تاريخها
قدم غزاة العرب برًّا من الجنوب الغربي، ففتحوا ما يُعرف الآن بالساحل التونسي، وقد اقتضاهم هذا الفتح قتالًا شاقًّا مع سكانه من البربر وعمال الروم دام حوالي نصف قرن، وكُتب على المسلمين في شمالي إفريقية أن يصطدموا بالروم كما اصطدموا بهم في المشرق، على أن الأحوال في ولاية إفريقية كانت في منتصف القرن السابع الميلادي جدَّ مواتية للفاتحين الذين غلبوا عليهم، وقد مزق الخلاف الديني أوصال الجماعة المسيحية في قرطاجنة، وفصل عن بوزنطة المتمسكين بأهداب السنة المسيحية، وكان سلطان الإمبراطور يخفُّ شيئًا فشيئًا على الولاة، فأخذوا ينزعون إلى الاستقلال، واضطرهم ذلك إلى طلب العون من شيوخ القبائل، فأفادت القبائل من هذا الموقف، وألقت عن كاهلها على الأيام كل أثر لسلطان الروم، حتى إذا جاء الفتح الإسلامي كان جنوب ولاية إفريقية مستقلًّا عن قرطاجنة أو يكاد، وغزا العرب هذه البلاد غزوتين بينهما ثمانية عشر عامًا، على أنهما لم تكونا فتوحًا بالمعنى المفهوم، وإنما كانتا غارات مهدت الطريق لحملات أخرى أحسن نظامًا وأكمل عدةً تم بها فتح البلاد، ومن المصادفات العجيبة أن المغيرين ألْفَوْا إفريقية البوزنطية في الغزوتين على أبواب محنة سياسية، ففي عام ٦٤٧م كان البطريق جريجوريوس قد انفصل وشيكًا عن الإمبراطور، واستقر به المقام بين البربر، لما دهمه والي مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند سُبَيْطلة وقضى عليه، ثم شرع في اكتساح بلاد الجريد، وفي عام ٦٦٥م كان أهل قرطاجنة قد جاهروا الإمبراطورية بالعداء مُخلِفين في ذلك ظن الناس جميعًا عندما ضرب معاوية بن حديج إفريقية وغزا جلولا.
وإنا لنتساءل: هل كان حكم المغرب منوطًا بوالي مصر عندما حل عام ٦٦٧م؟ الواقع أن الفتح الحقيقيَّ لم يتمَّ إلا بين عامي ٦٦٩ و٧٧٠م، وقد تميز بانتصار عقبة بن نافع وبناء مدينة القيروان، وكان هذا تاريخ استيلاء العرب على إفريقية والتمكين لهم فيها، وفاتحة دخول قبائل البربر في الإسلام. على أن أهم هذه الحوادث جميعًا هو تشييد هذه المدينة الجديدة، وهي حاضرة من حواضر المسلمين ودار للصناعة ومحط للقوافل وسوق للتجارة، وقد رفع أهل هذه المدينة منذ ذلك الوقت قواعدَ مسجدِها، ومدُّوا أرباضها في السهول المواجهة لنجاد تونس الوسطى التي ظل يحميها خط من حصون الروم.
وعاد عقبة عام ٦٨١م بعد أن انقضت ولاية أبي المهاجر، ولا نعرف من أخبار هذا الوالي إلا القليل، وحدث بعد عامين أن كان عقبة راجعًا من غزوة له، فسقط في الزاب أمام تهودة صريع فتنة شديدة، قام بها الأهلون في وجهه، وقد ناصر الروم كُسيلة رأس هذه الفتنة، وظل هذا الرجل أعوامًا طويلة أميرًا على دولة بربرية مترامية الأطراف، ناهضتْ غارات العرب الجديدة وقاتلتْهم أشد قتال، وسقط كُسيلة نفسه في حومة الوغى بناحية سبيبة عام ٦٧٨م، ويقال إن زهير بن قيس البلوي كان قد وفد عليها في ذلك الحين.
ولم تسمح الأحوال في داخل الدولة الأموية باستئناف الفتح إلا عام ٦٩٣م، وفيه خرج حسان بن النعمان في جيش عدته أربعون ألف مقاتل لغزو إفريقية، ثم تقدَّم مسرعًا صوب الشمال؛ للقضاء على الروم قبل أن يرجع لقتال بربر «أوراس» الأشداء، واستولَّى على قرطاجنة عام ٦٩٥م، ولكنه فقدها وهزمه البطريق يوحنا، ثم هزمه البربر في سهول باغاية بقيادة الكاهنة، وهي شخصية أسطورية، فرجع إلى برقة، ثم هاجم قرطاجنة في العام التالي بحرًا وبرًّا، فاستولى عليها وثبت أقدامه فيها، وفي عام ٦٩٨م انتزع العرب من البربر والروم جميع ما يُعرف الآن بتونس تقريبًا، واستطاع حسان أن يشيد تونس، واستولى خلفه موسى بن نصير على زغوان، ثم قاد بربر إفريقية لغزو المغرب …
وتمكن معظم الروم في إفريقية من الهرب بحرًا إلى صقلية ومالطة خاصة، والظاهر أن غالب السكان الذين بقوا في البلاد بادروا إلى الدخول في الإسلام، اللهم إلا جماعات قليلة من النصارى «الأفاريق» أو اليهود. على أن بربر إفريقية قد نزعوا إلى الاستقلال حتى بعد إسلامهم، شأنهم في ذلك شأن بقية أقطار شمالي إفريقية، وحاولوا في عدة مناسبات أن يستعيدوه، وتذرعوا في ذلك بأيسر الأسباب وهو الزندقة، فكان القرن الثامن كله فتنًا، وقد استعين بمذهب الخوارج الاشتراكي؛ لإثارة أهل البلاد على العرب الحاكمين، كما كان هذا القرن حافلًا بفتن الجند العرب الذين كانوا يسارعون إلى الشغب والخروج على النظام.
وتمكَّن حنظلة بن صفوان من إخماد فتنة عكاشة الصفري، ولكنه أُجبر على الفرار إلى الشرق عندما استولى الثائر عبد الرحمن بن حبيب الفهري على القيروان، وعجز آخر الأمويين عن استعادة هذه الولاية النائية التي كانت بسبيل الخروج من أيديهم. ورأى العباسيون أن الأندلس بمنجاةٍ من سلطانهم، فقصروا همهم على استعادة إفريقية من أبي الخطاب الإباضي، واسترجع قائدهم محمد بن الأشعث القيروان وعمَّر أرباضها، وأقام فيها يلي أمورها، ولكن حكمه لم يدم طويلًا، فقد نقم جند العرب عليه، وأجبروه على الرحيل، وعجز الأغلب بن سالم التميمي عن الثبات للمنتقضين من المضرية، وقُتل في فتنة عام ٧٦٧ فسادت الفوضى خمسة أعوام سويًّا.
وتوارث حكم إفريقية من عام ٧٧٢ إلى عام ٧٩٤م بنو المهلب، وهم دويلة من عمال الخلافة يمانية الأصل، نجحت بعض النجاح في إقامة النظام، ونشر الأمن في ربوع البلاد، وتخلص يزيد بن حاتم يعاونه أربعون ألف جندي من أبي حاتم الإباضي، وعمر مسجد القيروان الجامع عام ٧٧٤م، ونظم أهم طوائف المدينة، وقضى ابنُه داود على حلف وَفَرْجومة البربري، وتمكن أخوه وخلفه روح من الاتفاق مع ابن رستم الإباضي صاحب تيهرت، وقد قضى هذا الاتفاق على نزعة التمرد بين بربر إفريقية، ولم يعد يهدد أمن البلاد إلا جند العرب وحدهم، فقد حلَّ بها، بعد وفاة الفضل آخر بني المهلب، عهد ساده الفتن وسفك الدماء، فأنفذ الخليفة العباسي إليها القائد هرثمة بن أعين، فردَّها إلى طاعته، وبنى رباط المنستير، وخلف هرثمة محمد بن مقاتل العكي، فأثار جند تونس التميمية بسوء تدبيره وضعف حيلته فعزلوه في أكتوبر عام ٧٩٩م، وفي هذا الوقت ظهر إبراهيم بن الأغلب فجأة وناصر العباسيين في ولاية الزاب، وكان ابن عاملها، وقد قتل عام ٨٦٧م، ورد ابن مقاتل إلى القيروان، واستمع هارون الرشيد لناصحيه فجعل إبراهيم «أمير» إفريقية مكافأةً له وتوطيدًا لأركان الحكم في البلاد، وظل السلطان في بيته أكثر من قرن بلا انقطاع.
