القيروان
والقيروان في الواقع مدينتان، الأصلية منهما محاطة بسور محصن من الآجر، له شرفات وأبراج مدوَّرة، وقصبة محيطها ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون ياردة، ويعقب ذلك ربض متسع يمتد ناحية الشمال والشمال الغربي، ويعرف بربض جلاص نسبةً إلى قبيلة تسكن المنطقة المجاورة، وقد نشأ ناحية الجنوب في العهد الأخير حي أوروبي صغير، وفي داخل المدينة شبكة من الدروب الضيقة الملتوية، وفي المدينة نشاط تجاري صناعي، مع أنها فقدت كثيرًا من مكانتها الاقتصادية، والصناعة فيها وطنية كصناعة البسط والأغطية الصوفية والنحاس والجلود من سروج وأحذية. واشتهرت القيروان فيما مضى بما شُيد فيها من دور العبادة، وأهمها مسجد سيدي عقبة الكبير، وهو من أكبر المباني في إفريقية الشمالية، وقد بُني مع المدينة نفسها، ومن المباني الأخرى مسجد سيدي صاحب، بُني في القرن الأول للهجرة وجُدِّد بناؤه ووُسِّع في القرن السادس عشر للميلاد، ومسجد الأبواب الثلاثة الذي يعاصر المسجد السابق، ومدرسة سيدي عبيد الغرياني، التي أنشئت في القرن السادس عشر، وقد أخذوا مواد البناء لأقدم المساجد من سوسة وقرطاجنة؛ ولذلك كان فنها خليطًا عجيبًا من الفن البوزنطي والفن الشرقي، ويتضح أثر الفن الشرقي في زخارف القيشاني والخشب، وهي تُماثل ما في العراق وبغداد، أما المباني الأحدث ففيها سقوف خشبية مقسمة، وزخارف عربية يظهر فيها أثر أندلسي مغربي، وفي مباني القرنين السابع عشر والثامن عشر أثر المهندسين والعُمَّال الفرنجة وبخاصة الطليان منهم.
تاريخها
يرجع تاريخ القيروان إلى الفتح العربي، أنشأها عقبة بن نافع سنة خمسين من الهجرة لتكون قاعدة أعماله الحربية، ومخزنًا لمؤنته، وليرهب بها قبائل البربر، وقد زعموا أن عقبة قال إنه أرادها معسكرًا لجند الإسلام إلى آخر الزمان، وقد شُيدت القيروان على أنقاض مدينة حمودة أو قمونية الرومانية، أو بالقرب منها، واستعمل العربُ أنقاضها في مبانيهم، واختير موضع المدينة على مسيرة يومين من البحر حمايةً للمسلمين من الروم، الذين ظلَّت المدن الساحلية بأيديهم، وقد أقام عقبة أول ما أقام قواعد مسجده، فقصرًا للحكومة، ثم منازل لجنده وسورًا طوله ٢٧٥٠ ياردة. وقد روى الناس عن تخطيط المدينة كثيرًا من الأساطير، زعموا أن موضعها كان أدغالًا كثيفة تمرح فيها الظباء والحيَّات، أمرها عقبة فاختفت، واستلهم عقبة من حلمٍ رآه مكان القبلة، ومحراب المسجد، وعين ماء لا غناء عنها لجنده، وقد غضب الخليفة عليه فاستدعاه إلى المشرق عام ٥٥ من الهجرة، ولما يتم بناء القيروان، فخر بها خلفه دينار أبو المهاجر، وبنى على ميلين منها مدينة جديدة أسماها تيكروان، فلما صفح الخليفة عن عقبة