فاتحةُ الكتابِ
صفحة من أيام المؤلف في صحبة الصوفية
هذا كتاب في التصوف، والتصوف يوجب نكران الذات، ولكني مضطر إلى الحديث عن نفسي في مطلع هذا الكتاب؛ لأبين كيف أقبلت على هذا الضرب من التأليف.
كنت في حداثتي — كأكثر من ينشأون في الريف — أشهد مجالس الصوفية، وكانت لأبي صلات روحية بأهل الطريق، وكنت أعرف وأنا طفل أني موصول العهد برجل صالح اسمه محمد سعد، وكذلك درجت على احترام أرباب التصوف، وتقديمهم على سائر الناس.
وفي سنة ١٩١٢ وأنا طالب في الأزهر اشتدت رغبتي في صحبة الصوفية، وألح الشوق، فأخذت أتنقل من ناد إلى ناد حتى تعرفت إلى رجل فاضل من أساتذة الأزهر الشريف كان يومئذ من كبار الصوفية فأخذت عنه العهد، وبدأت أقوم بالأوراد على طريقة الشاذلية، وكان في صوتي من المرونة ما يساعد على إلقاء الأناشيد، فكنت من المقدمين في الإنشاد.
وفي سنة ١٩١٥ رآني ذلك الشيخ صالحًا للأستاذية في الطريق فأضاف اسمي إلى قائمة الخلفاء، وكان لي في سنتريس وغير سنتريس مريدون وأتباع، وأذكر أني كنت أحسبني يومئذ من الموفَّقين.
وفي سنة ١٩١٨ قام بيني وبين الشيخ الطماوي نزاع، فقد كان يراني قليل الرعاية للتقاليد الصوفية، وتأملت فرأيت السبب تافهًا كل التفاهة، فقد غاظه أن أتكلم في حضرته وقد — وضعت رجلًا على رجل — وهي جلسة تدل فيما يقال على تعاظم وكبرياء، وحاسبت نفسي فرأيت أني لم أفعل ذلك عن عمد، ثم خطر بالبال أن الصوفية إنما يدعون علم القلوب، فلو كان ذلك الرجل من الملهمين لما آخذني على هفوة شكلية لم يكن لي في وقوعها قصد، ولم تسبقها نية سوء.
وانتهى ذلك الحادث بالقطيعة، ومرت أيام عانيت فيها من الضجر والغيظ ما عانيت، وحاولت أن أصلح ما بيني وبين الشيخ، ولكني لم أفلح في جذب نفسي إليه، فقد اقتنعت بأن الصوفية أرباب ظواهر، وإن ادَّعوا أنهم أرباب قلوب!
وفي ظلال تلك الأزمة ألفت كتاب «الأخلاق عند الغزالي» الذي نلت به إجازة الدكتوراه من الجامعة المصرية في سنة ١٩٢٤ وهو كتاب تجنيت فيه على التصوف، ورميت أشياعه بالغفلة والجهل، وجعلت سلوكهم سببًا في انحطاط الأمم الإسلامية.
وما كاد ينشر هذا الكتاب حتى ضعفت حماستي لما أقمته عليه من أساس العقل؛ لأن الدنيا كانت بدأت تريني أني تحاملت على الغزالي وتعجلت الحكم على آرائه في سياسة النفس؛ فقد كان يدعو إلى النفرة من الناس، وكنت أرى ذلك من الجبن في الحياة الاجتماعية، ثم تكشفت بعض الحقائق فرأيت المروءة تقضي في أحيان كثيرة بالهرب من الناس. ومن ذا الذي سلم أديمه من عدوان الخلق فلم يتمنَّ الاعتصام من شرهم بالعزلة في شواهق الجبال؟!
وكذلك عدت أستروح بذكرى التصوف وأضمر له الشوق والحنين!
وفي سنة ١٩٢٧ لقيت الأستاذ ماسينيون في باريس، وقرأت معه فقرات من كتاب الزهرة، وعرفت ميله إلى درس العلاقة بين الحب العذري وبين التصوف، فتسرب إلى صدري بصيص من ضوء الفكرة التي يقوم على أساسها هذا الكتاب. وفي خريف سنة ١٩٣٠ وشتاء سنة ١٩٣١ حضرت دروس الأستاذ ماسينيون بالكولليج دي فرانس في العلاقة بين التصوف والحب الرقيق فازدادت الفكرة وضوحًا، وصحت عزيمتي على درس أثر التصوف في الأدب والأخلاق.
