مصرع الحلاج
الحقيقة العيسوية والحقيقة المحمدية والحقيقة العلوية
والحلاج (رضي الله عنه) يشبه المسيح عليه السلام من نواح كثيرة، منها كثرة السياحات، وقوة التنسك، وكثرة الأتباع، وبشاعة المصير إلى الصلب.
والتشابه بين المسيح والحلاج قوي جدًّا من الناحية العقلية، فالمسيح كان يقول بوحدة الوجود، كما قال الحلاج بوحدة الوجود.
ونسارع فنقرر أننا لا نفكر في معارضة النظرية القرآنية التي تبرئ المسيح من القول: بأنه ابن الله، فالقرآن يريد أن يضع المسيح في أحسن الأحوال التي ترتضيها النظرية الإسلامية، وهي تفرق بين الله وبين العباد، وتفصل بين الرب وبين المربوب.
إن تقرير القرآن لعقيدة المسيح لا يمنع من أن ننظر إليه نظرة فلسفية بعد التأمل في النظرية النصرانية، وهي نظرية نرفضها تأدبًا بأدب القرآن، ولكننا نستبيح درسها لنشرح بها فرضًا من الفروض الفلسفية.
تشيع الحلاج
يجمع النصارى على أن المسيح قال: إنه ابن الله، ولهم في تفسير هذه العبارة مذاهب، فالعوام رأوها عبارة حقيقية، والخواص رأوها عبارة مجازية.
وعبارة «أنا ابن الله» عبارة تستحق الدرس، فإن لم تكن من قول المسيح فقد قال بها أتباع المسيح.
فما المراد بهذه العبارة من الوجهة الفلسفية؟
أنا أظن — وبعض الظن إثم وبعضه غير إثم — أن هذه العبارة تشبه ما سماه الصوفية بالحقيقة المحمدية، والحقيقة المحمدية هي العماد الذي قامت عليه (قبة الوجود) كما عبر ابن عربي، هي صلة الوصل بين الله والناس، فهي القوة المدبرة التي يصدر عنها كل شيء.
وعلى ذلك تكون نظرية الحقيقة المحمدية عند غلاة الصوفية مأخوذة من أصول نصرانية.
فعيسى هو ابن الله، ومعنى ذلك فيما أفترض أنه الصلة بين الله وبين الوجود.
ومحمد هو أول التعينات، وليس فوقه إلا الذات الأحدية، كما لم يكن فوق عيسى إلا الأب، أي: الله.
والنصارى يتمثلون الله حين يخاطبون عيسى، فلولا عيسى لانعدم الوجود.
والصوفية يتمثلون الله حين يخاطبون محمدًا، فلولا محمد لانعدم الوجود.
وعيسى هو ابن الله، ولكنه يتمثل في صورة بشرية، أو هو الموجد في صورة بشرية.
ومحمد هو سر الله، ولكنه يتمثل في صورة بشرية، أو هو الموجد في صورة بشرية.
فعيسى لولاه لانعدمت الصلة بين الله وبين الوجود فانعدم الوجود.
ومحمد:
وعيسى هو «الكلمة» وأتباعه من الرسل الذين بلغوا دعوته كلمات.
ومحمد عند الصوفية هو «الكلمة» وجميع الأنبياء كلمات.
وبعض أتباع عيسى لهم خصوصية.
وبعض أتباع محمد لهم خصوصية، كالذي يراه الشيعة في علي بن أبي طالب.
والمسيحيون يسمون «عبد المسيح» وجمهور المسلمين يسمون «عبد الرسول» ومن الشيعة من يسمي «عبد الأمير» أو «عبد الأئمة» أو «عبد الحسين».
الرسل والأئمة والنقباء
ونُسب إلى الحلاج أنه ادعى الربوبية، وقد نفى هذه التهمة عن نفسه، ولكننا لا نستبعدها عليه؛ لأنها تأتلف مع مذهبه كل الائتلاف؛ وكذلك نسب إليه أنه ادعى النبوة، وليس ذلك بغريب.
حدث الخطيب البغدادي بسنده قال: حضر عندنا بالدينور رجل ومعه مخلاة فما كان يفارقها بالليل ولا بالنهار ففتشوا المخلاة فوجدوا فيها كتابًا للحلاج عنوانه: «من الرحمن الرحيم إلى فلان بن فلان».
وهذه لباقة في التخريج، والوجه الحق هو أن الحلاج يرى نفسه من صور عليٍّ أو من صور محمد. وعليٌّ أو محمد. هو الموجد لسائر الموجودات.
هل اتفق للحلاج أن يدعي النبوة والربوبية؟
والتاريخ يعيد نفسه في عالم العقائد وفي أوهام الناس.
هيام الحلاج في حب الله
والواقع أن الحلاج كان يؤمن بنظرية وحدة الوجود أو بنظرية الحلول، وأشعاره تشهد بذلك فهو يقول في خطاب بعض الأحباب:
أو يقول:
أو يقول:
ومعنى ذلك أنه يقول بالوحدة بين المحب والمحبوب: فهو يجعل الصلة بينه وبين أصفيائه كالصلة بينه وبين واجب الوجود.
ندم الحلاج على إذاعة أسرار الحب
والواقع أيضًا أن الحلاج أحب الله إلى حد الفناء، وقصته في حب الله قصة محزنة، فقد تنقل المسكين من أرض إلى أرض، وتشكل في مظهره ومخبره أشكالًا مختلفات؛ فكان له في كل أرض حال، ومع كل قوم رأي، ولقي في سبيل محبوبه أفظع ضروب الشقاء.
