المدائح النبوية
من أين نشأ الغلو في مدح الرسول
كان من أصول هذا الكتاب قسم كبير خاص بالمدائح النبوية في الأدب العربي، ولكن اللجنة
التي درست هذا الكتاب أول مرة اقترحت أن يطبع ذلك القسم مستقلًا فطبعناه ونشرناه
١ ثم رأينا بعد التأمل أن المدائح النبوية لا يزال لها مكان في هذا الكتاب،
ولكن أي مكان؟ نحن لا نريد أن نقتبس شيئًا من الكتاب الذي نشرناه عن المدائح النبوية،
وإنما نريد أن نفسر الغلو الذي يشهده كل من يقرأ ما مدح به الرسول، ذلك الغلو الذي يقضي
بأنه لولا محمد ما ظهر شمس، ولا قمر، ولا نجوم، ولا أنهار، ولا بحار، ولا شجر، ولا مدر،
ولا جبال.
نريد أن نبين كيف صح لمثل ابن نباتة المصري أن يقول:
لولاه ما كان أرضٌ لا ولا أفق
ولا زمان ولا خلق ولا جيل
ولا مناسك فيها للهدى شهب
ولا ديار بها للوحي تنزيل
وكيف جاز للبوصيري أن يحكم بأن محمدًا دان الأنبياء قبل أن يُخلق فيقول:
وكل آي أتى الرسل الكرام بها
فإنما اتصلت من نوره بهم
فإنه شمس فضل هم كواكبها
يظهرن أنوارها للناس في الظلم
شرح الحقيقة المحمدية
وهذا الغلو لا يفهم إلا إذا عرفنا أنه يرجع إلى أصل من أصول التصوف، وهو القول
بالحقيقة المحمدية، والحقيقة المحمدية هي العماد الذي قامت عليه (قبة الوجود) كما عبر
ابن عربي، هي صلة الوصل بين الله والناس، فهي القوة المدبرة التي يصدر عنها كل شيء.
ولنعط الكلمة لابن عربي ليشرح هذه النقطة من المذهب الصوفي:
اعلم أن الله لما خلق الخلق جعلهم أصنافًا، وجعل في كل صنف خيارًا، واختار من
الخيار خواص وهم المؤمنون، واختار من المؤمنين خواص وهم الأولياء واختار من
هؤلاء الخواص خلاصة وهم الأنبياء؛ واختار من الخلاصة نقاوة وهم أنبياء الشرائع
المقصورة عليهم. واختار من النقاوة شرذمة قليلين هم صفاء النقاوة المروقة وهم
الرسل أجمعهم، واصطفى واحدًا من خلقه هو منهم، وليس منهم
٢ هو المهيمن على جميع الخلائق جعله الله عمدًا أقام عليه قبة
الوجود، وجعله الله أعلا المظاهر وأسناها، صح له المقام تعيينًا وتعريفًا،
فعلمه قبل وجود طينة البشر وهو محمد
ﷺ لا يكاثر ولا يقاوم، هو السيد ومن
سواه سوقة.
٣
فابن عربي يحكم بأن محمدًا «هو من الناس وليس من الناس» هو من الناس لأنه مخلوق؛ وليس
من الناس لأنه يفيض الوجود على الناس «هو المهيمن على جميع الخلائق جعله الله عمدًا
أقام عليه قبة الوجود» هو حادث الجسد ولكنه أزلي الروح.
وإلى هذا المعنى يوجه ابن عري قول الرسول: «أنا سيد الناس ولا فخر»، ويرى أن معناه
«لا أقصد الافتخار على من بقي من العالم، فإني كنت أعلا المظاهر الإنسانية فأنا أشد
الخلق تحققًا بعيني؛ فليس الرجل من تحقق بربه، بل الرجل من تحقق بعينه لما علم أن الله
أوجده له لا لنفسه».
