صراحة الجيلاني
عبد الكريم الجيلاني من أعلام الصوفية، توفي نحو سنة ٨٢٠ وأهل بغداد يسمونه الجيلي، وله هناك ضريح نبهني إليه الأستاذ عباس العزاوي ولم أسأل عن منزلته في أذهان الناس، وأغلب الظن أنهم ينظرون إليه كما ينظرون إلى ضريح الحلاج.
ترك الجيلاني كتابًا يفيض بالوساوس اسمه: «الإنسان الكامل، في معرفة الأواخر والأوائل».
ولم نقل: بأن محصول ذلك الكتاب من الوساوس إلا مجاراة لأهل الشريعة، أما أهل الحقيقة فيرون محصوله من الحقائق.
ومحصول هذا الكتاب هو تلخيص ما يجب أن يعرف المريد من ألوان الثقافة الصوفية، فهو يحدثه عن أدق المشكلات بأسلوب واضح صريح، إلا حين توجب السياسة أن يؤثر الغموض، ويقدم إليه ما يجب أن يعرف من أصول العقائد والمذاهب، وقد ينظم آراءه ثم يشرحها كما يصنع ابن عربي. ولكن نظمه في الأغلب أركُّ وأضعف.
ولتوضيح ذلك نقول:
كانت أكبر عَقَبة تعترض القائلين بوحدة الوجود هي مشكلة الثواب والعقاب، وقد درسنا هذه المشكلة من قبل، وبينا ما فيها من تهافت وضعف، فلنذكر الآن أن الجيلاني يقتلع هذه المشكلة من الأساس، ويراها ضربًا من الأوهام والظنون، وهو بكل صراحة يرى الناس جميعًا مهتدين: في أحوال الطاعة وفي أحوال العصيان.
وهو يقرر أن الله يسمَّيىالمضل كما يسمى الهادي، فالطائع متحقق بصفة الهداية، والعاصي متحقق بصفة الضلال، وهما أمام الحق سواء.
وهذه الوثبة مذمومة من الوجهة الشرعية: فهي تقضي على أصول القوانين، وتوجب إلغاء المحاكم وتستريح من يرابطون من الجنود للمحافظة على مصالح الناس.
وكيف يكون الحال إذا أبيح لكل مخلوق أن يسرق وينهب ويقتل بلا رقيب ولا حسيب؟ كيف يكون الحال إذا شعر كل إنسان بأنه مهدِّد باغتيال ما يملك من المنافع وتعكير ما ينعم به من الأمن والعافية؟
كيف تصبح الدنيا إذا عاش اللئام والفاسقون والظالمون بلا وازع ولا رادع يوم تنهار سلطة الشرائع والقوانين؟
وكيف يرتقي العمران إذا صح في كل ذهن أن لا مجال لبقاء ما نؤسِّس وما ندخر من أصول المنافع المعاشية والعمرانية؟
وما فضل الإنسان على الحيوان إذا انعدمت محامد الرفق والعطف، ومذاهب الضبط والكبح، ومراجع الاحتكام إلى العقل والعدل؟
إن ذلك لو صح لعادت الدنيا إلى عهدها الأول يوم كان بنو آدم قطعانًا يهيمون حول مساقط الغيث ومنابت الأعشاب، وانعدمت هذه المواسم الشعرية التي تتمثل في استخدام البُخار والكهرباء، وتظهر روعتها في عيش الضعفاء آمنين بجانب الأقوياء.
والحق أن الإنسان استطاع أن يمثل دور الإله فوق الأرض بفضل ما أنشأ من شرائع وقوانين، فهو بفضل السلطة التشريعية والتنفيذية وقف الظالم والمظلوم أمام منصة العدل، واستطاع أن يمكن الضعاف والعزل من أن يبيتوا في منازل ليس فيها قفل ولا رتاج.
وبراعة الإنسان تظهر في هذا الجانب، فهو قد حول الدنيا إلى دار أمان، وليس هذا بالقليل إذا فكرنا في طبيعة بني آدم وكانوا من الحيوان الذي يُؤثِر الافتراس.
ولو شئت لقلت: إن القوانين صيرت الحانات أكثر أمانًا من المساجد والكنائس، وما أذكر أني دخلتُ حانة فسُرقتُ، ولكني أذكر أن عباءتي سرقت في مسجد السيدة زينب منذ سنين، فصرت لا أدخل مسجدًا إلا صليت منفردًا لأنجو من اللصوص المصلِّين!!
وما استطاع الإنسان أن يكون خليفة الله في الأرض إلا بفضل القوانين، وهو بالفعل يحقق أظرف الأخيلة في الأحلام الإنسانية، فمن أوهام الناس أن سيأتي يوم يعيش فيه الحمل مع الذئب، ويلعب فيه الأطفال بالحيات والثعابين.
وقد تحقق شيء من هذه الأحلام، فأصغر إنسان يستطيع أن يعادي الوزراء والأمراء والملوك وهو واثق من السلامة ما دام يملك التدليل على أنه في جانب الحق.
