الفصل الثاني
(المنظر غرفة كبيرة بيضاء مشوشة. يفتح بابها الخارجي على الممر والسلم، والبابان —
إلى
الجانبين — يؤديان إلى غرف أخرى، وعلى الجدران صور منقولة عن صور حسنة، ولكنها بغير إطار،
وهي مثبتة بدبابيس صفراء، وهناك كرسي قديم ذو مساند بلون النبيذ، وهو واطئ ومريح، وموضوع
في
وسط الغرفة، وتحيط به كتب وحبر وأقلام وصحف كأن رجلًا غارقًا إلى عنقه في العمل، وإن
كانت
الساعة شاهدة بأن الوقت الحادية عشر فقط، وعلى مائدة صغيرة أوراق، وأعقاب سجاير، وزجاجتا
خمر، وتوجد كتب كثيرة على الرفوف، وكذلك على الأرض كوم متهافت فوقه قبعة وعصًا سوداء
ذات
قبضة سميكة.
ماليس جالس على كرسيه وهو لابس البنطلون ومعطفًا للمبيت وحذاء، وذقنه غير محلوقة،
وليس
على رقبته بنيقة، وهو يكتب ثم يقف ويبتسم، ويشعل سيجارة، ويقرأ في ورقة ليُقدِّر وقْعها
الموسيقي في أذنه.)
ماليس
:
«لا كلمة ولا همسة حرية من هؤلاء السادة النُّجُب لابسي الثياب الأنيقة السوداء،
لا إشارة ولا تعبيسة، لا شيء سوى الصمت الأثري لاحترامهم العميق أمام الاستبداد
الظافر».
(وبينما يتكلم تدخل من الممر سيدة كهلة في ثياب عتيقة، وقبعة سوداء
من الخوص، وتمضي إلى دولاب وتُخرج منه مِنْشفة ومِقَشة، وحركاتها بطيئة وهادئة كأن
الوقت فسيح أمامها، ووجهها عريض، وحاجباها كحواجب الصينيين.)
ماليس
:
انتظري يا مسز ميلر.
المسز ميلر
:
إني متأخرة يا سيدي.
(تتقدم وتقف أمامه. ماليس يكتب.)
المسز ميلر
:
يوجد رجل متربص تحت.
(ماليس يرفع وجهه، وإذ ترى أنها لفتت نظره تقف، ولكنها تستأنف
الكلام عندما ترى أنه يهم بالعودة إلى الكتابة.)
المسز ميلر
:
رأيته أول مرة أمس بعد الظهر، وكنت خارجة لأشتري قليلًا من الصودا، وبينما أنا
عائدة مررت به في الدور الثاني وهو ينظر إلي بارتياب، فقلت لنفسي في ذلك الوقت —
قلت لنفسي: إنك يا هذا كالكلاب الحائمة.
ماليس
:
ثم ماذا؟
المسز ميلر
:
نظرت من حاجز السلم فرأيته يُحدِّق في صورة فوتوغرافية، فقلت لنفسي: إن هذا مكان
غريب للنظر في الصور. الظلام شديد، وعلى المرء أن يكدَّ عينه جدًّا، فأحدثتُ صوتًا
بكعب حذائي (تقلد الحركة) فأسرع فوضع الصورة في
جيبه، ورفع يده ليدق على الباب رقم ٣، فنزلت إليه، وقلت: «إنك تعلم أنه لا أحد يسكن
هنا، أليس كذلك؟» فقال بلهجة البريء الساذج: «أريد رجلًا اسمه سميذر»، فقلت له: جرب
البيت رقم ١٠، فقال: «أشكرك جدًّا»، فقلت: نعم، «ستجده في مثل هذا الوقت من النهار،
عِمْ مساء»، وقلتُ لنفسي (تغمض إحدى عينيها):
فيران! إن هنا عدة أركان في هذه الناحية.
ماليس
(بمجاملة فيها شيء من الذهول)
:
حسن جدًّا يا مسز ميلر.
المسز ميلر
:
وفي هذا الصباح جاء ثانية إلى الطابق الأول رافعًا يده، ومتظاهرًا بأنه سيدقُّ
الباب رقم ٢، فقلت: «أوه! ألا تزال تبحث عنه؟» — قلت هذا بلهجة جدية — فقال بلهجة
ودية: «آه! لقد وَجَّهْتني أمس وجهة خطأ. هنا طلبتي»، فقلت: «هذا من حسن الحظ، فما
هنا أحد يسكن. عم صباحًا»، وصعدتُ إلى هنا مباشرة، وإذا كنتَ تحب أن تراه وهو يباشر
مهمته، فما عليك إلاَّ أن تنزل إلى الطابق الأول؛ فإنه هناك الآن متظاهرًا بأنه
يريد أن يدق باب رقم (١). فيا لسعة حيلته!
ماليس
:
ما هذا الرجل؟ ما شكله؟
المسز ميلر
:
يشبه تمامًا الصور التي تراها على الصفحة الأولى في الجرائد اليومية؛ قذر ناعم
المظهر، وعلى رأسه قبعة واطئة من ذلك الطراز الذي لا يطاق.