٤
ومعنى هذا أن لله خلقين خلقًا له وخلقًا للعالم، ويفسر ذلك ما ورد في التوراة:
يا ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك، وخلقتك من أجلي، فلا تهتك ما خلقت من أجلي
فيما خلقت من أجلك.
٥
و«ابن آدم» هنا عام، ويمكن أن يراد به النبي محمد؛ لأن ابن عربي يجعل الأنبياء كلهم
«كلمات» لها منازل دون منزلة الحقيقة المحمدية. والوجود بالله معنى صوفي عبر عنه من
قال:
إذا اشتد شوقي هام قلبي بذكره
وإن رمت قربًا من حبيبي تقرُّبا
فيبدو فأفنى ثم أحيا به له
ويسعدني حتى ألذ وأطربا
أثرها في القصائد والصلوات
وتحرير هذه القضية أن محمدًا أول التعينات الذي تعين به الذات الأحدية قبل كل تعين
فظهر به ما لا نهاية له من التعينات، فهو يشمل جميع التعينات، فهو واحد فرد في الوجود
لا نظير له: إذ لا يتعين من يساويه في المرتبة، وليس فوقه إلا الذات الأحدية المطلقة
المنزهة عن كل تعين وصفة واسم ورسم وحد ونعت، فله الفردية مطلقًا، ومن هذا يعلم أن
الاسم الأعظم لا يكون إلا له دون غيره من الأنبياء، ومن فرديته يعلم سر قوله: (كنت
نبيًّا وآدم بين الماء والطين) كونه خاتم النبيين وأول الأولين وآخر الآخرين، ومن
أوليته وجمعيته سر قوله: (أوتيت جوامع الكلم) وكونه أفضل الأنبياء فإنهم في التصاعد
وسعة الاستعداد والمرتبة ينتهون إلى التعين الأول ولا يبلغونه، والتعين الأول هو محمد
الذي ترجع إليه جميع التعينات فهو البرزخ بين الذات الأحدية وبين سائر الموجودات.
٦
حديث: أنا سيد الناس
وليتذكر القارئ أننا نؤرخ فكرة صوفية، فلسنا في الواقع من أنصار هذا الرأي، ولا
نكاد
ندرك كيف كان محمد نبيًّا وآدم بين الماء والطين، والمرجح أن هذا التصور اقتبسه الصوفية
من الفلاسفة القدماء،
٧ والمهم هو أن نفهم أن الصوفية يتصورون ذاتًا أحدية لا تتكثر إلا بالتعينات،
والتعين الأول هو محمد، وهو الحكمة الفردية، وعنه نشأت جميع التعينات حتى الأنبياء، ومن
أجل ذلك كان سيد جميع الناس، وكان خاتم الأنبياء.
وقد حام حول هذه النظرية كثير من أقطاب الصوفية، منهم محمد البكري الذي يقول:
قبضة النور من قديم أرتنا
في جميع الشئون قبضًا وبسطا
وهي أصلٌ لكل أصل تبدى
بسطت فضلها على الكون بسطا
وهي وتر قد أظهرت عدد الشفع
بعلم فجل حصرًا وضبطا
ولدت شكلها فأنتج شكلا
بشريًّا أقام للعدل قسطا
وهو عبد قد حررته لديها
بيديها وكم أفاد وأعطى
حققته بحقها فهو حق
جاء بالحق ينظم الخلق سمطا
لنقوش النفوس حقق والرو
ح أرته في اللوح شكلا ونقطا
عالم منه آدم علِّم السر
وعلم الأشياء رسمًا وخطا
هي ناسوت أنسنا والهيولا
شمس سر الوجود بكر وشمطا
طلسم حارت العقول عليه
كنز بحر قد شط في الدرك شطا
إن شهدناه في الجمال شهدنا
لجميل غدا له الحسن مرطا
أو نظرناه في الجلال رأينا
أسدًا فاتكًا من الأسد أسطا
