قيمته الأدبية
وحياة الشيخ حسن رضوان هي نموذج لحياة الصوفي الحق، فقد كان الرجل من أهل العلم،
وكان اهتمامه موجهًا إلى نشر الثقافة الدينية والصوفية، فكان يقيم الدروس وينشئ
المؤلفات، ويذيع المثل الطيب بسلوكه الشريف بين الناس.
وقد ترك هذا الرجل سيرة عطرة فما اتصل به من البلاد، وغرس فيمن عرفهم حب الدرس، وقد
حدثني الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق أن البلد الذي أقام فيه الشيخ حسن رضوان كثر فيه
العلماء والمدرسون، فهو من الهداة الصالحين الذين عرفتهم مصر في القرن الثالث عشر،
وإليه يرجع الفضل في تثقيف جمهور كبير من أهل ذلك العهد.
معنى التصوف
ترك الشيخ حسن رضوان طائفة من المؤلفات الدينية والصوفية.
٢ ولكن أهم آثاره هو (روض القلوب المستطاب) وهو منظومة مطولة تقرب من اثني
عشر ألفًا من الأبيات، وربما كانت هذه المنظومة أعظم منظومة في قواعد التصوف، وهي تدل
على مرونة اللغة في قلم ذلك الشاعر البليغ، وتدل أيضًا على أنه كان من أعلم الناس بأصول
التصوف، ومن أعرفهم بمذاهب القوم.
والذي ينظر في هذه المنظومة يعجب كيف اتفق لذلك الرجل أن يعي كل تلك الحقائق، وما
ظن
القارئ برجل لم يترك من التصوف شاردة ولا واردة إلا قيدها بأسباب من النظم الوثيق؟ ما
ظن القارئ برجل يعرف ما يأتي وما يدع في ميدان كثر فيه الوهم والضلال؟ ما ظن القارئ
برجل قعد التصوف تقعيدًا وصيره من العلوم ذوات القواعد والأصول، بحيث يرى المطالع أنه
ينظر في فن مقعد مضبوط؟
وتظهر قوة الشيخ حسن رضوان حين يتصدى لشرح بعض الإشارات، فهنالك ترى نفسك أمام رجل
يعني ما يقول، ويفهم ما يريد.
يضاف إلى ذلك الجرأة الهائلة في شرح ما يؤمن به في مزالق التصوف، ولكن أي شرح؟ شرح
واضح لا مداورة فيه ولا التواء.
ولا يمكن لقارئ أن يعرف قيمة الشيخ حسن رضوان إلا أن اتفق له ما اتفق لنا من الحيرة
الطويلة في فهم مذاهب القوم، فقد قضيت سنين وأنا أتحسس مقاصد أولئك الناس، فلما وصلت
إليه عجبت كيف وضحت تلك المذاهب في نفسه فجلاها في أظهر بيان.
وحدة الوجود
ومن أعجب ما وقع لهذا الناظم أنه بدأ منظومته بأصعب مسألة، وختمها بأسهل مسألة،
بدأها بالكلام على وحدة الوجود، وختمها بتعريف التصوف، ولو أنه عكس لكان أقرب إلى
النظام المقبول في الترتيب.