ماليس
:
أليس دائنًا؟
المسز ميلر
:
إنهم لا يسلكون هذا السلوك. ومن حقك أن تعرف يا سيدي، لا شك أنه يجيء هنا لخير
(ثم بعد سكوت قصير) ألا نقفه عند حد؟ إني
أستطيع أن أدلق عليه جرة من الماء كأنَّ هذا حدث عفوًا.
(ماليس يبتسم ويهز رأسه رافضًا.)
ماليس
:
يمكنك الآن أن تواصلي عملك؛ فإني سأحلق.
(ينظر إلى الساعة ويدخل الغرفة. المسز تدير عينها في المكان على
الكرسي، وتخلع قبعتها وتضعها على المنضدة، وتطوي كُمَّيها ببطء، ثم تضع كفيها على
ركبتيها وتستريح. يسمع طرق خفيف على الباب، فتقوم على مهل وتمشي إلى الباب. يفتح الباب
فتظهر كلير.)
كلير
:
المستر ماليس هنا؟
المسز ميلر
:
نعم، ولكنه يحلق ذقنه.
كلير
:
أوه.
المسز ميلر
:
هذا لا يستغرق منه وقتًا طويلًا. ما اسمك؟
كلير
:
هل لك أن تقولي: سيدة؟
ميلر
:
إن هذا مخالف للأصول، ولكن إذا جلست لحظة فإني أعمل ما أستطيع (تقدم كرسيًّا وتمسحه بمريلتها، ثم تمضي إلى باب الغرفة
الداخلية، وتتكلم منه) سيدة تريد أن تراك (تعود وترفع أعقاب السجاير) هذه ساعة عملي، لن أثير غبارًا كثيرًا
(تلاحظ ارتفاع حاجبي كلير وهي تنظر إلى أكوام الكتب
والورق) إني أتقي نقل هذه الأشياء من أماكنها.
كلير
:
لا شك.
المسز ميلر
:
إنه يجب أن تكون عاداته مرعية.
(تشتغل بالكنسة، ثم تعود إلى المنضدة وترفع زجاجة، وتنظر إليها في
الضوء وتجدها فارغة، فتقلبها وترميها في سلة المهملات، ثم ترفع الزجاجة الثانية فترى
فيها بعض الشراب؛ فتسدها، وتضعها في جيب مريلتها.)
المسز ميلر
:
إنه يتناول شرابه من زجاجة مفتوحة لساعتها، لا كهؤلاء اﻟ …
كلير
(ناهضة)
:
سأجيء في وقت آخر، فيما بعدُ؟ …
المسز ميلر
:
إن المستر ماليس لا يطلعني على أسراره، وكل منا يحتفظ بشئونه … ولا يُفضي بها إلى
الآخر … ربما كنت تحبين أن تطالعي الجريدة — إنه يتلقاها كل صباح —
جريدة وستمنستر.
(تنتزع الجريدة من مقعد الكرسي وتقدمها لكلير التي تجلس وعليها
أمارات الضيق لتفكر. المسز ميلر تعمل منفضتها القذرة مرة أو اثنتين، ثم تقف ساكتة،
وينقطع صوت الحركة فترفع كلير رأسها.)
المسز ميلر
:
لا أريد أن أعطلك بعمل، ولكنه يجب أن تكون أشياؤه نظيفة، (تسمع صوتًا من الغرفة الداخلية) هذا هو، لا بد أنه
جرح نفسه. سأناوله الدخان.
(ترفع من بين الأكوام علبة دخان وتنقر على الباب، يُفتَح الباب.
كلير تتمشى قلقة في الغرفة.)
المسز ميلر
:
الدخان. ثم إن السيدة منتظرة؟ …
(كلير تقف أمام رسم منقول عن صورة (الحب العفُّ والنَّجسُ)
لتيتان.)
(المسز ميلر تنظر إليها وعلى فمها ابتسامة كابتسامة الصينيين. يدخل
ماليس … وخيط من الدخان يتدلى من خده.)
ماليس
(يتناول قبعة المسز ميلر من فوق المنضدة ويناولها إياها)
:
نظفي الغرفة الأخرى.
(تخرج …)
ماليس
:
جميل منك أن تحضري. هل أستطيع أن أعمل شيئًا؟
كلير
:
إني محتاجة جدًّا إلى نصيحة.
ماليس
:
ماذا؟ أتريدين أن تنشري جناحيك؟
كلير
:
نعم.
ماليس
:
إني فخور بأني قدمت لك هذه النصيحة، متى صممت على ذلك؟
كلير
:
في صباح اليوم التالي لليلة التي نصحتني فيها.
ماليس
:
وماذا فعلت؟
كلير
:
ذهبت إلى أبي وكنت أعرف أنه سيتألم جدًّا، ولكني أعتقدت أن في وسعي أن أجعله
يفهم. لا فائدة، لقد كان رقيقًا جدًّا، ولكنه لم يفهم.
ماليس
(برقة)
:
نحن الإنجليز نحب الحرية فيمن ليسوا منا. نعم.