وقد أحدثت دولة الأغالبة أثرًا بالغًا في تونس، وكان الأمراء يتبعون الخلافة في الظاهر، ولكنهم كانوا في الواقع مستقلِّين عنها يتوارثونَ الحكم فيما بينهم، فجنحوا إلى السلم والنظام والتوسُّع. بيد أن التميميَّة في تونس لم تهدأ ثائرتهم، وكان إبراهيم نفسه تميميًّا، ولكنه اختلف مع هؤلاء الجند من مضر، وقد برموا بأولي الأمر سواء أقربت ديارهم أم بعدت عن العباسيين، الذين قربوا اليمانية أعداءهم القدماء. فاضطر إبراهيم إلى الاعتماد على جند بينهم كثير من الأعاجم الوافدين من خراسان، وكان حرسه حديث النشأة من الزنج يعتصم بحصون القصر القديم أو العباسية التي أقامها على بعد فرسخ من القيروان، وفي عهده أخذت تنتشر الحصون المعروفة بالمحارس على حدود الساحل الشرقي، ولما توفي عام ٨١٢م، عادت الفتنة إلى طرابلس.
واشتهر ابنه زيادة الله بنشاطه وقسوة قلبه، وسرعة بادرته، فوجد له منافسًا قويًّا هو منصور الطنبذي الذي أوشك أن يقضي عليه، وخرجت البلاد الشمالية كلها بما فيها تونس عن طاعته أعوامًا، بيد أن نفحة من نفحات عبقريته هدَتْه إلى ما في الجند المشاغبين من طمع وحمية فاستنفرهم إلى جهاد صقلية فأقلعوا من سوسة يهزهم الحماس، تحت إمرة القاضي المشهور أسد بن الفرات، واستولوا على بلرم عام ٨٣١م، ثم على مسينا بعد اثنتي عشرة سنة، وقد شيد زيادة الله رباط سوسة عام ٨٢١م، واستطاع أن ينصرف إلى أعمال السلم، ومنها بناء المسجد الجامع في القيروان، وتأثره خلفه فتوسع في إقامة البنى، وشيَّد عام ٨٥٠م مسجد سوسة الجامع ومسجد سفاقس، ونحن نخص بالذكر الأمير أحمد الذي أقام الأسوار حول هاتين المدينتين، وبنى «صهريج الأغالبة»، وهو الصهريج الكبير الذي يزود القيروان بالماء.
وفي عام ٨٧٤م خلف إبراهيم الثاني، آخر الأمراء العظام في هذه الدولة، أخاه محمدًا، وقد كُني بأبي الغرانق؛ لكلفه باصطيادها، ثم هجر القصر القديم إلى قصبة جديدة جُعلت فيها دواوين الحكومة، وهي رقادة التي لا يزال موضعها معروفًا على مسيرة خمسة أميال جنوبي القيروان. فلما مات ثارت تونس، وفتحت عنوة وتردد الأمير عليها، ونقل عاصمته إليها لكي يرقب أحوالها بعين ساهرة، وتميَّزت سياسة الأمير في الخارج بحوادث جسام، فواجهت البلاد أول الأمر من ناحية الجنوب الشرقي غارات العباس بن أحمد، ابن أول أمراء البيت الطولوني؛ ذلك أنه لم يطع أباه وخرج على رأس حملة من مصر وسار إلى طرابلس عام ٨٨٠م يريد فتح إفريقية، ولكن بربر نفوسة وقفوا بينه وبين طرابلس، وجاء إبراهيم في الوقت الملائم، واستولى على أموال الطولونيين فساعد ذلك على تحسين الحالة المالية للبلاد، بيد أن ذلك لم يدم طويلًا؛ لأن الأموال لم تملأ الخزائن التي استنزفتها الفتن والثروات، ثم البذخ والإسراف، وألحت الحاجة على الحكام، فاشتطوا في طلب العبيد والخيول من سهل جمودة، فاندلعت فتنة جائحة! إلا أن فتح صقلية تم بالاستيلاء على سراقوسة عام ٨٧٨م وتاور مينا عام ٩٠١م، وشكا أهل تونس من إبراهيم فصدع لأمر الخليفة، وتنازل لوالده عبد الله، ومات مجاهدًا عند كوسنزة من أعمال كلابريا في أكتوبر من العام نفسه.
وكانت الفتنة الدينية التي اجتاحت إفريقية بعد ذلك في مهدها بالمغرب، وكان بربر الجنوب جميعًا من الإباضية، وتمتدُّ منازلهم من أوراس إلى جربة وطرابلس، أما بربر نفوسة فكانوا يقطعون الطريق الذاهب إلى الشرق جنوبي قابس، وذلك قبل أن يعمل إبراهيم الثاني السيف في رقابهم، بيد أن مذهب الخوارج لم يحل دون غلبة المذهب السني في الجزء الأكبر من البلاد، وظهور جماعة من مشاهير الرجال، وقد بلغت المناظرات في مسائل الفقه ذروتها أيام الأغالبة، وفي ذلك العهد قامت المذاهب المختلفة، وجمعت أمهات كتب السنة، وقد ظهر في هذه الأثناء اثنان من تلاميذ ابن القاسم فقيه المالكية المشهور في مصر، هما: أسد بن الفرات الذي ولد لأسرة خراسانية، وتوفي في صقلية ٨٢٨م، وتلميذه سحنون الذي ولد في بلاد الشام لأب من مرتزقة الجند، ووُلي عام ٨٥٠م قضاء القيروان، فنصر المذهب المالكي، ولا تزال مدونة ابن الفرات عمدةً يُرجع إليها، وظلت المالكية المذهب الغالب في تونس، وإن ظهر عليها أحيانًا بعض المذاهب الأخرى، وجدير بنا أن نلاحظ أن أشهر العلماء والمذاهب كان شرقي المنبت، كما وفد الداعي أبو عبد الله عام ٨٩٤م من المشرق على قبائل كتامة في إكجن؛ ليدخلهم في شيعة عبيد الله المهدي.
وأنفذ الأغالبة عام ٩٠٢م حملة على كتامة، فبلغت غرضها بعد جهد، وازداد خطر الشيعة أيام زيادة الله الذي قتل أباه عبد الله المعتزلي، وفي عام ٩٠٥ أسرع المهدي بالقدوم من الشام إلى شمالي إفريقية وانتظر في سجلماسة اللحظة المواتية للمجاهرة بدعوته، وكان داعيته المخلص يفتك بجيش الأمير وأخذت الحوادث تجري سراعًا، وحاول زيادة الله عبثًا أن يحاكم الشيعة أمام مجمع من الفقهاء في تونس، وطلب المعونة من العباسيين، وسقطت باغاية في ربيع عام ٩٠٧م، وفي شهر مارس عام ٩٠٩م فرَّ زيادة الله إلى بغداد بعد سقوط الأربس، ودخل الداعي رقادة على الرغم من العداوة التي أسرها علماء السنة، وفي شهر ديسمبر من السنة نفسها تلقَّى المهدي بنفسه فروض الولاء من الأهلين في القيروان، وهكذا تأسَّست في إفريقية بفضل الجند المشاة من بدو كتامة الخلافة الفاطمية العبيدية الشيعية، فأحدثت انقلابًا في الأحوال السياسية في شمالي إفريقية بأسره، قبل رجوعها إلى موطنها القديم في المشرق.