المراد من التصوف
ولكن هل التصوف الذي أعرفه اليوم هو التصوف الذي عرفته من قبل؟ هيهات!
لقد كنت أعرف التصوف موصولًا بإشارات ورسوم وتقاليد، فعدت لا أعرفه إلا في القلب والروح، وأمست التقاليد تخيفني وترهبني؛ لأنها علامة زَهو واستطالة وكبرياء.
ثم تبينت أن هذا التعريف يقفني عند شخصية «الدرويش»، وعقلية الدرويش تستحق الاهتمام، ولكن من الخطأ أن تكون كل شيء في التصوف؛ لأنها شخصية ضعيفة، قليلة الأثر في الأدب والأخلاق.
على أن الغزالي نفسه لم يجعلها محور التصوف، بل نص على أن التصوف أمر باطن لا يطلع عليه، ولا يمكن ضبط الحكم بحقيقته، فهو يتصور أن للتصوف حقيقة غير التي درج عليها أهل العرف والاصطلاح.
والحق أن الغزالي لم يقل كلمته هذه إلا في سياق كان يوجب تضييق الحدود وهو بيان الشخصية التي يصرف إليها المال الذي ينص على أنه موهوب للصوفية، وشخصية الدرويش هي الشخصية الصالحة لأخذ الهبات والصدقات.
وكيف يقصر التصوف على أصحاب الرسوم والأشكال وهو من رسوم القلوب وأشكال الأرواح؟!
إن التصوف خليق بأن يصحب كل نزعة شريفة من النزعات الوجدانية، والأساس أن يكمل الصدق ويسود الإخلاص بحيث لا تملك النفس أن تنصرف عما آمنت به واطمأنت إليه في عالم المعاني، وكذلك يتمثل التصوف في صور كثيرة: فيكون في الحب، ويكون في الولاء، ويكون في السياسة حين تقوم على مبادئ تتصل بالروح والوجدان.
ومن شواهد التصوف في الحب قول جميل:
فهذا «الزهد» في الوصل تصوف، وإن لم يذكر اسم صاحبه بين أسماء الصوفية، وإنما كان الزهد تصوفًا؛ لأنه من دلائل الصدق وقوة العلاقة الروحية.
وهل يمتري أحد في روح التصوف حين يقرأ هذا الشعر المنسوب إلى قيس بن الملوح:
فما رأيكم في هذا «التوحيد» في الحب؟ ألا ترونه من التصوف؟ فإن لم يكن هذا الترفق تصوفًا فما عساه أن يكون؟
وهل تذكرون هذه الأبيات:
فأين تجدون ظلال المادة في هذه الأبيات؟ أليست ضريمًا من قبس الروح؟ فكيف لا تكون من التصوف في الحب؟
وهل تذكرون ابن الدمينة؟ إن ذلك الشاعر لمن أقدم الصوفية في عالم الحب، ومع ذلك لم أجد من تنبه إلى ما في شعره من نفحات التصوف، وكيف ينكر صفاء الروح على من يقول:
•••
•••
وكيف ينكر الصدق في الحب على من يقول:
ولكن، هل معنى هذا أن كل محب صادق الحب يضاف إلى الصوفية؟
لا. فلو فعلنا ذلك لكان أكثر الشعراء من أرباب التصوف، وإنما نقصر هذا الوصف على من وقف قلبه عند هوًى واحد، فالمجنون متصوف، والعباس بن الأحنف متصوف؛ لأن المجنون صورته القصة رجلًا لا يعرف في الدنيا غير ليلاه، والعباس يشهد شعره بأنه وقف هواه على «فوز» وشارف حدود الفناء في الحب حين قال:
التصوف في الحب والمودة والولاء والسياسة
قلت لأبي سليمان محمد بن طاهر السجستاني: إني أرى بينك وبين ابن سيار القاضي ممازجة نفسية، وصداقة عقلية، ومساعدة طبيعية، ومواتاة خلقية، فمن أين هذا؟ وكيف هو؟
فقال: يا بني! اختلطت ثقتي به بثقته بي، فاستفدنا طمأنينة وسكونًا لا يرثان على الدهر، ولا يحولان بالقهر، ومع ذلك فبيننا بالطالع ومواقع الكواكب مشاكلة عجيبة، ومظاهرة غريبة، حتى إنا نلتقي كثيرًا في الإرادات والاختيارات والشهوات والطلبات، وربما تزاورنا فيحدثني بأشياء جرت له بعد افتراقنا من قبل فأراها شبيهة بأمور حدثت لي في ذلك الأوان، حتى كأنها قسائم بيني وبينه، أو كأني هو فيها أو هو أنا، وربما حدثته برؤيا فيحدثني بأختها فنراها في ذلك الوقت، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل.