تاج فضل له الجحاجح دانت
وإليه رأس المفاخر وطَّى
كل شيء معناه والكل منه
وعليه مبناه ما اختل شرطا
واحد الشخص وهو مختلف الجنس
يقينًا من أنكر الحال أخطا
وهذه الطائية خمسها النابلسي
٨ وحدثنا أنه شرحها ولكنا لم نظفر بذلك الشرح، وقد عارضها بقصيدة رمزية تنتهي
إلى هذه الغاية ومنها هذه الأبيات:
يا قريب اللقا بعيد التجافي
لم توافي رَهْطًا وتهجر رَهْطا
نحن هدنا إليك ممن سواك الآ
ن فاجعل لنا من الأمر قسطا
وتدارك نواظرًا وقلوبًا
أعجمتها الأوهام شكلًا ونقطا
إنما أنت أنت والحكم شيء
منك وهو الجميع عدًّا وضبطا
دخل القلب دير عشق سُلَيْمَى
يحتسى من لقائها الاسفنطا
فرأى ثَمَّ نسوة طالعات
عن بحار الجمال يسكن شطا
ناظرات من الظِّبا بعيون
ناعسات من البواتر أسطا
في قدود كأنهن رماح
جعلت قتل من بها هام شرطا
كل هيفاء ينفح الطيب منها
كيف كانت تجول رفعًا وحطا
أمر الله أن تطاع بحسن
راسم بالغرام في القلب خطا
بدر تم على قضيب تثنَّى
في كثيب بها عن المشي أبطا
هي شمس الضحى وبدر الدياجي
قد فنينا بها رضاء وسخطا
ثغرها بثَّ عن صحيح البخاري
وأنا مسلم وقلبي موطَّا
وإلى هذه الغاية ذهب إبراهيم الدسوقي حين قال:
يقولون لي: ما العلم ما السر ما الذي
هو الجوهر الغالي عن البحر خبِّرنا؟
فقلت لهم: هذي مطالع نورنا
ومغربها فينا ومشرقها منا
على الدرة البيضاء كان اجتماعنا
ومن قبل خلق الخلق والعرش قد كنا
تركنا البحار الزاخرات وراءنا
فمن أين تدري الناس أين توجهنا
والدرة البيضاء هي العقل الأول كما نص ابن عربي في اصطلاحات الصوفية.
٩
هل لهذه النظرية أصل من العقل أو الشرع
وقد أفصح عن هذه النظرية ابن مشيش في صلاته، وابن مشيش هذا من أقطاب الشاذلية،
وصلاته معروفة جدًّا، يقرءها ألوف الألوف في الصباح والمساء، وقد قرأتها مع «الإخوان»
أكثر من ألف مرة، يوم كنت من المهتدين، وهي تنص على أن محمدًا أصل كل موجود، ولننظر كيف
يقول ابن مشيش:
اللهم صلِّ على من منه انشقت الأسرار، وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق،
وتنزلت علوم آدم بأعجز الخلائق، وله تضاءلت الفهوم فلم يدركه سابق ولا لاحق،
فرياض الملكوت بزهر جماله مونقة، وحياض الجبروت بفيض أنواره متدفقة، ولا شيء
إلا هو به منوط، إذا لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط.
١٠
والواسطة هو محمد والموسوط الأشياء والناس … ومن الذين أفصحوا عن هذه النظرية مصطفى
البكري في «ورد السحر» إذ يقول:
اللهم صل وسلم وبارك على من تشرفت به جميع الأكوان، وصل وسلم وبارك على سيدنا
محمد الذي أظهرت به معالم العرفان، وصل وسلم وبارك على عين الأعيان والسبب في
وجود كل إنسان.
١١
وعبارة «عين الأعيان والسبب في وجود كل إنسان» هي النظرية التي تجعل محمدًا أصل
الوجود.
