المنظر الأول
(غرفة الجلوس في مسكن ماليس. بعد الظهر بعد ثلاثة شهور، وعلى المنضدة زجاجة شراب
مفتوحة وقبعة وبعض أدوات الشاي، وعلى الموقد إبريق على حمالة موقد الغاز، وعلى مقربة
من
الباب يقف هيوود، وهو رجل قصير مستدير الوجه وشاربه بلون الطباق. ماليس إلى جانب
المنضدة يتأمل ورقة زرقاء.)
هيوود
:
آسف أن ألحَّ على زبون قديم يا سيدي، ولكن مضى سنة ونصف سنة بدون فائدة على
المال.
ماليس
:
إن دخانك أجود مما يلزم يا مستر هيوود، ليتني أستطيع أن أجد طريقة لتدخين نوع
غيره.
هيوود
:
إن هذا علاج عجيب يا سيدي.
(دقة على الباب ثم يدخل غلام.)
ماليس
:
نعم، ماذا جاء بك؟
الغلام
:
الأصول لجريدة «واتشفاير» يا سيدي.
ماليس
(يشير إليه أن يخرج)
:
حالًا، انتظر.
(يخرج الغلام. ماليس يمضي إلى كوم الكتب ويقلبها ويتناول
بعضها.)
ماليس
:
هذه طبعة غير مهذبة لترجمة كتاب «ديكامرون» لبوكاكشيو يا مستر هيوود مصورة.
أظنها تساوي أكثر مما تطلب مني.
هيوود
(يهز رأسه)
:
هذه الكتب أتراها تساوي ثلاثة جنيهات وسبعة شلنات؟
ماليس
:
إنها نادرة وغير أخلاقية، هل تأخذها سدادًا للدين؟
هيوود
(تتنازعه عواطف شتى)
:
لا أكاد أعرف ماذا أقول، كلا يا سيدي، لا أظن أنه يَحسُن أن يكون لي شأن بهذه
الكتب.
ماليس
:
في وسعك أن تقرأ هذه الكتب أو لا؟
هيوود
(بتردد)
:
إن لي زوجة في البيت.
ماليس
:
في وسعكما أن تقرآها كلاكما.
هيوود
:
كلا يا سيدي لا أستطيع.
ماليس
:
حسن جدًّا، سأبيعها بنفسي وسأعطيك الثمن.
هيوود
:
أشكرك يا سيدي، وأنا بالطبع لا أريد أن أضايقك.
ماليس
:
كلا يا مستر هيوود، إن عليَّ أن أعتذر.
هيوود
:
ما دمت أرضيك.
ماليس
:
بالتأكيد، عم مساء.
هيوود
:
عم مساء يا سيدي، أرجو ألا أكون قد أسأتُك.
ماليس
:
على العكس.
(هيوود يخرج مترددًا ويقف. ماليس يحك رأسه ثم يضع الفاتورة في
أحد أجزاء الكتاب ليتذكر، ويعيد الكتب إلى مكانها فوق الكوم. يدخل الغلام مرة أخرى
ويقف في الباب.)
ماليس
:
والآن جاء دورك.
(يذهب إلى المنضدة ويتناول أوراقًا مكتوبة، ولكن الباب يفتح مرة
أخرى على مهل ويظهر المستر هيوود.)
ماليس
:
هل من شيء يا مستر هيوود؟
هيوود
:
هذه الحكاية البسيطة يا سيدي؛ إذا كان يريحك … لقد فكرت في مكان أستطيع
…
ماليس
:
تقرأ الكتب فيه؟ ستَلتذُّها جدًّا.
هيوود
:
لا يا سيدي، بل مكان أتخلص فيه منها.
ماليس
(يمد يده بالكتب)
:
ربما كان هذا خيرًا، (هيوود يأخذ الكتب على
مهل) أهنئك يا مستر هيوود؛ إنه كتاب قيم.
هيوود
:
نعم يا سيدي حقيقة، وإذا حدث أنه …
ماليس
:
بقي شيء أحسبه علي. هذه هي الفاتورة (يعطيه
إياها) أرسل لي الإيصال. عم مساء.
(هيوود وقد أخذ عليه الطريق يحاول أن يخفي الكتب في جريدة
مسائية ويتمتم «عم مساء يا سيدي» ويخرج. ماليس يتناول الأوراق ويقرأ جملة منها
وينظر إلى الظلام.)
ماليس
:
رجل الدنيا «المظهر اللائق هو معبودك، ويحك أيها الفيلسوف المغلق» (الغلام يحرك قدميه) «نشأت على المسخ والعقم،
وقامت حياتك على الخوف من السخرية» (الغلام يتنفس
تنفسًا عميقًا) «إنك عبد الحقائق».
(دقة على الباب.)
ماليس
:
من هذا؟
(يفتح الباب ويدخل رجنالد هنتنجدون.)
هنتنجدون
:
إني أعتذر يا سيدي؛ فهل تسمح لي بالدخول لحظة؟
(ماليس ينحني بتهكم عدائي.)
هنتنجدون
:
لا أدري هل تذكرني؟ إني أخو كلير ديدموند.
ماليس
:
إني أذكرك.
(يشير إلى الغلام أن يخرج.)
هنتنجدون
:
لقد جئت إليك باعتبارك رجلًا شريفًا.
ماليس
:
أخطأت. يوجد سيد شريف — على ما أعتقد — في الطابق الأول.
هنتنجدون
:
إنما جئت من أجل أختي.
ماليس
:
لعنة الله عليك! ألا تعرف أن الجواسيس مبثوثة على طول الشهور الثلاثة
الماضية؟ سل جواسيسك عما تريد أن تعرفه.
هنتنجدون
:
إننا نعرف أنك لم ترها وأنك لا تدري أين هي.
ماليس
:
صحيح! لقد اكتشفت هذا، يا لها من براعة!
هنتنجدون
:
عرفنا هذا من أختي.