ولا يستطيع وزير ولا أمير ولا ملك أن يخرجني من بيتي إلا إذا أعانه القانون.
ولا يملك أعنف خصومي أن يؤذيني إلا إذا ظلمت نفسي فخرجت على القانون.
وهذا جانب شعريٌّ في حياة الناس، الناس الموفقين الذين أنشأوا الشرائع والقوانين فقضوا على الظلم والبغي والإسراف.
ولكن نظرية الجيلاني لها سناد متين من الوجهة العقلية.
فبقليل من التأمل نرى العالم قام على أساس الشهوات وهي باب العصيان، فآدم خرج من الجنة بسبب ما اقترف من أكل الفاكهة الممنوعة، فماذا صنع حين طرد من الفردوس؟ كان خروجه هو الأصل في روعة هذا الوجود، ولو أن آدم لم يعص ربه لبقيت الأرض بلا سامر ولا أنيس، وظلت بلا حضارة ولا عمران، ولو بقي آدم في الجنة لحُرم الجهاد في سبيل الفضيلة وفي سبيل الرزق وعاش غافي العواطف، خامد الإحساس.
وكيف يكون فهمنا لعظمة الله إذا حُرِمنا الشقاء بالعواطف والشهوات والأهواء؟ كيف كنا نعيش لو خلت دنيانا من اللهو والفُتُون؟
كيف كانت تطيب الدنيا لو لم نُطع الله بالعصيان؟
كيف يكون العقل لو خلا من التمرد والثورة والاعتساف؟
إن أقوى الأغاني والأناشيد هي أنفاس الملتاعين من الذين قارعوا فتن الوجود.
إن أعاظم الرجال هم الذين نقعوا أرواحهم في بحار الشهوات.
إن أقوى العيون هي العيون التي رأت دقائق الخفايا في ألوان الصباحة والجمال.
إن أقوى القلوب هي القلوب التي واجهت سرائر الليل.
إن أعظم النفوس هي النفوس التي عاقرت كئوس الغل والحقد والحب والهيام.
إن أكبر العقول هي العقول التي اصطرعت في ميادين الشك واليقين.
حدثوني عن رجل واحد بين العظماء شهد تاريخه بأنه احترم العُرف والقوانين والتقاليد.
إن الرجل العظيم هو الحوت الذي يسير كما يشاء، ومن سواه من الصِّغار هم صغار الأسماك التي تساير التيار لتقع في شباك الصيادين.
إن الظلم من أكبر الآثام، ولكنه يفتح عيون المظلومين إلى الثورة والجهاد.
وحب اللذات إثم، ولكنه يخلق فنونًا كثيرة من الحضارة والرفاهية والترف.
والتحاسد مذموم ولكنه أصل المباريات والمنافسات، وهو السبب الأصيل لإيقاظ عزائم الأبطال.
والبغي إحدى الكبائر، ولكنه يدعو الباغين إلى الاعتصام بالقوة والجبروت.
والحرب أنفع للإنسانية من السلم، فبفضل الحرب عُرفت وسائل وأساليب هي في ذاتها من عناصر الجمال في الوجود.
والجسم الإنساني يصور النضال بين الطاعة والعصيان، فهو محتلٌّ بجراثيم يبغي بعضها على بعض فإذا وقع الصلح بين تلك الجراثيم كان الموت.
والشر ينفع كل النفع، فهو الذي يحولنا من ناس إلى حكماء، وينقلنا من مراتع الحملان إلى مرابض الأسود.
وماذا غنمنا من سيادة الشرائع والقوانين؟
غنمنا العدل؟
وهو كذلك!
ولكن أي عدل؟ هو العدل الأعرج الذي سمح للضعفاء والمهازيل بأن يكونوا من قادة الشعوب!
ومتى تحقق العدل في دنيا الناس؟
إن الضعفاء لهم وسائل يدحرون بها الأقوياء.
فأسفل مخلوق يستطيع أن يكيد لأشرف مخلوق.
يستطيع المخلوق السافل الضعيف أن يزعم التفرد بحسن السيرة ومتانة الأخلاق؛ لأن ضعفه قضى بأن يكون آخر من يهم بالثورة على مأثور الأخلاق.
والحكام يعرفون أن نظام الحكم نظام دخيل في الحياة الإنسانية فهم يرضون عن الضعفاء؛ لأنهم لا يعرضونهم للقيل والقال، ويفرون من الأقوياء فرار الأجرب من بطش السليم: لأنهم يعرفون أن الأقوياء يُدخلونهم في مضايق من حيوات القلوب والعقول.
وبفضل هذا العُرف السخيف صار من عبارات المدح أن يقال: فلان من البيت إلى المسجد ومن المسجد إلى البيت.
وبفضل هذا العرف السخيف تقدم الضعفاء، وتخلف الأقوياء.
وبفضل تقدم الضعفاء وتخلف الأقوياء صار الشرقيون من المستعبَدين.
