الفصل الرابع
(وقت العشاء في غرفة صغيرة بمشرب «الجاسكوني» في يوم سباق الدربي، وترى من نوافذ ممر
عريض
يفتح عليه الباب زرقة الجو القاتمة.
في هذه الليلة الصيفية، والجدران ذهبية اللون، والسجاجيد والستائر وسقوف المصابيح
والكراسي المذهبة حمراء، والأخشاب المنجورة والحواجز بيضاء، والنخيلات في أصص مذهبة،
وثَمَّ
منفذ بغير باب إلى غرفة أخرى صغيرة، وهناك منضدة صغيرة وراء الحاجز المواري، وأخرى في
فضاء
الغرفة، وإلى كل منهما كرسيان، ويوجد خوان عليه بضعة أطباق «أورديفر» وسلة خوخ وزجاجتا
شمبانيا، وصحفة جندوفلي، وإلى الخوان أنبوبة للمخاطبة مع الغرف الأخرى.
يظهر أرنو الخادم وهو نحيف أسمر سريع وعلى وجهه سيما التهكم الهادئ، وهو يفتح الجندوفلي
ويصغي إلى عبارات المرح الصادرة عن جماعة يتناولون العشاء، ويلعب أحدهم على بوق أو ناي
أنشودة «هل تعرف جون بيل»، وإذ ينقطع اللحن يتمتم لنفسه بالفرنسية «جميل جدًّا» ويمضي
في
فتح الجندوفلي.
تمر سيدتان عاريتا الأذرع وعلى رأسيهما قبعتان كبيرتان في الممر، ويسمع حديثهما وهما
يمشيان وأحدهما تقول: «كلا، لا أحب ليلة الدربي؛ فإن الشبان لا يكونون على ما يرام» ثم
يسمع
قول إحداهما: «هذا البوق؛ إنه سلوك سوقي».
يرتفع حاجبا أرنو ويهبط ركنا فمه، وتدخل سيدة عارية الكتفين وفي شعرها أزهار قرمزية
من
الممر، وتقف لحظة عند النافذة منتظرة رجلًا يلحق بها، ويدخلان الغرفة، فيقف أرنو مستعدًا
للخدمة ولكن الرجل يقول: «دعينا ندخل هنا» فيمضيان إلى الغرفة الأخرى.
يظهر المدير وهو أنيق الشاربين مزرر السترة، نشيط لا يحدث ضجة، ولا يغيب عن عينه شيء،
ويلقي نظرة على الخوخ.)
المدير
:
الواحدة بأربعة شلنات الليلة، أفاهم؟
أرنو
:
نعم يا سيدي.
(يدخل من الغرفة الأخرى شاب ومعه سيدة وهي سمراء كالإسبانية، وهو
وسيم باهت اللون حليقٌ بسَّامٌ وعينه نصف مغمضة، وهو أحد الذين أفقدتهم تربيتهم وسيرتهم
كل شيء إلا القوة على إخفاء عواطفهم، يتكلم بصوت فاتر.)
ذو الصوت الفاتر
:
ضجة فظيعة تلك التي يحدثونها هناك يا مستر فارلي؛ ذلك الرجل الذي ينفخ في البوق!
…
المدير
(بصوت متحبب)
:
إنه جادسدون هنت يا سيدي اللورد، يتعشون عندنا دائمًا ليلة الدربي. هذا ركن هادئ
يا سيدي اللورد. أرنو؟! …
(أرنو يسرع إلى المائدة ويقف بين الحاجز والنخيلة، يجلس الاثنان،
ويطمئن المدير فيسرع في خفة ويتركهما …
تظهر في الممر سيدة في ثوب أسود ومعطف مفتوح مترددة في الدخول،
تتقدم إلى الباب هي كلير!) …
أرنو
(مشيرًا إلى المائدة الأخرى وهو يسرع بالأطباق)
:
مائدة حسنة يا سيدتي.
(تتقدم كلير إلى طرف المائدة، ولما كان أرنو دقيق الملاحظة لزبائنه؛
فهو يلمح بسرعة وجهها الشاحب، وشعرها الذي لا مبالغة في تسويته، والظلال المرتسمة تحت
جفنيها، وأنه لا دهان ولا زينة على وجهها، وأن شفتيها غير مصبوغتين، وأنه ليس لها حلية
واحدة، ويلاحظ أيضًا ثوبها الأسود الجميل التفصيل، وذراعيها الناصعتين، وجيدها الأتلع،
وثلاث زهرات على صدرها — يدنو منها فترفع عينيها وفيها نظرة تائه يلتمس
الهداية.)
