ على قواعد ثابتةٍ يرتضيها الجميع، بل عَقَّد الأمر في القُطْرين التدخلُ الأجنبي.
ومن هذه المشكلات ما يتعلَّق بعلاقة الأمراء بالدولة العثمانية، فقد أدرك الأمراء إدراكًا تامًّا ما في بقاء ارتباطهم بالدولة العثمانية من منافع، ففي هذا الارتباط شيء من القوة والاطمئنان يقيان بلادهم اكتساحَ الدول الغربية استقلالهم، كما أنهم شعروا بما يكنُّه الشعب من تعلُّقٍ ببيت الخلافة الإسلامية، واعتزاز ببقاء الدولة العثمانية دولة قوية مصونة الجانب، وبذلك نفهم لِمَ وضع أمراء تونس مواردهم الحربية والمالية المتواضعة تحت تصرُّف السلطان في بعض حروبه، ولكنهم كانوا في نفس الوقت يخشون ما تكنُّه الدولة العثمانية نحو تونس وغيرها من الأقطار المتمتِّعة بقدر من الاستقلال الداخلي من نيَّات، ويحذرون عواقب الغلوِّ في تأكيد التبعية العثمانية، مما كان يحملهم من وقت لآخر على مجاراة بعض الدول الغربية، عندما كانت تشجعهم على الظهور بمظهر الملوك المستقلِّين، باستقبالهم في بلادها استقبالات ملوكية، والدخول معهم في مشارطات ومعاقدات تمسُّ جوانب هامة من سلطانهم، ولا يمكن لوم الأمراء على قبول ذلك. فإن سياسة الدولة العثمانية جرتْ في القرن التاسع عشر على وتيرة حملت الأمراء التونسيين على قبول أي تعضيد أوروبي يحول دون تنفيذ الدولة ما تكنُّه من تقويض استقلال تونس، وما قامت به الدولة العثمانية من عزل الخديوي إسماعيل لما فقد التأييد الأوروبي، وما قامت به لإفساد الحركة العرابية — شاهدان على ما جرت عليه في تونس، وقد وقعت الخسارة على الجميع — ما عدا الدول الأوروبية.
ومن المشكلات أيضًا ما يتَّصل بالعلاقات بالأجانب وبالدول الأوروبية؛ فقد فتح الأمراء الباب واسعًا للأجانب، واستعجلوا النهوض واليسر، فاستقدموا الفنيين الأوروبيين يرسمون لهم الخطط، ويعاونونهم على تنفيذها، ومكَّنوا للعقول الأوروبية والأموال الأوروبية من استخراج خيرات البر والبحر، ويسَّرُوا لكل طالبٍ رُزق من جزائر البحر الأبيض المتوسط وسواحله أن يتخذ من تونس وطنًا ثانيًا، يتوق لو أن ضمه لوطنه الأصلي ملحقًا.
قويت الجاليات الأجنبية، وأصبح للامتيازات الأجنبية من المعاني غير ما كان لها، ومن وراء الجاليات القناصل، ومن وراء القناصل الجيوش والأساطيل، وأضحتْ مواردُ الأهلين ومواردُ الحكومة نهبًا مباحًا لكل طامع.
أما الأموال الأوروبية فقد استخدمت فيما هو قائم على أسس اقتصادية سليمة، وفيما هو وهمي، وفيما هو غير ذاهب إلا لاستكمال أدوات الترف والتقليد الكاذب، والدول الأوروبية في مواقفها لحماية تلك الأموال وأصحابها، لم تميز بين الحلال فتؤيده والحرام فتستنكره، ولم تتحرَّ عن وجه الحق ووجه الباطل، بل الكل لديها مصلحة قومية تؤيِّدها بكل ما تستطيع من قوة، وليت الأمر كان عند ذلك الحد، فإن التنافس بين الدول كان عاملًا قويًّا في تورُّط الإمارة التونسية في الكثير من المشروعات الفاسدة، فمثلًا إذا نال ماليُّون من أمة ما امتيازًا بمدِّ سكة حديدية، فلا بد أن ينال ماليُّو أمةٍ أخرى امتيازًا يماثله، وقد لا تكون له ضرورة، وهكذا، والمصري لا يسعه إلَّا أن يذكر في هذا ماليِّي مصر سعيد وإسماعيل.