فلنبدأ نحن بكلامه في تعريف التصوف، وهو يرى أنهم اختلفوا فيه:
فبعضهم بالفقر عنه عبرا
وبعضهم بوصف زهد فسرا
وبعضهم بالأخذ بالحقائق
ويأسه مما لدى الخلائق
وقائل: بحب الافتقار
والفقر والإعطا مع الإيثار
وترك الاختيار بالتسليم
إلى مراد العالم الحكيم
وبعضهم بقطع كل عائق
عن ربنا من مطلق العلائق
وقيل: إنه القيام بالأدب
لكل وقت في جميع ما طلب
من شكر نعمة عليه أسبغت
أو توبة مما به نفس بغت
وقيل: أن يحيى الإله عبده
به وأن يميت منه قصده
وقيل: ذكر باجتماع والعمل
مع اتباع ثم وجد اتصل
وقيل: إنه النقا والتصفية
للقلب من معوقات التوفية
ويحدثنا أن لفظ «الصوفي» لم يكن مستعملًا في عرف النساك، وإنما هي لفظة اصطلاحية أخذت
من (الصوف) وهي ثلاثة أحرف: صاد، واو، فاء، وكل حرف من هذه الأحرف يشير إلى عدة معان:
فالصاد صرف الهمة القويه
في كل مرضيٍّ وصدق النية
وصبره على البلا والطاعه
وعن أمور توجب انقطاعه
وصده الهوى عن الفؤاد
وصرفه عن خلطة العباد
وصدعه بالحق لا يبالي
من لومة في الله ذي الجلال
وصفحة عن كل من يؤذيه
والصدق في جميع ما يبديه
وصونه لجملة الأنفاس
بضبطها والصلح بين الناس
وصرمه حبال كل عائق
يعوقه عن رؤية الحقائق
وصقل قلبه بذكر ربه
وصمته عن مانع من قربه
وأن يكون صاغرًا بحيث أن
يرى الصغار عنده من المنن
أولئك ما يشير إليه حرف الصاد
أما الواو فقد فصل إشاراتها إذ يقول
والواو وصله جميع ما أمر
بوصله المولى وفضله اشتهر
ووده في الله كل من عرف
بوصف إيمان وبالتقوى وصف
كذا وقوفه على الحدود
مع الوفا لله بالعهود
والوعد مثل العهد في وفائه
لديه عن عزم لدى إبدائه
أما الفاء فإشاراتها أغرب، ولننظر كيف يقول:
والفاء للفتوة المعهوده
في عرفهم وفقده شهوده
والفتق والفتوح والفرقان
وفتحه الموصوف بالبيان
وفرقه الثاني، وهذا بعض ما
له حروفه تشير فاحكما
وقد شرح الغامض من هذه الإشارات فبين أن (الفتق) هو في عرف أهل الحق عبارة عن اتصافه
بما يفيده تفصيل المادة المطلقة بصورها النوعية، أو ظهوره كلما بطن في الحضرة الواحدية،
من النسب الأسمائية، وبدو كل ما كمن في الذات الأحدية، من الشئون الذاتية، كالحقائق
الكونية بعد تعينها في الخارج؛
٣ وقد شرح «الفتوة» وهي كلمة يكثر ورودها في كتب الصوفية، وهي عندهم عبارة عن
خمود حرارة القلب اللازمة للبداية.
٤
والقول: بأن كلمة «صوف» اختيرت لما تشير إليه
الصاد والواو والفاء هو قول لم أره عند غيره من الصوفية، فإن كان من مبتكراته فهو تعليل
طريف يدل على براعة الخيال.
على أن هذا لم يمنعه من نظم أقوالهم في اشتقاق التصوف:
وقد جرى من حيث الاشتقاق
في لفظة التصوف الشقاق
وكل ذي قول له توجيه
لقوله في نفسه وجيه
ولكن القياس والقواعد
في جملة الأقوال لا تساعد
والبعض منهم قد يقوى قوله
بالأخذ من صوف بلبسهم له
فقوله هذا وإن يكن وجد
له قياس في كلامهم عهد
لكن أهل الحق لم يختصوا
بلبسه ولا عليه نصوا
وهو بهذا النظم قيد ما جاء في فاتحة الرسالة
القشيرية، ولكن البيت الأخير عليه اعتراض؛ لأنه يقرر أن الصوفية لم يختصوا بلبس الصوف
ولم ينصوا عليه، وهذا غير صحيح، فإن الصوفية اختصوا بلبس الصوف ونصوا عليه، وإن كان لم
يفتهم أن يقرروا في غير موطن أن طهارة القلب هي الأساس، وأن المطلوب تصوف القلب لا تصوف
الثوب.
٥
ومن رأي الناظم أنه لا ينبغي مطالبة الصوفية بمجاراة القياس أو الاشتقاق.
فإنهم أجل من أن تفتقر
أقوالهم إلى قياس مشتهر
أو اشتقاق إذ لهم قانون
ساروا به وسره مكنون
فلفظهم أقفاله لا تفتح
إلا بذوق أو بكشف يمنح
آداب السلوك
وأهم مسألة عرض لها الناظم هي (وحدة الوجود) وقد جعلها غاية الغايات من منظومته حين
قال في الختام:
وهذه الرسالة الشريفه
جمعتها بهمة ضعيفه
لكن بحمد الله جاءت كافيه
في سير أرباب القلوب الصافية
فكل بيت من بيوتها اشتمل
على معان تنجلي لمن دخل
وكلما تكرر الدخول
في أي بيت يحصل المأمول
وتنجلي الرقائق المطويه
في لفظة والحكمة المنويه
لا سيما ما كان في العقائد
فإنه من أعظم المقاصد
وحسبه من ذلك المقصود
إشراق نور وحدة الوجود
وهو بهذا أجرأ من الشعراني الذي أعلن براءته من القول بوحدة الوجود، وأصرح من ابن
عربي الذي دار حولها في تهيب واحتراس.