ماليس
:
أوه! إذن استطعتم أن تتعقبوا آثارها؟
هنتنجدون
:
لقد عثرت عليها المسز فولرتون أمس في أحد الدكاكين الكبيرة تبيع
القفازات.
ماليس
:
المسز فولرتون السيدة ذات الزوج! حسن، لقد وجدتها وحملها إلى السجن.
هنتنجدون
:
لم نجدها؛ لقد تركت الدكان لتوِّها، ولا نعرف أين ذهبت.
ماليس
:
برافو.
هنتنجدون
:
اسمع يا مستر ماليس: إني أشاطرك شعورك إلى حد ما، ولكني أحب أختي، وإنه
ليؤلمني أن أضطر إلى الرجوع إلى الهند وأنا أعلم أن التيار يتقاذفها بدون
حماية، وأنها قد تكون مدفوعة إلى ما لا يعلم إلا الله، وقد قالت المسز فولرتون
أن لونها باهت جدًّا، وأنها ضعيفة هزيلة.
ماليس
(مضطربًا بين الاشمئزاز والعطف)
:
لماذا جئت إليَّ؟
هنتنجدون
:
لقد ظننا
ماليس
:
من الذي ظن؟
هنتنجدون
:
أبي وأنا.
ماليس
:
نعم؟
هنتنجدون
:
ظننا أنها قد تحضر إليك لاستشارتك بعد أن فقدت العمل الذي كانت تشتغل به،
فإذا جاءت فإنك تُولِينا فضلًا جزيلًا إذا جعلت أبي يتصل بها؛ إنه رجل هرم وهو
يتألم جدًّا لهذه المسألة (يقدم بطاقة
لماليس) هذا عنوانه.
ماليس
(يلوي البطاقة)
:
لا ينبغي أن يكون هناك أي سوء تفاهم يا سيدي،
إني لن أصنع شيئًا يمكن أن يساعد على ردها
إلى زوجها، فإنها فرت لتنقذ روحها وهي ما زالت حية، وأنا لست ممن يطاردونها، بل
على العكس — إذا كان في وسعي أن أفعل العكس — فإذا كان أبوك يريد أن يحميها؛
فإن هذه تكون مسألة أخرى، ولكنها كان لها رأيها الخاص في هذا.
هنتنجدون
:
أظنك لا تدرك قلة استعداد أختي للحياة الخشنة العنيفة، إنها ليست من طراز
المرأة الجديدة، وقد عاشت مُوفَّرةً لها أسباب العناية بها وكل شيء يقدم لها،
إن فيها شجاعة، ولكن هذا كل ما لها، ولا بد أن تصيبها الآلام.
ماليس
:
هذا محتمل جدًّا، ويحدث دائمًا للطيور أول ما تطير، ولكنه خير لها أن تسقط في
منتصف الطريق من أن لا تطير على الإطلاق. إن أختك يا سيدي تجرب جناحي روحها،
وتحاول الخروج من سوق الرقيق القديمة، وهناك أكثر من نوع واحد من الخزي —
للرجال والنساء على السواء يا كبتن هنتنجدون — وهناك ما هو شر من الموت كما
تعلم من مهنتك.
هنتنجدون
:
هذا مسلَّم، ولكن.
ماليس
:
إن لكل منا رأيه في هذه، ولكنهم جميعًا ينتهون إلى موت الروح في سبيل هياكلنا
الجثمانية. هل من شيء آخر؟
هنتنجدون
:
لقد انتهت إجازتي وسأبحر غدًا، فإذا رأيت أختي فأرجو أن تبلغها حبي، وأن
تخبرها أني أرجو منها أن تقابل أبي.
ماليس
:
سأفعل إذا أتيحت لي فرصة.
(يشير محييًا فيرد هنتنجدون تحيته ويدور ويخرج.)
ماليس
:
أيتها الفارَّة المسكينة، تُرى أين تجرين الآن؟
(يقف إلى النافذة التي تريق منها الشمس على الغرفة ضوءًا
ذهبيًّا. يعود الغلام فينظر إليه ماليس ثم يذهب إلى المنضدة ويتناول الأوراق،
ويبتسم له وهو يتنفس كالذي يلهث.)
ماليس
:
«يا رجل الدنيا، يا ثمرة العصر المادي العاجز عن إدراك الحقيقة التي تنطوي
عليها حركة الروح؛ لأنك لا ترى فائدة — كما تقول — في هذا الكلام الفارغ
المنبعث عن عواطف الضعف، يا من اعتاد أن يعتقد أنه السلسلة الفقرية للأمة، إن
مركزك أمنع من أن ينال، وستظل معبود البلاد، والذي يفصل في أمر التشريع، والذي
يتخذه المسرحيون والروائيون مادة لهم. بارك الله فيك ما بقيت أمواج البحر تتحدر
على هذه الشواطئ».
(يضع الورق في ظرف ويسلمه للغلام.)
ماليس
:
أذاهب أنت مباشرة إلى جريدة «الواتشفاير»؟
الغلام
:
نعم يا سيدي.
ماليس
:
أسرِعْ إذن.
(يرفع الملف عن المنضدة، ويحمله إلى الغرفة الداخلية. يدور
الغلام وأصبعه على أنفه، ولكنه يرى كلير في مدخل الباب فيستحيي جدًّا وهي لابسة
ثوبًا قاتم اللون، وينسل الغلام بجانبها ويخرج. تقف كلير في ضوء الشمس وعلى وجهها
الأبيض أمارات الاضطراب، وتدير عينها في الغرفة وتبتسم وتتنهد، وتقف وأصابعها تعبث
بالورق الذي على المنضدة، ثم تمسح بكفها قبعة ماليس وتظل منتظرة بشوق.)
ماليس
(عائدًا)
:
أنت!
كلير
(بابتسامة خفيفة)
:
لست مجيدة جدًّا، هيه؟
ماليس
(يدنو منها ثم يصد نفسه ثم يدير الكرسي)
:
تعالي اجلسي، اجلسي (كلير تتنهد وتجلس)
سيكون الشاي مجهزًا بعد قليل جدًّا.