أرنو
:
هل سيدتي تنتظر أحدًا؟ (تهز رأسها أن لا) إذن
سيدتي ستكون مسرورة تمامًا ههنا، مرتاحة تمامًا. هل آخذ معطف سيدتي؟
(يتناول المعطف برفق ويضعه على ظهر الكرسي المقابل للغرفة لتستطيع
بسهولة أن تلتف به حين تريده. تجلس.)
ذو الصوت الفاتر
:
جرسون.
أرنو
:
ميلورد.
ذو الصوت الفاتر
:
الشمبانيا.
أرنو
:
حالًا ميلورد.
(كلير ترسم بأصبعها على غطاء المائدة وعينها غير مرفوعة، ثم ترفعها
مرة وتتبع حركات أرنو السريعة.)
أرنو
(عائدًا)
:
هل تشعر سيدتي بحرارة؟ (يتأملها جيدًا) هل
تطلبين شيئًا يا سيدتي؟
كلير
(ناظرة إليه نظرة التائهة)
:
أَلَا بُدَّ أن أطلب شيئًا؟ …
أرنو
:
كلا يا سيدتي، ليس هذا ضروريًّا. كوب ماء (يصب
ماء) لم أتشرف برؤية سيدتي من قبل.
كلير
(بابتسام خفيف)
:
كلا.
أرنو
:
ستجد سيدتي أن المكان حسن جدًّا … هادئ جدًّا.
ذو الصوت الفاتر
:
جرسون.
أرنو
:
عفوًا يا سيدتي (يذهب).
(تعود السيدتان عاريتا الكتفين ماشيتين في الممر، ويسمع قولهما
«توتي؟ كلا، إنها متكبرة» «بوبي لن يحتمل هذا» اسمعي يا عزيزتي …)
(تفزع كلير لصوتهما فتمسك معطفها وتقوم نصف قيام. ينقطع الصوت فتقعد
مرة أخرى.)
أرنو
(عائدًا إلى كلير وهو يهز كتفيه إلى الممر)
:
محلنا ليس فيه مثل هذه الضجة في العادة لا كغيره من المحلات! بعض الضوضاء في هذه
الليلة. هل سيدتي مغرمة بالأزهار؟ (يدور ويعود بزهرية
يجيء بها من مائدة في غرفة أخرى) هذه جميلة الرائحة.
كلير
:
إنك طيب القلب.
أرنو
(ينحني)
:
العفو يا سيدتي، إنه من بواعث سروري.
(ينحني مرة أخرى.)
(يدخل من الممر شاب طويل نحيف معروق معتدل القامة، شعر رأسه وشاربيه
أصفر مقصوص مَحفِيٌّ، ووجهه أحمر جدًّا، ورأسه طويل، يلبس معطفًا خفيفًا مفتوحًا وقبعة
أوبرا ملقاة إلى الوراء، وصدرية بيضاء على وسطه النحيل — يدير عينه وينظر إلى كلير،
ويمر بمائدتها متجهًا إلى الغرفة الداخلية، ثم يقف بالباب ويلتفت إليها ثانية، وتكون
هي
قد رفعت عينها فتصوبها إلى الأرض، فيتردد الشاب ويلمح نظر أرنو ويدعوه إليه بإشارة من
رأسه، ويدخل الغرفة الأخرى. أرنو يتناول وعاء لم تبق إليه حاجة ويخرج وراءه، وتظل كلير
جالسة وحدها في صمت لا يقطعه إلا همس جيرانها وراء الحاجز، وأنفاسها مسرعة كأنها تلهث
من الجري، ترفع عينها فترى الشاب الطويل بغير قبعته ومعطفه واقفًا بجانبها ومادًّا
إليها يده بشيء من الإقدام والخجل ممتزجين.)
الشاب
:
كيف أنت؟ لم أعرفك أولًا — آسف جدًّا — لقد كانت هذه وقاحة مني.
(تنظر كلير كأن عينها تفر منه وتتوسل إليه وتستسلم في وقت واحد. يحس
الشاب بعطف، يرخي يده.)