والخلاصة أن الأمراء وضعوا أنفسهم وبلادهم في شراك لم يستطيعوا منها خلاصًا، وكلما امتد بهم الزمن ضاقت العيون وازدادوا خبالًا.
وقد وجد الأمراء في تنافس الدول الأوروبية الكبرى أملًا في تجنُّب ضياع استقلال بلادهم، والواقع أنه كان شرًّا عليهم؛ إذ كان مدعاة لمحاولة إرضاء الكل — وفي هذا من تبديد الموارد والحقوق ما فيه، كما كان صارفًا بكل جهود الحكومة التونسية نحو استقراء طوالع الجو السياسي الأوروبي، علَّها تهتدي لطريق يقيها الزلل، كما كان مفسدًا لبطانة الأمير؛ يميل رجل منها لدولة أوروبية ما، فيصبح رجلها في تونس، وينحاز آخر لدولة أخرى، فيصبح عدوًّا لمواطنه، وهكذا، وقناصل الدول كل منهم يؤيد مشايعه التونسي، كما يحاول أن يجتذب إلى صفه رجالَ الحكم التونسيين، أو كلَّ ذي حظوة لدى الأمير، وقد اتخذت هذه المحاولات ألوانًا شتى من الترغيب والترهيب؛ مما أفسد الضمائر والذمم.
لهذه الأسباب كلها، لم تُصب المحاولات الدولية لحل مسائل الدين ونظيراتها من المسائل نصيبًا من النجاح، كما كان الحال في مصر، وكيف تنجح وقد تحوَّلت اللجان الدولية لتسوية الديون ومراقبة المالية التونسية ميدانًا جديدًا، اشتد فيه النزاع بين ممثلي الدول، بل إن من ممثلي الدول مَنْ عمل على فشل الفكرة الدولية؛ ليُثبِتَ إثباتًا لا يدع محلًّا لشكٍّ أن الإدارة الوطنية قد عجزت عجزًا تامًّا عن إصلاح المختلِّ من أحوالها، وأن علاجَ تلك الأحوال بخلق هيئات دولية قد أتى بعكس المقصود منه، فأدَّى إلى تفاقم العلة، والحل الوحيد المُجدي إذن هو أن تتولَّى الأمرَ كلَّه دولةٌ أوروبية.
من تكون تلك الدولة؟ وكيف يمكن أن تتخلى لها الدول الأخرى؟ أذلك مستطاعٌ دون عوضٍ ما في مكانٍ آخر غير تونس؟ وأين ذلك المكان أو تلك الأمكنة؟
معنى هذا أنه كان لا بد لتحول الرقابة الأوروبية في تونس إلى رقابة دولة واحدة من ظروف أوروبية أدَّت إلى مواجهة مشكلات مستقبل العالم العثماني كله، إلى وضع المسألة الشرقية — كما كانوا يقولون إذ ذاك — على بساط البحث عندئذ، وعندئذٍ فقط — تتحتَّم مواجهة الحقائق، وتبرز القوة أداةً للتنفيذ، فيخضع لها مَنْ ليس مستعدًّا لمواجهتها بقوة تساويها.
وقد خلقت الثورات في البلقان ضد الحكم العثماني والحرب بين الروسيا والدولة العثمانية (١٨٧٧-١٨٧٨م) هذا الموقف الذي وصفنا، وفي هذا الموقف وُلِدت حماية فرنسا لتونس، كما وُلِدَ أيضًا الاحتلال البريطاني لمصر، وقد بدأ بتلك الحماية الفرنسية فعل العامل الأخير في تشكيل تونس المعاصرة، ويجدر بنا وقد نشرت الحكومات الأوروبية بعد الحرب العالمية الماضية الكثير من وثائقها السرية السياسية، أن نعرض بشيء من التفصيل كيف نالت فرنسا ما كانت تصبو إليه من السيطرة على تونس، وما ترتب على ذلك من عواقب لتلك البلاد وأهلها.