وكانت الدولة الجديدة تمد بصرها من أول الأمر إلى مصر، ولم تنقطع عن إنفاذ الحملات تمهيدًا لفتحها، حتى وطدت أقدامها فيها، وقد قتل عبيد الله في يناير من ٩١١م أبا عبد الله، وهو الذي ثبَّت له الملك، مثله في ذلك مثل المنصور الخليفة العباسي الذي قضى على داعيته أبي مسلم. وقد سار ابنه على رأس جيش عام ٩١٣م وفتح الفيوم، واستولى ابن آخر على مدينة الإسكندرية، فلما توقف الفتح ناحية الشرق فكَّر المهدي في تأسيس عاصمة له في إفريقية على البحر، فابتنى المهدية لتخرج منها الأساطيل لمهاجمة المشرق، وللتحصن فيها من هجمات البربر من داخل البلاد، وقد أنفذت عام ٩١٩م حملة أخرى استولتْ على الإسكندرية، واحتفظت بها أمدًا وجيزًا، وكان انتصار هذه الخلافة في الغرب مبينًا، فقد قضت على ثورة صقلية وأدخلتها في طاعتها، ولما توفي عبد الله في مطلع عام ٩٣٤م كان المغرب بأسره قد دان للفاطميين وقضى على دولة الإباضية في تيهرت والإدريسية في فاس وصفرية سجلماسة، واعترفوا جميعًا بسلطان الفاطميين.
واستطاع أبو القاسم نزار القائم بأمر الله أن يوطد سلطانه على الدولة المترامية الأطراف التي ورثها. والواقع أن أسطوله تمكَّن من نهب جنوة عام ٩٣٥م، بيد أنه لم يكن لهذه الغارة شأن، ولم يكن منه إلا أن استسلم للثورة الشديدة التي قاد لواءها النكاري أبو يزيد بن كيداد الإفراني صاحب الحمار، الذي جهر بأنه «شيخ المؤمنين»، وقاد باسم الدين هوارة شرقي أوراس لمهاجمة مدن إفريقية، ونهب البربر الخوارج عام ٩٤٤م باجة والأربس والقيروان وسوسة، واستولوا على تونس وحاصروا الخليفة بالمهدية بعد أن زاد عددهم بمن انضم إليهم من بربر نفوسة والزاب، ومات أبو القاسم في أحرج الأوقات عام ٩٤٦م، واستطاع ابنه إسماعيل المنصور أن يعيد الأمور إلى نصابها يؤيده أهل البلاد الذين أثارتهم مظالم الغزاة، وتنصره كتامة التي ظلت موالية له، وهُزم أبو يزيد في وقائع دموية متعاقبة ورأى بعينيه تفرُّق رجاله، ثم سقط في يد أعدائه مثخنًا بالجراح، في الموضع الذي شيَّد فيه ابن حماد قلعته عام ٩٤٧م.
فلما انتهى هذا العصر المضطرب، أعقبه عصر آخر يسوده الأمن والرخاء، وبادر المنصور إلى إظهار سلطانه بتشييد مدينة صبرة الزاهرة، التي عُرفت بالمنصورية، وسرعان ما أخملت جارتها القيروان، وازدهرت التجارة والصناعة، وكان القائد رشيق يجوب البحر ملقيًا الرعب في قلوب النصارى. وجاءت اللحظة المنتظرة من زمن طويل عندما اعتلى المعزُّ عرش الخلافة عام ٩٥٣م. فقد دان له المغرب بأسره، على الرغم من شبوب الفتن بين الحين والحين لمناصرة الأمويين أصحاب قرطبة، وكانت غارات الأندلسيين على سواحل سوسة وطبرقة ثاراتٍ قديمةً ليست بذات خطر، وقوي الأمل في فتح مصر، وكان قد ضعف بموت كافور الإخشيدي، فاحتل جوهر الصقلي مدينة الفسطاط في يوليو عام ٩٦٩م باسم الخليفة المعز، مثله في ذلك مثل أبي عبد الله الذي احتل القيروان لمولاه المهدي، كما احتل أبو عبد الله مدينة دمشق في العام الذي يليه، وأسَّس مدينة القاهرة لمولاه، ثم دعاه إلى اللحاق به؛ ليقف في وجه القرامطة. فلما فرغ الخليفة الفاطمي من القضاء على آخر ثورات زناتة، وكان يتشبَّه بالمشارقة في رسوم الملك والخلافة، تجهَّز للرحيل في أغسطس ٩٧٢م، فبلغ القاهرة في العاشر من يونيو ٩٧٣م، وأصبحت هذه المدينة بذلك قصبة دولته.
وعهد المعز قبل رحيله بحكم إفريقية (ما عدا صقلية) إلى الأمير البربري بلكين، وكان أبوه زيري بن مناد عدوًّا لدودًا لقبيلة زناتة الثائرة، وقد أعان العبيديين دائمًا برجاله من صنهاجة، وقد نجحت هذه الخطة التي رمتْ إلى حكم البلاد بأمراء من البربر نجاحًا كاملًا، وكان بنو زيري يتسلَّمون كتاب الولاية من القاهرة، وفي أيامهم عَمَّ الرخاء في إفريقية، وكثر الخير والزاد بفضل ارتقاء الزراعة والصناعة والتجارة مع العالم الخارجي، وكانت المحافل الرسمية غاية في الأبهة والبذخ، ونهضت دراسة الفقه والطب، وكان قد برز فيها أيام الفاطميين رجال مشاهير، كما برز في الأدب الشاعر ابن رشيق، واجتذب يهود القيروان نفرًا من مشاهير التلموديين، كما نبغ منهم كثيرون.
ولم تتأثر هذه الحضارة الزاهرة بفتن زناتة المغرب الذين استفحل أمرهم مع الأيام وجهروا بولائهم لقرطبة، كما أنها لم تتأثَّر بانفصال حماد الذي أسَّس في عهد أخيه باديس بن المنصور عام ١٠٠٨م دولة مستقلة في قلعته المشهورة. بل كان الأمر على العكس من ذلك، فقد بلغت الدولة أوجها — فيما يظهر — أيام المعز بن باديس في النصف الأول من القرن الحادي عشر، بيد أن هذا المعز كان كثير الخيلاء، وقد وقَّره خلفاء القاهرة وبجَّله أهل المغرب بأسره، ولكنه اقترف خطأً عظيمًا ببعث الفتن الدينية القديمة التي كان يتذرَّع بها سكان شمالي إفريقية للانتقاض على حكامهم المشارقة، واجتمع حوله مالكية القيروان، وتوجَّه بولائه إلى العباسيين في بغداد، وانتهى به الأمر إلى الجهر بعصيان الفاطميين على مراحل استغرقت العهد إلى عام ١٠٥٠م.
وكان انتقام الخليفة الذي انتقض عليه انتقامًا شنيعًا، واستشعر وزير مصر الفاطمي أن الإهانة موجهة إليه، فأنفذ إلى الوالي الثائر جماعاتٍ من أعراب الهلالية النهَّابة، وكانوا يسكنون الصعيد شرقي نهر النيل، وبلغ بنو رياح أول العرب الهلالية شمال إفريقية عام ١٠٥١م، فأحدثوا انقلابًا في تاريخ سلطنة تونس، وأسرع المعز إلى تحصين القيروان، فلم يُجدِه ذلك نفعًا وهُزم عندها مرتين، وفي عام ١٠٥٧م دهمه البدو ونهبوا أغوار البلاد جميعًا، فانتقل سرًّا إلى المهدية في حراسة أمراء من العرب اضطر إلى الإصهار إليهم وتزويجهم من بناته، وقد أحدث هؤلاء الغزاة وعدتهم مئات الألوف انقلابًا كبيرًا في شمالي إفريقية؛ من حيث الاقتصاد والسياسة والسلالات. فقد رد البربر واستعربت البلاد وغلبت عليها البداوة، واضطرب الأمن، فهلك الزرع وتقوَّض سلطان الحكومة المركزية، وسقطت بعض المدن الكبيرة في يد العرب، واستقلَّت غيرها بأمر نفسها، يحكمها أمراء من أهل البلاد، أو عمال جهروا باستقلالهم، وكان منهم مَنْ قدَّم فروض الولاء إلى بني حماد أصحاب القلعة ليحتموا بهم، وهكذا تأسست دويلة بني خراسان في تونس، وبني الورد في بنزرت، وبني جامع في قابس، وبني الرند في قفصة. أما في الوسط فقد عمَّت الفوضى والاضطراب.