وأعاده إلى إفريقية جدد بناء مدينته فأصبحت قصبة إفريقية الإسلامية ومقر ولاتها، وقد تعرَّضت المدينة بعد وفاة عقبة لأحداثٍ شتى، واحتلها البربر في العام الرابع والستين من الهجرة بعد فتنة كسيلة، وظلَّتْ في أيديهم أربع سنين، ثم استولى عليها الوفرجومة ونهبوها في فتنة الخوارج، واقترفوا فيها كثيرًا من المظالم فتفرَّق عنها سكانها، وما انقضى الشهر الرابع عشر حتى جاء أمير هوارة أبو الخطاب الإباضي، فطرد الوفرجومة واستعمل على المدينة عبد الرحمن بن رستم سنة إحدى وأربعين ومائة من الهجرة، وبعد أربعة أعوامٍ انتصر ابن الأشعث على الخوارج وأعاد مقر الحكومة إلى القيروان. وقد حاول إصلاح ما أفسده البربر وعمل على تحصينها، فسوَّرها بحائط من الآجر عرضه اثنا عشر ذراعًا، إلَّا أن ذلك لم يمنع قبائل الإباضية تحت إمرة أبي حاتم من حصار المدينة سنة ١٥٤ﻫ، فحُبس بها عاملها عمر بن حفص، وكان قد فرَّ من طبنة ثم قُتل أثناء الحصار، وخلفه جميل ويقال حامد بن صقر، فاستسلم للعدو وفتح له أبواب المدينة وقنع الفاتح بدكِّ حصونها، فلم تقع مذابح وتُرك الأهلون وشأنهم، ولم يطُلْ عمر الخوارج بها سوى عام واحد. استعاد المدينة بعده يزيد بن حاتم، فأعاد بناء المسجد الكبير، وخص كل طائفةٍ بسوق، ثم اتَّسعت رقعة القيروان وبلغت أوج عزها أيام الأغالبة، وتنافس أفراد هذه الدولة في تجميلها بروائع الآثار، وأكثروا فيها المباني النافعة.
فمد زيادة الله الأول وإبراهيم أنابيب الماء، وأقاما الصهاريج بعد أن أصبحت الأحواض التي بُنيت أيام الخليفة هشام لا تفي بحاجة الناس، ولم تندثر هذه الأحواض، فقد رمم الفرنسيون أحدها ولا يزال يعرف بحوض الأغالبة، أما المسجد الجامع فقد بُني من جديد، وكان مسجدًا متواضعًا بناه عقبة، فهدمه حسن بن النعمان، ثم أعاد بناءه وزيَّنه بأعمدةٍ من الرخام جُلبت من أطلال قرطاجنة، وسرعان ما ضاق المسجد بالمصلِّين، فوُسِّعَ عام ١٠٥ للهجرة، ثم جدَّد يزيد بن حاتم بناءه كله ما عدا المحراب، ثم نقض زيادة الله الأول المسجد والمحراب جميعًا، وأقام مكانه المسجد الحالي، ويقول البكري: إن تكاليف البناء بلغت ثمانين ألف مثقال من الذهب، وأتمَّ إبراهيم بن أحمد عمل زيادة الله، فمدَّ البناء الرئيسي، وابْتَنَى فوق الصحن المتصل بالمحراب قبةً تسمَّى قبة باب البهو، طولها مائتان وعشرون ذراعًا، وعرضها مائة وخمسون، ويقسمها أربعمائة وأربعة عشر عمودًا إلى سبعة عشر صحنًا، وأصبح المسجد الكبير يُضارع أشهرَ آثار الشرق، وعمرت في هذا العهد دور أخرى للعبادة، كمسجد الأبواب الثلاثة، ومسجد سيدي صاحب «مسجد البربر»، ومسجد الأنصار، وقد زعموا أن هذا المسجد بناه قبل دخول عقبة الصحابيُّ رويفع بن ثابت.
