منظومات اليافعي
مؤلفات اليافعي
اليافعي هو عفيف الدين عبد الله بن أسعد المتوفى سنة ٧٦٨، وهو رجل شغل نفسه بالتصوف
والتاريخ، ومؤلفاته الصوفية تعد من المراجع، وفيها أدب وذوق، وكان فيما يظهر من الذين
ذاقوا معاني القوم؛ ولذلك نجد في كتبه نفحة روحانية قد لا نجدها عند سواه، وأشهر
مؤلفاته كتاب (روض الرياحين في مناقب الصالحين) وهو كتاب يفيض بأخبار الكرامات، وهو من
هذه الناحية كتاب ضعيف؛ لأنه يضيف المؤلف إلى طائفة المغفلين الذين يصدقون كل شيء،
ولكنه مهم جدًّا، لما فيه من الأخبار الصوفية التي تنفع من يهمه أن يعرف شمائل أولئك
الناس.
والكتاب الذي اعتمدنا عليه في تحرير هذا الفصل هو كتاب (نشر المحاسن الغالية، في فضل
أصحاب المقامات العالية)، وهو كتاب ممتع؛ لأنه شرح الأحوال والمقامات بأسلوب جميل؛
ولأنه دون فيه أكثر ما أنشأ من المنظومات الصوفية.
منظوماته الرمزية
ومنظومات اليافعي فن وسط، فلا هي بالشعر المطبوع، ولا هي بالنظم المتكلف، وهي في
جميع أحوالها من أثر الصدق؛ ولذلك نغتفر ما يقع فيها من الشطط في
بعض الأحوال.
وأظهر فنون اليافعي في منظوماته هو الشعر الرمزي، ونريد به ما تجري فيه الصبابة على
الأساليب الحسية، وهي في ذاتها معنوية، كأن يقول:
سلا عن حمى سلمى وعن أهله الغر
عسى خبر يلقاكما طيب الذكر
يجيء به من نحوها عذب منطق
يفوح به من ريحها طيب النشر
يخبر عن سلمى وعن ذلك الحمى
وقول لسان الحال في نظمه الدُّري
رعى الله عهدًا مر مع جيرة الحمى
يباهي رياضًا ناضرات به زهر
١
سقتنا بها سلمى من الراح عند ما
بدت فأضاء الكون من جانب الخدر
أماطت حجابًا عن بهاء جمالها
فهمنا سكارى في المهامه والقفر
نروم التسلي عن هواها ببعدنا
وكل جمال في الوجود بها يغري
خليلي ما سلمى ونجد وما الحمى
وما راحها ما كأسها ما الهوى العذري
شربنا حميا الكأس في قدس حضرة
وأكرم بها في حضرة القدس من خمر
لنا عُصرت من كرم نور جمال من
سقانا وقد غبنا وحرنا فما ندري
سكرنا بها من شمها قبل شربها
نشاوي برياها إلى آخر الدهر
أو السكر ذا من رؤية الكاس أو أتت
به رؤية الساقي إلينا ذوي السكر
تجلى بأوصاف الجمال فشاهدت
عيون قلوب ما به حار ذو الفكر
فيا ليلة فيها السعادات والمنى
لقد صغرت في جنبها ليلة القدر
فلما شربنا الراح في ساعة الرضا
أتانا أغر السعد بالخلع الخضر
رسول عنايات برسم ولاية
وتصريفنا في الملك في البر والبحر
وضاءت لنا أنوار غيب وشوهدت
أمور وأعلمنا بها أنها تجري
وحلت بوادي طور قلب معارف
زهت فيه كم حسناء في داخل الخدر
وكم حكم تجلَّى ملاح كأنها
عرائس أبكار على منطق الدر
وكم يدفع الله البلايا بسادة
عن الخلق في كشف الشدائد والضر
فمن لم بذا يؤمن فقولوا له: إذا
تجرَّا على الغر المشايخ بالنكر
تجلى فضولًا في فضائل سادة
لهم في سما مجد المفاخر كم قصر
مقامات أحباب نرى الشهب دونها
بنوها بياقوت المواهب والدر
تضيء الدياجي من بهاء جمالها
بها يهتدي من للعلا نحوها يسري
وما تلك من أشباه عشك فادرجي
إلى جوف عش في الغيابات أو جحر
إلى آخر القصيدة، وهي سبعون بيتًا افتتح بها كتاب المحاسن الغالية.