مكانة الأنبياء من الرسول
ومن الخير أن ننص على أن هذا الشطط استند فيه الصوفية إلى حديث «أنا سيد الناس»
وهو
حديث شك فيه العلماء، فقد جاء في كتاب العجلوني المسمى «كشف الخفاء والالتباس، عما
اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس». أن الحسن بن علي روى أن الرسول قال: «أدع لي سيد
العرب» يعني عليًّا، فقالت له عائشة: ألست سيد العرب؟ فقال: أنا سيد ولد آدم وعليُّ سيد
العرب. ثم حدثنا العجلوني أن الذهبي يجنح إلى الحكم على هذا الحديث بالوضع.
١٢
وحدثنا أيضًا أن رجلًا جاء إلى المصطفى فقال له: أنت سيد قريش. فقال: السيد الله.
قال: أنت أعظمها طولًا، وأعلاها قولًا، فقال الرسول: يا أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا
يستهوينكم الشيطان، أنا عبد الله ورسوله.
طيف التثليث
والواقع أنه لا سناد لهذه النظرية من شرع ولا عقل، فالشرع يحكم بأن محمدًا مخلوق
اصطفاه الله لتبليغ رسالته، والعقل لا يوجب أن يكون تسلسل الموجودات على هذا النظام
الذي يقضي بأن الذات الأحدية صدرت عنها الحقيقة المحمدية، وأن تلك الحقيقة هي الواسطة
بين الله وبين جميع ما ظهر من صنوف لموجودات.
لا يهمنا في هذا الفصل أن نستند إلى الشرع أو العقل، وإنما يهمنا أن نفهم النظرية
الصوفية كما وضعها أصحابها لنعرف كيف نشأ الغلو في المدائح النبوية.
ولا بأس من أن نحاول معرفة كيف نشأ هذا النظام الغريب، والظاهر أن الصوفية يحرصون
كل
الحرص على أحدية الذات، فهم لذلك ينفون عنها كل فعل، وينقلون الأفعال كلها إلى الكلمات،
أي: الأنبياء، ولما كان الصوفية عندنا مسلمين كان من همهم أن يجعلوا الكلمة المحمدية
أصل الكلمات وروح الوجود.
ولا ينتظر القارئ أن نقدم له صورة شافية كافية لهذا النظام، فالصوفية أنفسهم يدورون
حوله في التواء عجيب، ويكفي أن نقول: إن هذه الأخيلة جعلتهم يحلِّقون في أجواء شعرية،
ويتمثلون الوجود مربوطًا بالحقيقة المحمدية أوثق رباط.
والذي يتسع وقته لقراءة كتاب الفتوحات من الألف إلى الياء يرى كيف أمكن أن يكون هذا
النظام مجالًا للرياضة في ألوف من المحتملات والفروض.
لا يهمنا، كما قلت، أن نطمئن إلى صحة تلك المذاهب، وإنما يهمنا أن نعرف أن الصوفية
يجعلون محمدًا أصل الوجود: لأنه أول تعين للذات الأحدية. ومن هنا صح لمادحي الرسول أن
يقضوا بأنه لولاه ما كان شمس، ولا قمر، ولا نجم، ولا أرض، ولا سماء، ولا جماد، ولا
حيوان، ولا إنسان، ولا بحار، ولا أنهار، ولا جبال.
ومن هنا أيضًا صح لهم أن يحكموا بأن جميع الأنبياء إنما هم من نور ذلك الرسول كما
قال
البوصيري في البردة:
وكل آي أتى الرسلُ الكرامُ بها
فإنما اتصلت من نوره بهم
وكما قال في الهمزية:
كيف ترقَى رقيَّك الأنبياء
يا سماء ما طاولتها سماء
لم يساووك في علاك وقد حا
ل سنًا منك دونهم وسناء
إنما مثلوا صفاتك للنا
س كما مثل النجوم الماء
وقول البوصيري في البردة:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم
وقلت بما شئت مدحًا فيه واحتكم
فيه انحراف عن هذه النظرية — لأن ما ادعاه النصارى لعيسى عين ما ادعاه الصوفية لمحمد
— فعيسى عند النصارى رب، ولكن له أب هو رب الأرباب، وكذلك محمد هو عند الصوفية رب له
أصل هو الذات الأحدية.