وربما كان من أسباب شجاعة الناظم أنه نشأ في مصر في أيام لم تكن فيها حقائق التصوف
من
المشكلات، أو لعل الذين عاصروه من كبار العلماء لم يكونوا من الذين يثيرهم القول بوحدة
الوجود، أو لعل شغل الجمهور المصري بالمشاكل السياسية التي خلفت الثورة العرابية كان
مما صرفه عن تعقب المشكلات الصوفية.
٦
ولننظر كيف عبر عن هذه النظرية إذ يقول:
وكل ما سواه نجم آفل
بل في شهود العارفين باطل
فليس إلا الله والمظاهر
لجملة الأسماء وهو الظاهر
فغيره في الكون لا يقال
لأنه في ذاته محال
ورتبة الإمكان لا تفارق
لممكن ما وهي فيه الفارق
فالحق ذاتًا واجب الوجود
لنفسه وعز في الشهود
وكل مظهر بروحه استمد
من حضرة الأسما بخير ما استعد
ومن هنا اليقين والتمكين
في رتبة الشهود والتلوين
فمن صفت مرآته تحققا
بما من الأسما عليه أشرقا
وشاهد المشاهد المصونه
وأدرك المواهب المكنونه
وقد اهتم بشرح هذه الأبيات فقرر أن كل ما سوى الله من الأعيان الظاهرة والماهيات
الممكنة علوية وسفلية باطل في شهود العارفين من حيث ذاته فلا حقيقة له أزلًا وأبدًا،
وإنما الموجود حقيقة هو ذات الحق تعالى، وليس لتلك الأعيان والماهيات الظاهرة وجود
حقيقي ذات لها، وإنما المشاهد فيها انصباغها بنور الوجود الحق على نحو من أنحاء الظهور،
وطور من أطوار التجلي الحقيِّ، فهو الظاهر في جميع المظاهر، والمشهود في كل التعينات
بحسب تفاوتها في استعداداتها، وتعدد شئونه بتكثر حيثياتها، على مقتضى العلم القديم بذلك
كله إجمالًا وتفصيلًا، كليًّا وجزئيًّا، فالتوحيد للوجود، والكثرة والتمييز للظهور على
مقتضى العلم، فللوجود الحق تجل بذاته لذاته يسمى غيب الغيوب والعماء الأزلي، وظهور
بذاته لأسمائه وصفاته، وهو عبارة عن تجليه الوجودي المسمى بالنور المفاض على سموات
الأرواح وأرض الأشباح، الله نور السماوات والأرض به ظهرت أحكام الماهيات والأعيان،
وحصلت بذلك النسب والإضافات، وظهرت آثار الأسماء والصفات التي هي فعله، وبسبب تميز هذه
الأعيان وتخالفها لسر اقتضته مرتبة الألوهية اتصفت حقيقة الوجود بصفة التعدد والكثرة
بالعرض لا بالذات، ومن ذلك السر الجمع بين الأضداد، فظهر الحق في كل ماهية على ما
تقتضيه ذاته الكريمة من التنزه التام القديم الذي لا يعرفه غيره، وظهرت الماهيات بالحق،
وتعاكست أحكام كل منها إلى الآخر مع ذلك التنزيه أيضًا، فصار كل منها مرآة لظهور الآخر
فيه، ويشهد لذلك قوله
ﷺ: (رأيت ربي في صورة شاب أمرد)، وقوله عليه الصلاة
والسلام: (خلق الله آدم على صورة الرحمن
٧ … فالحق تعالى ليس له إلا تجل واحد على الأشياء، وظهور واحد على تلك
المظاهر، وهذا الظهور هو بعينه ظهوره برتبة تنزله لنفسه في مرتبة أفعاله، فلا يمكن أن
يكون هذا الظهور مثل ظهوره بذاته لذاته لاستحالة المثلية بين الظهورين. وهذا هو المراد
بقوله عز شأنه: «كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني»، فظهرت
الذات الأحدية، والحقيقة الحقية، في كل مظهر من المظاهر بحسبه على ما علمت من التنزيه
القديم، لا أن لها بحسب ذاتها ظهورات متنوعة، وتجليات متعددة، وإنما ذلك تقريبًا
كتكثُّر نور الشمس وتلونه بتعدد ألوان الزجاجات المقابلة له، فمن شاهد حقيقة النور
الأصلي وعرف أنه لا لون له في ذاته انكشف له أن هذه الألوان المتكثرة في الظاهر إنما
هي
من الزجاجات بحسب استعداداتها فقط، ولا تعدد للنور في ذاته، ومن وقف مع الزجاجات