وعند مراجعة ما نقلناه يرى القارئ أن «الرمزية» هنا لا تستوفي الشرائط الأساسية؛
لأن
الناظم يحدثنا في بداية القصيدة عن سلمى فنظنه يرمز إلى الروح، ولكنه يصارحنا بعد ذلك
بما يريد، وهذا ليس من أسلوب الرمزيات، مع أنه يقول: «وأنشد لسان حالهم معبرًا عنهم
نائبًا عن لسان المقال معرضًا بذكر سلمى ونجد والحمى تورية وتسترًا».
٢ وهو لم يتستر، بل أفصح.
والشاهد الذي نقلناه فيه نفحات شعرية كقوله:
نروم التسلي عن هواها ببعدنا
وكل جمال في الوجود بها يغري
وفيه نظم متكلف كقوله:
فمن لم بذا يؤمن فقولوا له: إذا
تجرا علي الغر المشايخ بالنكر
وإليكم شاهدًا آخر ترك فيه سلمى، وتحدث عن نعمى وقد بهره نور الجمال:
وفاح به من خدر نعمى معطرًا
له طيب رياها مثيرًا لأشجاني
ولم ير ذاك النور أعمى بصيرة
ولا شم ذاك الطيب مزكوم حرمان
ومن قد رأى أو شم أصبح مغرمًا
بنعمى وحالي عيشها الناعم الهاني
فإن أنعمت نُعمى سقت راح وصلها
لأهل الهوى ممن بها مغرم عاني
جَنَوا من جنان الوصل تفاح نفحة
بروضات رضوان وروح وريحان
وعيشًا هنيًّا في حمى ظل نعمة
تراهم ملوكًا جوف جنات عرفان
فآهًا على تلك العطيات والمنى
على تلك فابكوا يا صاحبي وإخواني
٣
فهذه قطعة رمزية، ولكن كلمة «يا صحابي وإخواني» تدل على ما يريد من الحديث عن المعاني
الصوفية.
وقد حدثنا أنه قال بعض القصائد على لسان حال من مات في حب الله «بطريق النيابة عن
لسان مقاله، على جهة الغزل الساتر لحاله»،
٤ وهو بهذا يفضح الرمزية التي اعتصم بها وهو يشرح تلك الحال، أما تلك القصيدة
فمنها هذه الأبيات:
بتذكار سُعْدَى أسعداني فليس لي
إلى الصبر عنها والسُّلوِّ سبيل
ولا تذكرا لي العامرية إنها
يوله قلبي ذكرها ويزيل
ولكن بذكري عرضًا عندها
٥ فإن
تَقُل كيف هو قولوا فذاك عليل
علاه اصفرارٌ مدنف والهٌ له
أنين سقيم جسمه ونحيل
فإن تعطفي يشفي وإن تتلفي ففي
هواك المعنَّى المستهام قتيل
والقارئ يلحظ الجناس في بعض هذه الأبيات.