كلير
(بضعف)
:
كيف أتيت؟
الشاب
(متلعثمًا)
:
هل، هل كنت هناك اليوم؟
كلير
:
أين؟
الشاب
(بابتسام)
:
في سباق الدربي، ماذا؟ ألا تذهبين في العادة؟ (يلمس
الكرسي الثاني) هل تسمحين لي؟
كلير
(بصوت يكاد يكون همسًا)
:
نعم.
(بينما يجلس يحضر أرنو ويقف أمامهما.)
أرنو
:
طبق البيض شهي جدًّا الليلة يا سيدتي، شهي جدًّا يا سيدتي ثم خوخة أو اثنتان بعد
ذلك، خوخ جميل جدًّا، النبيذ — ليس رديئًا يا سيدتي — هل تحبه سيدتي مثلجًا
قليلًا؟
(يعود إلى الخوان.)
الشاب
(دافنًا وجهه في الأزهار)
:
أقول: إن هذه جميلة، أليست كذلك؟ إنهم يقدمون هنا خدمة حسنة جدًّا.
كلير
:
صحيح؟
الشاب
:
ألم تدخلي هذا المكان من قبل؟ (كلير تهز رأسها
نفيًا) وحق الله، لقد خيل إليَّ أني لا أعرف وجهك! (كلير تنظر إليه. يحس الشاب أن شيئًا يتحرك في صدره
فيتلعثم) أعني لست …
كلير
:
لا تهتم.
الشاب
(باحترام)
:
طبعًا إذا، إذا كنت تنتظرين أحدًا أو أي شيء … فإني … (يقوم نصف قيام).
كلير
:
كلا، وشكرًا لك.
(يجلس مرة أخرى قلقًا. صمت لا يقطعه إلا أصوات الجيران وراء الحاجز،
وأصوات المرح من بعيد. يجيء أرنو بالبيض.)
الشاب
:
النبيذ بسرعة.
أرنو
:
حالًا يا سيدي.
الشاب
:
ألا تذهبين إلى السباق أبدًا؟
كلير
:
كلا.
(أرنو يصب النبيذ في الكأسين.)
الشاب
:
إني أتذكر جيدًا أول يوم شهدت فيه السباق، كان يومًا قاسيًا خسرت كل شلن وخسرت
ساعتي وسلسلتها أيضًا؛ لأني لعبت الورق وأنا عائد إلى البيت.
كلير
:
لكل شيء أوله، أليس كذلك؟
(ينظر إليها الشاب وهي تشرب.)
الشاب
(وقد أحس أنه غرق في ماء أعمق مما كان يُقدِّر)
:
أقول لك: كون الأشياء لها أوائلها، هل تعنين شيئًا؟
(كلير تهز رأسها موافقة.)
الشاب
:
ماذا؟ هل تعنين حقيقة أن هذه أول ليلة؟
(كلير تهز رأسها موافقة وقد شجعتها الشمبانيا.)
الشاب
:
وحق السماء، لقد كنت دائمًا أعجب.
أرنو
(يملأ الكأسين مرة أخرى)
:
هل يجد سيدي.
الشاب
(مقاطعًا)
:
حسن … حسن.
(يشرب كأسه ثم يجلس معتدلًا كالعصا وقد تحركت في نفسه عواطف الشهامة
والعطف على الأنداد.)
الشاب
:
إني أستطيع أن أرى أنك لست، أعني أنك سيدة (كلير
تبتسم) وأقول لك: إذا كنت … لأنك في مأزق، وإني أخشى أن أحس أني وغد؛
دعيني أقرضك.
كلير
(رافعة رأسها وقائلة بالفرنسية)
:
إن النبيذ فينبغي أن نشرب.
(تشرب ويجيء تعبيرها بالفرنسية التي لا يفهم منها حرفًا دليلًا
جديدًا على أنها سيدة، فيجلس صامتًا معبسًا، وبينما كانت كلير ترفع كأسها دخل رجلان؛
أحدهما أشقر معتدل الطول أنيق القحة، وشعره الناعم المقصوص وشاربه قد وخطهما الشيب،
وعلى إحدى عينيه نظارة مفردة، وهو ينظر كأنه سيد كل امرأة تقع عليها عينه، ووجهه عريض
وفيه أمارات الغطرسة وآثار النبيذ، أما رفيقه فنحيف طويل، وهو عربيد خبيث النظرة
دوَّارها، وخداه كالكهفين، يقفان ينظران حولهما ثم يدخلان الغرفة الأخرى، ولكنهما وهما
يمران يحملقان بلا حياء في وجهها.)