(يضع لها وسادة ويعد الشاي. تنظر إليه برقة ولكنه عندما ينتهي
ويلتفت إليها تصوب نظرها إلى الأرض.)
كلير
:
هل تعتقد أني جبانة جدًّا لأني جئت؟ (تخرج علبة
سجاير ساذجة من محفظتها) أتسمح لي أن أدخن؟
(ماليس يهز رأسه ثم يتراجع عنها مرة أخرى كأنما يخاف أن يدنو
منها، فتعود إلى النظر إليه وهو لا يراها.)
ماليس
:
وهكذا فقدت عملك.
كلير
:
كيف عرفت؟
ماليس
:
من أخيك؛ لقد سبقك بلحظة (كلير تنتفض
واقفة) خطر لهم أنك ستجيئين، وسيبحر هو غدًا، ويريد منك أن تقابلي
أباك.
كلير
:
هل أبي مريض؟
ماليس
:
بل قلق عليك.
كلير
:
لقد كنت أكتب إليه كل أسبوع مرة (بتأثر)
إنهم لا يزالون ورائي.
ماليس
(يلمس كتفها برقة)
:
لا بأس، لا بأس.
(تجلس على الكرسي ثانية ويتراجع هو مرة أخرى، وتعود هي فتنظر
إليه بشوق حتى إذا التفت إليها تفزع.)
كلير
:
لقد صارت أعصابي سخيفة في الأيام الأخيرة، وأظن هذا من تأثير الخوف والحذر
والجو الفاسد، والإحساس بأن الناس ينظرون إلي، ويتكلمون عني، ويكرهون أن أكون
هناك.
ماليس
:
نعم، هذا يحتاج إلى قوة قلب.
كلير
:
إني أحتجب طول الوقت، والشيء الوحيد الذي أعرفه — على التحقيق — هو أني لن
أرجع إليه، وكلما ازددت كرهًا لما أنا صانعة زادت ثقتي ويقيني، وقد يحدث لي أي
شيء إلا ذاك.
ماليس
:
كانت أيامك سيئة؟
كلير
:
إني مدللة، ومن البلاء أن تكون المرأة سيدة إذا كانت مضطرة أن تكسب رزقها،
على أني لا أظن أن أيامي كانت عصيبة، لقد كنت أبيع في بعض المتاجر، وأعيش على
خير مما يعيش أكثر العاملات في الدكاكين.
ماليس
:
هل كانوا مؤدبين معك؟
كلير
:
كثيرات من البنات ظريفات جدًّا، ولكنهن لا يُردْنَ أن أكون معهن؛ لسبب ما،
وأحسبهن يرين أني مترفعة قليلًا أو نحو ذلك، (وهنا
تشير إلى صدرها) لا أحسب أني أريدهن أيضًا.
ماليس
:
أنا فاهم.
كلير
:
لقد كنت أنا والمسز فولرتون في جمعية لمساعدة السيدات البائسات على الحصول
على عمل، وإني الآن لأعرفُ ماذا يحتجن إليه، إنهن يحتجن مالًا كافيًا لا يضطرهن
إلى العمل، هذا كل شيء (تنظر إليه فجأة) لا
تتوهم أني شر مما أنا في الحقيقة. إن العمل تحت سلطة الآخرين، الاضطرار إلى
ذلك، الانسياق إليه، هذه هي الصعوبة، ولقد جاهدت ولم أكن جبانة، كلا ولكن في كل
صباح، في نفس الموعد أذهب إلى المحل، وفي كل يوم نفس الغذاء المرذول كما
يُسمِّينه، وفي كل مساء نفس التحية «عمي مساء يا مس كلير» «عمي مساء يا مس
سمون» «عمي مساء يا مس هارت» «عمي مساء يا مس كلير» والمشي إلى البيت في نفس
الطريق أو في نفس السيارة، والرجال الذين لا يصح أن أنظر إليهم يتبعونني
(تنهض) أوه! والإحساس دائمًا بأنه ليس
ثم لا شمس ولا حياة ولا أمل، لا شيء كأن الواحدة مريضة، ثم الرغبة في أن أركب
وأرقص، وأخرج إلى الضواحي والريف — (تهدأ
وتجلس) لا يَسُؤ رأيك فيَّ جدًّا؛ إنها حياة فظيعة حقيقة.
ماليس
:
لماذا آثرت أن تعملي في دكان؟
كلير
:
لحاجتي إلى الشهادات والتوصيات، ثم إني لم أُرِد أن أكذب أكثر مما يلزم، وأنت
تعلم أن المرأة المتزوجة لا يسعها أن تقول الحقيقة، ولست أعرف الكتابة على
الآلة الكاتبة ولا الاختزال، أما الغناء والرقص فقد خطر لي أنك ربما لا ترتاح
…
ماليس
:
أنا؟ وأي شأن … (يصد نفسه) وهل كان الرجال
وحوشًا؟
كلير
(تختلس نظرة إليه)
:
يتبعني أحدهم كثيرًا … وفي إحدى الليالي أمسك بذراعي، فاكتفيت بأن أستل له
هذا (وتخرج دبوسًا من قبعتها وتمسكه كأنه خنجر، وتطوي
شفتيها على أسنانها كالكلب حين يهم بأن يعض) وقلت له: «هل لك من
فضلك أن تدعني وشأني.» فتركني وأظن هذه كانت طريقة حسنة، وكان في الدكان رجل
مؤدب — كنت آسفة من أجله — يا له من رجل متواضع!
ماليس
:
مسكين! إنه من الصعب ألا يشتهي المرء القمر.
(ترفع كلير عينها إليه حين تسمع نبرة صوته ووجهه ليس
إليها.)
كلير
(برقة)
:
كيف كانت حالك أنت؟ أكنت تشتغل كثيرًا؟
ماليس
:
أشتغل بقدر ما أعطاني الله من قوة.