بين التلميح والتصريح
ويظهر أن اليافعي متأثر بابن عربي في رمزياته، من حيث الشرح، فكما شرح ابن عربي قصائد
ترجمان الأشواق، شرح اليافعي قصائده الصوفية، والفرق بين الرجلين أن ابن عربي لا يوجه
معاني قصائده إلا عند الشرح، أما اليافعي فيصرح بمراده في صلب القصيدة ثم يؤكد مراده
بالشرح، من ذلك ما صنع عند قوله في التائية:
ثنت في ابتدا ميدان فضل عنانها
وود حصان المدح لو كان مفلوتا
وأبياتها خمسون من نظم موثق
بقيد الخطايا والعلائق مكبوتا
فقد حدثنا أن «الحصان هنا كناية عن القلب وإشارة إلى ظلمته وعماه بسبب الخطايا وشغله
بالعلائق العائقة له عن السير في الميدان المذكور، وهو ميدان من ميادين الملكوت، هو
موطن فضلهم المشكور، ولا يعرف ذلك الميدان إلا أهل النور والعرفان، ولا يقطعه إلا
المخففون السابقون من الفرسان؛ فلهذا وقف الحصان المكنيُّ به عن الجنان لعدم النور
البارق، وثقل العلائق اللذين كل واحد منهما كالقيد العائق، ولو أنه أفلت من الوثاق
وأزيل عنه القيدان وأرخى له العناية في ذلك الميدان لجال في تلك الأوطان، وشاهد في
خيامها مليحات الحسان، فأعرب عن تلك المحاسن بأحسن بيان».
٦
وصف الرجال
وعند اليافعي فن ثان هو وصف الرجال، أي: الصوفية كأن يقول:
رجال لهم علم بما جهل الورى
لهم صار مكشوفًا منحَّى حجابُهُ
فأسرار غيب عندهم علم كشفها
وقد سكروا مما يطيب شرابه
أولئك هم أهل الولاية نالهم
من الله فيها فضله وثوابه
وقرب وأنس واجتلاء معارف
ووارد تكليم لذيذ خطابه
بترك الهوى أمْسَوْا يطيرون في الهوا
ويمشون فوق الماء أَمْنٌ جنابه
ملوك على التحقيق ليس لغيرهم
من الملك إلا إسمُهُ وعقابه
٧
وهذه القطعة تبين منحاه في وصف رجال التصوف: فهم من أهل الكشف وعندهم أسرار الغيب،
وهم يناجون الله عن «طريق الوارد» وهم ملوك على التحقيق، ومن سواهم ليس له إلا اسم
الملك، وما يتبع الملك من تبعات تفضي إلى العقاب.
والملوكية هي الوصف المختار عنده فقد تعرض لهم في قصيدة ثانية فقال:
ملوك البرايا ليس يشقى جليسهم
لهم بيضُ رايات العلا في المواقف
٨
وعرض لغرامهم وسكرهم في قصيدة ثالثة فقال:
سلام على قوم شموس الهدى غدا
بهم في الهوى سكر إلى حشرهم غدا
أدار عليهم كأس راح محبةٍ
جمالٌ سقى الأحباب لما لهم بدا
بها هام بعض في البراري وبعضهم
به وله ظنوا جنونًا فقيَّدَا
وبعض عن الأكوان بان وبعضهم
به جاوز الإسكار حدًّا فعربدا
فسلَّ عليه الشرعُ سيفًا حمى به
حدودًا فرى الحلَّاج ماض محددا
فمات شهيدًا عند كَمْ من محقق
ولم عندهم يخرج عن القوم ملحدا
٩
والقارئ يلحظ أن الناظم قد يفصل بين حرف الجزم وبين مجزومه فيقول:
ولم عندهم يخرج عن القوم ملحدا
وقد سلف له شيء من ذلك حين قال: «فمن لم بنا يؤمن».