كلير
:
كان هذا فظيعًا؛ فهناك الأطفال ومربيتي العجوز. كلا، لا أستطيع أبدًا أن أعيش في
بيت أبي الآن؛ فإنهم خليقون أن يظنوا أني كنت. كلا مستحيل تمامًا، فعزمت على أن
أرجع لمالك رِقِّي، ثم جاء هو نفسه، لم أستطع صبرًا على هذا، لم أطق أن أُحمَل إلى
بيته ثانية، وأن أستأنف تلك الحياة من جديد، كلا لم أستطع أبدًا، فانتظرت أن تتاح
لي فرصة ثم ركبت القطار ونزلت في فندق.
ماليس
:
برافو.
كلير
:
لا أدري، ليس عندي ذرة من الشجاعة هذا الصباح، إن علي الآن أن أكتسب رزقي، ليس
معي مال، عندي فقط بضعة أشياء أستطيع أن أبيعها، والأمس كله ظللت أتمشى وأنظر إلى
النساء؟
كيف تتاح للإنسان فرصة للعمل يا تُرى؟ …
ماليس
:
إن زوجك لا شك يؤثر أن يرتب لك معاشًا على أن يدعك تجرحين كرامته بأن
تشتغلي.
كلير
:
إذا لم أرجع إليه فإني لا أستطيع أن أقبل هذا المعاش.
ماليس
:
حسن.
كلير
:
لقد فكرت في الاشتغال كممرضة، ولكن هذا يحتاج إلى تمرين طويل، وأنا أكره جدًّا أن
أرى المرضى يتألمون، والواقع أني عديمة الحيلة، ولا أستطيع حتى أن أرسم، وقد جئت
لآخذ رأيك في المسرح.
ماليس
:
هل مثَّلتِ من قبلُ؟ (كلير تهز رأسها) قد لا
تعتقدين ذلك، ولكني سمعت أن هناك تفضيلًا للذين يتمرنون، وهناك الغناء لا أشير به،
ولكن ألا يستطيع أخوك شيئًا؟
كلير
:
ليس لأخي ما يستغني عنه، ثم إنه يريد أن يتزوج، وسيرجع إلى الهند في سبتمبر،
والصديق الوحيد الذي يمكن أن أضايقه هو المسز فولرتون، ولكنها متزوجة.
ماليس
:
أتذكَّر زوجها.
كلير
:
وفضلًا عن ذلك فإني إذا ذهبت فإني سأُحاصَر نهارًا وليلًا، فلا بد من
التواري.
ماليس
:
إن دمي يغلي حين أفكر في مثيلاتك من النساء؛ كان الله في عون المرأة التي لا مال
لها.
كلير
:
يظهر أني سأضطر إلى العودة إلى زوجي.
ماليس
:
لا لا، سنجد وسيلة ما، حافظي على شجاعتك وقوة روحك مهما كان الثمن. ماذا؟ أتدعينه
يَحُفُّ بك ويتعلق حتى لا يبقى شيء سوى الفراغ والألم، وتفقدي حتى القدرة على
التألم؟ تجلسين في غرفة استقباله، وتُؤدِّين الزيارات، وتلعبين البردج، وتخرجين معه
للعشاء وتعودين إلى الواجب، وتُحسِّين كل يوم أنك أضأل وأضأل، وتسألين فعلًا يومًا
بعد يوم ثم تهرمين و… تموتين.
(الجرس يدق.)
ماليس
(ناظرًا إلى الباب نظرة شك)
:
هل تظنين أنه عرف أين أنت ذاهبة؟
(تهز رأسها.)
ماليس
:
هل رأيتِ رجلًا على السلم وأنت صاعدة؟
كلير
:
نعم، لماذا؟
ماليس
:
إنه لا يبرح المكان على ما قيل لي!
كلير
:
أوه، ولكن هذا معناه أنهم توقعوا أن … لا.
ماليس
:
إن الثقة بي ليست عظيمة.
كلير
:
يبثون عليَّ الجواسيس؟
ماليس
:
ألا تدخلين في هذه الغرفة لحظة، أم ندعهم يدقون الجرس أم ماذا؟ قد لا يكون هناك
شيء بالطبع.
كلير
:
لست أنوي أن أختفي.
(يدق الجرس للمرة الثالثة.)
ماليس
(يفتح باب الغرفة الداخلية)
:
يا مسز ميلر، انظري من الطارق، ثم اذهبي مؤقتًا.
(المسز ميلر تخرج قبعتها على رأسها وتمضي إلى الباب وتفتحه، فيسمع
صوت رجل يقول: «المستر ماليس، هل لك أن تعطيه هذه البطاقات؟»)
المسز ميلر
(عائدة)
:
البطاقات.
ماليس
:
المستر روبرت تويسدن، السير شارلس واللادي ديدموند (ينظر إلى كلير).
كلير
(وعلى وجهها أمارات الاحتقار وبدون تأثر)
:
دعهم يدخلوا.
ماليس
(للمسز ميلر)
:
أدخليهم.
(يدخل تويسدن وهو رجل ذكي حليق تبدو على شفتيه آيات العزم، ووراءه
السير شارلس واللادي ديدموند، تخرج المسز ميلر لا تجري تحيات.)
تويسدن
:
المستر ماليس؟ كيف أنت يا مسز ديدموند؟ لقد كان من حظي أن قابلتك يوم زفافك
(كلير تحني رأسها) إني محامي المستر جورج
ديدموند، فهل لك يا سيدي أن تتركنا نتحادث قليلًا مع المسز ديدموند؟
(تشير كلير إلى ماليس فيدخل الغرفة الداخلية ويغلق الباب.)