وقال بعد كلام: فقلت: هل تجد عليه في شيء، أو يجد عليك في شيء؟
والصداقة على هذا النحو تصوف في الوداد، فقد جمعت أقصى معاني الصدق والإخلاص، ومن الصدق جاءت الصداقة؛ لقيامها على رباط من العطف وثيق.
وشواهد التصوف في الولاء تجلُّ عن الإحصاء، ويكفي أن نشير إلى أظهر ما وعى التاريخ.
ودسَّ المنتصر لأبيه من يقتله وهو في مجلس الشراب، فقال البحتري يبكيه وكان في مجلسه ساعة القتل:
•••
ولا يمكن تقدير ما في هذا الولاء من التصوف إلا إذا تذكرنا الظروف التي قيلت فيها هذه القصيدة: فذلك خليفة قتل، وكان ابنه هو القاتل، وهو الذي تولى الخلافة من بعده، والبحتري لم يكن إلا شاعرًا يعيش على هامش الحياة، فلا صولة ولا جاه ولا مال ولا أنصار، فكيف يتفق له أن يقف هذا الموقف بلا قلب مؤزر بشجاعة الصوفية؟
إن أهم ثمرات التصوف هي الشجاعة، وهي التي خلقت من البحتري رجلًا قويًّا في ذلك اليوم العصيب.
وكذلك يقال فيمن رثوا البرامكة ولم يبالوا بغضب الرشيد، وكيف تنكر الشجاعة الصوفية على رجل مثل سليمان الأعمى أخي مسلم بن الوليد، وقد قام يندب البرامكة على مسمع من الرشيد بهذا الشعر الصارخ:
ولنتذكر أن مثل هذا الشعر قيل في أوقات الشدائد يوم كان الباكون على البرامكة معرضين للقتل، أليس هذا الولاء الصادق من شعب التصوف؟
ومر ابن اللبانة بذلك الأمير الذي جنت عليه الليالي فحولته إلى صانع ينفخ الفحم في دكان صائغ، فتمثل ما كان عليه، وتفجع لما صار إليه، واندفع يبكيه بهذه القصيدة العصماء:
أليس هذا الولاء من التصوف؟ وإلى من كان يرغب ابن اللبانة حين يهدي مثل هذا الشعر الموجع؟ لقد ذهبت دولة ابن عباد، وأصبح ابنه شريدًا طريدًا لا يجد قوت يومه إلا عن طريق العمل المرهق لمن نشأ في قصور الملوك.
إن هذه النفحة من الولاء هي بلا جدال من أشرف ما تجود به النوازع الروحية.
الزهد في قلوب الأغنياء والفقراء، والفاسقين والمتقين
وفي بعض المذاهب السياسية تصوف، فأصحاب هتلر هم اليوم صوفية، والصادقون من أنصار موسوليني صوفية، وأولئك وهؤلاء لهم أشباه في التاريخ الإسلامي، فالخوارج في حقيقة الأمر سياسيون، ولكنهم في صدقهم وصلوا إلى أبعد غايات التصوف، ولهم أخبار هي نهاية النهايات في الروحانية.
هل سمعتم بأخبار مرداس وقد حبسه عبيد الله فيمن حبس من الخوارج؟
لقد رأى صاحب السجن شدة اجتهاد مرداس وحلاوة منطقه فقال له: إني لأرى لك مذهبًا حسنًا وإني لأحب أن أوليك معروفًا، أفرأيت إن تركتك تنصرف ليلًا إلى بيتك أتدلج إليَّ؟ قال: نعم. فكان يفعل به ذلك. ولج عبيد الله في حبس الخوارج وقتلهم، فكُلِّم في بعض الخوارج فَلَجَّ وأبى وقال: أقمع النفاق قبل أن ينجم، لَكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع.
والخوارج تُضرب بهم الأمثال في قوة العقيدة وصحة الدين، وقد يكون تصوفهم راجعًا إلى هذه الناحية، ولكنا نرى التصوف في مذهبهم السياسي قبل أن نراه في عقيدتهم الدينية.