•••
كيف أدَّى التطور الذي شرحنا معالمه إلى وقوع تونس تحت السلطان الفرنسي وحده؟ لبيان هذه النهاية لا بد لنا من البحث عن أسبابها في العلاقات الأوروبية التالية لهزيمة فرنسا في سنة ١٨٧٠م، وفي تأثر تلك العلاقات بالأزمة الشرقية المترتبة على هزيمة الدولة العثمانية في حربها مع الروسيا ١٨٧٧م.
لقد بدأت حوادث سنة ١٨٧٠م عهدًا جديدًا في التاريخ الأوروبي الحديث، فقد أثَّرت هزيمة فرنسا الكاملة وإتمام خلق الإمبراطورية الألمانية واقتطاع إقليمي الألزاس واللورين من جسم فرنسا الحي في العلاقات الأوروبية حتى يومنا هذا، ويشاء موقف الدول الأوروبية في العالم أن كل ما يجري في أوروبا يتردد صداه في أراضٍ وبين أقوام «لا ناقة لهم فيها ولا جمل».
كان هَمُّ ألمانيا الجديدة بعد ١٨٧١م وشغلها الشاغل أن تمنع فرنسا من نقض ما تم في تلك السنة، واتجهت خطط عاهلها العظيم — بسمارك — نحو عزل فرنسا عزلة سياسية، فلا تجد حليفًا أوروبيًّا قويًّا يشد أزرها في حربٍ ضد ألمانيا، وقد فَضَّل بسمارك أن تقع فرنسا تمامًا تحت سلطان أحزاب اليسار الجمهورية؛ اعتقادًا منه بأن أمل تلك الأحزاب في نيل تأييد سياسي أوروبي أقل من أمل أحزاب اليمين، وأن انتصار الأحزاب الجمهورية الفرنسية يضعف من شأن الكاثوليكية في ألمانيا، وكانت إذ ذاك في حرب شعواء ضد بسمارك.
ولم يكن بسمارك بالسياسي الذي يكتفي بالإجراء السلبي، أو الذي يعتقد بإمكان قمع أمة كالأمة الفرنسية إلى الأبد، بل هناك ما يُثبت أنه أدهشتْه سرعة نهوض فرنسا من كبوتها في السنوات التالية لسنة ١٨٧١م، وأنه اعتقد أنه ينبغي أن يضع نصب أعين زعمائها أهدافًا يجدون في تحقيقها منصرفًا للهمم القومية وغسلًا لعار الهزيمة الكبرى، واستعادة لمركزهم القديم بين الأمم، وإبعادًا لهم عن فكرة «الانتقام» المتملكة العقول — لذلك كله عرض بسمارك على فرنسا في أكثر من مرة بسطَ سلطانها على تونس، ولم يكتفِ بهذا بل أدرك أن إرضاء المطامع الأوروبية في أنحاء البلقان والشرقين الأدنى والأوسط، ما يكفل صيانة ما تم في أوروبا نفسها، ويحول دون قيام محالفات أوروبية لقلب الحالة القائمة، فلم يكره امتداد النفوذ الروسي في الدولة العثمانية على شرط أن تنال الإمبراطورية النمسوية المجرية ما يُرضيها في البوسنة والهرسك، وعلى شرط قبول الحكومة الإنجليزية أن توطد أقدامها في مصر وغيرها من المناطق الشرقية التي تهمُّها بالذات.