السير شارلس
:
صمت (فجأة) ماذا؟
اللادي ديدموند
:
يا مستر تويسدن هل لك أن …
تويسدن
(باضطراب)
:
يا مسز ديدموند، إني أعتذر ولكنك لم تتركي لنا حيلة أو طريقًا آخر، أليس كذلك؟
(ينتظر ردًّا فلا تجيب، فيمضي في كلامه) إن
اختفاءك قد أقلق زوجك عليك جدًّا. حقيقة يا سيدتي العزيزة يجب أن تغفري لنا هذه
المحاولة للاتصال بك.
كلير
:
لماذا بثثتم الجواسيس عليَّ؟
السير شارلس
:
لا لا، لم يتجسس عليك أحد.
تويسدن
:
يؤسفني أن أقول إن الجواب عن ذلك هو أن لنا حقًّا على ما يظهر، وأن سلوكك يُسوِّغ
عملنا (يرى وجه كلير فيسرع في الكلام) والآن يا
مسز ديدموند، إني محام، وأعلم أن المظاهر خدَّاعة. لا تظني أني أكلمك بروح الخصم؛
فإني أرجو لك الخير (ترفع عينيها ليتأثر بهذه النظرة التي
كأنما تقول: «ليس لي أصدقاء» فيسرع ويقول) إن الذي نريد أن نقوله هو
هذا: لا تدعي هذا الشقاق يستمر، لا ترتكبي عملًا تندمين عليه فيما بعد. قولي لنا:
ما هي المسألة؟ فإني واثق أن الإصلاح ممكن.
كلير
:
ليس عندي ما أقوله ضد زوجي، وقد كان تركي له عملًا فيه حماقة وليس فيه
عقل.
تويسدن
:
هذا كلام طيب.
كلير
:
ولكن مع الأسف يوجد ما هو أقوى من العقل.
تويسدن
:
لست أعرفه يا مسز ديدموند.
كلير
:
أصحيح لا تعرفه؟
تويسدن
(مرتبكًا)
:
لا ينبغي لك أن تتخذي خطوة كهذه بدون مشورة.
كلير
:
ولا بعد الاستشارة أيضًا؟
تويسدن
(يدنو منها)
:
لا يوجد شيء تحسين أنك تريدين أن تقوليه؛ شيء يمكن أن يصلح الأمور؟
كلير
:
لا أظن ذلك، وشكرًا لك.
اللادي ديدموند
:
يجب أن تفهمي يا كلير أن …
تويسدن
:
امرأة جميلة في مثل مركزك وليس لها مال — إني صريح — هذا عالم قاسٍ، ويؤسفني
جدًّا أن تصير الأمور إلى السوء.
كلير
:
وإذ عدت.
تويسدن
:
إذا كان هناك شران؛ فاختاري أخفهما.
كلير
:
إني في السادسة والعشرين، وهو في الثانية والثلاثين، ويحق لنا ألا نتوقع الموت
خمسين.
اللادي ديدموند
:
هذه نظرة سواداء مريضة يا كلير.
تويسدن
:
ماذا أمامك إذا لم تعودي؟ ما هو مركزك؟ لا سمك ولا لحم ولا طير، قنيصة صالحة لمن
يريد، صدقيني يا مسز ديدموند، إن نشوز امرأة جميلة مثلك لا لسبب سوى أن الروح الذي
تزوجت به قد ذهب. هذا جنون، ويجب أن تعلمي أنه ما من أحد يلتفت لغير الحقائق، ولو
أنه كان لك — معذرة — عاشق (تدور عينه في الغرفة ثم تستقر
عليها) فإنك إذن تكونين قد وضعت رجلك على أرض، ويكون لك شيء من
الحماية، ولكن (يتردد) ما دام أن ليس لك عشيق
فليس لك حامٍ.
كلير
:
ما عدا العشيق الذي أستطيع أن أتخذه لنفسي.
السير شارلس
:
أوه، أعوذ بالله!
تويسدن
:
نعم، يا مسز ديدموند، هذه هي الصخرة موضع الصعوبة، ليس مال، فلم يكن ينبغي أن
تكوني جميلة، ستكافحين الدنيا كلها، ولن تجدي من الدنيا رحمة، ونحن — معشر المحامين
— نرى في هذا الشيء الكثير، لقد كلمتك — بصراحة — كرجل عارف بالدنيا.
كلير
:
أشكرك، ولكن هل تظن أنك تدرك الوجه الآخر للمسألة؟
تويسدن
(مصدومًا)
:
يا سيدتي العزيزة، إن لكل عقد جانبين، وقد وفَّى زوجك بما عليه وقام
بنصيبه.
كلير
:
وكذلك فعلت أنا إلى الآن، ولن أطلب منه شيئًا، أتفهم؟
اللادي ديدموند
:
ولكن يا بنيتي لا بد لك أن تعيشي.
تويسدن
:
هل زاولت من قبل أي عمل من الأعمال؟
كلير
:
كلا.
تويسدن
:
هل عندك فكرة عن شدة المنافسة في هذه الأيام؟
كلير
:
يمكنني أن أسعى.
