قابس
وكان سكانها خليطًا من العرب والأفاريق، ونزلت أرباض المدينة قبائل مختلفة من البربر، غلاظ أجلاف، تمسكوا بمذهب الإباضية، وهم في نظر ابن حوقل، قوم أشرار خالطت دينهم شوائب من الزندقة، وجاءت غزوة الهلالية إلى قابس وما جاورها بدم عربي جديد، ويروي ابن خلدون أن الخليفة المستنصر وهب قابس قبيلة زغبة عندما سير الهلالية لقتال السلطان الزيري، ومهما يكن من أمر هذه الرواية فإنها تدل على أن قبيلة زغبة استقرَّت في قابس بعد أن هزمت المعز الزيري على نجد حيدران، بمعاونة رياح وعدي وجُشم، وأنشأ أبو جامع أحد أمرائهم دويلة هناك، ظلت مستقلة إلى منتصف القرن الثاني عشر، ولما احتل أسطول صقلية مدينة المهدية، دانت قابس لملك صقلية، حتى غلب عليها عبد المؤمن فنفى آخر أمراء بني جامع إلى مراكش.
ولقي الموحدون عناء في بسط سلطانهم على قابس، فقد حاول أهلها منذ أواخر القرن الثاني عشر رفع نير الموحدين، ونصروا بني غانية على خلفاء عبد المؤمن، فدانت المدينة لعلي بن غانية وحليفه قرقوش، ثم استعادها المنصور خليفة الموحدين، عندما هزم هذا المغامر وحليفه عند الحمة، وسرعان ما أعاد فتحها قرقوش، ثم طرد منها مرة أخرى، ولكن يحيى بن غانية ثبت قدمه فيها، ولم تعد إلى الموحدين إلا عام ٦٠١ﻫ على يد الخليفة الناصر، وعلى الرغم من هذا كله لم تخلص لهم نيات أهل قابس، وكانوا كذلك في القرنين الثالث والرابع عشر ينزعون إلى الاستقلال عن الحفصيين، فخرج أمراؤها من بني مكي على سلطان تونس، ولم يكد الحفصيون يبسطون نفوذهم عليها، حتى عاود أهلها الثورة إثر غارات المرينية على إفريقية، وأيقظ الفتنة من جديد، سنتي ١٣٧٩، ١٣٨٧م، رجل من بني مكي يدعى عبد الوهاب، وأراد أبو العباس أن يضع حدًّا لهذه الفتن فاجتاح الواحة واجتث نخيلها، وما انقضى قرن من الزمن حتى ثارت فتنة أخرى دلت على ما فطر عليه السكان من شغب.
ويظهر أن غزوة الهلالية لم تحدث في قابس ما أحدثته في سائر البلاد، فقد وصفها الإدريسي حينذاك بأنها مدينة ذات شأن، تكثر السلع في أسواقها، وظلت تجارة البحر نافقة طوال القرون الوسطى، فاجتذبت التجار إليها من جميع أنحاء العالم الإسلامي، وكثيرين من النصارى، كما سمح لأهل بيزا بالاتجار فيها، وكان قبر الصحابي «أبو لبابة الأنصاري»، مزارًا يكثر قاصدوه، وقد نلحظ من وصف التجاني لها أن بوادر الانحطاط ظهرت عليها منذ أوائل القرن الرابع عشر؛ إذ خربت مبانيها كقصر العروسين الذي بناه رشيد بن جامع في القصبة، وهدمت المنارة التي ذكرها البكري.
وساءت أحوالها في القرن السادس عشر، ولم تكن أحسن حظًّا في أيام الترك، وإن بقي ثغرها يصدر ما تأتي به القوافل من تجارة السودان، واحتل الفرنسيون قابس عام ١٨٨١م، وظهرت بوادر الفتن في جنوبي تونس بعد انتهاء معاهدة قصر سعيد.
ولما ضربت سفاقس بالمدافع سيرت جيوش الفرنسيين إلى قابس، فقاتلهم أهلها، وسلمت جرة ومنزل في ٢٣ يوليو، بلا مقاومة، وعسكر الفرنسيون في رأس الوادي ليتحكموا في النهر الذي تعتمد الواحة عليه، فلما استتب السلام، نشأت مدينة أوروبية بين الواحة والبحر، ومنذ ذلك الحين صارت قابس مقرًّا للقيادة العسكرية لمنطقة تونس الجنوبية، ومركزًا للإدارة المدنية، وفشلت الجهود التي بذلت لاسترجاع مكانتها الاقتصادية بإعادة القوافل إليها، بعد أن انتقلت إلى طرابلس منذ الاحتلال الفرنسي.