قضى السنين الطوال وهو يشاهد طيف الحبيب، الحبيب الممنوع الذي يراه في كل موجود، ولا يظفر منه بشيء غير الوجد والحنين.
كان المسكين يحب حبيبًا لا يُدرك ولا يُنال، كان يحب النور الذي يُغشي الأبصار والقلوب، كان يحب الله، والله أكبر من أن يحب؛ لأنه فوق الأوهام والظنون.
وقد طالت محنة الحلاج في هواه، وظل يعاني ملامة العُذَّال حتى استهدف للقتل.
ولما حكم بإهدار دمه آثر الاستخفاء، عساه يظفر بمناجاة حبيبه بضع سنين، ولَقِيَهُ بعض أصفيائه وهو مستخفٍ فبكى وأنشأ يقول:
إن قصة الحلاج مع ربه قصة نادرة الأمثال، وهي تغزو القلب بالحزن، والعيون بالدمع، وتفهم من لا يفهم أن الحب لا يعرف اللعب ولا المزاح.
ولو كان الحلاج بعيد العهد في التاريخ لقلنا: إن صَلْبه أسطورة من الأساطير كما قال قوم: إن صلب المسيح أسطورة من الأساطير، ولكن الحلاج قريب العهد وأخباره صحيحة الأسانيد، ولا يزال قبره قائمًا يزار في بغداد، وقد زرته فرأيته مهجورًا كسائر قبور المحبين، وما أشقى المحبين في الحياة وبعد الممات!
كان الحلاج يتمنى أن يكون المحب عين المحبوب ليصح له أن يقول:
ولكن متى صح أن يكون المحبُّ عين المحبوب؟
إن للحب شريعة باقية على الزمان، وهي شريعة مسطورة على جدران الوجود، وفيها كلمات صريحة عن مصاير المحبين، وهي تعلن أن المحب لن يكون أبدًا من السعداء.
كانت للحلاج مطامع فيمن يحب، فلما أُخرج من سجنه ليُقتل عرف أنه كان مخبول المطامع، وأنشد:
ثم طافت بنفسه أطياف هواه، وأطياف بلواه في هواه، فصاح:
وبذلك اعترف الحلاج أنه جهل قدر نفسه حين استجاز أن يكون نديمًا لذلك المحبوب القهار الذي أغرق الأولين والآخرين في لجج من الهدى والضلال.
سيرورة اسم الحلاج في بقاع الأرض
أخطأ الحلاج في حبه خطأ لا يقبل الغفران، فقد فضح أسرار الحب كما فضح المسيح أسرار الحب، ولو كتم أسرار هواه لنجا من القتل.
مضى الغافل يتحدث عن هواه في كل أرض، ويصرح بأنه صار عين المحبوب، ولو عقل لعرف أن المحبوب يؤذيه أن يتحدث بهواه من يهواه.
أما بعد فلم يكن من همنا أن نكتب ترجمة مفصلة للحلاج فقد سبقنا إلى ذلك أستاذنا المسيو ماسينيون في كتاب نشره بالفرنسية منذ أعوام طوال، وقد شغل نفسه بتعليقات مهمة على كتاب الطواسين، ومضى فتحدث عن أخباره في كثير من المجلات، وإنما أردنا أن نبرز صورة الحلاج من الوجهة الأدبية، وأن نبين كيف استشهد في سبيل القول بوحدة الوجود.
وربما جاز أن نقول: إن في هذا الفصل القصير معاني لم يلتفت إليها أستاذنا ماسينيون.
لا تسألوني عما أودعت في هذا الفصل من المعاني، فأنا أحب أن أكون أعقل من الحلاج، وإن كنت أصغر من الحلاج.
وأما النصارى فإنهم أقرب من جميع الأمم الماضية إلى الحق تعالى، فهم دون المحمديين، وسببه أنهم طلبوا الله تعالى فعبدوه في عيسى ومريم وروح القدس ثم قالوا: بعدم التجزئة ثم قالوا: بقدمه على وجوده في محدث عيسى، وكل هذا تنزيه في تشبيه لائق بالجناب الإلهي، لكنهم لما حصروا ذلك في هؤلاء الثلاثة نزلوا عن درجة الموحدين.
وعند التأمل نرى النظرية الصوفية تلتقي مع النظرية النصرانية، وليس بين الحقيقة المحمدية والحقيقة العيسوية إلا فروق شكلية.
فالإنسان الكامل عند الصوفية هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين، وهو محمد الرسول، وهو أقيم واحد، على حين أن النصارى يؤمنون بثلاثة أقانيم، فالصلة بين الله وبين الوجود تتمثل في شخص واحد هو محمد عند الصوفية، والصلة بين الله وبين الوجود تتمثل في ثلاثة عند النصارى.
ويجمع بين المذهبين أن الله لا يصنع شيئًا مطلقًا بدون وسيط.
ومن الصوفية المسلمين من كان يهمه تصحيح النظرية النصرانية. فقد نقل الدكتور عبد الوهاب عزام عن هاتف الأصبهاني ما نصه:
قلت لنصراني في الكنيسة: إلام تضل طريق التوحيد وتحمل عار التثليث؟ كيف يصح أن يسمى الحق الواحد الابن والأب وروح القدس؟ فقال: لو أن عندك علمًا من الوحدة لم ترمنا بالكفر، فإن المحبوب الأزلي رمى شعاعًا من وجهه المنير في ثلاث مرايا.
وهاتف لم ينطق النصراني إلا بما عبر عنه هو في كلمة ثانية إذ يقول: «الحبيب يتجلى من كل جهة يا أولي الأبصار».