ولم تُصب السياسة البسماركية في السنوات الواقعة فيما بين ١٨٧٠–١٨٧٧م إلا قدرًا محدودًا من النجاح. فلم تبدُ بوادر تدلُّ على أن تسوية ١٨٧١م قد أصبحت نهائية بالمعنى الصحيح. أو أن فرنسا أو إيطاليا أو الروسيا أو النمسا والمجر أو إنجلترا مستعدة للتسليم تسليمًا خالصًا بالوضع البسماركي للأشياء.
ولكن عندما تشتغل الثورات في بعض ولايات الدولة العثمانية في البلقان، وتأخذ الدولة العثمانية الثائرين وغير الثائرين بما درجت عليه من ضروب الشدة الوحشية، وتغزو الدولة الروسية أراضيَ السلطان في أوروبا وآسيا، عند ذلك وجدت الدول الأوروبية أنْ لا بد من مواجهة حقائق الأشياء، وتلمَّست كل منها في الشهور السابقة لصلح سان استيفانو كما في الشهور التالية حلًّا يصون مصالحها الخاصة، ويكون في نفس الوقت أساسًا لتسوية شرقية عامة — أما فرنسا فأمامها مشكلتُها الكبرى، أمامها أنْ لَا طمأنينة حقيقية إلا إذا وجدت لنفسها حليفًا قويًّا، وما لم يتيسر لها ذلك، فلا بد من تجنب الأزمات والابتعاد عن مواطن الزلل، فابتعدت بقدر الاستطاعة عن الأحاديث والمفاوضات المتعلقة بالمسألة الشرقية، وترددت في قبول الدعوة لمؤتمر أوروبي يستعرض صلح سان استيفانو، ويحيل هذا الصلح من اتفاق روسي عثماني إلى تسوية ترضاها أوروبا. ثم اشترطت لقبولها ألا يبحث المؤتمر إلا ما اتصل مباشرةً وطبيعيًّا بالحرب بين الروسيا والدولة العثمانية، وفسَّرت هذا بألَّا يعرض على المؤتمر أي شأن من شئون غربي أوروبا، أو من شئون مصر وسورية والبقاع المقدسة [رسالة من وزير خارجية فرنسا لسفرائها في برلين ولندن وروما … إلخ بتاريخ ٧ مارس ١٨٧٨م — الوثيقة رقم ٢٦٢ من المجلد الأول من الوثائق السياسية الفرنسية]، ولما ضُمن لها هذا قبلت الدعوة لمؤتمر برلين.
وأما الحكومة البريطانية، فيمكن القول بأن حوادث السنوات ١٨٧٦، و١٨٧٧، و١٨٧٨م قد هدمت فيها خطة المحافظة على الدولة العثمانية وأحلَّت محلها خططًا أخرى متناقضة، إحداها خطة الأحرار «وهم في المعارضة» القاضية بأن يكون رائد الحكومة الرائد الإنساني المسيحي؛ أي تحرير الشعوب العثمانية المسيحية المغلوبة على أمرها، وخطة ثانية: هي خطة رئيس الوزارة «اللورد بيكونز فيلد»، وهي تتكون من عناصر شتى: من السياسة التقليدية البريطانية، ومن القيام بمغامرات حربية وسياسية من أشباه ما كان الشاب الطموح بنيامين دزرائيلي يتلهى به في قصصه، ولم يصل دزرائيلي للحكم إلا بعد أن أصبح شيخًا حطمته السنون والأمراض، وفي الخطة البيكونز فيلدية ما اجتذب إليه بالذات الملكة والعامة، وكل من شبوا على كره الروسيا من المحافظين، وخطة ثالثة، وهي خطة وسطى، خطة التسليم بالواقع، بأن إنقاذ الدولة العثمانية كما هي حلم قد زال، بأن تحرير الشعوب المسيحية هدف طيب حقيقةً جدير بالاحترام، ولكن الأجدر منه بالاحترام ألا يكون التحرير سببًا في إثارة حروب وإسالة دماء، وأن المغامرات الحربية والسياسية قد لا يحترمها السياسي الإنجليزي في قرارة نفسه، ولكنه لا يسعه إغفالها تمامًا. فالواجب يقضي إذن بخطة عملية تساير الظروف محاولة الوصول إلى حل سلمي يرضي الجميع، ويمكن القول بأن هذه هي خطة سالسبوري — وزير الهند أولًا، ثم وزير الخارجية ثانيًا في وزارة بيكونز فيلد.