واستطاع بنو زيري — على الرغم من كل هذه المصاعب — أن يحتفظوا بالمهدية، ولم يكن في أيديهم إلا الساحل الممتد بين سوسة وقابس، وخلف تميم أباه المعز، فحاول عبثًا أن يستعيض بعض ما فقده أبوه، فاصطلح مع ابن حماد، ولم يوفَّق في هجومه على تونس، وأصبح محصورًا في المهدية، لا مناص له من رد هجمات العرب وصد النصارى الذين تجدَّد عداؤهم له، وقد سقطت المهدية عام ١٠٨٧م بتحريض البابا في يد الييزيين والجنويين، فاضطر تميم إلى تعويض المنتصرين وإعفاء تجارتهم من المكوس. واعترف يحيى بن تميم وبعده ابنه علي بسلطان الخلفاء في القاهرة، وأيدتْهما قبائل العرب، فأحرزا بعض الانتصار في البر والبحر، حتى دهمهما عدو لم يكن في الحسبان؛ ذلك أن النورمان كانوا قد غزوا صقلية ومالطة، وشرعوا يتدخَّلون في شئون إفريقية، وفي عام ١١١٨م دبَّت الفرقة بينهم وبين هذا الأمير الزيري، فاستعان بالمرابطين من أقصى المغرب، واضطر الحسن بن علي أول الأمر إلى الاتفاق مع روجر صاحب صقلية، وقبول حمايته ليقف في وجه بني حماد أصحاب بجاية، بيد أن هذا لم يمنع أمير البحر جورج الصقلي الأنطاكي من إجلائه عن المهدية عام ١١٤٨م، وبسط روجر الثاني ثم وليم الأول لونًا من الحماية السمحة على جربة والمدن الساحلية من سوسة إلى طرابلس، وكان غرضهم في ذلك تجاريًّا، ولكن هذا لم يدُم طويلًا، فقد ثار النصارى وسرعان ما استعادوا حريتهم، وبقيَتْ سوسة والمهدية وحدَهُما في يد الكفار إلى عام ١١٦٠م عندما استولى عليهما عبد المؤمن الموحديُّ الذي جاء من المغرب الأقصى، وهزم عرب إفريقية عام ١١٥١م، وكانوا قد اتحدوا في وجهه بزعامة الأمير المعز بن زياد الرياحي، ثم قضى على كل مقاومة اعترضت سبيله، واستولى على الحصون وأعمل السيف في اليهود والنصارى، فأعاد بذلك الوحدة السياسية إلى شمالي إفريقية خمسين عامًا أو تزيد.
ولم تذُق إفريقية طعم السلام على الرغم من نفوذ خلفاء مراكش أصحاب السلطان الجديد فيها، ولم يستشعر الناس سلطان الموحدين؛ لأنهم أقاموا من قبلهم عاملًا في مدينة تونس يختار من أقارب الخليفة الأدنين، وسرعان ما ظهر عجزه عن إعادة النظام إلى الولاية التي كان العرب دائمًا يتهددونها، إلى جانب ما أحدثتْه جماعات التركمان من اضطراب بزعامة قراقوش الأرمني. وشخص يوسف ويعقوب المنصور على رأس الجند في عامي ١١٨٠ و١١٨٧م بيد أن ذلك لم يكن كافيًا، فقد كان يحيى المرابط حليف قراقوش سعيد الجد، فقد انفصل عن حليفه وغلب خصمه ابن عبد الكريم الرغراغي على أمره، واستطاع أن يبسط سلطانه من قاعدته في الجريد على ولاية تونس بأسرها، واحتاج الأمر أن ينفذ الخليفة الناصر حملة يقضي بها على المرابطين؛ وذلك بزعزعة سلطان يحيى، وإقامة حكومة قوية على الولاية عُهِدَ بها أول الأمر إلى الشيخ عبد الواحد بن أبي حفص، فبلغ الحفصيون بذلك أول مرتبة من مراتب السلطان.
وولي أمير آخر من بني حفص على تونس منذ عام ١١٨٤م، وقد انحدر هذا البيت الحفصي من أمير بربر هنتاتة، من قبائل مصمودة التي كانت تعيش في مراكش، وكان له شأن عظيم بين أتباع المهدي بن تومرت، وقد مكنوا لأنفسهم في إفريقية عام ١٢٢٦م باستعمال أبي محمد عبد الله الذي خلعه بعد ذلك بعامين أخوه أبو زكرياء، واستقل أبو زكرياء بالأمر شيئًا فشيئًا، ولكنه قنع مع ذلك بالإمارة، وكان المؤسس الحقيقي للدولة التونسية العظيمة التي حكمت ثلاثة قرون ونصف قرن على الرغم من الأحداث التي تقلبت عليها، وقد استمسك الحفصية دائمًا بسنة الموحدين، وكان نظام الدولتين في الحكم متشابهًا، إذا استثنينا بعض الفروق الصغيرة، بيد أنه لما نادت مكة بثاني أمرائهم المستقلين، «ابن أبي زكرياء»، ظلَّت تحيط به بطانة قوية من الموحدين كانوا دعامة الدولة والجيش، وكانت دواوين الحكومة تندرج في ثلاثة أقسام كبيرة: الجيش وبيت المال والقضاء، وكان عمال الولايات يختارون عادة من أقارب الخليفة الأدنين. بيد أن من الخطأ أن ننكر ما كان لكثيرٍ من الأندلسيين من شأن في إدارة البلاد وحياتها العقلية، بعد أن أجلاهم النصارى عن الأندلس في القرن الثالث عشر الميلادي.
ولما رغب بنو حفص في نشر ألوية السلام على إفريقية، كانت تواجههم دائمًا خلافات الأعراب فيما بينهم، وما أثاروه من فتن وقلاقل، فأضعف ذلك من سلطان الحكومة المركزية إبان القرن الرابع عشر الميلادي.
وكان لهذه الدولة عهود زاهرة حتى وفاة الخليفة المستنصر عام ١٢٧٧م؛ ذلك أنهم بسطوا سلطانهم على الرغم من الثورات التي كانت تنشب بين حين وحين من طرابلس إلى صميم بلاد الجزائر، ومكنوا لأنفسهم في المدن الهامة، وامتدَّ نفوذهم إلى ما وراء شمالي إفريقية، فلفت أنظار إسبانيا وأوروبا المسيحية. وفي هذا العهد توطدت العلاقات التجارية المنظمة مع برشلونة ومرسيليا وجنوة وبيزا وصقلية والبندقية، فعُقدت معاهدات تنظم التجارة والملاحة وأُنشئت في تونس قنصلية وزادت جباية المكوس، فدفعت تونس الجزية إلى صقلية ثم إلى أرغونة.
وصفوة القول أن الحكم في إفريقية كان أوطد وأزهر مما كان عليه في القرنين السابقين، وآية ذلك نهضة علوم الفقه وفن العمارة، وقد تعاقبت على البلاد فتن أثارها نزوع بعض الأمراء إلى العرش ممن تربطهم بالخليفة قرابة صحيحة أو مزعومة.