الشاب
(وقد رأى ألمها لنظرة الرجلين)
:
اسمعي إني أخشى أن تُعِدِّيني وحشًا.
كلير
:
كلا حقيقة.
الشاب
:
هل أنت مفلسة تمامًا؟ (كلير تهز رأسها موافقة)
ولكن (ينظر إلى حلتها ومعطفها) إن ثيابك جميلة
جدًّا.
كلير
:
لقد كنت حكيمة فاحتفظت بها.
الشاب
(وقد ازداد اضطرابه)
:
اسمعي، إنك تعرفين أتمنى لو سمحت لي أن أقرضك؛ لقد كسبت اليوم كثيرًا في
السباق.
كلير
(ترسم بإصبعها على غطاء المائدة ثم تحدق في وجهه)
:
كلا، لا آخذ بلا مقابل.
الشاب
:
وحق الله لست أدري، حقيقة لست أدري، إنَّ هذا يجعلني أشعر أني خسيس؛ أعني كونك
سيدة.
كلير
(مبتسمة)
:
ليست هذه غلطتك، أليس كذلك؟ لقد انهزمت على طول الخط، ولست أبالي حقيقة ماذا يحدث
لي؟ (تعود إلى وجهها النظرة الدالة على نشوة
النفس) كلا، إلاَّ الصدقة لا أستطيع أن أقبلها، ومن حسن حظي أني وقعت
معك لا مع رجل آخر …
(تزداد ضجة الجماعة التي تتعشى، وتسمع هتفة طويلة ونفخة قوية في
البوق.)
الشاب
:
ولكن أين أهلك؟ لا بد أن لك أهلًا كائنين من كانوا.
(يستولي عليه سحرها بسرعة لأن خديها قد اصطبغا بالحمرة من أثر
الشراب وعينها التمعت.)
كلير
:
نعم، كان لي أهل وزوج وكل شيء، وهذا أنا هنا. مدهش! أليس كذلك؟ (تلمس الكأس) إنه يذهب إلى رأسي، فهل تبالي؟ لن أرفع
صوتي بالغناء أو أنهض وأرقص، ولن تتساقط دموعي أعدك بذلك.
الشاب
(مضطربًا بين دوافع الشهامة وعوامل الافتتان)
:
يا لله! إن المرء لا يستطيع أن يصدق أن مثل هذا يحدث لسيدة.
كلير
:
هل لك أخوات؟ (ترسل ضحكة رقيقة خافتة) إن أخي
في الهند فلن أخشى أن أقابله على أي حال.
الشاب
:
كلا، ولكن قولي لي هل انقطعت تمامًا عن كل إنسان؟ (كلير
تهز رأسها) لا بد أن شيئًا فظيعًا قد حدث.
(تبتسم. يعود الرجلان. الأشقر يحدق في وجه كلير فتنظر إليه غاضبة،
فيضحك ويمضي مع صاحبه إلى الممر.)
كلير
:
من هذان الرجلان؟
الشاب
:
لا أعرفهما، لم يتسع وقتي لغشيان هذه المحلات، فقد عدت منذ أيام فقط من الهند،
لقد قلتِ: إن أخاك هناك، في أية فرقة؟
كلير
(وهي تهز رأسها)
:
كلا، لن أدعك تعرف اسمي، فليس لي اسم ليس لي شيء (تضع
ذراعيها العاريتين على المائدة وتسند وجهها على كفيها).
كلير
:
أول يونيو، في مثل هذا اليوم من العام الماضي فررت، ومنذ ذلك اليوم وأنا
أجري.
الشاب
:
لست أفهم شيئًا، لا بد أنه كان لك رجل …
(ولكن وجهها يتغير وجسمها يتصلب، فيمسك عن الكلام وينحي وجهه، وبعد
هنيهة ينظر إليها ثانية فإذا هي تشرب، تضع الكأس وتضحك ضحكة صغيرة.)
الشاب
(بشيء من التهيُّب)
:
على كل حال لا بد أن مجيئك إلى هنا في هذه الليلة كلفك مجهودًا عنيفًا.
كلير
:
نعم، ماذا في الجانب الآخر؟
(الشاب يمد يده ويلمس ذراعها عطفًا عليها، فتظنه يغازلها.)
كلير
(وهي تهز رأسها)
:
ليس الآن من فضلك فإني أتمتع بهذا، هل تسمح لي أن أدخن؟
(يخرج علبة السجاير ويقدم لها واحدة.)