١٣
ومن العجيب أن نظرية التثليث لا تبدو شيئًا خطرًا عند الصوفية، فهم يقولون بها في
غير
تهيب ولا إشفاق، وإن كان لها عندهم وضع آخر يتمثل في الأوجه المختلفة لشخصية المسيح،
فمن نظر في عيسى من حيث صورته للبشرية الإنسانية فهو ابن مريم، ومن نظر فيه من حيث
الصورة الممثلة البشرية فهو منسوب إلى جبريل، ومن نظر فيه من حيث إحياء الموتى فهو
منسوب إلى الله بالروحية «فهو كلمة الله وهو روح الله وهو عبد الله»
١٤ ففيه من الإنسانية جزء، وله من الملكية نصيب، وله من الألوهية خلاق.
بل هم يذهبون في التسامح إلى أبعد من ذلك فيحكمون بأن الديانات كلها حق، وما اختلفت
صور سلوك طريق الحق إلا لاختلاف استعدادات الأمم، وفي ذلك يقول القاشاني:
فطريق نزول الحكم إلى الأنبياء واحد، والمراد منه هو الهداية إلى طريق الحق،
فطريق التوحيد واحد، ولكن استعدادات الأمم اقتضت اختلاف الملل والنحل، فإن
إصلاح كل أمة يكون بإزالة فساد يختص بها، وهدايتهم إنما تكون من مراكزهم
ومراتبهم المختلفة بحسب طباعهم ونفوسهم.
١٥
ومعنى ذلك أن النبوات محلية، والديانات محلية، فلا يكون لجميع الناس في مختلف البلاد
نبي واحد، وهذه النظرة على جانب من الدقة. ولكن الصوفية سكتوا عن الرسالة المحمدية؛ لأن
المفهوم عندهم أن محمدًا هو الحكمة الفردية التي نشأ عنها كل موجود.
هل الديانات كلها حق؟
وإنما عرضنا لهذا التسامح لنبين أثره في المدائح النبوية: فالصوفية لا يمدحون محمدًا
وحده في جميع الأحوال بل يتفق لهم في أحيان كثيرة أن يثنوا على سائر الأنبياء.
وأشهر من صنع ذلك من الصوفية ابن عربي: فله قصائد في مدح إدريس ومدح موسى ومدح هارون،
وإليك هذا الشاهد فيما سماه «الروح الأحمر الهاروني»:
هذا الخليفة هذا السيد العلمُ
هذا المقام وهذا الركن والحرم
ساد الأنام ولم تظهر سيادته
لما بدا الِعْجُل للأبصار والصنم
ما زال يردع قومًا همُّهم أبدًا
في نيل ما ناله موسى وما علموا
أن البيان حرام كلما نظرت
عين البصيرة شيئًا أصله عدم
وفي ديوان ابن عربي أبيات قالها «وقد سمع قول رسول الله
ﷺ في قربه من ربه: لا
تفضلوني على يونس بن متَّى، تنزيهًا لجناب الحق عن التحديد في قوله تعالى: «وهو معكم
أينما كنتم».
١٦
والأرجح أن هذه الديباجة من وضع ابن عربي نفسه، فإن كانت كذلك فهي شاهد على أنه كان
في بعض أحواله لا يجعل الحقيقة المحمدية كل شيء.