وهل كان للشرق قوة إلا يوم صح لأنبيائه وزعمائه أن يروا لأنفسهم مزايا ليست لسائر الناس؟ وهل استطاع النبي محمد أن يستبيح من الزوجات ما لا يستبيح لأفراد أمته إلا وهو يرى أنه أقوى الرجال؟
وهل نزل الوحي في بلاد العرب إلا على رجل مشهود له بالقوة في كل شيء، حتى في النواحي الطبيعية؟
ما فضلُ الشرائع وما فضل القوانين إن لم تؤيدها القوة والجبروت؟
إن الناس يخدعون أنفسهم حين يحتمون وهم ضعفاء بسلطان الشرائع والقوانين.
قد تقولون: إن الأنظمة الإنسانية حولت مجاهيل الأرض إلى بساتين.
آمنت وصدقت!
ولكن حدثوني عن شرح هذه المعضلة، فقد هام في شعابها صوابي.
كان سكان مصر منذ مئة سنة لا يزيدون عن ثلاثة ملايين، ولكنهم في ذلك الوقت كانوا أقوياء، فقد استطاعوا أن يهددوا الإمبراطورية التركية، واستطاعوا أن يطردوا الإنجليز في موقعة رشيد، واستطاعوا التحفز لنصرة الأمة الفرنسية، واستطاع محمد علي بفضل جنود مصر أن يقول: إنه قريع نابليون.
فما الذي وقع بعد ذلك؟
كانت مصر تعيش على الجفاف فلا تعرف طغيان النيل غير مرة واحدة في كل سنة، وكان أهلها أصحاء لم يقهرهم البول الدموي ولا ديدان الأمعاء.
أستغفر العقل، فقد كان أهل مصر معرضين لأخطار الجراثيم التي تسبح في مياه النيل، فيموت من يموت ويعيش من يعيش، وكان العيش من نصيب الأقوياء الذين حمتهم قوتهم الطبيعية من فتك الجراثيم.
ثم تقدمت أساليب الوقاية وبلغ سكان مصر ستة عشر مليونًا، فما مكانهم اليوم في دنيا الناس؟
لقد أثبت الكشف الطبي أن نحو ثمانين في المئة من السكان يعيشون عيشًا صوريًّا؛ لأنهم صرعى البول الدموي وديدان الأمعاء.
ومن أجل ذلك صار من الصعب أن تتمتع مصر بالحيوية التي كانت تتمتع بها منذ مئة سنة أو منذ عهد الفراعين.
فإن قلتم: إن الأنظمة الحديثة نفعت مصر فأنتم تهيمون في بيداء الخيال.
والتقدم الفكري والعقلي هو السبب في انحطاط الأمم القوية، فألمانيا انهزمت في الحرب العالمية بفضل حذلقة أبنائها النوابغ!
وفرنسا لن تصلح للكفاح العنيف بعد اليوم؛ لأن كل فرد من فرنسا يرى من حقه بفضل شيوع التعليم أن يعلِّل ويحلل كل ما يعرض له من الآراء، والجنديُّ المتفلسف لا ينفع.
والحرية الصحفية في مصر ستجعل مصر آخر الشعوب التي تصلح للنضال، فكل صحفي وإن صغر قدره سيضع الحرب موضع الجدل والخلاف، ولا قيمة للمحارب المرتاب.
حدثوني ماذا استفدنا من العلم والمدنية فما أرى هذه الألاعيب إلا مزالق وأحابيل؟
والجيلاني يؤمن بالجنة والنار، ولكنه لا يرى أهل النار في عذاب، وهو يؤكد أن أهل الجحيم يتلذذون كما يتلذذ أهل النعيم.
وإنما كان الأمر كذلك؛ لأن «الشقاوة» عنده غرض مطلوب.
وما كانت الشقاوة مما يطلب العقلاء؛ وإنما اشتهوها لأنها السر في نهوض الحضارة والعمران، وستكون أعظم معضلة يوم يقوم الحساب، وبفضلها يسيطر الله ذو الجلال.
أما بعد فهذه توجيهات لآراء الجيلاني، وهي آراء تنكرها الشرائع والقوانين، والناس يتصورون أن القول بها يمضي بالإنسانية إلى معاطب الهلاك.
ولو عقلوا لعرفوا أنها أساس النظام في عالم الحيوان، وهو لم ينقرض في الغابات بسبب البغي والإثم والعدوان.
وأكاد أجزم بأن الإنسانية هي التي ستتعرض للهلاك بفضل ما خلقت من القوانين، فالأمن المطلق يحول الإنسان إلى مخلوق ضعيف؛ لأنه يصرفه عن الاستعداد للمكاره والخطوب.
بقي النص على ما في نظرية الجيلاني من المعاني الشعرية، فهي تروض الناس على الجذل والابتسام، وتشعرهم بأنهم في طاعاتهم وفي معاصيهم جنود أوفياء لرب العزة والجلال، وتوفر عليهم قتل أعصابهم بالندم على ما اقترفوا من ذنوب، والإغراق في الندم قد يقضي على النفوس بالتهدم والانحلال.
لو لم تذنبوا فتستغفروا لخلق الله قومًا يذنبون فيستغفرون.