وشيدت خارج المدينة مساكن الأمراء، كرقادة والقصر القديم، ويعرف أيضًا بالعباسية، بناه إبراهيم بن الأغلب سنة ١٨٤ﻫ، على ثلاثة أميال شمال شرقي القيروان، وجعله قصبة الإمارة، وأقام فيه مع حرَّاسه الزنوج، ونشأتْ حول القصر مدينة مزودة بالحمامات والنزل والأسواق، يحيط بها سورٌ ذو خمسة أبواب، وعلى ميسرةٍ منها قلعة تُعرف بالرصافة، أما رقادة فكانت على أربعة أميالٍ ناحيةَ الجنوب الغربي، وهي من آثار إبراهيم بن أحمد، الذي اختار مكانًا عُرف بطيب هوائه، وبنى فيه قلعة نشأت حولها مدينة هامة ذات أسواقٍ وحمامات، وبها بساتين وحدائق واسعة، ومحيطها أربعة وعشرون ألف ذراع.
وكانت مدينة القيروان سوقًا تجارية كبيرة، كما كانت مزارًا مكرمًا وقصبة دولة قوية، اصطفَّت فيها حوانيت التجار على جانبي طريق مسقوف طوله نحو ميلين، وكانت مدينة علم، للمالكية فيها حظوة، وكثر فيها تلاميذ علماء أجلاء، كأسد بن الفرات، وابن رشيد، وسحنون، وازدهرت فيها دراسة الطب، وأنشأ فيها مدرسة نظامية إسحاقُ بن عمران اليهودي طبيب الأمير زيادة الله الثاني، وتلميذه إسحاق بن سليمان.
وزال حكم الأغالبة وظلَّت القيروان على عزها القديم أيام الفاطميين وأوائل الزيرية، رغم أن المهدي عبيد الله نقل مقر الحكومة إلى المهدية.
وقد لقيت المدينة ألوانًا من البلاء إبان فتنة أبي يزيد، وفي عام ٣٣٣ﻫ استولى عليها النكارية ونهبوها، غير حافلين بتوسُّل الأعيان والعلماء الذين قدموا يناشدون الفاتحين رحمتهم، ثم استعادها الخليفة سنة ٣٣٤ﻫ، فبنى على مسافةٍ منها مدينة صبرة التي أسماها المنصورية، إشارةً إلى انتصاره على أبي يزيد، واتخذها عام ٣٣٧ﻫ مقرًّا له، ثم جاء خلفه المعز، فنقل إليها أسواق القيروان ومصانعها رغم تذمُّر الأهالي الشديد، وأُقيمَ حول المدينة الجديدة سور له خمسة أبواب أهمها باب الفتوح، يخرج منه الأمير إلى الحرب على رأس جنده، ولكن رقادة طمست معالمها بعد أن هجرها أهلوها وخربها النكارية، فلم يبق منها غير حدائقها، ونفقت تجارة القيروان والمنصورية طوال هذا العصر، فازدهرت فيهما صناعة البسط والمنسوجات القطنية والصوفية، وامتدَّت حول المدينة مزارع وحدائق، وزادت ثروة الأهالي حتى إن عمَّال الفاطمية استطاعوا غصب أربعمائة ألف دينار منهم دفعة واحدة، ويروي البكري أن المكوس التي تجبى يوميًّا عند باب من أبواب المنصورية كانت تبلغ ستة وعشرين ألف درهم، وشكا أهل القيروان ظلم الفاطميين، وظل جمهورهم على مذهب أهل السنة، وتجلى سخطهم في معارك دموية وقعت أوائل عهد الزيرية، وفي عام ٤٠٧ﻫ شبَّت فتنةٌ قُتل فيها ثلاثة آلاف شيعي، ونهبت العامة مدينة المنصورية، وقابل أهل القيروان خلاف المعز مع الفاطميين بالترحاب.