وقد عملت الحكومة البريطانية ما تستطيع أثناء سير الحرب بين الروسيا والدولة العثمانية؛ لإثبات وجهة نظرها ولتشجيع الدولة العثمانية على إطالة مدة المقاومة، مما حمل معارضي الحكومة على اتهامها بأنها ترمي لإعلان الحرب على الروسيا. كما حاولت تأليف ما سمته «حلف البحر الأبيض المتوسط» من إنجلترا وفرنسا وإيطاليا واليونان والنمسا؛ لصيانة مصالح دول الحلف التجارية والسياسية في ذلك البحر، واتخاذ ما يلزم لمنع مسها بأذى، ولم يؤدِّ هذا إلى نتيجة ما، فقد خشيت فرنسا وإيطاليا مغبة التورط في عمل إجماعي كهذا، أما النمسا فمجال سياستها أوسع من ذلك البحر، وتفاهمها مع الروسيا وألمانيا حقيقة واقعة، واليونان وحدهم لا يؤلف منهم أحلاف — والمفاوضات الخاصة بهذا الحلف جديرة بالعناية، فقد جعلت الحكومة البريطانية لا تؤمن بالسياسة الإيطالية بصفة خاصة، وسيكون لهذا أثره فيما بعد في استيلاء فرنسا على تونس.
بعد هذه المحاولة عادت الحكومة البريطانية إلى العمل الانفرادي، فعبر الأسطول البريطاني في ١٤ فبراير ١٨٧٨م مضيق الدردنيل، على الرغم من احتجاج الحكومة العثمانية — واستقال وزير الخارجية اللورد دربي كارهًا ما يمكن أن يؤدي إلى حرب مع الروسيا، وتولى سالسبوري وظيفته، وفي ٣ مارس ١٨٧٨م وقعت الدولة العثمانية صلح سان استيفانو وكانت شروطه معروفة.
وقد أخذت الحكومة البريطانية تعمل من جانبها لصيانة مصالحها في الظروف الجديدة التي كشف عنها انهيار الدولة العثمانية.
لقد كشف ذلك الانهيار عن استحالة إقامة الحكومة العثمانية على ساقيها، فلا بد لها من أن تتكئ على سند [من خطاب من سالسبوري لبيكونز فيلد بتاريخ ٢١ مارس ١٨٧٨م، الوثيقة رقم ١٤٢ من كتاب أسس السياسة البريطانية]. أما فيما يتعلق بممتلكاتها في أوروبا، فهذه — إن قريبًا وإن بعيدًا — مقدر عليها الزوال، والمسألة هي أنه ينبغي للسلطان لأجل الاحتفاظ بممتلكاته في آسيا من حليف. هذه الممتلكات شأنها غير شأن ممتلكاته في أوروبا، فليسوا أممًا تسعى للاستقلال وما إليه، فمعظمهم مسلمون، والحكم العثماني أصلح ما يمكن لمسلمين الحصول عليه (إذا استثنينا الحكم البريطاني)، فينبغي إذن أن نعاون الدولة العثمانية على الدفاع عن تلك الأراضي في آسيا وحسن إدارة شئونها، ولا نستطيع أن نفعل ذلك إلا إذا استولينا على قواعد أقرب لتركية آسيا من مالطة [من كتاب من سالسبوري لسفير إنجلترا بالقسطنطينية بتاريخ ٩ مايو ١٨٧٨م — الوثيقة رقم ١٤٥ من كتاب أسس السياسة البريطانية].