(تويسدن ينظر ويهز كتفيه.)
كلير
(وقد اضطرب هدوءها بسبب نظرته)
:
إن هذا جد، هذا شعور حقيقي، أتفهم؟
السير شارلس
:
ولكن يا بنتي ماذا — بحق الشيطان — يكون مصير جورج؟
كلير
:
يمكنه أن يصنع ما يشاء، هذا لا يعنيني.
تويسدن
:
يا مسز ديدموند، إني أقول بلا تردد إنك لا تتصورين ما يواجهك، أنت التي نشأت في
عزلة أتدركين أنك تقفين عند مفترق الطرق، وأن إحداها تؤدي إلى البوار؟
كلير
:
أيها؟
تويسدن
(ناظرًا إلى الباب الذي خرج منه ماليس)
:
طبعًا إذا كنت تريدين أن تعرضي نفسك على الدنيا فستجدين كثيرين يساعدونك.
السير شارلس
:
بلا شك.
كلير
:
إنما أريد أن أتنفس.
تويسدن
:
يا مسز ديدموند، عودي، في وسعك الآن أن تعودي، ولكن إذا تأخرت ضاعت الفرصة.
الذئاب كثيرة.
(ينظر إلى الباب.)
كلير
:
ولكنهم ليسوا حيث تعتقد، لقد قلت إني محتاجة إلى المشورة، وأقول لك إني جئت هنا
طلبًا لها.
تويسدن
(بهزة كتف لها معناها)
:
في هذه الحالة لا أرى فائدة من بقائي.
(يمضي إلى الباب.)
كلير
:
من فضلك لا تدع الجواسيس يتعقبونني بعد خروجي. أرجو.
الليدي ديدموند
:
إن جورج ينتظر في الخارج يا كلير.
كلير
:
لست أريد أن أقابله. بأي حق جئتم إلى هنا؟ (تذهب إلى
الباب الذي خرج منه ماليس وتفتحه وتقول) من فضلك تعال يا مستر
ماليس.
(ماليس يدخل.)
تويسدن
:
إني آسف (ينظر إلى ماليس ويحني رأسه) آسف.
عموا صباحًا.
الليد ديدموند
:
إن المستر ماليس لا شك يدرك …
كلير
:
إن المستر ماليس سيبقى هنا من فضلك في غرفته.
(ماليس ينحني.)
السير شارلس
:
يا فتاتي العزيزة، أقسم لك أني لا أستطيع أن أفهم أسلوب تفكيرك.
كلير
:
أصحيح لا تفهم؟
الليدي ديدموند
:
إن جورج راغب جدًّا في أن يستأنف معك الحياة من حيث انقطعت عند خروجك.
كلير
:
آه!
الليدي ديدموند
:
بصراحة ماذا تريدين؟
كلير
:
أن يدعني وشأني، وأقول لك بصراحة: إنه أخطأ حين بث عليَّ الجواسيس.
الليدي ديدموند
:
ولكن يا بنتي، لو أنك أخبرتنا إلى أين أنت ذاهبة كما يفعل العقلاء، لا يمكن أبدًا
أن نتركك بلا مال أو مركز من أي نوع، والله يعلم ماذا تضطرين إليه؟ (تنظر إلى ماليس).
ماليس
(برقة)
:
هذا لذيذ.
السير شارلس
:
هل تستطيع أن تكرر هذه العبارة بصوت عالٍ؟
الليدي ديدموند
:
شارلس! يا كلير، إنك لا شك تدركين أن هذه نوبة سوداء، وهناك واجبك ومصلحتك. إن
الزواج مقدس يا كلير.
كلير
:
الزواج! إن زواجي أنا قد صار توفيقًا بين حيوانين؛ أحدهما كاره غير راغب. هذا كل
ما فيه من التقديس.
السير شارلس
:
ماذا؟
الليدي ديدموند
:
يجب أن تخجلي جدًّا.
كلير
:
إني خجلة من الواقع.
الليدي ديدموند
(ترمي نظرة إلى ماليس)
:
إذ كان لا بد من الكلام في هذا فيجب أن نكون وحدنا.
ماليس
(مخاطبًا كلير)
:
هل تريدين مني أن أجلو؟
كلير
:
كلا.
الليدي ديدموند
:
لقد كنت أظن أن الإحساس العادي بالواجب. يا للسماء! ألا ترين أنك مُتخَّذة
ألعوبة؟
كلير
:
إذا كنت تُعرِّضين بالمستر ماليس فإنك كاذبة.
الليدي ديدموند
:
ما دُمتِ تفعلين ذلك؛ تجيئين إلى غرف رجل …
كلير
:
لقد قصدت إلى المستر ماليس لأنه الشخص الوحيد الذي أعرف أن له من الخيال ما يجعله
يُقدِّر موقفي، ولقد حضرت إليه منذ ربع ساعة، ولأول مرة، وطلبًا للمشورة، وهاأنتم
أولاء ترتابون به. هذا يبعث على التقزز.
الليدي ديدموند
:
أهذا هو المكان الطبيعي الذي يصح أن أجد فيه زوجة ابني؟
كلير
:
امرأته.