كلير
(وهي تخرج الدخان ببطء)
:
نعم، أتمتع بهذا فقد كانت هذه الأيام الأخيرة عصيبة؛ لم أكن أجد الكفاية من
الطعام أحيانًا.
الشاب
:
أصحيح هذا؟ يا له من حال لعين! اسمعي: كلي شيئًا أدسم.
(كلير تفهق فجأة كأنها توشك أن ينتابها ضحك عصبي، ولكنها تكتمه وتهز
رأسها.)
الشاب
:
ولو خوخة.
(أرنو يجيء بالخوخ إلى المائدة.)
كلير
(بابتسام)
:
أشكرك.
(أرنو يملأ الكأسين ويتراجع.)
كلير
(رافعة كأسها)
:
كل واشرب فإنك في غدٍ. اسمع!
(يسمع من ناحية الجماعة التي تتعشى غناء مشتركًا متقطعًا ختامه
أصوات متنافرة ثم ينقطع.)
كلير
:
«اليوم يموت غزال» ما أحلى هذه الأغنية!
الشاب
:
يا لهم من معربدين! (فجأة) اسمعي إني معجب
بشجاعتك.
كلير
(تهز رأسها)
:
لم أستطع المضي في الكفاح، كثيرات من النساء يستطعن ذلك ولكني أرق مما يجب، وليس
لي القدر الكافي من اللباقة، أصدق صديقاتي قالت هذا عني (تضحك) لم أستطع أن أكون قديسة أو ضحية، ولم أرض أن أكون لعبة بلا
روح، لا هذا ولا ذاك، ومن هنا المأساة.
الشاب
:
لا شك أن حظك كان سيئًا جدًّا.
كلير
:
لقد جاهدت (بعنف) ولكن ما الفائدة ما دام أن
ليس أمامك شيء؟ أأنا دميمة؟
الشاب
:
كلا، بل رائعة الجمال.
كلير
(بضحك)
:
قال لي رجل مرة «ما دام ليس لك مال فقد كان ينبغي أن لا تكوني جميلة»، ولكنك ترى
أن للجمال فائدة، ولو لم أكن جميلة لما استطعت أن أخاطر بالمجيء إلى هذا المحل. ألا
تظن أني كنت جريئة حين اشتريت هذه؟ (تلمس الأزهار على
صدرها) اشتريتها بآخر شلن بقي معي بعد أجرة المركبة.
الشاب
:
أصحيح هذا؟ إنها شجاعة.
كلير
:
لا فائدة من التوسط، لقد نزلت إلى الميدان فتمنَّ لي فيه التوفيق (تشرب وتضع كأسها بابتسام) خضت البحر العميق (ترفع كفيها إلى ما فوق وجهها الباسم) يهبط الإنسان،
ويهبط حتى لا يبقى إلا رأسه، ثم يهبط ويهبط … وينتهي الأمر، هل أنت الآن نادم على
أنك كلمتني؟
الشاب
:
لا وحق الله، وقد لا يكون هذا من النبل ولكني لست نادمًا.
كلير
:
لنحمد الله على الجمال، وأرجو أن أموت جميلة. أتظن أني سأوفق في هذا
الطريق؟
الشاب
:
اسمعي، لا تتكلمي هكذا.
كلير
:
إني أريد أن أعرف فقل لي.
الشاب
:
إذن نعم ستُوفَّقين.
كلير
:
هذا بديع، وهؤلاء النسوة اللواتي يتمشين في الشوارع يتمنين أن لو بادلنني بعيونهن
ليُكنَّ جميلات مثلي، أليس كذلك؟ إن عليهن أن يقطعن الطريق جيئة وذهابًا، جيئة
وذهابًا، فهل تظن أني سأضطر أن أفعل مثلهن؟ …
(الشاب يهم بالنهوض ويضع كفه على ذراعها.)
الشاب
:
أظن أنك مهتاجة أكثر مما يجب. إنك تبدين. ألا تأكلين خوختك؟ (تهز رأسها نفيًا) كُليها أو خذي شيئًا آخر إذن
عنبًا أو غيره.
كلير
:
كلا، وأشكرك (وتكون قد هدأت جدًّا).
الشاب
:
حسن إذن، ما رأيك؟ إن الجو حار جدًّا هنا، أليس كذلك، أفلا يكون خيرًا أن نركب
سيارة في الهواء الطلق؟ فهل نقوم؟
كلير
:
نعم.