وأدَّت هذه الفتن إلى فتح الهلالية إفريقية، فلقيت منه القيروان بلاءً شديدًا، فقد أمر المعز جنوده بإخلاء المدينة بعد هزيمة حيدران، فنهبوها قبل انسحابهم إلى المنصورية، ثم أعاد بناء أسوار القيروان، فبلغ طولها ٢٢ ألف ذراع، وأحاط المدينتين بسورين بينهما نصف ميل، ورغم كل هذه التحوطات، اشتد هجوم الهلالية وازداد عنفًا، فهجر القيروانَ فريقٌ من أهلها وعزم المعز على الجلاء عن المنصورية والتراجع إلى المهدية، فدخل العرب القيروان وأذاقوها العذاب؛ محوا كل ما فيها من جمالٍ وجلال، ولم ينجُ من شرهم شيء من ذخائر أمراء صنهاجة، وعاثوا في المدينة سلبًا وتدميرًا، وتفرَّق الأهلون أيدي سبأ، فذهب بعضهم إلى مصر، وهاجر آخرون إلى صقلية والأندلس، ورحل رهطٌ كبير إلى فاس.
ولم تفق قصبة إفريقية من هذا البلاء، فقد نهبها الهوارة مرةً أخرى سنة ١٠٦٠م، وتنازعها الزيرية والقائد ابن ميمون، الذي حاول أن يقيم فيها إمارة مستقلة لنفسه، مستعينًا ببني حماد، وظلت على الرغم من هذا في يد العرب، عزلاء لا تدفع عادية البدو، وفرض هؤلاء المكوس على كل شيء، وأصبح أهلوها قلة، ساءت صنائعهم وكسدت تجارتهم، وعمر عبد المؤمن جانبًا منها، ولكنها سارت في طريق الاضمحلال مسرعة الخُطا أيام خلفائه والحفصية من بعدهم، وكادت تقفر المدينة في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، ولم يعد يسكنها سوى من لجأ إليها من الفلاحين، وأخذ عدد سكانها في الزيادة أوائل القرن السادس عشر، ولكنَّها ظلَّت على بؤسها، وجار أمراء تونس على أهل القيروان، فلم تهدأ لهم ثورة، بل نفضوا عن كواهلهم حكم الحفصية عندما قبل هؤلاء حماية الإسبان، وأمَّروا عليهم سيدي عرفة الشبي، ولم يستطع مولاي حسن — رغم مساعدة الإسبان — التخلص من هذا الأمير الذي عضدته قبائل العرب وأتراك القرصان درغوث.
ونزل بالقيروان إبان الحكم التركي ما نزل بغيرها من النكبات، وأراد الباي مراد عام ١٧٠١م عقاب أهلها على فتنهم فخرب الأسوار والدور، ولم يبق فيها إلا المساجد والزوايا، بينما بذل حسين بن علي مؤسس الدولة الحسينية جهودًا عظيمة لتعمير القيروان، فجدد السور الحصين، وعمر أكثر من خمسين مسجدًا، وشيد لنفسه قصرًا يُقيم فيه إذا خرج رجاله إلى الجريد؛ لجباية المكوس، وعطف الأهلون على الباي ونصروه على ابن أخيه علي باشا، الذي لم يستطع الاستيلاء على القيروان، إلا بعد حصارٍ دام خمسة أعوام، وهدمها الأمير الظافر مرة أخرى، ثم أعيد بناؤها، فكانت عام ١٧٨٤م أعظم مدينة بعد تونس، بل كانت أفخم منها بناءً، وأنظف طرقًا.
ونشطت فيها التجارة والصناعة، وأعفي أهلها من الضرائب لولاء آبائهم للباي حسين، واحتفظت القيروان بحرمتها الدينية، وظل سكانها على عدائهم للنصارى.
ولما أبرمت معاهدة باردو عام ١٨٨١م التي جعلت تونس تحت الحماية الفرنسية، ظلت القيروان معقلًا من معاقل الحركة الوطنية، فسيرت لها فرنسا ثلاثة جيوش تحت قيادة الجنرال سوسييه، زحفت من تبسة، وتونس، وسوسة، وتلاقت أمام أسوار المدينة، فاحتلتها بلا قتال في التاسع والعشرين من أكتوبر عام ١٨٨١م.