وله قطعة تغلب عليها النفحة الشعرية، وهو يصف
القوم بالبكاء عليهم فيقول:
لأحبابنا عيش عليه يناح
لقاء شيوخ للمريد لقاح
أيا دهرنا المغبر ما لك مظلمًا
نهارك ليل لا يليه صباح
كأنك محزون على فقد سادة
شموس الهدى كانوا ضياءك راحوا
فأخلفهم مثلي فخلاك مثله
حلاك حلّى منها الملاح قِباح
وأيامك الغر الزواهر قبل ذا
حلاها بها يزهو الوجود ملاح
كسا الكون حسنًا والأنام سعادة
بها بمحياها الرضا وفلاح
١٠
ولعل هذه القصيدة هي التي ساق منها في موطن آخر
هذه الأبيات:
بمذهبهم قتل الغرام شهادة
وشهد ومحقون الدماء مباح
سلام على السادات من كل صادق
آداب المريدين
ومن هذا الفن أيضًا أشعاره أو منظوماته في وصف آداب الرجال، كأن يقول في وصف المريد
الذي صدق ما عاهد الله عليه:
فمجد العلا ما ناله غير ماجد
يخاطر بالروح الخطير فيظفر
إذا ذكرت جنات عدن وأهلها
يذوب اشتياقًا نحوها ويشمِّر
ويعلو جواد العزم أدهم سابقًا
وأبيض مجنونًا عن النور يسفر
ويركض في ميدان سبق إلى العلا
ويسري إلى نيل المعالي ويسهر
وإني إلى أمر أنا فيه آمن
لأحوج من غيري إليه وأفقر
١٢
أو يقول:
فما فاز بالمجد الأثيل من الورى
سوى من لدى الأهوال بالنفس يسمح
فأما جبان عزت النفس عنده
فذاك الذي بالذل يمسي ويصبح
تعرض لنفحات الإله وبابه
أدم قرعه فالباب يوشك يفتح
١٣
وبدا له مرة أن يحاور مخاطبته على نحو ما كان يفعل حاتم مع امرأته فقال:
وقائلة: ما المجد للمرء ما الفخر؟
فقلت لها: شيء لبيض العلا مهر
فأما بنو الدنيا ففخرهم الغنى
كزهر نضير في غد ييبس الزهر
وأما بنو الأخرى ففي الفقر فخرهم
نضارته تزداد ما بقي الدهر
١٤
فهو في هذه الأبيات يوازن بين الأغنياء والفقراء، ويرى الغنى زهرة ستذبل بعد قليل،
ويرى نضارة الفقر نضارة باقية. ومن الواضح أن الفقر لا يوصف بالنضارة إلا في عرف
الصوفية بل عندهم هو باب إلى الملك:
أخي. نحن والله الملوك بفقرنا
لنا الملك في الدارين والعز والغنى
نولي ونعزل، والملوك جميعهم
لنا خدم، والذل يجزون والعنا
١٥
وهو يرى من أدب المريد أن تكون المزابل أحب إليه من القصور ويقول:
أحن ارتياحًا للمزابل لا إلى
قصور وفرش بالطراز توشح
وأمنح ودي للمساكين صافيًا
أجالسهم والهجر للغير أمنح
ففي ذل نفسي عزها وبموتها
حياة لأجل الغال بالدون أسمح
لنا باعتزال للورى لذ في الهوى
جوار كلاب في المزابل تنبح
إذا في اختلاط قيل: ربح فضائل
فقل: نحن قوم بالسلامة نربح
١٦
وقد تحدث عن العزلة في هذه الأبيات، ورأى جوار الكلاب أفضل من جوار الناس، وهي نظرة
كلها تشاؤم، ولعله كان رأى في زمانه ناسًا يشبهون بعض من رأينا من أهل هذا الزمان، فقد
مضى به التشاؤم إلى إيثار صحبة الأموات على صحبة الأحياء.
وناء عن الدنيا وعن صحبة الورى
وحيد لأصحاب القبور مجاور
مجاور قوم لا يضرون جارهم
وكم نفعوا بالوعظ من هو زائر
فغائبهم لا يختشي غيبة ولا
يخاف أذاهم والنميمة حاضر
يناديهم بالله هل في بيوتتكم
ظلام المعاصي أم بها النور زاهر؟
١٧
ولليافعي قطع كثيرة في وصف آداب المريدين، وهذه الشواهد تبين مناحيه الأصيلة، وهي
إيثار الفقر والنفرة من الناس.