والخلاصة أن التصوف ليس وقفًا على أولئك الدراويش الذين يعيشون عيش التسول، ويتخذون شمائل الزهاد، صادقين أو كاذبين؛ إنما التصوف نزعة روحية يحسها الأغنياء كما يحسها الفقراء، ويدركها الفاجر كما يدركها العفيف، وكم لفتة من لفتات الصدق تقع من رجل معروف بالطيش هي أقرب إلى التصوف والروحانية من أعمال كثير من المرائين الذين يلبسون مسوح الرهبان، ويضمرون غرائز اللئام من السباع والحشرات!
إن الرجل الذي يجود بدرهم مما يملك أقرب إلى الزهد من الفقير الذي يعف عن دينار مما لا يملك، وليس الزهد أن تطيب نفسك عن مغانم قد تنال وقد لا تنال، وإنما الزهد أن تطيب نفسك عن مال تعمر به خزائنك، ثم تجود به طائعًا للفقراء والمعوزين.
إن من الإجرام في الحياة العقلية والوجدانية أن نصف المفلسين والعجزة بالزهد والعفاف، إن الزهد أن تترك بعض ما تملك، والعفاف أن تكون عند القدرة مسيطرًا على هواك. أما أولئك الدراويش الذين لا يقدرون على فسق ولا زيغ فهم طفيليون في عالم الأخلاق. وإنما يتبين الخلق عند الغنى والعافية، فمن شاء أن يدرس التصوف حق الدرس فلينظر في حياة أرباب الثروة الضافية والشباب السليم، أولئك هم المجاهدون في عالم الأخلاق، وأولئك هم الصوفية وإن لم يرتدوا المرقعات ولم يلزموا المحاريب.
إن المال عزيز على مالكيه، وهم لا يبذلونه طائعين، وإنما يتبرعون طاعة لرغبة قاهرة من المعاني النفسية، وهي معان لا يخضع لها المرء إلا إن تصوف.
والشباب غلَّاب قهار، ولا يسلك الشاب مسلك التجمل إلا طاعة لرغبة عاتية من المعاني النفسية، وهي معان لا يخضغ لها المرء إلا إن تصوف.
وما أريد أن أحكم بأن كل تفضل زهد، أو أدعي أن كل تجمل عفاف، وإنما أقول: بأن الزهد لا يدل على قوة النفس إلا حين يتضمن معنى الحرمان، والحرمان مما تملك أقسى وأصعب من الحرمان مما تؤمل؛ لأن الملك يغريك بالحرص، ويطمعك في المزيد. أما المأمول فهو سراب، والخفة إليه لا تضمن في جميع الأحوال، فالزهد فيه فضيلة الفارغين.
وكذلك العفاف لا يكون إلا عند القدرة والعافية. أما عفاف العجزة والمفلسين فهو من الفضائل الخسيسة التي لا يتمدح بها إلا الرعاع في عالم الأخلاق.
فإن أردتم مثالًا للزهد الذي أعنيه فإني أذكركم بالرجل الصالح إبراهيم بن أدهم الذي ترك ماله وجاهه؛ ليتقرب إلى الله بعيش الفقراء.
وإن أردتم مثالًا للعفاف فإني أذكركم بألوف الشبان الذين يجاهدون أنفسهم وأهواءهم في سبيل المجد، ويقضون الليل والنهار في العمل الشريف، ولو غفت عنهم مطامحهم العالية لصرعتهم الشهوات.
قد تقولون: وأين هذا من التصوف؟ وأجيب بأن التصوف لا يكون إلا في النفس، وفي النفس عوالم كثيرة بعضها أخطر من بعض، ومن الخطأ أن نقف عند حدود الاصطلاح في عوالم لا تحدها رسوم ولا حدود.
فإن كان التصوف من النقص فلا تقصروه على أولئك الدراويش المساكين، فهم أضعف من أن يتفردوا بالنقص، وإن كان التصوف من الفضل فلا تقصروه على أولئك الدراويش المدعين، فهم أصغر من أن يتفردوا بالفضل!