ولعله قصد إلى هذا المعنى في إحدى قصائده الرمزية إذ يقول:
ألا يا حمامات الأرائك والبان
ترفقن لا تضعفن بالشجو أشجاني
١٧
ترفقن لا تسهرن بالنوح والبكا
خفيَّ صباباتي ومكنون أشجاني
أطارحها عند الأصيل وبالضحى
بحَنَّة مشتاق وأنَّةِ هيمان
تناوحت الأرواح في غيضة الصبا
فمالت بأفنان عليَّ فأفناني
١٨
وجاءت من الشوق المبرِّح والجوى
ومن طرف البلوى إليَّ بأفنان
فمن لي بجمع والمحصَّب من منًى
ومن لي بذات الأثل من لي بنعمان
تطوف بقلبي ساعة بعد ساعةٍ
لوجد وتبريحٍ وتلثم أركاني
كما طاف خير الرسل بالكعبة التي
يقول دليل العقل فيها بنقصان
وقبل أحجارًا بها وهو ناطق
وأين مقام البيت من قدر إنسان
فكم عهدت أن لا تحول وأقسمت
وليس لمخضوب وفاء بأيمان
ومن عجب الأشياء ظبيٌ مبرقعٌ
يشير بعناب ويومي بأجفان
ومرعاه ما بين الترائب والحشا
فيا عجبًا من روضة وسطَ نيران
لقد صار قلبي قابلًا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توارة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنَّى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
كيف مدح الصوفية سائر الأنبياء
وانجذاب الصوفية إلى المعنى الذي لمحوه في الحقيقة المحمدية قد أفاض عليهم آيات من
الأشعار الرمزية، ومن أطيب ما قرأت في ذلك قصيدة محمد البكري التي حن فيها إلى «الوِتر»
وهو رمز إلى الله أو إلى الرسول، ولكن التعبير عنه بالحبيب يعين أنه يريد به الرسول،
وإن كان في هذا التعيين اعتساف:
حدث عن الوتر أيها الوتر
من فاته الخُبْر سره الخَبَر
وهات عن ليلة مقدسة
طابت فعندي جميعها سحر
وقل كما شئت إن لي أذنًا
تتلى عليها بلحنك السور
مصغية للحبيب يُسمعها
آيات حق لم تسمع البشر
يا وترًا حركته غانية
لا وأبي ليس ذاك يا وتر
قد أودع الوتر فيك حكمته
فمنه لا منك تطرب الفطر
الرمزيات في مدح الرسول
واهتمام الصوفية بمدح الرسول كان له أثر بليغ في الأدب، والقارئ يستطيع الرجوع إلى
كتاب (المدائح النبوية) الذي نشرناه في السنة الماضية ليرى كيف مدح الرسول أولًا على
الطرائق الجاهلية، وكيف انتقل هذا الفن إلى التشيع، وكيف عاد مدحًا خالصًا للرسول، وكيف
صار بعد ذلك فنًّا أدبيًّا صرفًا تُقيد به ضروب الزخرف باسم البديعيات، وأثر ذلك كله
في
نشر الثقافة الأدبية.
وكان يتفق أن تغلب على المادحين وقدة الشوق كما نرى في قول ابن العريف:
شدوا المطايا وقد نالوا المنى بمنى
وكلهم بأليم الشوق قد باحا
سارت ركائبهم تندى روائحها
طيبًا بما طاب ذاك الوفد أشباحا
نسيم قرب النبي المصطفى لهم
روح إذا شربوا من ذكره راحا
يا سائرين إلى المختار من مضر
سرتم جسومًا وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عجزٍ ومعذرةٍ
ومن أقام على عجز كمن راحا
والشطر الثاني من البيت الرابع هو بيت القصيد.
وكان أهل الأندلس من أرق الناس شوقًا إلى زيارة الرسول؛ لأن بعد المزار غزا قلوبهم
بأقباس الحنين.