كلير
(تختلس نظرة أخرى إليه)
:
هل عندك ورق تريد أن تنقله على الآلة الكاتبة؟ إني أستطيع أن أتعلم ولا تزال
معي حلية في مقدوري أن أبيعها وأنتفع بثمنها، أي الأنواع خير؟
ماليس
:
لقد كانت عندي قائمة بأنواعها لا أعلم أين هي.
(يذهب إلى الغرفة الداخلية ولا يكاد يخرج حتى تنهض كلير وكفاها
على خديها كأنها تحس النار متقدة فيهما، ثم تقف منتظرة ويداها متصافقتان. يعود
ماليس بالقائمة.)
ماليس
:
هل تستطيعين الكتابة في بيتك؟
كلير
:
أنا مضطرة إلى البحث عن غرفة أخرى، لا بد من الانتقال لأكون آمنة (تُخرج من تحت قفازها إيصالًا بإيداع أشيائها)
لقد حملت أشيائي إلى محطة شيرنج كروس؛ حقيبة صغيرة وأخرى كبيرة. (ثم تقول له وعلى وجهها دلائل التهيؤ للاندفاع إلى
مجازفة) أظنك لا تريدني الآن؟
ماليس
:
ماذا؟
كلير
(بصوت يكاد يكون كالهمس)
:
لأنك إذا كنت لا تزال تريدني فإني أشتهي ذلك الآن.
ماليس
(ناظرًا بقوة إلى وجهها الباسم المضطرب)
:
هل تعنين ما تقولين؟ هل تريدين؟ هل تحبينني؟
كلير
:
لقد كنت أفكر فيك كثيرًا، ولكن يجب أن تكون واثقًا من إحساسك أنت!
(يحتضنها ويقبل عينيها المغمضتين، ويقفان هكذا لحظة حتى يسمعا
صوت المفتاح في قفل الباب.)
ماليس
:
إنها خادمة البيت، أعطني هذا الإيصال؛ سأرسل من يجيء بحقائبك.
(تطيعه وتناوله الإيصال وتبتسم، وتذهب في سكون إلى الغرفة
الداخلية. تدخل المسز ميلر ولا يظهر على وجهها الصيني السحنة أنها رأت
شيئًا.)
ماليس
:
هذه السيدة ستبقى هنا يا مسز ميلر، فأرجو أن تذهبي بهذا الإيصال إلى محل
الودائع في محطة شيرنج كروس، وأن تحضري الحقائب في مركبة، أمعك نقود؟
المسز ميلر
:
نصف كرون (تأخذ الإيصال ثم تقول عرضًا)
إذا كنت لا تعلم فاعلم أن الاثنين يلازمان السلم الآن.
(ولا تكاد تخرج حتى تصدر عن ماليس حركة تدل على هياج شيطاني،
يمشي على أطراف أصابعه إلى الباب الخارجي وينصت، ثم يضع يده على أكرة الباب يديرها
بلا صوت، ويفتح الباب فجأة فيظهر في ضوء الشمس في آخر الممر رجلان متلاصقان
يتسمَّعان ويتشاوران. يُفاجآن فيرتدان.)
ماليس
(بوحشية غريبة لا يكاد يكون فيها ضوضاء)
:
لقد طاردتماها حتى لا مفر لها، انتهت مهمتكما!
(يغلق الباب في وجهيهما.)
المنظر الثاني
(الغرفة عينها بعد ثلاثة شهور في الشتاء — بعد الظهر — وقد صار للغرفة مظهر أنيق،
وعلى الأبواب ستائر، وتحت النافذة مقعد كبير، والكتب مرتبة على رفوفها، وثَمَّ عدة
زهريات صغيرة فيها الورود والأزاهير، ويبدو ماليس جالسًا على كرسيه ذي المسندين قريبًا
من الموقد والورق على ركبته والقلم في يده؛ وكأنه شاب وهزل، وحول كرسيه الأوراق
المبعثرة كالعادة، وعلى المنضدة — بقرب النافذة — آلة كاتبة تكتب بها كلير، تفرغ من سطر
ثم تضم أوراقًا بعضها إلى بعض، وتدون ملاحظة على بطاقة؛ تجمع بعض الأرقام، وترسم خطًا
تحت المجموع.)
كلير
:
متى تسلمت أجرة هذا يا كنت فسأكون قد كسبت جنيهين وسبعة عشر شلنًا في الشهور
الثلاثة، واقتصدت لك نحو ثلاثة جنيهات، مائة وسبعة عشر شلنًا بحساب بنسين في
الألف عن مائة وأربعين ألف كلمة، بمعدل ألف وأربعمائة كلمة في الساعة؛ فأنا
أشتغل ساعة أو أكثر قليلًا في اليوم، ألا تستطيع أن تساعدني على الحصول على
مقدار آخر من العمل؟
(ماليس يرفع اليد التي فيها القلم ثم يدعها تهوي مرى أخرى. كلير
تغطي الآلة الكتابة وتربطها.)
كلير
:
لقد أعددت حقائبي فهل أعد لك حقائبك؟ (ماليس يهز
رأسه موافقًا) ألا تستطيع أن نبقى أكثر من ثلاثة أيام على شاطئ
البحر (يهز رأسه) أن «لا» (تدنو منه) هل نمت البارحة؟
ماليس
:
نعم، نمت.
كلير
:
رأسك يوجعك؟ (يهز رأسه أن نعم) في مثل هذه
الساعة بعد غد تُنظر القضية وينتهي أمرها؛ لعلك لست مكروبًا من أجلي؟ إني لا
أعبأ شيئًا، وكل ما يعنيني هو أبي المسكين.
(ماليس يرفع نفسه من الكرسي بجهد ويتمشى في الغرفة.)
كلير
:
هل تعرف يا كنت لماذا لا يطالب بتعويض بعد أن قال ما قال هنا يومئذ؟ (تنظر إليه فجأة) أليس صحيحًا أنه لا يطالب
بتعويض؟
ماليس
:
كلا، ليس بصحيح.