تفسر هذه الآراء الاتفاق الذي عُقد بتاريخ ٤ يونيو ١٨٧٨م، الذي تسلَّمت الحكومة البريطانية بموجبه جزيرة قبرص، كما تفسر أيضًا اتفاق الحكومتين البريطانية والنمساوية بتاريخ ٦ يونيو ١٨٧٨م على توحيد غاياتهما في المؤتمر نظير السماح للحكومة النمساوية باحتلال إقليمي البوسنة والهرسك.
بعد هذه التمهيدات وغيرها اجتمع المؤتمر في برلين، وتولَّى رياسته بسمارك. أعلن في أثنائه الاتفاق الخاص بقبرص، وثارَتْ ثائرةُ الوفد الفرنسي — وكان لا بد من إرضائه للوصول بسفينة المؤتمر لبر السلامة، وعمل بسمارك من جانبه على إصلاح ما بين الإنجليز والفرنسيين، فكان عرض تونس على فرنسا، وتم هذا العرض واضحًا، قال سالسبوري لوادنجتون رئيس الوفد الفرنسي ببرلين ووزير الخارجية: «افعلوا بتونس ما تريدون. إنكم ستضطرون لامتلاكها، لا يمكنكم ترك قرطاجنة للبرابرة.» وكرر ذلك اللورد بيكونز فيلد، وأكده نفس ولي العهد البريطاني في باريس [راجع في ذلك — على سبيل المثال — الوثيقة رقم ٣٣٠ من المجلد الأول في مجموعة الوثائق الفرنسية: رسالة من وادنجتون لداركور سفير فرنسا في لندن بتاريخ ٢١ يوليو سنة ١٨٧٨م].
أكان ذلك لعدول الحكومة البريطانية عما وعدت به في ١٨٧٨م؟ حقيقة أن موقف حكومة المحافظين، ثم حكومة الأحرار من وعود سنة ١٨٧٨م كان له شيء من التأثير في تردُّد الحكومات الفرنسية المتعاقبة، إن ذلك الموقف لم يبلغ حد الإنكار أو النكوص، ولكنه اتخذ شيئًا من تضييق التأويل، فقد قرر اللورد سالسبوري أنه حقيقةً يذكر أنه قال الألفاظ التي أسندها له وادنجتون، ولكنه يذكر أنه لم يدُر في خلده أنها تؤدي معنى عرض تونس على فرنسا؛ إذ كيف يستطيع منح ما ليس يملكه، وأضاف إلى ذلك أن الوعود الإنجليزية لا تفيد أكثر من إطلاق يد فرنسا في تونس بلا معارضة إنجليزية؛ أي أن إنجلترا نزلت عن كل ما تدَّعيه لنفسها في تونس، ولكنها لا تذهب إلى حد إرغام الغير (وتقصد بذلك إيطاليا) على النزول عن ادعاءاتها.
بعث ذلك الموقف إيطاليا على اتخاذ موقف عداء صريح من فرنسا في تونس، ووجدت فرنسا أن لا بد من القيام بعمل حاسم في تونس، قبل أن تسبقها إيطاليا إليه، وحمَّسها بسمارك على اتخاذ هذه الخطوة.
ولا يفيد ذلك أن الرأي العام في فرنسا ممثلًا في البرلمان أو في الصحافة قد مال إذ ذاك إلى صف المشروعات الاستعمارية، الواقع أن لا. بل إن ذلك الرأي العام لم ير فيها إلا شبه خيانة للقضية القومية الكبرى، تشتيتًا للجهود، إلا تسليمًا نهائيًّا بتسوية ١٨٧١م، وهل يطلب دليل على صحة هذا أقوى من كون التشجيع على الإقدام على تلك المشروعات يأتي من بسمارك نفسه؟
والواقع أنه لا الرأي العام ولا البرلمان قد عدلا عن خطتهما، والصحيح أن جانبًا قويًّا من الزعامة الجمهورية قد انحازت إلى الرأي القائل بأنه ينبغي على الجمهورية ألا تبقى إلى الأبد متسربلة بثياب الحداد، بل عليها أن تنهض، وأن ترعى مصالحها، وأن تتبوأ مكانها الجدير بها.