(يلتفت الشاب ليرى الخادم، ولكنه لا يكون في الغرفة فينهض.)
الشاب
(محمومًا)
:
لعن الله هذا الخادم. انتظري دقيقة — إذا لم يكن في هذا بأس — حتى أدفع
الحساب.
(يخرج إلى الممر فيدخل الرجلان. كلير جالسة لا تتحرك وهي ناظرة
أمامها مباشرة.)
الأسمر
:
أراهن بخمسة جنيهات على أنك لن تفوز بها.
الأشقر
:
موافق.
(يتقدم الأشقر إلى المائدة بوقاحة لا مثيل لها، ويخرج السيجار من
فمه، ويصوب عينه إلى كلير ويقول «يسرني أن أراك في صحة جيدة، فهل تتعشين معي هنا غدًا
مساء؟»
تتنبه كلير فترفع إليه عينها فترى نظرته ونظرة زميله من ورائه، وهي
نظرة خبيثة شريرة مترقبة، فتظل ناظرة بلا كلام، فيقول لها الأشقر من غير أن تزعجه
نظرتها الصريحة «اتفقنا إذن، الساعة الحادية عشرة والنصف، أشكرك. عمي مساء».
ويعيد السيجار إلى فمه، ويَكرُّ راجعًا إلى زميله ويقول له بصوت
خافت «هات الرهان» ثم يسمعان صوتًا ينادي «هالو شارلس!» فيلتفتان ليحيياه وراء
الحاجز.
لم تتحرك كلير ولم تغير اتجاه نظرها، ثم تدفع يدها فجأة في جيب
معطفها المعلق وراءها وتخرج الزجاجة الزرقاء الصغيرة التي أخذتها من بيت ماليس منذ ستة
شهور، فتفتحها وتفرغها في كأس الشمبانيا، وترفع الكأس وتنظر إليها مبتسمة كأنها تشرب
نخب أحد، ثم تدنيها من شفتيها وتشرب، وتضع الكأس وهي تبتسم وتسند الأزهار التي اشترتها
إلى صدرها، وتسترخي شيئًا فشيئًا ببطء على الكرسي وعلى فمها الابتسامة الناعسة، فتقع
الأزهار في حجرها وتسترخي ذراعاها، ويهبط رأسها على صدرها، والجالسون وراء الحاجز
يتكلمون، وأصوات المرح من مائدة العشاء تهفو إلى الغرفة، وأحيانًا ترتفع وأحيانًا
تخفت.
يدخل أرنو من الممر ويذهب إلى الخوان ومعه سلة فاكهة فيضعها، ويذهب
إلى المائدة التي وراء الحاجز وينظر، ثم يعود إلى كلير.)
أرنو
:
مدام! مدام! (يصغي إلى تنفسها ثم يلمح فجأة الزجاجة
الصغيرة فيشمها) يا إلهي!
(يخرج الذين وراء الحاجز على صوته الغريب — وهم أربعة — وينظرون،
ويقول الأسمر «هالو، هل أغمي عليها؟» فيمد أرنو يده بالزجاجة إليه.)
اللورد الفاتر
(يتناول الزجاجة ويشمها)
:
وحق الله!
(تنحني المرأة على كلير وترفع يديها. يجري أرنو إلى التليفون
ويتكلم.)
أرنو
:
المدير بسرعة (يلتفت فيرى الشاب عائدًا) لقد
فرت! لقد ماتت!
اللورد الفاتر
(للشاب المذهول)
:
ما هذا؟ أهي صديقتك؟
الشاب
:
يا إلهي! لقد كانت سيدة، هذا كل ما أعرف عنها!
اللورد
:
سيدة!
(ويكون الرجلان الأسمر والأشقر قد تسللا من الغرفة، ويصل من ناحية
الجماعة الذين يتعشون في الغرفة الأخرى صوت يغني أنشودة «لقد ذهبت» وصوت المزمار
تُغنَّى عليه أنشودة «اليوم يموت غزال» وختامها خافت هاف كأنه روح تصعد ثم تغرق الأنغام
في ضجة الضحك، وقد غطى الشاب وجهه بكفيه، وراح أرنو يرسم الصليب على صدره بحرارة، أما
اللورد فواقف يحدق وإحدى الأزاهير تتلوى بها أصابعه، وتقبل المرأة جبين كلير.)