الليدي ديدموند
:
هل أنت مستعدة أن تستمعي لأخيك رجنالد؟
كلير
:
لقد فعلت.
الليدي ديدموند
:
أليس لك شعور ديني على الإطلاق؟
كلير
:
كلا، إذا كان الدين أن نعيش كما عشنا.
الليدي ديدموند
:
إن هذا فظيع. هذه الحالة النفسية حقيقة فظيعة.
(كلير تضحك ضحكة رقيقة كما فعلت في الفصل الأول، وكأنما ردت هذه
الضحكة الحياة إلى السير شارلس بعد أن كان واقفًا مذهولًا وهو يصغي إلى
المناقشة.)
السير شارلس
:
أستحلفك أن لا تضحكي هذه الضحكة.
(كلير تكف.)
الليدي ديدموند
(بانفعال)
:
أناشدك الحق المجرد يا كلير!
كلير
:
الحق؟ مهما يكن الحق فإن حياتنا ليست حقًّا. (تضع يدها
على قلبها) إني أحلف أمام الله أني حاولت وحاولت، أقسم أمام الله أني
لو ظننت أنه يمكن أن نتحابَّ مرة أخرى ولو حبًّا ضئيلًا لرجعت، أقسم أمام الله أني
لا أريد أن أجرح نفس أحد.
الليدي ديدموند
:
ولكنك تجرحين كل نفس. كوني عاقلة.
كلير
(وقد فقدت توازنها وسكونها)
:
ألا ترون أني أجاهد بكل ما فيّ من قوة أن لا أدفن حية، أن لا أُخنَق شيئًا
فشيئًا؟ انظروا إليَّ، لست شمعًا بل لحمًا ودمًا، وأنتم تريدون أن تسجنوني إلى
الأبد جسمًا ونفسًا.
السير شارلس
:
والله لست أدري، لست أدري!
الليدي ديدموند
(لماليس)
:
إذا كانت قد بقيت لك ذرة من الكرامة يا سيدي، فإنك تدرك أن عليك على كل حال أن
تدع ابني يكلم زوجته (تشير إلى شارلس) سننتظر
تحت.
السير شارلس
:
أريد أن أقول كلمة (لكلير) يا عزيزتي، إذا كان
هذا إحساسك فإني كرجل مهذب.
الليدي ديدموند
:
شارلس!
السير شارلس
:
انتظري، أريد أن أقول — يا للعنة — لا أعلم أني أقدر أن أقول شيئًا.
(ينظر إليها بحزن ثم يدور ويخرج ووراءه زوجته، ويسمع صوتها في
الخارج تكلمه وهو يجيبها «ماذا؟» وبينما هما خارجان يدخل جورج.)
جورج
(مقبلًا على كلير التي تستعيد هدوءها)
:
هل لك أن تخرجي لنتكلم؟
كلير
:
كلا.
(جورج ينظر إلى ماليس الذي يكون مستندًا إلى الحائط وذراعاه مطويتان
على صدره.)
جورج
(بصوت خافت)
:
كلير.
كلير
:
نعم؟
جورج
:
إنك تمتحنين صبري بشدة، أليس كذلك؟ وتكرهينني على الحضور إليك والكلام على مسمع
من هذا الرجل. إن أكثر الناس حقيقون أن يظنوا سوءًا حين يرونك في هذا
الموقف.
كلير
:
لم يكن من اللازم أن تجيء ولا أن تفكر.
جورج
:
هل كنت تتخيلين أني سأدعك تختفين بدون مجهود من ناحيتي؟
كلير
:
لإنقاذي؟
جورج
:
أستحلفك بالله أن تكوني عادلة منصفة، لقد جئت هنا لأقول لك أشياء معينة، فإذا
اضطررتني أن أقولها على مسمع منه فأنت المسئولة، فهل لك أن تُعيِّني لي موعدًا في
مكان آخر؟
كلير
:
كلا
جورج
:
لم لا؟
كلير
:
إني أعرف كل هذه «الأشياء المعينة»؛ يجب أن تعودي إن هذا واجبك، ليس لك مال،
أصدقاؤك لن يساعدوك، لا تستطيعين أن تكسبي رزقك، إنك تحدثين فضيحة، بل تستطيع أيضًا
أن تضيف إلى هذا مؤقتًا «إن غرفتك الخاصة ستكون محترمة».
جورج
:
هذا حقيقي كله ولست تستطيعين أن تدحضيه.
كلير
:
أوه (فجأة) إن حياتنا أكذوبة سخيفة تملأ النفس
اشمئزازًا، مللتها، فمن فضلك اتركني وشأني.
جورج
:
إنك تخطئين فهم ما أريد على ما أظن، لم أجئ إلى هنا لأقول لك ما تعرفينه حق
المعرفة حين يكون عقلك في رأسك، إنما جئت لأقول هذا: إن أي إنسان لم يفقد عقله
يستطيع أن يفطن إلى خديعة صاحبك؛ فإنها لا تخدع طفلًا، وإذا كنت تظنين أن سيدًا
كهذا (تدور عينه في الغرفة المشوشة حتى تقع على
ماليس) يحمي امرأة جميلة لغير شيء؛ فإنك تخطئين جدًّا.
كلير
:
احترس (ماليس تبدو منه حركة تشنجية في يديه ثم
يجمد).