ومما يبعث على الأسف أن هذه الفتن أضعفَتْ سلطان الخليفة، وأوهنت الروابط القائمة بين رعاياه، وولي الحكم من أعقاب المستنصر أمير واحد، هو أبو عصيدة، وبوفاته خرج الحكم من هذا الفرع. فحكم أخ ثالث هو أبو حفص ثم ابن عم له هو أبو يحيى بن اللحياني، وقد استقر السلطان آخر الأمر في أعقاب ابن آخر من أبناء أبي زكريا هو أبو إسحاق إبراهيم.
وانفصمت أواصر الوحدة بين بني حفص زمانًا بخروج بجاية عن طاعتهم، وقيام دولة مستقلة فيها، ثم عادوا إلى ما كانوا عليه من اتحاد، وكانت جربة قد بقيت في يد النصارى مذ فتحها روجر صاحب لورية، فأخذها الحفصيون منهم، ووقفوا في وجه بني عبد الواد بفضل تحالفهم مع المرينيين الذين قويَتْ شوكتهم. بيد أن هذا الحلف كان ينطوي على خطر دفين، فقد استغل أبو الحسن السلطان المريني الواسع الأطماع الفتن الداخلية، وبادر إلى فتح إفريقية، واستقر هو وفقهاؤه ورجال بلاطه في مدينة تونس، ولم يكن ليعيد بني حفص إلى السلطان غير فتنة عربية موفقة، وقد حدثت هذه الفتنة عام ١٢٥٠م بَيْدَ أن جيوش أبي عنان المريني استطاعت بعد سبع سنين أن تحتل تونس مرة أخرى، ولم تثبت أقدامهم فيها طويلًا.
وفي هذا العهد، أيام أبي إسحاق إبراهيم، ظهر سلطان الحاجب الدساس ابن تافراكين، ولكنه لم يوفَّق تمام التوفيق فيما بذل من جهد لإعادة وحدة هذه الدولة، فقد خرج جنوبها خاصة عن طاعة الخليفة، وظهرت دويلات مستقلة في تلك الربوع، فحكم بنو يملول في توزر وبنو الخلف نفطة، وبنو مكي في قابس وبنو ثابت في طرابلس، إلا أن أبا العباس (١٣٧٠–١٣٩٤م) الذي بدأ حياته السياسية في قسنطينة، أعاد إلى الدولة مجدها، فكان ينفذ الحملات الواحدة بعد الأخرى، حتى دان له الثوار بالطاعة، وفي عهده أرادت جماعة من الصليبيين الجنويين الفرنجة أن تثأر من القرصان الذين جاوز طغيانهم الحد، ففشلت أمام المهدية ١٣٩٠م.
ونهض ابنه أبو فارس بالأسطول، وأنفذ حملة بحرية على مالطة ١٤٢٨م، وكان لزامًا عليه من الناحية الأخرى أن يرد عادية القطلونيين والصقليين، وأنفذ حملة كبيرة على جربة، وأقام الحصون في رأس أدار ورفرف والحمامات لرد غائلتهم ثم استولى على تلمسان.
وكان عهد الحفصيين في القرن الخامس عشر يتميز بزيادة نفوذ الموالي، الذين كانوا يُستعملون على الأقاليم والجيش ويعرفون بالقواد، وقد كان الأمير أبو عمرو عثمان آخر السلاطين المبرزين، وارتبطت تونس بعلاقات ودية مع أوروبا على الرغم من نشاط قرصانها، وأذن للقطلونيين والجنويين بصيد المرجان في طبرقة، وسمك التون في رأس أدار. أما في الداخل فقد اتسع سلطان مذهب المرابطين، الذي جاء من الغرب وارتقت الزراعة على الرغم من شغب الأعراب، وسرعان ما ساءت الأحوال بموت عثمان، فحكم البلاد ثلاثة من الخلفاء في غضون أعوام قليلة، ثم أخذ نجم الدولة يأفل أيام أبي عبد الله، فمزق أوصالها انتقاض القبائل عليها، قبل أن تحيق بها ضربات الإسبان الذين طاردوا قراصنة الترك في هذه الربوع.
وفي عام ١٥١٠م جردها بدرونافارو من بجاية وطرابلس، وفي عام ١٥٢٠م احتل هيوزده منكاد جربة إلى حين، ثم طرد خير الدين بربروسه آخر الأمر الحسن بن أبي عبد الله من تونس.
ولم يعد الحسن إليها إلا عندما استولى شارل الخامس على المدينة، وأصبح قيلًا من أقيالها، وسلم للإسبان حصن حلق الوادي، وساءت الأحوال في تونس عندما استولى أندريا دوريا على مدن سفاقس وسوسة والمنستير، ثم حلت بالإسبان حوادث خطيرة وخارت عزيمة جند الحسن، فذهب يطلب العون من أوروبا، ولكن ابنه أحمد حميدة انتهز فرصة غيابه وخلعه.
وحاول حميدة — وكان رجلًا غليظ القلب مقدامًا — أن يستعيد ملك آبائه فلم يُفلح. ثم ظهر بطل جديد هو القرصان التركي درغوث، وكان في يد الجنويين، ولم يطلقوا سراحه إلا في مقابل تسليمهم جزيرة طبرقة، وطرده الإسبان من المهدية عام ١٥٥٠م، إلا أنه استطاع بمهارة أن يفلت من أندريا دوريا في أبريل من العام نفسه بين ممرات جربة، واستطاع من قاعدته في طرابلس أن يحتل قفصة والقيروان، وفيها ترك فرقة من الجند تحت إمرة حيدر باشا، ولما قاد دوق مدينة سالم حملةً على جربة، هزمه درغوث هزيمة منكرة، ثم هلك في حصار مالطة عام ١٥٦٥م.
واستمرت الحرب بين حميدة وعامل الإسبان على حلق الوادي، على الرغم مما عقد بينهما من المعاهدات، فسهل ذلك على أمير الجزائر علي باشا احتلال تونس، فوضع فيها حامية من الجند، ثم استعاد دون جون النمسوي مدينة تونس من الترك، فأعاد سلطان الحفصيين لآخر مرة بتأثير محمد بن الحسن، وتعيين سربلوني مشيرًا له، واستولتْ جنود الترك التي جاء بها أسطول سنان باشا من القسطنطينية على تونس وحلق الوادي، فوضعوا بذلك حدًّا لحكم الإسبان، وكان مزعزعًا لا يطول به العهد، وقضى على دولة بني حفص «الوطنية» التي كانت عزيزة الجانب، وأصبحت على مر الأيام لا حول لها ولا قوة، وكانت عودة حميدة إلى الملك بمثابة صحوة الموت لهذه الدولة، فقد بسط سلطانه على فيافي تونس والجريد أعوامًا.
أما سنان باشا، فقد جعل تونس ولاية تركية ملحقة بالجزائر يحكمها باشا، وذلك قبل أن يعود إلى القسطنطينية، ثم أصبحت منذ عام ١٥٨٧م تابعةً للباب العالي مباشرةً، وكان يقود جيش الاحتلال أغا، ويتألَّف هذا الجيش من أربعة آلاف رجل على رأس كل مائة داعي «داي»، واستبد الديوان بالأمر، وهو الهيئة الحاكمة التي تضم الضباط العظام. فاندلعت نيران الثورة، وانتهت بوضع أزمَّة الأمور في يد واحد من هؤلاء الدعاة «الدايات»، وأصبح منصب الباشا في عهد هؤلاء الدعاة منصب شرف فحسب، وإن كان يمثل السلطان، أما الديوان فقد أعيد تنظيمه وقويت شوكته، مثله في ذلك مثل طائفة الرعايا؛ أي «طائفة القرصان». أما من ناحية الدين فقد كانت الصدارة للمذهب الحنفي.