ولا يمكن أن نرى الخير كل الخير فيما يقول، فللغنى أوجه جميلة، وله منافع يؤيد بها
كرام الرجال، والناس جميعًا ليسوا من أهل السوء، ففي بني آدم مخلوقات شريفة تصلح للمودة
والإخاء، فيهم على الأقل أولئك الصوفية الذين يرون أنفسهم من أهل القدرة على البر
والأدب والسخاء.
الحب الإلهي
وهناك فن ثالث من أشعار اليافعي هو التشوف إلى الذات الإلهية، وأشعاره في هذا الفن
فيها قبس من الحنين، ولكنها لا تسمو به إلى منازل الأقطاب من المحبين، ونلمح فيها
أحيانًا نزعة سوقية، كأن يقول:
فيا أسفا يا حسرتا يا مصيبتا
ويا ضيعة الأعمار سوق المواسم
كما لم نكن كالغير أهلًا لقربه
لقد فاتنا كل المنى والمكارم
نموت ولم ننظر جمال جلاله
ولم ندر طعم الحب مثل البهائم
فلو شاهدت ذاك الجمال عيوننا
سكرنا وغبنا عن جميع العوالم
وملنا نشاوي من شراب محبة
وباح بمكنون الهوى كل كاتم
ونحَّى حجابًا عن عجائب قدرة
ونور وأسرار وطيب تنادم
فما العيش إلا ذاك لا عيش عزة
وسلمى ولا ليلى ولا أم سالم
١٨
والنزعة السوقية ظاهرة في هذه الأبيات؛ لأن المحب لا يتذكر في هذا المقام عيش
البهائم، ولا يقارن حال الشوق إلى الله بالشوق إلى عزة وسلمى وليلى وأم سالم، مع احترام
هذه الأسماء!
وله قصيدة أخرى في الحب الإلهي لم تسلم من هذه النزعة السوقية، فقد ختمها بهذا البيت:
سكارى بمولاهم وأنت بجيفة
فقس رخمًا بالباز عند التناصف
والظاهر أنه في مثل هذه المواقف يعرض بأعداء الصوفية، وهذا التعريض هو الذي يقدح في
قيمة انجذابه نحو الذات الإلهية التي لا يرى المحب عندها صورة لأحد من
المخلوقين.
والحق أن اليافعي لم تصلح نفسه صلاحية تامة للحب الإلهي؛ لأنه يتحدث كثيرًا عن الجنة
والنار، ويجعل الخوف والرجاء موصولين بأشياء حسية لا يفكر فيها المحبون، والأصل في الحب
الإلهي أن يكون جذوة تشغل المحب عن كل ما سوى المحبوب، فلا يعرف النعيم ولا الجحيم، ولا
يفكر إلا في رضا المحبوب، ولو كان من رضاه أن يقدف بالمحب في مهاوي الشقاء.
نظم قواعد التصوف
بقي الفن الأخير من منظومات اليافعي وهو خير ما عنده من الفنون، وهو نظم القواعد
الصوفية، وله في هذا الفن قصيدة عينية لم نرها كاملة، ولكن عرفنا أهميتها من الشواهد
المبددة في كتاب (نشر المحاسن الغالية)، وإليكم هذه الأبيات:
نفوس البرايا كالمطايا يقودها
إذا عودت في كل شيء تطاوع
فنفسك عودها حميدًا من التقى
وعلم وآداب لها الزهد رابع
وصبر وشكر والتوكل والسخا
ومع ورع فقر به العبد قانع
ومع عزلة ذكر وسابق توبة
وخوف وعيد وهو في العفو طامع
وصدق وإخلاص وحسن استقامة
وكن راضيًا فيما بك الحق صانع
وخاتمة العشرين زين خصالها
تواضع فللعبد التواضع رافع
١٩
ففي هذه الأبيات الستة ساق عشرين خصلة من خصال المريد الصادق، وهذا هو ما نريده من
نظم قواعد التصوف.