جورج
:
لا أدعي أني ذكي أو ما إلى ذلك، ولكن لي عقلًا … ولست أزعم أني أرقى من الحقائق
الواضحة …
كلير
(بصوت خافت جدًّا)
:
الحقائق؟ …
جورج
:
أستحلفك أن تتركي هذه اللهجة المتعالية الشامخة فإنها لا تناسبك، واسمعي: إذا شئت
أن تذهبي إلى القارة مع إحدى أخواتك الصغيرات إلى الخريف؛ فإني مستعد أن أؤجر الدور
وأنتقل إلى النادي.
كلير
:
تطفئ الحريق بخرطوم ثمنه «بني» (ببطء) لست
عائدة إليك يا جورج؛ انتهت المهزلة.
جورج
(تصدمه لهجتها الحاسمة لحظة، ثم يواجه ماليس فجأة)
:
إذن هناك شيء بينك وبين هذا الرجل.
ماليس
(بلهجة خطرة، ولكن من غير أن يتحرك)
:
أرجو أن تعيد هذا.
كلير
:
ليس بيننا شيء.
جورج
(ينظر منها إليه)
:
على كل حال لست أنوي، لست أنوي أن أترك امرأة كانت «كلير تصنع بيديها إشارة
ماحية» لست أنوي أن أتركها للخراب المحقق بدون أن أرفع أصبعًا.
كلير
:
هذا نبل.
جورج
(بحدة)
:
لست أعرف أنك تستحقين مني أي شيء، ولكني أقسم بشرفي أني جئت إلى هنا من أجلك،
ولأحذرك عاقبة ما تفعلين (يلتفت فجأة إلى ماليس)
وأن أقول لصاحبك العزيز هذا رأيي فيه بصراحة، وأني لست أنوي أن أمكنه من لعبته؟
…
(ماليس من غير أن يتحرك أو يبعد عن الحائط ينظر إلى كلير وتتحرك
شفتاه.)
كلير
(تهز رأسها لماليس ثم تقول لزوجها)
:
أرجو أن تذهب.
جورج
:
سأخرج متى خرجت …
ماليس
:
يجب على الرجل المجرب أن يكون أصح إدراكًا.
جورج
:
ألا تخرجين؟
ماليس
:
هذا غير معقول.
جورج
:
ليس لك كلامي.
ماليس
:
صدقت، لن تَلْثِم كلماتي كلماتك.
جورج
:
ألا تجيئين؟
(كلير تهز رأسها.)
جورج
(بحدة)
:
هل تعنين أنك ستبقين في هذه الزريبة مع هذا الخنزير الشاعر؟
ماليس
(متغيرًا)
:
والله إن لم تخرج لأقتُلنَّك.
جورج
(يهدأ فجأة)
:
سنرى ما يكون من أمرك.
ماليس
(بهدوء خطر)
:
نعم، سأقتلك.
(يمضي بخفة إلى الحائط ويتناول العصا من فوق كوم الكتب، ويدنو من
جورج وقد مسخ وجهه كوجه الشيطان.)
كلير
(بسرعة تمسك العصا)
:
أرجو.
(ماليس يتخلى عن العصا، ويقف الرجلان يترامقان وهما ساكنان، كلير
ترمي العصا، وتدوس عليها بقدمها، ثم تخلع قبعتها ببطء وتضعها على المنضدة.)
كلير
:
والآن ألا تذهب؟ (صمت).
جورج
(ناظرًا إلى القبعة)
:
يا حمقاء، يا مجنونة، افهمي هذا: إذا لم تعودي الساعة الثالثة بعد ظهر اليوم
فسأطلقك، وحينئذ تتمرغين في الحمأة مع صاحبك العالي النفس هذا، وأنت يا سيدي اعرف
هذا: لن أرحمك، كلا وحق السماء سيتألم جيبك، وهذا هو الشيء الوحيد الذي يؤثر في
أمثالك.
(يدور ويخرج ويدفع الباب ليغلقه. كلير وماليس يقفان وجهًا الوجه.
تبدأ شفتاها تضطربان.)
كلير
:
فظيع.
(تنحي وجهها وهي ترتعش، وتجلس على مسند الكرسي وتغطي عينيها بظهر
كفيها. ماليس يلتقط العصا ويتحسسها برقة ثم يضعها وينتقل من مكانه ليرى وجهها، وهي
جالسة هادئة تمامًا وناظرة إلى ما أمامها.)
ماليس
:
لا يمكن أن يكون شيء أحسن من هذا.
كلير
:
لا أدري ماذا أصنع، لا أدري ماذا أصنع!
ماليس
:
اشكري السماء على حظك الحسن.
كلير
:
إنه ينوي أن ينتقم منك، وهذا كله خطأ وبسببي.
ماليس
:
دعيه ينتقم، دعيه يطلب الطلاق، تخلصي منه، افرغي من أمره على أية حالة (تقف لافتة وجهها عنه ثم تلتفت إليه بسرعة).
كلير
:
إذا كنت سأحدث لك ضررًا فدعني أدفع لك ثمنه، وإلا فلن أطيق الأمر بغير ذلك، انتفع
بي؛ استعملني على نحو ما إذا لم يكن عندك مانع.