كلير
:
ولكنك قلت لي هذا بنفسك.
ماليس
:
كنت أكذب.
كلير
:
لماذا؟
ماليس
(يهز كتفيه)
:
لا فائدة الآن من الكذب فستعرفين كل شيء غدًا.
كلير
:
بكم يطالب؟
ماليس
:
بألفي جنيه (بمقت) سيَهَبُ فوائدها لكِ
(يضحك) يا لها من مهارة! بضربة واحدة
يهلك عدوه وينتقم لشرفه، ويُضيف إلى اسمه حلية الكرم والمروءة.
كلير
:
وهل ستضطر إلى دفع التعويض؟
ماليس
:
إن الحجارة لا يقطر منها الدم.
كلير
:
ألا تستطيع أن تقترض؟
ماليس
:
ليس في وسعي الحصول حتى على ما يكفي لمصاريف الدعوى.
كلير
:
هل سيعلنون إفلاسك إذن؟ (يهز رأسه
موافقًا) ولكن هل معنى هذا أنك ستفقد دخلك؟ (ماليس يضحك) ما هو دخلك يا كنت؟ (يلزم الصمت) إني أعرف أنك تتناول مائة جنيه
وخمسين في السنة من جريدة «واتشفاير» فماذا هناك غير ذلك؟
ماليس
:
ربحت أربعين جنيهًا من خمسة كتب.
كلير
:
وماذا أيضًا؟ قل لي.
ماليس
:
من خمسين إلى مائة جنيه في السنة، دعيني أيتها الطفلة أقرض بأسناني طريقي في
الحياة.
(كلير تقف ناظرة إليه بأسى ثم تدخل الغرفة التي وراءها بسرعة.
ماليس يتناول الورقة والقلم. الورقة بيضاء ليس فيها حرف مكتوب.)
ماليس
(يتحسس رأسه)
:
كله دخان.
(يلقي الورقة والقلم ثم يدخل الغرفة التي إلى اليسار. كلير تعود
بصندوق صغير من الجلد وتضعه على منضدتها في الوقت الذي يدخل فيه ماليس ووراءه المسز
ميلر لابسة قبعتها وحاملة معطفه.)
المسز ميلر
:
البس معطفك … إن البرد قارس (يلبس
المعطف).
كلير
:
أين أنت ذاهب؟
ماليس
:
إلى الجريدة.
(يغلق الباب وراءه، تذهب المسز ميلر إلى كلير وفي يدها زجاجة
زرقاء عليها ورقة حمراء وهي مملوءة تقريبًا.)
المسز ميلر
:
أتعرفين أنه يشرب هذا (تشير إلى فمها)
ليستطيع أن ينام؟
كلير
(تقرأ ما على ورقة الزجاجة)
:
أين كانت هذه؟
المسز ميلر
:
في دولاب الحمام حيث يحفظ بعض أشيائه، لقد كنت أبحث عن حمالة جواربه
فوجدتها.
كلير
:
أعطينيها.
المسز ميلر
:
شرب منها مرة قبل اليوم؛ لا بد من النوم.
(تتناول كلير الزجاجة وتشمها وتذوق ما فيها بطرف أصبعها، المسز
ميلر تلوي طرف مريلتها وتتكلم.)
المسز ميلر
:
لقد كنت أريد أن أتكلم معك من زمان طويل أن مجيئك إليه لم يَعُد عليه
بالخير
كلير
:
لا تقولي شيئًا، أرجو.
المسز ميلر
:
لست أريد أن أقول شيئًا ولكني مضطرة، فهذه قضية الطلاق وما جرته، وأنت سيدة
وهو مضطر أن يُعنى بك ويحاول أن يقتصد؛ لا يدخن طول النهار على عادته السابقة،
ولا يشرب زجاجتي النبيذ بانتظام كما كان يفعل من قبل، ثم الأرق والتجاؤه إلى
هذه المادة طلبًا للنوم، ثم هذه الحكاية الأخيرة. لقد رأيته يجلس ويتناول رأسه
بين يديه كأن رأسه سيسقط عن بدنه (تلمح ألم كلير
فتستمر بلهجة العطف) إني أعرف أنك تحبينه، ولست أحصي عليك ذنبًا؛
فإنك لا تسببين له أي تعب أو مضايقة، ولكني معه منذ ثماني سنوات وقد ألفني
وألفته، ولست أطيق أن أراه يتغير على هذا النحو، كلا لا أطيق حقيقة.
(تحدث بأنفها صوتًا ثم يزول انفعالها ويتركها جامدة
كعادتها.)
كلير
:
«الحكاية الأخيرة»؟ ماذا تعنين بها؟
المسز ميلر
:
إذا كان هو لم يخبرك فلا أعرف أن من حقي أن أخبرك أنا.
كلير
:
أرجو.
المسز ميلر
(كفاها تتلويان معًا بسرعة)
:
إنها حكاية متعلقة بجريدة «واتشفاير» أحد الذين يكتبون فيها صديق للمستر
ماليس، وقد جاء إلى هنا صباح اليوم بعد أن خرجت، وكنت أرتب هذه الغرفة الأخرى
(تشير إلى الغرفة اليمنى) ولما كان
الباب مفتوحًا فقد سمعت كلامهما؛ فإن الستائر التي علقتها لا تحجب
الصوت.
كلير
:
ثم؟
المسز ميلر
:
كانا يتكلمان عن قضية الطلاق، هذه الجريدة «واتشفاير» يملكها أناس لا يحبون
أن تلغط الصحف بأمر الموظفين فيها، وقد كان صديق المستر ماليس يكلمه في هذا،
وكان ظريفًا فقال له: «إذا عرضت هذه القضية على المحكمة فستفقد وظيفتك؛ لأن
هؤلاء المتسولين، هؤلاء الكلاب، هؤلاء الكتل الخشبية سيطردونك» وقد كان صوته
يشعر بصدق إخلاصه، وكان متأثرًا جدًّا. هذه هي الحكاية.
