أنواع النظم عند ابن عربي
لقد سبق الكلام على ابن عربي ومكانته في الأدب والتصوف، ولكن له مكان آخر نفصله الآن،
ذلك بأن ابن عربي كان من المولعين بتقعيد التصوف، والنظم فيه، على نحو ما يفعل ناظمو
المتون، ومنظومات ابن عربي من طلائع هذا الفن الذي سيكمل في القرن الثالث عشر على لسان
حسن رضوان.
والمنظومات التي نعنيها في هذا الفصل هي فن آخر يخالف ما ورد في ديوان ابن عربي وما
ورد في كتاب ترجمان الأشواق، هي فن وسط بين الشعر والنظم، ولكنها على كل حال وضعت لغرض
خاص هو تقعيد التصوف.
وأهم مرجع لمنظومات ابن عربي هو كتاب الفتوحات المكية.
١ والمنظومات فيه ترد منسجمة مع الأبواب: فأبواب الكتاب هي الأصل، والمنظومات
توابع، على خلاف المعروف في المتون، حيث يكون النظم أصلًا وتكون الشروح توابع.
وقد يجعل النظم أصل الباب، كالذي وقع في الباب التاسع والخمسين وخمس مئة في معرفة
أسرار وحقائق من منازل مختلفة، فإنه استهله بهذه الأبيات:
لله في خلقه نذير
يُعْلمهُم أنه البشير
في كل عصر له شخيص
تجري بأنفاسه الدهور
عينه في الوجود فردًا
الواحد العالم البصير
يا واحدًا مجده تعالى
ليس له في الورى نظير
ليس لأنواره ظهور
إلا بنا إذ لنا الظهور
فنحن مجلى لكل شيء
يظهر في عينه الأمور
وهذه القطعة تشير إلى نظرية وحدة الوجود.
وفي أغلب الأحوال يأتي النظم في ثنايا الأبواب، كأن يشير إلى الألفة بين العبد والرب
فيقول:
كلما قلت: سيدي
قال لي: أنت مالكي
سد والله كون عبـ
ـدي علي مسالكي
ما لنا عنه صارف
في جميع المدارك
لست في عينه ولا
فعله بالمشارك
فهو المالك الذي
ليس يُدعَى بمالك
وأنا الخادم الذي
يعتني بالممالك
قلت: يا رب عصمة
من سبيل المهالك
قال: سمعًا فأنت عبـ
ـدي من أهل الأرائك
في سرور وغبطة
لا من أهل الدرائك
بين التصريح والتلميح
وتنقسم منظومات ابن عربي في الفتوحات إلى قسمين: قسم تغلب عليه النفحة الوجدانية وهو
قليل، وقسم يغلب عليه التقعيد وهو الأكثر، كأن يقول في مقامات ترك الكرامات:
ترك الكرامة لا يكون دليلًا
فأصِخ لقولي فهو أقوم قيلا
إن الكرامة قد يكون وجودها
حظ المكرم ثم ساء سبيلا
فاحرص على العلم الذي كُلِّفته
لا تتخذ غير الإله بديلا
ستر الكرامة واجب متحقق
عند الرجال فلا تكن مخذولا
وظهورها في المرسلين فريضة
وبها تنزَّل وحيه تنزيلا
وفي سائر مصنفات ابن عربي نرى أشكالًا من النظم، كالذي نراه في مطلع كتاب (مواقع
النجوم) إذ يقول من منظومة بلغت سبعة وأربعين بيتًا:
فكُنْهُ علمًا وكنه حالًا
مع رائح إن أتي وغادي
فكنه وصفًا ولا تكنه
ذاتًا فعين المحال بادي
ولا تكن ذا هوى وحب
فيه فقلب المحب صادي
من بات ذا لوعة محبًّا
شكا لها حرقة الفؤاد
وانظر بعين الفراق أيضًا
فيه ترى حكمة البعاد
فحكمة الضد لا يراها
سوى حكيم لها وشادي
وأغلب منظومات ابن عربي ترمي إلى مقاصد مستورة بحيث يمكن أن تضاف إلى الرمزيات.
٣