ماليس
:
يا إلهي (ترفع له وجهها ليقبلها وتغمض عينها)
أيتها المسكينة.
(يحتضنها ويقبلها، ثم يتراجع وينظر إلى وجهها وهي واقفة لا تتحرك
وعينها مغمضة، ولكنها ترتعش وشفتاها مزمومتان وكفَّاها تنقبضان وتتلويان.)
ماليس
(بهدوء)
:
لا لا … ليس هذا بيت سيد محترم.
كلير
(تدع رأسها ينثني وتقول همسًا)
:
إني آسفة.
ماليس
:
أنا فاهم.
كلير
:
ليست لي رغبة، وبغير ذلك لا أستطيع، لا أستطيع.
ماليس
(بمرارة)
:
صدقت، لقد عانيت من هذا ما فيه الكفاية.
(صمت طويل. تتناول قبعتها بغير أن تنظر إليه وتلبسها.)
ماليس
:
أخارجة؟ (كلير تهز رأسها أن نعم) ألا تثقين
بي؟
كلير
:
إني واثقة بك، ولكني لا أقدر أن آخذ شيئًا إذا كنت لا أعطيك ما يقابله.
ماليس
:
أرجو، أرجو، ماذا يهم؟ استخدميني؛ انتفعي بي، كوني حرة معي على نحو ما.
كلير
:
ليس يخفى عليَّ ما يجب أن أكون لك ما دمت قد أوقعتك في هذا، وأنا أعرف ما تبغي،
وما سوف تبغي، طبعًا، ولم لا؟
ماليس
:
إني أقسم لك بشرفي.
كلير
:
كلا، إذا لم أكن لك كما ينبغي أن أكون فالعلاقة لا تكون صادقة، وهذا ما لا
أستطيع؛ لأنه ليس مما يستطاع بالتكلف.
ماليس
:
صحيح.
كلير
:
وأتخذك لنفسي على هذه الصورة، لا. (تقصد إلى
الباب).
ماليس
:
وإلى أين تذهبين؟
(كلير لا تجيب. تتنفس بسرعة ويطرأ عليها تغيير كأنها مهتاجة على
الرغم من ظاهر سكونها.)
ماليس
:
لست راجعة إليه؟ (كلير تهز رأسها) الحمد لله!
إذن ستذهبين إلى أهلك؟
كلير
:
كلا.
ماليس
:
لا شيء مما يدفع إليه اليأس (يريد
الانتحار).
كلير
:
أو! لا.
ماليس
:
إذن ماذا؟ تعالي قولي لي.
كلير
:
لا أدري، إن المرأة تستطيع أن تدبر أمرها على نحو ما.
ماليس
:
ولكن أنت الرقيقة الضعيفة …
كلير
:
لا تخف، لا تُشْقِ نفسك بسببي، أرجو …
ماليس
(يتناول ذراعها)
:
أتتوهمين أن الناس سيتركونك بوجهك الجميل هذا؟ تعالي ثقي بي، ثقي بي، يجب.
كلير
(تمد له راحتها)
:
عم صباحًا.
ماليس
(لا يتناول يدها)
:
هذه الدنيا الكبيرة اللعينة … وأنت! اسمعي (تسمع أصوات
المركبات في الشارع) تخرجين إلى هذا العالم وحدك بلا معين بلا مال؟
الرجال الذين سيشتغلون معك، والرجال الذين ستصادقين أتظنين أنهم سيتركونك؟ والرجال
الذين في الشارع يحملقون في وجهك ويستوقفونك؛ حيوانات لها أعناق ضخمة كأعناق
الثيران، شياطين بعيون قاسية، خنازير وضيعة وذوو المروءة من أمثالي الذين لا يريدون
بك سوءًا، ولكنهم لا يستطيعون أن يتجاهلوا أنك خلقت لتعشقي. وافرضي أنك لا تمشين في
طريق ضيق محجوز، بل تبرزين إلى الفضاء … والمجتمع رجاله المحترمون الأتقياء، حتى
الذين يحبونك أتتوهمين أن هؤلاء سيتركونك؟ إن الدنيا ستثير وراءك الرجال، لقد بدأ
هذا في الساعة التي فررت فيها، ولن تهدئي من المطاردة حتى يوقعوك ثم تحملين في
العربة مرة أخرى والله يومئذ معك.
كلير
:
سأموت وأنا أعدو.
ماليس
:
لا لا، دعيني أحمِكِ، اسمحي لي.
كلير
(تهز رأسها وهي تبتسم)
:
أنا ذاهبة لأبحث عن حظي؛ تمنَّ لي الخير.
ماليس
:
لا أستطيع أن أسمح لك.
كلير
:
بل يجب.
(ينظر إلى وجهها فيدرك أنها مصممة، فينحني فجأة على أصابعها ويرفعها
إلى شفتيه.)
ماليس
:
أتمنى لك السعادة إذن.
(يتخلى عن يدها. كلير تلمس رأسه وتدور فتخرج. ماليس يبقى ورأسه
منثنٍ على صدره يصغي إلى وقع خطواتها حتى ينقطع الصوت، فيعتدل ويضرب الهواء بجمع
يده.)
«يرخى الستار»