كلير
:
إن هذه وحشية!
المسز ميلر
:
هذا رأيي أيضًا ولكن رأينا لا قيمة له، وقد قال له صديقه: «إن المسألة مسألة
مبدأ، وليس لها علاقة بإمكان تأثر الجريدة»، ثم راح يستعمل لغة خشنة، يا له من
رجل طيب! ثم قال المستر ماليس: «إن هذا قضاء تام عليَّ».
كلير
:
أشكرك يا مسز ميلر على إخباري بهذا.
المسز ميلر
:
نعم، وإن كنت لا أعرف أنه كان ينبغي أن أخبرك (ثم
بقلق شديد) إني لا أعبأ بما يَبدُر من المستر ماليس، فإني أعرفه
حق المعرفة، إنه رجل طيب يحب مساعدة الغير، وأغرب من هذا أنه يظل يساعدهم حتى
وهم يسيئون إليه؛ إنه عنيد جدًّا، ولما جئتِ إلى هنا منذ ثلاثة شهور قلتُ
لنفسي: إنه سيتمتع بوجودها زمنًا، ولكنها سيدة لا تصلح له، إن به حاجة إلى
امرأة تفكر فيما يفكر فيه، وتتحدث فيما يتحدث عنه، على أني — أحيانًا — أعتقد
أنه لا يريد أن تبقى معه امرأة قط.
كلير
:
كفى.
المسز ميلر
:
الله يعلم أني لا أريد أن أؤلمك فإن مركزك حرج جدًّا، ولا يجوز أن تكره
المرأة … المرأة … هذا رأيي …
كلير
:
هل لك أن تقضي لي حاجة؟ (المسز ميلر تهز رأسها
موافقة، كلير تتناول الأوراق وتخرج من الصندوق مذكرة وقطعة من
الزبرجد.) خذي هذه مع المذكرة إلى العنوان المكتوب عليها، إنه
قريب جدًّا، وسيعطيك صاحب العنوان ثلاثين جنيهًا، ادفعي منها هذه الفواتير،
وهاتي الإيصالات والباقي.
المسز ميلر
(تتناول الزبرجدة والعنوان)
:
إنها حلية جميلة.
كلير
:
نعم، لقد كانت ملكًا لأمي.
المسز ميلز
:
إن من دواعي الأسف أن تفديها، أليس هناك سواها؟
كلير
:
كلا، لا شيء غيرها يا مسز ميلر حتى ولا خاتم الزواج.
المسز ميلر
(بتأثر)
:
إنك تجعلين قلبي يبكي أحيانًا! …
(تلف الزبرجدة والعنوان في منديل وتمضي إلى الباب.)
المسز ميلر
(من الباب)
:
هنا سيدة ورجل … المسز فولر، تريد أن تحدثك أنت لا المستر ماليس.
كلير
:
المسز فولرتون؟ «المسز ميلر تهز رأسها أن نعم» أدخليهما.
المسز ميلر
(تفتح الباب إلى آخره، وتقول)
:
«تفضلا» (وتخرج).
(تدخل المسز فولرتون ولكن مع المحامي تويسدن لا مع
زوجها.)
المسز فولرتون
:
كلير يا عزيزتي، كيف أنت بعد هذا الزمن الطويل؟
كلير
(وهي ناظرة إلى تويسدن)
:
ماذا؟ …
المسز فولرتون
(وقد اضطربت لهذه المقابلة)
:
لقد أحضرت معي المستر تويسدن ليقول لك شيئًا، فهل تسمحين لي أن أبقى؟
…
كلير
:
نعم (تشير إلى الكرسي. تجلس المستر
فولرتون) والآن؟
المستر تويسدن
:
إنك لا تنوين أن تدافعي عن نفسك في المحكمة؛ ولهذا لم أجد أمامي سوى أن ألجأ
إليك …
كلير
:
أرجو أن تبين لي الداعي إلى مجيئك …
تويسدن
(ينحني قليلًا)
:
لقد كلفني المستر ديدموند أن أقول: إنه مستعد أن ينزل عن القضية، وأن يرتب لك
ثلاثمائة جنيه في العام إذا تركت صاحبك الحالي وتعهدت أن لا تريه (كلير تبدي علامة اشمئزاز) لا تسيئي فهمي من
فضلك، إن هذا لا يقصد به أن تعودي إلى زوجك؛ فإنه ليس مستعدًا لأن يعود إلى
معاشرتك مرة أخرى، والغرض من هذا الاقتراح الغريب جدًّا أن ينقذ أسرته وينقذك
من الفضيحة، وهو لا يلزمك بأكثر من أن تفارقي صاحبك الحالي مع شروط معينة خاصة
بالمستقبل من هذا القبيل، وبعبارة أخرى: يتعهد زوجك بكفالة مستقبلك ما دمت
تعيشين وحدك.
كلير
:
هل لك من فضلك أن تشكر المستر ديدموند وأن تبلغه أني أرفض.
المسز فولرتون
:
كلير، أتوسل إليك أن لا تتهوري.
(كلير تنظر إليها وهي جامدة)
تويسدن
:
إني مضطر يا مسز ديدموند أن أعرض عليك الموقف بكل ما ينطوي عليه من الفظاعة،
فهل تعرفين أنه يطالب بتعويض؟!
كلير
:
علمت بهذا الآن فقط …
تويسدن
:
وهل تدركين النتيجة التي لا بد أن تترتب على هذه القضية؟ ستكونين حميلة على
مفلس لم تبرأ ذمته من دينه، وبعبارة أخرى: ستكونين حجرًا مشدودًا إلى عنق
غريق.
كلير
:
إنكم جبناء.
المسز فولرتون
:
كلير، كلير (ثم للمستر تويسدن) إنها لا
تعني ما تقول؛ فكن حليمًا، أرجو.
كلير
:
بل أعني ما أقول، إنكم تقضون عليه بالخراب من أجلي، بسببي تُلقونه على الأرض
ثم تركلونه بأرجلكم لتحملوني على الخضوع.