التصوف في هذا الكتاب
ولكن ما هذا الإلحاح في إسباغ ثوب التصوف على كثير من النوازع الوجدانية؟
نحن لا نريد في هذا الكتاب أن نخرج به عن حدود الاصطلاح، فلن نتكلم عن التصوف في الحب أو الصداقة أو الولاء، ولن نستقصي المعاني التي اصطبغت بروح صوفية وإن بعدت عن الدين، لن نفعل شيئًا من ذلك، ولكنا لن نقف عند حرفية التصوف، فنحن نمقت الحروف والحرفيين، ونؤثر المعاني والمعنويين في جميع أبواب الحياة، وكان لا بد أن نلح في بسط هذا الفرض لنأمن اعتراض من يقف في فهم التصوف عند حدود الحروف.
وأبو نُوَاس الفاجر الفاسق الزنديق هو عندنا في بعض أطواره من الصوفية، فقد مرت به لحظات كان قلبه فيها أرق من الهواء وأطهر من الماء.
أنكون أغير من الله على حرمات الله؟!
إن لأبي نواس أشعارًا في الندم هي أقوى وأصدق من كل ما نظم أبو العتاهية في الزهد، وليس بكثير أن يغفر الله لذلك الشاعر الذي ظلم نفسه ثم أناب، فما الذي يضر لو جعلنا أشعار أبي نواس في الزهد من آثار التصوف؛ وإن كان لم يلبس الصوف إلا ليخدع بعض الناس، وليصل إلى مزالق المجون؟!
إن غاية الدرس أن نكشف عن الدقائق المستورة في الآثار الأدبية، وقد يهدينا الدرس مثلًا إلى وصف بعض أشعار ابن الفارض الكذب، ونعت بعض أبيات أبي نواس بالصدق، وليس من المستحيل أن يضل مثل ابن الفارض أو أن يهتدي مثل أبي نواس، ولكن جرت العادة أن تؤول هفوات الصالحين، وأن تنسى حسنات المذنبين، فلنجرؤ مرة على التصريح بأن الخضوع لسلطان العرف لا يخلو من جبن أو ضلال، وأن آفة الباحثين أن ينحرفوا عن جهل أو رياء، عصمنا الله من غفلة الجهلة وتزوير المرائين!
فالفكرة الدينية التي يقوم على أساسها التصوف هي ذاتها أساس هذا الكتاب، والتغاضي عن حرفية التصوف لن يخرج الكتاب عن روح التصوف، فالعناية بالأشكال كانت مما أنكره كبار الصوفية، وأباه العظماء من رجال الأخلاق.
الشخصية الأدبية والشخصية الخلقية
بقي أن ننظر في الغرض من هذه الفصول الطوال.
ولنسارع فنقرر أن الصلة بين شطري هذه الفصول وثيقة، فالشطر الأول في الأدب، والثاني في الأخلاق، والأدب في الأصل من صفات النفس، ثم أطلق على جمال التعبير عما تضمر النفوس، ولا عبرة بما اندرج في فن الأدب من التعابير عن المعاني التي تمثل النزق والطيش، فذلك ضرب من الاصطلاح، والمهم أن ننص على أن الأدب الذي يهمنا درسه في هذه الفصول هو تعبير عن خوالج نفسية صادقة يتقبلها الخلق الجميل بأحسن القبول، والشخصية الأدبية هنا هي شخصية خلقية، والرجل الصالح يعظ بالقدوة ويعظ بالقول، فهو شعلة هادية حين يعمل وحين يقول، وليس من المبالغة أن نحكم بأن هذا الكتاب في جملته وتفصيله ليس إلا صورة واحدة من الصور لعلم الأخلاق، والأدب فيه هو أدب النفس، أو هو خليق بأن يكون له في تاريخ الأدب قسم خاص، وكيف لا يكون التعبير عن الخلق من صور الخلق؟ أم كيف يكون من الفضول أن نضيف ما أنشأته الأخلاق إلى علم الأخلاق؟ إن الأدب الصوفي صورة من التصوف؛ لأنه نشأ عن التصوف، كما أن الأدب الماجن من المجون؛ لأنه نشأ عن المجون.
فإن أردتم تفسير ذلك بشاهد من التقاليد الأدبية فإنا نذكر أن القدماء من رجال القرن الثالث، وهم من أقدم من عرفنا من المؤلفين، كانوا يضعون روائع الأدب الصوفي في باب الزهد، وكأنهم كانوا يفهمون أن أدب النساك من الزهد، أو من وسائل الزهد، وما نحسبهم كانوا مخطئين، والذي نفعله اليوم هو رجعة إلى تقاليد ذلك العهد، فنحن نريد أن نضع ملامح جديدة للشخصية الخلقية، وهي عندنا روح يشعر ولسان يبين.