ويعود الفضل في تنظيم الولاية للداعي الثالث عثمان، فقد أصدر مجموعة من القوانين موسومة ﺑ «الميزان»، واستطاع أن يحافظ على الأمن في البلاد يعاونه «باي» مهمته جمع الضرائب بقوة الجند في دورتين كل سنة، وأشرفت الدولة على القرصنة في البحار، وشاركت في غنائمها، ولما طُرد المسلمون من الأندلس عام ١٦٠٩م استقروا في كثير من بلاد تونس مثل رأس أدار وطبورية ومجاز الباب وتستور وقلعة الأندلس، فروجوا سوق الخضر، ونشطتْ بعض الصناعات كالصباغة وصناعة الجوارب.
وضعف سلطان تركيا على تونس إلى حد أن فرنسا أصبحت تتمتع بفضل الامتيازات العثمانية بمكانة رفيعة في أرجاء الدولة العلية بأسرها، فأنشأت قنصلية لها في تونس ١٥٧٧م، واقتضى الأمر أن أرسلت عام ١٦٠٦م سفيرًا هو ده بريف، لكي يتصل مباشرةً بأولي الأمر في تونس.
واستعاد يوسف زوج ابنة عثمان وخليفته مدينة جربة من باشا طرابلس، واتفق في عهده على تسوية الحدود بين تونس وبين الجزائر؛ نتيجة لغارات الجزائر عليها، ثم خلفه داعٍ اسمه الأسطى مراد (١٦٣٧–١٦٤٠م)، وكان قرصانًا جنويًّا دخل في الإسلام، فحصن غار الملح وأسكن فيه جماعة من أهل الأندلس، ولكن سلطان الدعاة «الدايات» كان آخذًا في الضعف، ولسنا في حاجة إلى ذكر الدعاة الأربعة والعشرين «خوجة ولاز وغيرهما» الذين حكموا من عام ١٦٤٠ إلى عام ١٧٠٢م؛ لهوان شأنهم ولأنهم أصبحوا ألعوبة في يد البايات الذين نجحوا آخر الأمر في القضاء عليهم.
وحكم الباي مراد من عام ١٦١٢ إلى عام ١٦٣١م، وكان قورسيقيا يلقب بالباشا، وقد تنازل في حياته لابنه محمد، فأصبح بدوره باشا، واعتمد في حكمه على كتيبة من الصبائحية وزعها بين تونس والقيروان والكاف وباجة، وأصبح سيد البلاد دون منازع.
وقد أسس حمودة الدولة المرادية، فحكم ابناه مراد ومحمد الحفصي وأحفاده محمد وعلي ورمضان، فكانت الفتن تهدِّد سلطانَهم، وبلغت هذه الفتن غايتها بمقتل ابن حفيده مراد عام ١٧٠٢م.
وامتاز النصف الأول من القرن السابع عشر بعودة العلاقات التجارية بين تونس وأوروبا، وبخاصة بينها وبين مرسيليا وليفرنو، ويرجع الفضل في ذلك إلى تجار النصارى واليهود، واتجرت في المرجان الشركات المرسيلية المؤسسة في رأس الأسود وبنزرت جنوبي طبرقة، وكانت تربح من تصدير الجلود والحبوب، واتسعت علاقات الولاية بالخارج، فشملت أممًا مثل بريطانيا العظمى والأراضي الواطئة. فكانت وحدات من الأساطيل الأوروبية في النصف الثاني من هذا القرن تضرب الساحل بقنابلها، إلى جانب الحملات التي درج فرسان مالطة على القيام بها؛ انتقامًا لأعمال القرصنة الماضية.
وازدهرت البلاد في الداخل أول الأمر، كما يستدلُّ من إقامة المنشآت العامة والمساجد في طول البلاد وعرضها، ثم ساءت الأحوال على مر الأيام في عهد المتأخرين من المرادية، حتى استطاعت الجزائر أن تقوم بغزواتها.
وأخذت القبائل في الانتقاض على الحكومة، وظلَّت الكاف في يد بني شنوف أمدًا طويلًا وقلعة سنام في أيدي الحنانشة، وكان جبل وسلات موطن شغب عظيم، واجتاح البلادَ وباءُ الطاعون مراتٍ كثيرةً فأهلك الناس.
ولما قضى إبراهيم الشريف الذي كثر في عهده سفك الدماء، وكانت قد اجتمعت له لأول مرة ألقاب الباي والداعي والباشا وأغا الجند، نودي بالحسين بن علي تركي بايًا على تونس في العاشر من يوليو ١٧٠٥م في غضون غزوة جزائرية جديدة، وهكذا قامت الدولة الحسينية التي لا تزال تحكم البلاد إلى اليوم. وأعاد حسين السلامَ إلى الربوع، وشيَّد كثيرًا من المباني (مثال ذلك ما أنشأه في القيروان)، وحاول أن ينظِّم ولاية العرش لمصلحة ذريته مباشرةً، فخلعه علي باشا يُظاهره الجزائريون؛ ومن ثم نشأت مصاعب جديدة استفحل أمرها بفتنة يونس بن علي عام ١٧٥٢م. ثم اعتلى محمد بن الحسين العرش آخر الأمر بتدخُّل الجزائر أيضًا، وحكم علي باي ثم ابنه حمودة، ففعلا الكثير في سبيل إصلاح ما فسد من شئون الدولة وإعادة الرخاء إلى ربوعها.
ونشطت التجارة الخارجية كما نشطت الزراعة، واتسعت علاقات الباي مع الدول الأوروبية، على الرغم من قضائه على الجاليات التجارية برأس الأسود وطبرقة، وأبرمت معاهدات كثيرة كان يوقعها بنفسه، وعينت فرنسا آخر الأمر قنصلًا عامًّا لها في تونس، على الرغم من محاربتها إياها عدة مرات، ونشبت الحرب بين تونس والبندقية واستمرَّتْ ثماني سنين (١٧٨٤–١٧٩٢م)، وأخضع علي باي ثوار جبل وسلات ومزق كلمتهم، ولكنه عجز عن التخلُّص من الجزائريين الذين ظلوا مصدر تعب كبير لحمودة، وأعمل حمودة السيف في رقاب الإنكشارية المتمردين عام ١٨١١م.
وطرأت تغيُّرات ملحوظة على أحوال السلطنة التونسية إبَّان القرن التاسع عشر؛ أولها القضاء على القرصنة والقرصان، وكانت من أهم موارد الدولة، وقد أرغمت الدول الأوروبية محمودًا على ذلك، نتيجة لمؤتمري فيينا وإكس لا شابل، ثم كان احتلال الجزائر عام ١٨٣٠م أيام الباي حسين، فأعقب هذا نتائج لم تكن في الحسبان، وقد حاولت تونس عبثًا، مدة نصف قرن الملاءمة بينها وبين الأحوال الجديدة بتغيير نظامها الداخلي، وانتهاج سياسة وسط بين التراخي في تبعيتها للدولة العلية والانصراف عن هذه التبعية حينًا آخر، وبين السماح للدول المسيحية بالتدخل في شئونها على يد قناصلها، وشجعت بريطانيا سلطان الباب العالي وناوأته فرنسا، ولم يبد هذا السلطان إلا في القليل من فرامانات التولية وفي إرسال الجند التونسية إلى القريم عام ١٨٥٥م لمحاربة روسيا (وقد اشتركت وحدة بحرية تونسية مع الأسطول التركي في واقعة نفارينو عام ١٨٢٧م)، وأخذ بعد ذلك النفوذ الفرنسي والإنجليزي والإيطالي يزداد على مرِّ الأيام … نعم إن خطط فرنسا لإقامة أمراء تونسيين على الجزائر لم تلق نجاحًا، ولكن تونس لم تعد تأخذ الجزية التي كانت تدفعها الدول المسيحية نظير حق الاتجار معها، وتولى أحمد وكان أشبه بالحاكم المستبد المتنور، فألغى الرق ومنح اليهود حرياتهم، ونظم «الجيش التونسي» على النسق الأوروبي، واختار له مدربين من الفرنسيين، وزار لويس فيليب في باريس في عام ١٨٤٦م. بيد أن إسرافه الكثير ونفقات بناء دار الصناعة في غار الملح، وقصور المحمدية استنزف موارد الدولة، وكانت جد قليلة، ففُرضتْ ضرائب جديدة، وأُصدر قانون لاحتكار أشجار الزيتون.