وله قصيدة سماها (عذبة المعاني الدقيقة، في التغزل بين الشريعة والحقيقة) أراد أن
يبين بها أن الشريعة هي الأصل «كالبحر والمعدن واللبن والشجرة، والحقيقة مستخرجة منها
كالدر والتبر والزبد والثمرة»
٢٠ وهي قصيدة طريفة:
فؤادي بعذبات المعاني معذب
وقلبي بنار من قلاها مقلب
تعوض عن سلمى بسعدى ووصلها
عزيز ومن لم يمنح الوصل يتعب
معنى فلا من ذي ولا ذي مواصل
فبين هوى سلمى وسعدى مذبذب
لعز معالي الفقه من قبل واصل
وبيض العلا في الفقر من بعد يخطب
وهي قصيدة طويلة فيها الغث والسمين يراها القارئ في الجزء الأول من نشر المحاسن الغالية.
٢١
منزلة اليافعي بين الصوفية
والمنظومات التي أراد بها اليافعي تقييد القواعد الصوفية كثيرة جدًّا، وهي على
كثرتها لا تضيفه إلا إلى عوام الصوفية؛ لأنه لا ينحدر في مزالقهم إلا قليلًا، ومن هذا
القليل القصيدة التي يقول فيها:
يداوي لقلب في حرام مخفف
كجسم وبل أولى جوازًا مؤكدًا
لأن سقام الجسم أجر ورحمة
وبالضد جسم القلب للدين مفسدًا
٢٢
وهو يشير إلى الرأي الذي يقول: بجواز الإقدام على الحرام إذا كان فيه إصلاح
للقلب.
وخلاصة القول: أن لمنظومات اليافعي أهمية عظيمة في نشر الثقافة الصوفية، ولكنها من
حيث ذاتها ليس فيها محصول جديد، واليافعي نفسه لا يدرك من التصوف غير الغاية النفعية،
فالصوفي عنده رجل يخاف النار ويرجو ما وعد به المتقون من نعيم الجنان.
وما نريد بهذا أن نخرجه من حظيرة التصوف، وإنما ننص على أن تصوفه ليس من النوع الخطر
الذي يحل صاحبه من قيود الشرع ويسلكه في زمرة المتفلسفين.
ولهذا المسلك قيمة من الوجهة الأخلاقية، فالمريد الذي يربيه اليافعي شخص وسط يسير
في
الطريق المأمون، وعليه أن يراعي من قواعد السلوك ما ينسجم مع العرف والمألوف، فلا يزيغ
بين الحقائق والأضاليل.
وليس في منهج اليافعي ما يعاب غير الإسراف في التشبث بصحة الكرامات، وهذا يقلب مسلكه
المأمون في التصوف؛ لأنه يصور أقطاب الصوفية بصورة من يملكون تصريف الوجود، وعندما يصح
هذا في أذهان العوام الذين يربيهم على أدب الشرع ينقلبون إلى طوائف من الموسوسين لا
يمسكهم عقل ولا يحوطهم تدبير.
وقد أشرنا من قبل إلى قيمة منظوماته من الوجهة الفنية، فلنقيد مرة ثانية أن أسلوب
هذا
الرجل أسلوب وسط، واللحن يغلب عليه، بالرغم من حذلقته النحوية التي يلوح بها من حين إلى
حين.
وهناك عيب يجب النص عليه وهو غرام اليافعي بالنظم، فإنا نراه يحرص على وضع منظوماته
في كل موضوع، كأنه موكل بنظم ما عرف الصوفية من المعاني والأغراض، وهذا يدل على أنه كان
في أكثر أحواله من المتكلفين، ومن الناس من يوصي بالتواضع ليقع في الكبرياء.