المسز فولرتون
:
يا حبيبتي، إن المستر تويسدن ليس له شأن شخصي، فكيف تقولين له هذا
الكلام؟
كلير
:
لو كنت مشرفة على الموت لما أخذت مليمًا من زوجي ولو كان في ذلك
نجاتي.
تويسدن
:
إن هذه ألفاظ مرة جدًّا، فهل تريدين أن أبلغه إياها؟
كلير
:
نعم.
(تدير وجهها إلى الموقد.)
المسز فولرتون
(لتويسدن)
:
أرجو أن تدعني معها، لا تقل شيئًا للمستر ديدموند الآن.
تويسدن
:
لقد قلت لك مرة: إني أتمنى لك الخير، ومع أنك وصفتني بالجبن فإني ما زلت
أتمنى لك الخير، فأستحلفك بالله أن تفكري قبل أن يفوت الأوان.
كلير
(ترفع يدها إليه)
:
إني آسفة وأعتذر إليك من قولي: إنك جبان، إنما عنيت الموقف كله.
تويسدن
:
لا تهتمي بهذا، ولكن فكِّري (يخرج وكأنه يرى شيئًا
لا يريد أن يراه. كلير تسند جبينها إلى الرف وكأنها لا تشعر بمن معها.
المسز فولرتون تدنو في سكون حتى ترى وجهها).
المسز فولرتون
:
يا حبيبتي، لا تغضبي مني أنا. (كلير تدير وجهها
عنها كأنها تريد أن تُنحِّي عينها عن الناس حتى لا ترى إلا ما يدور
بنفسها) هل يسعني إلا أن أريد إنقاذك من هذه المأساة؟
كلير
:
أرجو أن تكفي يا دوللي، دعيني وشأني.
المسز فولرتون
:
لا بد لي من الكلام يا كلير، إني أعتقد أنك ظالمة لجورج؛ فإنه لكرم منه أن
يعرض عليك سحب القضية، وإن عليك لواجبًا نحونا أن تحاولي إعفاء والدك وأخواتك
وإعفاءنا جميعًا — نحن الذين نعني بأمرك — من هذا الأسى.
كلير
(تواجهها)
:
تقولين: إن جورج كريم، لو كان يريد أن يكون كريمًا لما طالب بهذا التعويض،
إنه يريد الانتقام، وقد قال هذا على مسمع مني هنا، وأنت تعتقدين إني أسأت إليه.
نعم، أسأت إليه لمَّا تزوجته، لست أعرف ماذا يكون مصيري؟ ولكني لن أبلغ من
السقوط درجة أضطر معها إلى قبول المال منه. هذا محقق كالموت.
المسز فولرتون
:
إيه يا كلير، إن هذا فظيع، إنك أرق من أن تحتملي متاعب الحياة، وأقل رقة مما
ينبغي أيضًا، وأنت حساسة جدًّا فلست تقبلين معونة، ولكنك لست من القوة بحيث
تستغنين عن المساعدة، إن هذه مأساة. على كل حال يحسن على الأقل أن تذهبي إلى
أهلك.
كلير
:
بعد هذا؟
المسز فولرتون
:
إذن تعالي إلينا.
كلير
:
«أما لو استطعت أن أكون الطل المتساقط أن أقبلك طول اليوم» كلا يا
دوللي.
(المسز فولرتون تدير وجهها خجلًا واضطرابًا، ولكن عينها السريعة
ترى ما في الغرفة وهي تحاول أن تهتدي إلى حجة جديدة تهاجم بها كلير.)
المسز فولرتون
:
لا يمكن أن تكوني. لستِ سعيدة هنا؟
كلير
:
ألست سعيدة؟
المسز فولرتون
:
أوه! بالله يا كلير أنقذي نفسك وأنقذينا جميعًا.
كلير
(بهدوء)
:
إني أحبه.
المسز فولرتون
:
لقد كنت تقولين إنك لن تحبي أبدًا، إنك لا تريدين الحب ولن تريديه.
كلير
:
هل قلت ذلك؟ عجيب.
المسز فولرتون
:
بالله لا تتكلمي هكذا وإلا بكيت.
كلير
:
إن المرء لا يعرف المستقبل، أليس كذلك؟ (بحرارة) إني أحبه، أحبه.
المسز فولرتون
(فجأة)
:
إذا كنت تحبينه فكيف يكون حالك وأنت تعلمين أنك سببت له الخراب؟
كلير
:
اذهبي، اذهبي.
المسز فولرتون
:
لقد قلت: إنك تحبينه.
كلير
(وهي ترعش من الوخزة فجأة)
:
لا بد، لا بد أن أحتفظ به؛ إنه كل ما أملك.
المسز فولرتون
:
هل تستطيعين؟ هل تستطيعين أن تستبقيه؟
كلير
:
اذهبي.
المسز فولرتون
:
سأذهب ولكن من الصعب استبقاء الرجال حتى الذين لم تخرب حياتهم المرأة، وأنت
لا شك تعرفين نوع الحب الذي يحمله لك هذا الرجل، وهل هو حب حقيقي أو زائف؟
والله معك إذا كان زائفًا. (تستدير لتخرج وتقول
بحزن) إلى اللقاء وإذا استطعت …
(تخرج وتعيد كلير قولها بصوت خافت: «لقد قلت إنك تحبينه» وتسمع
صوت المفتاح في الباب، فتجري كأنها تريد أن تهرب إلى غرفة النوم ولكنها تغير رأيها
وتبقى. يدخل ماليس ولا يراها أولًا وهي واقفة أمام الستار الذي يشبه لونه لون
ثوبها، ويبدو كأن غضبًا عقيمًا مُستولٍ عليه، ثم يراها فتتشدد ويمشي إلى كرسيه
ويجلس عليه من غير أن يخلع قبعته ومعطفه.)
كلير
:
الجريدة هيه؟ يحسن أن تخبرني.
ماليس
:
ليس هناك ما أخبرك به يا فتاتي.