وأدخل ابن عمه محمد (١٨٥٥–١٨٥٩م) ضريبة على الرءوس مقدارها ستة وثلاثون قرشًا، كما أعفيت منها بعض المدن التونسية الهامة، ولكن أهم حادث في عهده هو إصداره عهد الأمان في ٩ سبتمبر سنة ١٨٥٧م حمله عليه القناصل، وأعلن فيه أن أهل تونس جميعًا، سواء أمام القانون وفي دفع الضرائب، كما أعلن حرية العقيدة وحرية العمل والتجارة وحق الأجانب في امتلاك الأرض والعقار، وأصدر أخوه محمد الصادق (١٨٥٩–١٨٨٢م) دستورًا في السادس والعشرين من أبريل عام ١٨٦١م أقرَّه نابليون الثالث، وبه ظلَّت السلطة التنفيذية في يد الباي تئول إليه بالوراثة، وأصبح مسئولًا عن الحكم، وينتقل العرش إلى أكبر أمراء البيت الحسيني يعاونه وزراء يختارهم بنفسه، وقسمت السلطة التشريعية بين الباي والمجلس الكبير المؤلف من ستين عضوًا معينين. أما السلطة القضائية فكانت مستقلة، وكانت المحاكم تتبع قانونًا تونسيًّا جنائيًّا ومدنيًّا، أما إدارة الأقاليم فكانت في يد «القواد» يعاونهم «شيوخ» منتخبون، وجعلت للباي مخصصات، ولم يعد له حق فرض الضرائب وغيرها، ولكن سرعان ما ساء الموقف على الرغم من هذه الإصلاحات، وقد أدت السياسة المالية الخرقاء التي انتهجها مصطفى باشا خازندار من العودة إلى الاستدانة وزيادة الضرائب، إلى عصيان القبائل تحت راية علي بن غذاهم عام ١٨٦٤م، كما أدَّت إلى تأليف لجنة مالية دولية (من التونسيين والفرنسيين والإيطاليين والمالطيين) عام ١٨٦٩م، وفي يوليو من عام ١٨٥٩م عطل الدستور، وفي أكتوبر من عام ١٨٧٣م خلف القائد خير الدين على دست الوزارة الخازندار الذي عزل من منصبه. فامتاز عهده بإصلاحات جليلة، ولو أن البلاد لم تصب منها إلا تقدمًا يسيرًا. بيد أن موارد الدولة كانت قليلة جدًّا وديونها عظيمة، حتى إن اللجنة لم توفق إلى شيء، وكانت إدارة مصطفى بن إسماعيل السيئة هي الضربة القاضية التي أصابت البلاد، بينما اشتدَّ التنافس بين قنصلي فرنسا وإيطاليا على الصدارة في الامتيازات الخاصة بالمصالح العامة.
وشجعت بريطانيا وألمانيا منذ مؤتمر برلين عام ١٨٨٧م التدخل الفرنسي في شئون تونس، وقد سير الوزير جول فري ثلاثين ألف مقاتل لغزو تونس؛ نتيجة لغارات أهل جبال خمير على الجزائر وغيرها من الحوادث. وبعد عشرين يومًا أرغم الجنرال بريار صادقًا على أن يوقع معاهدة «قصر سعيد» المعروفة بمعاهدة باردو، دون أن يسفك دماءً أو يأبه لاحتجاج تركيا. وقد أعطيت هذه المعاهدة فرنسا حق الإشراف على الشئون العسكرية والخارجية والمالية للسلطنة التونسية، وعين وزير مقيم فرنسي، يتولى الشئون بين الباي والحكومة الفرنسية، وكان القنصلُ روستان بطبيعة الحال أول من شغل هذا المنصب، وهكذا بدأت الحماية، وإن لم تكن قد أُعلنت بالفعل. ثم أصبحت الحماية أمرًا واقعًا بعد ثورة الوسط والجنوب تحت إمرة علي بن خليفة والقضاء السريع عليها بواسطة حملة فرنسية ثانية، ووافق الباي بمقتضى ميثاق المرسى في ٨ يونيو عام ١٨٨٣م على أن يبدأ بالإصلاحات الإدارية والقضائية والمالية التي ترى الحكومة الفرنسية نفعها للبلاد.
وتعتبر الحماية الفرنسية فاتحة عهد جديد في تاريخ تونس، ولم تؤثر فيها منذ أن فتحها المسلمون حادثة كهذه الحماية التي غيرت نظامها وحياة أهلها.
وكان الطابع الأصيل لهذا العهد الإبقاء على نظام الحكم القديم في مظهره، وقد ألبس هذا النظام ثوبًا جديدًا، وزيدتْ عليه نظم حديثة، وظل سائدًا على رغم ما وُجِّه إليه من نقد.
وظل عظمة الباي هو سيد السلطنة الأسمى وصاحب مملكة تونس، ولكن صاحب الأمر والنهي في البلاد هو الوزير الفرنسي المقيم الذي عُرِفَ منذ ٢٣ يونيو عام ١٨٨٥م بالمقيم العام، وكان وزيرًا مفوضًا للجمهورية الفرنسية في السلطنة التونسية، يأتمر بأمر وزير الخارجية الفرنسية، وكان كذلك وزير خارجية الباي لا يتصل الباي بباريس إلا عن طريقه، وكان رئيسًا لمجلسه يوقع إلى جانبه على المراسيم التي أصبحت نافذة منذ مرسوم يناير عام ١٨٨٣م، وكان يأتمر بأمره قوادُ الجيوش في البر والبحر، كما كان يُشرف على جميع المصالح الإدارية، ولم يكن للباي سوى حرس صغير مكون من ستمائة رجل، وكان رعاياه يُجبرون على الانخراط في جيشه الذي كان بمثابة قسم من الجيش الفرنسي، وقد هلك منه ما يزيد على العشرة آلاف رجل في سبيل فرنسا إبَّان الحرب العظمى.
ويتكون مجلس الوزراء من اثنين من الوطنيين، صاروا بعد ذلك ثلاثة، ومن المديرين أو رؤساء مصالح الفرنسيين، ثم قائد جيش الاحتلال وأمير بحرية بنزرت اللَّذَينِ يقومان بأعمال وزير الحربية وقائد الأسطول.
وأصبحت القائديات التي تنقسم إليها القبائل أقسامًا إدارية على رأس كل منها مراقب فرنسي مدني.
أما المسائل التي تتصل بالمقيم العام والمراقبين المدنيين والقضاء الفرنسي، فقد فصل فيها وحدها مراسيم صدرت من رئيس الجمهورية الفرنسية. وتتنازع الحالة السياسية والإدارية والقضائية الآن في تونس سلطتان؛ إحداهما محافظة يمثِّلها الباي، والأخرى مجددة حديثة هي سلطة الفرنسيين. وكان أهم ما قامت به دولة الحماية هو الحد بقدر المستطاع من التدخل الأجنبي في شئون المال والقضاء؛ فضمنت فرنسا الدين التونسي، ووافقت بريطانيا العظمى وإيطاليا على إلغاء اللجنة المالية، وعاد الميزان الاقتصادي في تونس إلى الاستقرار بفضل نظام ثابت لإدارتها المالية، ووضع ميزانية لها على المنهج المألوف، وجعلت للباي مخصصات ينفق منها على بيته وحاشيته، ولا تزال الحكومة الفرنسية تعتمد في ميزانية تونس بعض المبالغ الخاصة كالإعانة التي ترصدها لأسقفية قرطاجنة، وأصبحت وحدة العملة هي الفرنك لا القرش، بمقتضى مرسوم أول يوليو عام ١٨٩١م.