وألوانها احتجب بها عن النور الحقيقي، فمن وقف مع مظاهر الحق تعالى وتعددها وتكثرها
وتوهم أنها أمور مستقلة بوجود مع الله تعالى فقد ضل بذلك عن سبيل الجادَّة وأفحش وأثم،
وبغى بغير الحق ظاهرًا وباطنًا، حيث أشرك مع الله ما لم ينزل به سلطانًا،
٨ … فتحصَّل من ذلك كله أن كل شيء مما سوى الله تعالى إذا اعتبرته من حيث
ذاته وجدته عدمًا محضًا، وإذا اعتبرته من حيث الوجود الحق رأيته موجودًا بذلك الوجود
الذي ظهر عليه نوره من التجلي الوجودي للفعل الذاتي، فلكل شيء حينئذ وجهان: وجه إلى
نفسه، ووجه إلى موجده، فمن نظر وجهه إلى نفسه وجده عدمًا صرفًا ونفى الأفعال عنه، ومن
نظر وجهه إلى ربه وموجده وجده موجودًا بوجود موجده ونسب الأفعال إليه، كما جاء به
الشارع، «والله خلقكم وما تعملون». فكل شيء موجود معدوم: فالعدم صفته الذاتية، والوجود
إنما ثبت له بالعرض لا بالذات … فانكشف لك بما تقرر أنه لا موجود في الحقيقة إلا الله،
وأن الوجودات الكونية وإن تكثرت وتعددت وتمايزت هي في الواقع ونفس الأمر من مراتب
تعينات الحق، وظهورات نوره، وشئون ذاته، وآثار أسمائه وصفاته التي هي عين ذاته. قال
قائلهم:
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه عينه
لا أنها أمور مستقلة، وذوات منفصلة، بجعل وتأثير فيها، وإنما تعينها وظهورها بنفس
فيضان الوجود الحق عليها، فإذن ليس في الوجود إلا ذات الحق وأسماؤه وصفاته ومظاهرها،
واسم الخلقية مستعار لتلك الحقائق الكونية التي هي شئون الذات وآثار الأسماء والصفات،
أعارها الحق تعالى لتلك الشئون والمظاهر لإظهار الألوهية ومقتضياتها من الجمع بين
الأضداد، قال الجيلي:
وما الخلق في التمثيل إلا كثلجة
وأنت بها الماء الذي هو نابع
وما الثلج في تحقيقنا غير مائه
وغيران في حكم دعته الشرائع
ولكن بذوب الثلج يُرفع حكمه
ويوضع حكم الماء والأمر واقع
تجمعت الأضداد في واحد البها
وفيه تلاشت وهو عنهن ساطع
٩
فالجيلي مثل العالم بالثلج، ومثل الحق تعالى بالماء، وليس إلا الماء، والثلجية طارئة،
فليس إلا الحق والخلقية عارية … وكما لا تحيط العقول والأفكار بحقيقة ذاته وأسمائه
وصفاته فكذلك لا تحيط بكيفية ظهوره في مظاهره وتجلياته التي هي شئون ذاته، فهي أدق
وأرفع من أن تدرك لغيره … وظهور الحق بذاته في مظاهر أسمائه وصفاته أولى وأجدر في
الحيرة وعدم الاهتداء إلى معرفة الحقيقة من ظهور صورة في مرآة، فإن الناظر في المرآة
يعلم قطعًا أنه أدرك صورته بوجه، ويعلم قطعًا أنه ما أدركها بوجه، لما يظهر له من دقة
صورته لصغر المرآة، والحال أنه محقق كبر صورته عما شاهده، أو لما يرى من كبر وجهه لكبر
المرآة مع قطعه بصغر صورته، فلا يمكنه إنكار رؤية صورته، ويعلم أنه ليست في المرآة
صورته، ولا هي بينه وبين المرآة، ولا هي مرئية بانعكاس شعاع البصر إلى الصورة، إذ لو
كان كذلك لرآها على حد ما هي عليه في الخارج، مع علمه بأنه رأى صورته من غير شك، فإذا
أخبر بعد ذلك بأنه رأى صورته وما رأى صورته فلا شك أنه ليس بصادق ولا بكاذب، إذ يقال:
ما هي تلك الصورة؟ وأين محلها؟ وما شأنها؟ فإذن هي منفية ثابتة، موجودة معدومة، مجهولة
معلومة، فلم يهتد الناظر في المرآة إلى معرفة حقيقة صورته الظاهرة فيها وهي من العالم
المحسوس … فهو إذن في معرفة تجليات الحق وظهوره في مظاهره أشد عجزًا وجهلًا.