أبيات من شعر ابن العريف تمثل وقدة الشوق
إلى هنا عرف القارئ كيف نشأ الإغراق في مدح الرسول، فهو قائم على أساس القول بوحدة
الوجود، وقد صح عندي بعد التأمل الذي دام بضع سنين أن الصوفية أرادوا أن ينتهبوا شخصية
المسيح؛ ليضفوا ثوبها على نبي الإسلام: فإذا كان المسيح ابن الله كما يزعم النصارى
فمحمد أرفع من ذلك؛ لأنه محمدًا يقدر على كل شيء، وهو أصل الوجود، ولولاه لما ظهر عن
الله شيء، وقد اتفق لابن عربي أن يحكم بأن محمدًا يستريح إلى من يقول:
والله لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
ثم يقول ابن عربي: «فنحن به وإليه، فإذا نظرنا إلى ذواتنا وإمكاننا فقد خرجنا عنه،
وإمكاننا يطلبنا بالنظر إليه، فإنه الموجد لنا بوجوده من وجوده» وقد عرضنا لهذه العبارة
من قبل، ورجحنا أن الضمير عائد على الله، ولكن يظهر أن ذلك الترجيح لا يقوم عليه دليل
من روح ذلك الفيلسوف.
والواقع أن «الحقيقة المحمدية» أسطورة من الأساطير، وهي في رأينا مسروقة من النظرية
النصرانية، كما أن النظرية النصرانية مسروقة من الفلسفة اليونانية التي تقسِّم القوى
إلى «عقول».
وهذا الحكم يبدو غريبًا كل الغرابة، فأين الصوفية من فلسفة اليونان؟ ولكن من يتعقب
النظريات الفلسفية كما تعقبت لا يستغرب ولا يستعجب، فقد كانت عند اليونان والمصريين
أوهام نقلها الصوفية من حيث يشعرون أو لا يشعرون، كان اليونان يرون لكل قوة من القوى
إلهًا، وكان المصريون الوثنيون يعتقدون أن الشمس يحملها إله أو ملك فينقلها من المشرق
إلى المغرب، وهذه العقيدة المصرية الوثنية نقلت إلى التصوف المصري الإسلامي، فقد كان
أهل مصر المسلمون يعتقدون أن «الأولياء» يكلفون أحيانًا بجر الشمس، وكان يصح للصوفي أن
يعتذر عن إخلاف الميعاد بأن دَوره كان حل في جر الشمس.
١٩
والملائكة عند المسلين لهم مناطق اختصاص، وهذه المناطق تذكِّر بما كان للآلهة عند
اليونان.
والمهم هو أن ننص صراحة على أن نظرية وحدة الوجود أراد بها الصوفية أن يعطوا الحقيقة
المحمدية أضعاف ما ادعاه النصارى للحقيقة العيسوية. والصوفية من الجانب النظري والعملي
هم رهبان المسلمين.
هل نقلت الحقيقة المحمدية عن الحقيقة العيسوية؟
وقد عرض ابن القيم لأصحاب نظرية وحدة الوجود فسماهم «ملاحدة»، وقد قامت نظريتهم
على
أن العبد من أفعال الله وأفعال الله من صفاته، وصفاته من ذاته، ويقول ابن القيم: إن
العبد من مفعولات الله لا من أفعاله القائمة بذاته، ومفعولاته آثار أفعاله، وأفعاله من
صفاته القائمة بذاته، فذاته مستلزمة لصفاته وأفعاله، ومفعولاته منفصلة عنه، فهي من
المخلوقات المحدثات.
٢٠
وما يهمنا أن يكون ابن القيم على حق في نقض النظرية الصوفية، نظرية وحدة الوجود،
فستظل على الدهر من المعضلات، وإنما يهمنا أن ننص على أن هذه النظرية لها في الفلسفة
القديمة والديانات القديمة أصول.
ويهمنا قبل كل شيء وبعد كل شيء أن يعرف القارئ كيف نشأ الإغراق في المدائح
النبوية.
فإن رآنا القارئ من الموفَّقين فذلك ما نبغيه، وإلا فقد هديناه إلى أسرار لم يهتد
إليها أحد من الباحثين قبل اليوم. والأول قد يترك للآخِر أشياء.