وأُنشئتْ محاكم فرنسية بمقتضى القانون الفرنسي الصادر في ١٠ أبريل عام ١٨٨٣م، ووافق الباي بمرسومه الصادر في ٥ مايو من العام نفسه على أن الذين كانوا يتمتَّعون بالامتيازات يحقُّ لهم التقاضي أمام هذه المحاكم الجديدة؛ ولذلك أخذت الدول الأجنبية الواحدة تلو الأخرى تلغي محاكمها القنصلية، كما أنها تنازلت عن المزايا الجمركية التي كانت تتمتع بها أيام الامتيازات، وأبدت إيطاليا وحدها بعض التحفظات، فلما انتهت معاهدتها مع تونس عام ١٨٦٨م، وهُزمت في عدوة بالحبشة، اضطرت إلى الاعتراف بالحماية الفرنسية على تونس، ولكن تركيا رفضت الاعتراف حتى معاهدة سيفر ١٩٢٠م، وبالرغم من هذا احتفظت إيطاليا بمكانة ممتازة في السلطنة، وأبت التنازل عنها، ويرحل إلى تونس عددٌ كبيرٌ من الإيطاليين، وتنشر إيطاليا نفوذها عن طريق الصحافة وبيوت المال ومعاهد الثقافة بنوع خاص، ولا تخضع هذه المؤسسات للرقابة الفرنسية بمقتضى الاتفاقات المعقودة بينها وبين فرنسا، وهي تشكو مع ذلك من عدة أمور فيها حيف برعاياها، وفي عام ١٩١٩م اعترفت فرنسا بملكية إيطاليا لواحتَيْ غات وغدامس، بمقتضى اتفاقٍ وضع حدًّا للمشكلة الإيطالية المعلقة في تونس.
وساعدت الحماية فرنسا على أن تقوم في السلطنة باستغلال الموارد الطبيعية، وتزويد البلاد بحاجاتها الثقافية والاجتماعية كالمستشفيات والصيدليات، وإعداد الأطباء وإنشاء الجمعيات الخيرية والمعاهد العلمية المختلفة، وقد أدَّى التقدُّم الحديث والتوسُّل بالأسباب السليمة الصحيحة إلى انتعاش اقتصادي مشجع.
وتونس بلاد زراعية أولًا، وقبل كل شيء تنبت الحبوب والكروم والزيتون والبلح والخضر، وكذلك الفلين والحَلْفَاء. على أنها قد أصبحت بمرور الزمن تصدِّر الحديد والرصاص والخارصين، ثم الفوسفات بنوع خاص منذ أن كشف مناجمه ب. توماس عام ١٨٨٥م، أما وارداتها فهي الوقود والحاصلات الاستوائية، ومقدار كبير من المصنوعات.
وتبلغ تجارتها الخارجية حوالي ثلاثة مليارات من الفرنكات، وظل ميزانها التجاري في عجز عدة سنوات، ولم تكن مواردها من قدوم السياح كافيةً لسد هذا العجز.
وعملت الحكومة على تيسير الاستعمار الأوروبي، ووضع ملكية الأراضي على نظام حديث. فأصدرت قانونًا عقاريًّا عامًّا ينص على أن تسجيل الأراضي اختياري، لا يتم إلا بموافقة محكمة مختلطة أنشئت لهذا الغرض. وصدر مرسوم في مارس عام ١٩٢٤م مهَّد للقيام بمسح الأراضي، وفي باكورة عهد الاحتلال الفرنسي ترك امتلاك الفرنسيين للأراضي لتصرفهم الشخصي، ولم تنتهج الحكومة سياسة إسكان الفرنسيين المدنيين في الأراضي التونسية، والسير عليها سيرًا حثيثًا إلا منذ عام ١٩٠٠م، وأخذت الحكومة تبتاع الأراضي لتبيعها مرة أخرى بشروطٍ يسيرةٍ جدًّا للفرنسيين من خريجي المدرسة الزراعية الاستعمارية في تونس، وأخذ الإيطاليُّون ينافسون الفرنسيين بكثرة فلاحيهم لا بعدد ضياعهم، ولما رأت فرنسا أن الفرنسيين المدنيين يقلُّ إقبالهم على الهجرة شرعت تستنُّ سياسة لتيسير التجنُّس، بيد أن النزاع الذي أثارتْه إنجلترا في هذا الصدد أمام محكمة لاهاي الدولية دفع الحكومة إلى إصدار قانون فرنسيٍّ في عشرين ديسمبر عام ١٩٢٣م يسَّر التجنُّس للأجانب والوطنيين تيسيرًا كبيرًا، ووافقتْ بريطانيا بوجهٍ عامٍّ على قواعد هذا القانون، وهي متعلِّقةٌ بصفة خاصة برعاياها المالطيين. أما الإيطاليون فقد تخلصوا باتفاقاتهم الخاصة من ضروب التجنيس الإجباري، وإن قبل بعضهم التجنس مختارًا، ويبلغ عدد المتفرنسين في الوقت الحاضر ربع السكان الفرنسيين، ولا يزيد عدد المسلمين فيهم على ألفين، بينما يزيد عدد اليهود على خمسة آلاف.
واحتفظ اليهود وبينهم آلاف من أصل أوروبي، بالرعوية الإيطالية.
وظلوا في غالبية شئونهم من رعايا الباي خاضعين للسلطة والقضاء المحليين، إلا في الشئون المتصلة بالأحوال الشخصية، فتفصل فيها محكمة تونس الربانية، كما يفصل فيها أيضًا كتاب العقود الإسرائيليين، ولا يؤدي يهود تونس الخدمة العسكرية، كما أنهم لا يلتحقون بوظائف الحكومة على وجه عام، ويثير تقدمهم السريع في مضمار الحضارة الأوروبية مشكلة تجنيسهم جملةً أو زرافات بالجنسية الفرنسية، وبمقتضى المرسوم الصادر في ٣٠ أغسطس عام ١٩٢١م أنشأت الحكومة لليهود جميعًا على اختلاف جنسياتهم مجلسًا مليًّا يتألَّف من اثني عشر عضوًا ينتخبون على درجتين، ومدة عضويتهم أربع سنوات، ولهذا المجلس حق الفصل في المسائل المتصلة بالإعانات والعبادات، وتعين الحكومة رؤساء الطوائف اليهودية الأخرى، وكذلك حاخام الربانيين الأكبر، ولا يُقبل اليهود على القيام بشعائر دينهم، وإن كان للدعوة الصهيونيو هناك مكانة ملحوظة.
وقد سعت الحكومة الفرنسية إلى النهوض بالإدارة الوطنية والأحوال الاقتصادية والدينية للمسلمين، مع احترام شعورهم الديني، ولا تزال أمامها عدة مشاكل لم تُحل، وتتطور الجماعة الإسلامية تطورًا جوهريًّا على الرغم من مقاومتها للحياة الأوروبية، ومن سبق الحوادث التكهُّن بنتائج هذا التطور. أما حركة الدستور التي تطالب بالحكم الذاتي، والتي نشطت في أعقاب الحرب فقد كبح جماحها المقيم العام لوسيان سانت، وكان بارعًا في ذلك، والظاهر أن الأهلين راضون الآن بالإصلاحات التي اتجهتْ إليها حكومة الحماية في سياستها الداخلية ما بين سنتي ١٩٢٠ و١٩٣٠م.
وتقوم السياسة الفرنسية الآن على مبدأين أساسيين: نزوع إلى زيادة التعاون تدريجيًّا مع الأهالي الوطنيين، وتوسع في سلطان المجالس المنتخبة.
وقد تمتع الأهلون بحقوق جديدة كإنشاء المجالس البلدية والتوسُّع في حرية الصحافة والاجتماع.