لهذا نرجو ألا يتهمنا أحد بالتحزب للشخصية الخلقية، فما نريد بذلك أن نتحيَّف من سلطان الشخصية الأدبية، وإنما نريد أن نضع الحق في نصابه وأن نسترد ما انتزعه الأدب من الأخلاق.
فإن سألتم: وهل عند رجال التصوف أخيلة أدبية؟
فإنَّا نجيب بأن الأدب كل الأدب هو ما أثر عن الصوفية، وإن تجاهله أهل العلم في مصر وغير مصر، بحيث لا نجد له أثرًا في البرامج التعليمية، ولا نجد منه شاهدًا فيما يتخيره أساتذة المدارس في مختلف الأقطار العربية للحفظ والتسميع.
ارجعوا إلى محصول وزارة المعارف في التأليف، ودلوني على فصل واحد أريد به التذكير بما في كلام الصوفية من أخيلة أدبية، فإن لم تجدوا فتذكروا أن هذه النزعة من وجوه الابتكار في هذا الكتاب، فنحن لن نخلق ما لم يخلق، ولكنا سنكشف عن عالم جديد كان الناس عرفوه ثم جهلوه، وليس من القليل أن نكشف عن موجود مجهول.
قد يقال: إن مدرسي وزارة المعارف لم يغفلوا التصوف، وكيف وهم يحدثون تلاميذهم عنه في دروس الإنشاء!
وهذا صحيح، فالمدرسون يحدثون تلاميذهم عن الصوفية، ولكن كيف؟
كل ما يفعلون هو دعوة الطلبة إلى الكتابة عن البدع والخرافات التي تقع في الموالد العمومية. أما روح التصوف والكلام عما فيه من صور الأدب والأخلاق فأشياء لا تخطر بالبال!
وهناك مظهر لجحود وزارة المعارف لفضل التصوف، فقد اهتم كثير من الفضلاء بالتأليف في علم النفس، أفتدرون إلى من يتوجه أولئك الفضلاء؟
كل همهم أن ينقلوا ما قال الفرنجة في علم النفس، وما رأينا واحدًا منهم فكر فيما كتب الصوفية عن الأهواء والشهوات وأصول الخير والشر والضر والنفع، ولو رجعوا مرة إلى إحياء علوم الدين أو حكم ابن عطاء الله لعرفوا أن هناك مصادر للدرس تصلح للنقل والاقتباس.
ولنجرؤ مرة ثانية فنقول: إن الشخصية الخلقية لم تكن يومًا من الشواغل الأساسية بقدر ما كانت في كتب الصوفية، ولم يكتب علم للحق ولوجه الحق على نحو ما كتب الصوفية في الأخلاق.
إن الرجل الصوفي حين يؤلف في أدب النفس يجمع بين الصورة القولية والصورة العملية، فهو شعلة من اليقظة الروحية فيما يعمل وفيما يقول.
ونحن في هذا الموطن لن نخلق ما لم يخلق، ولكن سنذكر بأصول أضاعها أهلوها، وذهبوا يتسولون في حياتهم العقلية، وليس من القليل أن تذكر من عضة الجوع وراح يستجدي الجيران بأن في بيته بقايا من الزاد هي أنفع له من بذل ماء الوجه في السؤال!
أيكون معنى هذا أننا ننهي عن الاستفادة مما كتب الأجانب في علم النفس؟
لا، ولكنا نستجهل من يتوهم أن علم النفس لم يخلق إلا بالأمس، وفي بدع اليوم أن يبحث الباحثون عن المعارف التي عرفها القدماء جدًّا من كهنة مصر إلى فلاسفة اليونان، فليكن من البدع المقبولة أن نتعرف إلى ما كتب المسلمون في علم النفس وعلم الأخلاق، وهم أقرب إلينا مما كتب كهنة المصريين وفلاسفة اليونان.
ما هذا الطغيان؟ أكان للصوفية حقًّا أدب رفيع يلام على إغفاله أساتذة المدارس في الأقطار العربية؟
إي والله! كان للصوفية أدب هو أعلا وأشرف من أدب البحتري والمتنبي وأبي العلاء، ولكن طافت بالناس طائفة من الجهل فتوهموا أن لا صلة بين الأدب والدين، وراحوا يقفون فيما يتخيرون عند الكتاب والشعراء الذين ألفوا الروح المدنية، واتخذوا غذاءهم من الكئوس المترعة والوجوح الصباح.