١٠
ولكن متى يصل المرء إلى الفهم الحق لوحدة الوجود؟
إن جواب ذلك عند الشيخ حسن رضوان إذ يقول:
إذا من الحق تعالى على عبد من عباده واصطفاه بصفاء نفسه من كدورة التعلق بما
سواه، وطهره من جنابات غفلاته، ورعونات شهواته، حتى أفناه به فيه حق اليقين،
وبلغ بذلك مرتبة جمع الجمع، ولحقت نفسه بعالمها العلوي الأصلي، قامت به حينئذ
رقيقة لطيفة ذاتية حقيقة مفاضة من جانب الحق تعالى بفيض رحمانيته ينكشف له بها
سريان الوجود الحق في جميع ذرات الممكنات، وسر تجليات الأسماء والصفات وظهوره
في كل مظهر بحسب استعداده كشفًا إيمانيًّا وذوقًا روحانيًّا، فيرى الحق في
الخلق، والخلق بالحق، وهذا هو مشهد كمل العارفين المحققين.
١١
تلك فقرات اقتبسناها مما كتب الشيخ حسن رضوان في شرح المراد من وحدة الوجود، وما
يهمنا في هذا الموطن أن نناقش ما كتب، فقد درسنا هذه النظرية وبينا ما لها وما عليها
حين شرحنا آراء ابن عربي، والمهم هو التنبيه إلى فهم هذا الرجل لأسرار التصوف، وهو لم
يخلق هذه النظرية ولم يبتكر الدفاع عنها، ولكن كلامه يشعر بأنه كان من المتفوقين في درس
هذه الشئون.
وقد تأثر الرجل بابن عربي تأثرًا شديدًا، وعبارة «قال قائلهم» لم يقصد بها غير ابن
عربي؛ لأنه صاحب ذلك البيت.
وحين نأخذ في درس تلك المنظومة المطولة يروقنا ما نراه فيها من الانسجام وهو يقيد
آداب المريدين، من ذلك قوله في القبض والبسط:
فالقبض حق الحق إن تجردا
عن علة والبسط عن حظ بدا
فواجب في القبض الانفراد
عن الورى لتحصل الأمداد
ولازم في البسط حفظ النفس
من الركون عند هذا الأنس
فربما تزهو بغير ربها
فيطفئ المزهو نور قربها
ومن صفاتها تحقق الفرح
بربها وحبها لمن نصح
وميل طبعها إلى الصوت الحسن
بما لها من الهيام والشجن
ووجدها يزداد بالسماع
من غير أن يفضي إلى الضياع
ويعتريها عند ذلك القلق
شوقًا إلى مألوفها الأصلي الأحق
وعفوها عنه مع التحلم
وصفحها بدون ما تظلم
والصدق والإخلاص في المعامله
لله واستحضار أن الأمر له
١٣
وهذا الشاهد يكفي لبيان مذاهب ذلك الرجل في الإفصاح عن آداب المريدين.
وخلاصة القول: أن منظومات حسن رضوان في أصول التصوف هي تحفة من التحف الأدبية، وتظهر
قيمتها لمن عانى درس التصوف وعرف ما فيه من وعورة المسالك والشعاب.
ولم تكن تلك المنظومات كل ما ترك من الآثار الشعرية، فقد كانت له قصائد في مدح
الرسول، والثناء على أهل الطريق، ولكن تلك المنظومات هي خير آثاره الشعرية، فقد كان
انطبع على الرجز ولان له قياده فأتى فيه بالأعاجيب. وليس من القليل أن يتفرد الرجل بنظم
ما يقرب من اثني عشر ألفًا من الأبيات في فن واحد، ولكن أي فن؟ فن التصوف الذي يقوم على
المعاني وأحوال القلوب.