(تحس الرقة من نبرات صوته فتدنو منه وتركع إلى جانب كرسيه. يرفع
ماليس قبعته.)
كلير
:
إذن ستفقد عملك فيها أيضًا (ماليس يحدق في
وجهها) إني أعرف، لا تسلني كيف؟
ماليس
:
يا للكلاب المنافقة!
كلير
(بصوت خفيض جدًّا)
:
إن هناك أعمالًا أخرى يمكن الحصول عليها، أليس كذلك؟
ماليس
:
أوه كثيرة جدًّا! ليس عليَّ إلا أن أخرج وأصيح «ماليس مؤلف خائب، وصحفي نزيه
جدًّا، حر الفكر، زانٍ، مفلس» وإذا بالأعمال تتساقط على رأسي.
كلير
(بهدوء)
:
هل تحبني يا كنت؟ (ماليس يحملق في وجهها)
ألست في نظرك أكثر من امرأة جميلة؟
ماليس
:
ليس هذا بوقت التفكير وإرخاء الأجنحة؛ فأيقظي نفسك وانهضي للكفاح.
كلير
:
نعم.
ماليس
:
إننا لا ننوي أن ندعهم يطحنوننا، أليس كذلك؟ (تحك
خدها في رأسه الذي لا يزال مسندًا إلى كتفها) الحياة على التسامح،
التنفس بمشيئة العدو، ثم يدركه العطف علينا يومًا حين يفيض معين رحمته؛ فيأذن
لنا بالحق في أن نأكل ونشرب ونتنفس مرة أخرى (ويبدي
إشارة يتلخص فيها مقته ونقمته) حسن، (يضع قبعته وينهض) هذه آخر أنَّة يستطيعون أن ينالوها
مني.
كلير
:
أخارج أنت مرة أخرى؟ (يهز رأسه أن نعم)
إلى أين؟
ماليس
:
ألتقط بعض الأعمال التي ستتساقط علي. موعد قطارنا السادسة.
(يدخل حجرة النوم. تنهك كلير وتقف بجانب الموقد وهي تجيل عينها
بذهول، وتمد يدها وتجمع بطريقة آلية أزهار البنفسج التي في الزهرية، ثم تلوي
أغصانها فجأة وتهوي إلى الكرسي الذي لا بد أن يمر به وهو خارج والبنفسج في يدها.
يدخل ماليس ويمضي إلى الباب فترفع إليه يدها بزهر البنفسج، فيحدق فيه ويهز كتفيه
ويمضي. تظل كلير لحظة جالسة بدون حراك.)
كلير
(بهدوء)
:
أعطني قبلة.
(يدور ويقبلها ولكن شفتيه — بعد القبلة — ينمان عن المرارة التي
تحسها شفاه من فعلوا شيئًا لا يوافق مزاجهم. يخرج ويتركها واقفة بجانب الكرسي
وجيدها يضطرب، ثم تمضي باضطراب إلى المنضدة الصغيرة وتتناول ورقة وتكتب، وترفع
رأسها فجأة فترى المسز ميلر.)
المسز ميلر
:
لقد دفعت حساب الخباز واللبان والغسالة والبدال وهذا ما بقي.
(تضع على المنضدة ورقة بخمسة جنيهات وأربعة جنيهات وشلنين. كلير
تطوي الورقة وتضعها في ظرف، ثم تأخذ الورقة النقدية ذات الخمسة الجنيهات وتضعها في
ثيابها.)
كلير
(مشيرة إلى النقود على المنضدة)
:
خذي أجرتك، وسلميه هذه الرسالة حين يعود. إني ذاهبة.
المسز ميلر
:
وحدك؟ ومتى تعودين؟
كلير
(ناهضة)
:
لن أعود (تنظر إلى يدي المسز ميلر اللتين تعبثان
بثوبها) سأترك المستر ماليس ولن أراه مرة أخرى، وستُسحب القضية
المرفوعة علينا — قضية الطلاق — أتفهمين؟
المسز ميلر
(وقد تهضم وجهها)
:
لم أكن أنوي قط أن أقول لك شيئًا.
كلير
:
ليس هذا ذنبك، فإني أستطيع أن أرى بعيني، فلا تجعلي موقفي أشق وأصعب؛ ساعديني
وأعدي لي مركبة.
المسز ميلر
(مضطربة القلب)
:
إن الخادم في الخارج ينظف نافذة اﻟ …
كلير
:
مريه أن يحضر ليحمل حقيبتي؛ إنها مهيأة.
(تدخل حجرة النوم.)
المسز ميلر
(وهي تفتح الباب بحزن)
:
تعال!
(يظهر الخادم في قميصه عند الباب.)
المسز ميلر
:
السيدة تريد مركبة، فانتظر واحمل لها حقيبتها.
(تدخل كلير لابسة قبعتها ومعطفها.)
المسز ميلر
(للخادم)
:
تعال.
(يدخلان غرفة النوم طلبًا للحقيبة، تتناول كلير طاقة الزهر من
الأرض وتعبث بها وكأنها لا تدري أي شيء هي، وتقف ساكنة جدًّا بجانب الموقد بينما
تمر بها المسز ميلر والخادم، وحتى بعد أن يحمل الخادم الحقيبة ويخرج بها وتعود
المسز ميلر تظل كلير واقفة.)
المسز ميلر
(مشيرة إلى الآلة الكاتبة)
:
هل تريدين هذه أيضًا؟
كلير
:
نعم.
(تحمل المسز ميلر الآلة الكاتبة لتخرجها حتى إذا وصلت إلى الباب
وقفت لتتزود بنظرة أخيرة من كلير وتبكي، وتسمع كلير صوت بكائها فترفع رأسها
إليها.)
كلير
:
لا تبكي ليس ثمة شيء، الوداع.
(تخرج غير ناظرة وراءها، وتحاول المسز ميلر أن تكتم صوت بكائها
بطرف ثوبها.)
«يسدل الستار»