اللهم إني أستغفرك من كل ذنب قوي عليه بدني بعافيتك، ونالته يدي بفضل نعمتك، وانبسطت إليه بسعة رزقك، واحتجبت فيه عن الناس بسترك، واتكلت فيه على أناتك وحلمك، وعولت فيه على كريم عفوك.
وهذه الشواهد — عند التأمل — لا تقل خطرًا عن الرائع المتخير من كلام الكتاب الفحول.
التصوف في الأدب وفي الأخلاق
كان فتى يجالس سفيان الثوري ولا يتكلم، وكان سفيان يحب أن يتكلم ليسمع كلامه، فمر به يومًا فقال له: يا فتى! إن من كان قبلنا مروا على خيل وبقينا على حمير دبرة. فقال الفتى: يا أبا عبد الله! إن كنا على الطريق فما أسرع لحوقنا بالقوم!
إن داود — رحمه الله — نظر بقلبه إلى ما بين يديه من آخرته، فأعشى بصر القلب بصر العين، فكان كأنه لا ينظر إلى ما إليه تنظرون، وكأنكم لا تنظرون إلى ما إليه ينظر، فأنتم منه تعجبون وهو منكم يعجب، فلما رآكم راغبين مذهولين مغرورين قد أذهلت الدنيا عقولكم، وأماتت بحبها قلوبكم، استوحش منكم، فكنت إذا نظرت إليه نظرت إلى حي وسط أموات.
وكان الصوفية — إلى جانب هذا الإبداع الأدبي — يحولون ثمار الأدب إلى معان روحية، كالذي صنع الشعبي حين قال: ما أعلم لنا وللدنيا مثلًا إلا ما قال كُثَيِّر:
وكذلك فعلوا في أكثر الأناشيد، فالشعر الذي يعبر عن نوازع حسية نقلوه في أناشيدهم إلى عواطف روحية، وقد أخذوا «ليلى» من «المجنون» فصيروها رمزًا لمن يناجون في عالم الأرواح، والصلة قريبة بين عالم الحس وعالم الروح عند من ينظرون بعيون القلوب.
أرأيتم كيف كان للصوفية مكان بين أرباب الآداب؟
أما مكان الصوفية بين أرباب الأخلاق فهو الصدر، وهم أساتذة الناس في هذا الباب.
دعوا المتصوفين الجهلاء الذين يفسدون وهم يزعمون أنهم يصلحون، فإنما يحملون أوزارهم وأوزار أتباعهم يوم الدين، وتعالوا ننظر كيف كان ينظر الصوفية الموفقون إلى دقائق الأخلاق. ألا تذكرون ما نقلناه آنفًا من مرثية ابن السماك لداود الطائي؟ ألا تذكرون كيف قال: «كان سيماك في سرك، ولم يكن سيماك في علانيتك»؟
إن هذه اللمحة لمن الدقائق في شرح أحوال القلوب.
ألا ترون كيف فطن إلى خفايا الرياء؟!
والذي ينظر في كتب الصوفية لا يحتاج إلى من ينبهه إلى ما فيها من مظاهر الذكاء والعقل والورع في فهم الأخلاق، وأهمية كتب القوم ترجع إلى ما فيها من الإلحاح في إحياء العزيمة والقلب، والتنفير من الإثم الظاهر والإفك الباطن، والدعوة إلى تظهير النفس من أدران الغفلة والرياء.
الصوفية قوة هائلة في الأخلاق، لا ريب في ذلك، ولكن معاذ الحق أن يغيب عنا أنهم لم يكونوا دائمًا موفقين، فقد كانت لهم هنوات وهفوات، واستطاع فريق منهم أن يلحق بالعالم الإسلامي ضررًا غير قليل، ولو كانت مذاهبهم من الخير المحض أو الشر المحض لما احتجنا إلى تأليف هذا الكتاب، فغايتنا أن ننبه إلى أن لهم محاسن خلقية ينبغي أن تعرف، ففي الناس من ينكر عليهم كل فضل، وأن لهم مساوي خلقية يجب أن تعرف، ففي الناس من يسند إليهم كل فضل. وما ندعي أننا سننص في هذا الكتاب على جميع ما وفقوا إليه، أو خلطوا فيه، من المذاهب الأخلاقية، فذلك يحتاج إلى مجلدات، ولكننا سنبرز طوائف من مذاهبهم تشعر القارئ بخطرهم في عالم الأخلاق، وسنجتهد في توجيه القارئين إلى أهمية النظر الفاحص الذي لا يكتفي بلمحة واحدة، وإنما يتعقب الظواهر الخلقية فيدرسها من جميع الجوانب ليرى أين يكون الشر والخير، والضر والنفع، ويعرف كيف يختلف الناس حول الظاهرة الواحدة فيقبلها هذا ويرفضها ذاك.