كان جول فري من أبناء اللورين، ولا بد أنه أحس بكارثة ١٨٧١م إحساسًا قويًّا، ولكنه كان يرى أيضًا أن ذلك الجيل من الفرنسيين كان عليه واجبات نحو فرنسا، وأن فرنسا ينبغي ألا تنزل عن مكانها الخليق بها وأن مصلحتها في بلاد الجزائر، وتأمين حدودها، ورعاية مصالحها في تونس تتطلَّب عملًا حاسمًا في تونس، وإلا سبقتْها إيطاليا إليه. أي أنه كان يرى أنه ينبغي أن يأخذ أكثر ما يستطيع دون نزول أو تخلٍّ عن حقوق فرنسا التاريخية، وقد تحمَّل في سبيل فكرته هذه عنتًا شديدًا من مواطنيه.
والظاهر أيضًا أن فري لقي تأييدًا في خطته من الزعيم الجمهوري الكبير جامبتا، الذي أخذ في آخر أيامه يبتعد شيئًا ما من فكرة حرب انتقامية ضد ألمانيا.
وقد حملت هذه العوامل المختلفة «فري» على أن يُخفي جهد الاستطاعة حدود عمله في تونس، وأن يضيق دائرة التزامات فرنسا في تونس.
دخلت الجنود الفرنسية تونس تحت ستار تأمين الحدود، وأرغمت الباي على توقيع معاهدة باردو (مايو ١٨٨١م). وتعطي هذه المعاهدة فرنسا حق احتلال الأرض التونسية وإدارة المسائل الحربية، ولكنها لا تشير إلى الحماية الفرنسية، وعلى أثر الاضطراب في سفاقس، وقَّع الباي اتفاقًا ثانيًا (يونيو ١٨٨٣م) نالت به فرنسا حمايتَها لتونس، والتدخل في مسائلها الداخلية. وقد تم سنة ١٨٨٤م تكوين أدوات الإدارة اللازمة، وبدأت تونس عهدًا جديدًا.
سارت فرنسا في تونس على نهج يخالف منهجها في الجزائر، ولم ينل الحياة الإسلامية في تونس ما نالها في الجزائر من التحطيم المقصود وغير المقصود. فتونس في العهد الفرنسي قُطْر «محمي» له إطار إداري تونسي، على عكس الجزائر فهي «قطعة» من فرنسا، والجزائر أرض استعمار يستفلحها ألوف من الفلاحين الأوروبيين فرنسيين وغير فرنسيين. أما تونس فهي أرض «استغلال» تعمل فيها «رءوس الأموال» الكبيرة فرنسية وغير فرنسية، وفي تونس ما تثيره السلالة الإيطالية المستقرَّة بها من مشكلات تمس العلاقات بين إيطاليا وفرنسا، «ولا تعرف الجزائر» مشكلات من ذلك النوع.
يدلُّ هذا على اتجاه الخطة الفرنسية نحو نجعل اشتراك الفرنسيين وأهل البلاد وسيلة لرعاية وتنمية المصالح المشتركة، وبخاصة في الدائرة الاقتصادية، وهو تنظيم يهمل جانب الاعتبارات القومية، كما أنه يعطل نمو الحياة السياسية، والظاهر أن أهل البلاد يحسون إحساسًا شديدًا بأن ذلك التنظيم لا يرضي أمانيهم، فنظموا حركات شبيهة بالحركات الحديثة في بعض الأقطار الإسلامية الأخرى؛ لتحقيق برامج سياسية قومية، تسودها المعاني والنظريات الغربية، ولا نزال بعد — في مصر كما في تونس وفي غيرهما — نرقب فجر حركات أعمق وأدوم. فجر ابتعاث «حياة إسلامية» تامة، وهذا الفجر لمَّا تَلُحْ بعدُ تباشيرُه.