كلمة عن المصادر ومنهج التأليف
لقد أطلنا القول في تحديد الغرض من هذا الكتاب، فلنذكر بإيجاز كيف تخيرنا المصادر وكيف وضعنا التصميم.
أما المصادر الأصلية فهي كتب التصوف أولًا، والتجارب الشخصية ثانيًا. وأما المصادر الفرعية فهي كتب الأدب والأساطير، وهذه المصادر الفرعية تبدو أحيانًا أقوى وأصدق؛ لأن الناس فيها يتكلمون بلا تحفظ ولا احتياط، فلا يستغرب القارئ إن رآنا نرجع إلى قصة عنترة بن شداد أو أخبار أبي نواس.
وأما التصميم فبنيناه على غرض الكتاب، فجعلنا الشطر الأول في الأدب، والثاني في الأخلاق، ولا ننكر أننا وجدنا صعوبة في تمييز بعض الشطرين من بعض؛ لأن فصول الكتاب يمكن إضافتها جميعًا إلى الأدب أو إلى الأخلاق، ثم رأينا أن نسلك مسلك النحاة في التفرقة بين البدل وعطف البيان، فكل أثر كانت الصورة الأدبية هي الأظهر فيه أضفناه إلى الأدب، وكل أثر كانت الوجهة الخلقية هي الباعث عليه أضفناه إلى الأخلاق، مع الاعتراف بأن عناصر هذا الكتاب لا يمكن فصل بعضها من بعض إلا بعنف شديد.
ولنقيد أننا وقفنا في هذا البحث عند الأنواع الأدبية والخلقية، ولم نهتم بالزمان والمكان إلا قليلًا، فالمدائح النبوية مثلًا لم يكن يهمنا منها إلا درس النوع. أما التسلسل الزماني وتعقب الأقاليم التي ازدهر فيها هذا النوع فهو من المباحث الثانوية في هذا الكتاب، وكذلك يقال فيما كتبناه عن الدعاء والأخوة، والحب، والطعام، والزواج، والغناء، إلى آخر ما اهتممنا به من المسائل الأدبية والخلقية.
وعند التأمل يظهر أنه لم يكن يحسن بنا غير ذلك، فكتابنا هذا يراد به أثر التصوف في الأدب والأخلاق، أي عرض ما أنشأ التصوف من أدب وما أنشأ من أخلاق. أما الدراسات التي تصف تسلسل هذه الأنواع في مختلف عهود التاريخ، وتنقلها من إقليم إلى إقليم، وسيادتها هنا وانهزامها هناك، فهي دراسات تجيء في المكان الثاني بعد وضوح أغراض هذا الكتاب.
على أننا نظلم أنفسنا حين نقول: إننا أغفلنا الجوانب التاريخية والإقليمية إغفالًا تامًّا، فقد بذلنا جهدًا عظيمًا في إعطاء بعض الأنواع ملامح تميزها من الوجهة التاريخية والإقليمية، ولكنا لم نشأ أن نسترسل في ذلك؛ لئلا يفسد علينا الاسترسال تصميم الكتاب.
•••
أما بعد، فإني أعترف بأن هذا البحث فوق طاقتي، وكان من الصعب أن ينهض به رجل واحد، ولكن من المؤكد أن القارئ سيتذكر أن المؤلف طالبٌ يتقدم للامتحان، والطالب يكتفى منه بما يقع في طاقة الطلاب، وإني لمطمئن إلى أني مثلت دور الطالب الذي لا يملك غير الصبر والجهد. أما الزمن فمن الكثير أن يصبر الطالب على درس موضوع واحد أكثر من سبع سنين، وما أضيق وقت الطالب حين يتجاوز الأربعين!
أليس كذلك؟!