أشواق ابن الفارض
حياة ابن الفارض
والحق أن ابن الفارض شخصية فريدة بين شعراء مصر، وقد اشتركت في تكوينه ثلاث بقاع: الشام وفيها أصله، والحجاز وإليه حنينه، ومصر وفيها مقامه. فهو شاعر مصر والشام والحجاز، وله في هذه الأقطار الثلاثة محبون يرونه مترجمًا لأدق ما يضمرون من نوازع القلب والوجدان.
غرامه
فالمعاني الرمزية عند ابن الفارض هي السر في إقبال الناس على شعره، ولولا ذلك لانصرفوا عنه، ورأوه أخف من أن ينصب له ميزان.
وفي رأيي أن العناية بشعر ابن الفارض كانت فاتحة جديدة في وزن المعاني بعد أن ظل الناس أزمانًا طوالًا يحرصون قبل كل شيء على وزن الألفاظ، وهو من وجهة الديباجة وقوة السبك شاعر ضعيف، ولكنه من حيث المعاني فحل من الفحول؛ لأنه استطاع الجمع بين الحقيقة والخيال، والحقيقة عند هذا الشاعر هي الصورة الروحية، أما الخيال فهو الصورة الحسية التي رمز بها إلى المعنويات.
ويمتاز ابن الفارض بقوة الروح، وحسبنا أن نذكر أنه ألهم في منامه هذين البيتين:
وهذان البيتان لا خطر لهما عند من يحفلون بجزالة الألفاظ، ولكنهما على جانب عظيم من القوة عند من يؤثرون المعاني، وهل في الحب أجل وأشرف من توحيد المحبوب؟ إن الشاعر يقسم بأشواقه وبحرمة الصبر الجميل — وهو قَسَمٌ لو تعلمون عظيم — يقسم أن عينه ما استحسنت سوى محبوبه، وأن قلبه ما صبا إلى محبوب سواه، وقوة المعنى والروح ظاهرة في هذين البيتين ظهورًا قويًّا.
والنفس قد تلهج في عالم الأحلام بمعان شتى، فليس من الكثير أن يلهج ابن الفارض في نومه بالمعاني الشعرية، ولكن الكثير أن يتفق لعقله الباطن ألا يتحدث بغير توحيد المحبوب، وتلك شارة الصدق، والصدق هو الدعامة الأولى لقوة الروح.
شغل ابن الفارض بالشعر نحو أربعين سنة، وذلك أمد طويل، فلا ينتظر مع هذا أن يصبغ شعره بصبغة واحدة، وإنما توجب طبيعة الأشياء أن يكون لشعر الصبِّا لون، ولشعر الكهولة لون، وقد كان الأمر كذلك: فلان الفارض قصائد تمثل الشباب، وله قصائد لا تصدر عن غير الكهول.
والوحي واحد في شعر ذينك العهدين: وهو الحب، وإن كان يختلف بعض الاختلاف؛ فالحب في العهد الأول كان حبًّا حسيًّا، ومن العسير أن نقول بغير ذلك، فقد كان ابن الفارض في صباه مضرب الأمثال في نضارة الجسم وملاحة التقاسيم وإشراق الجبين، وكان لا بد لمثله في جماله وشبابه من صبوات، وكان لا بد أن توحي إليه تلك الصبوات بأشعار فيها ثورة وفيها حنين، وإني لأعترف بأن من العسير أن نجد لذلك نماذج صريحة، ولكن ما حاجتنا إلى تلك النماذج وجمهرة شعره تؤيد هذا الرأي؟ إننا لو غضضنا النظر عن التائية الكبرى وما نحا نحوها من شعره لرأينا الروح السائد في الديوان يمثل شعر الشباب، ولو ألقيت جملة قصائده في ديوان آخر لما تنبه أحد إلى أنها تمثل الشوق إلى الذات الإلهية، فإن هذا الملحظ لم يخلقه إلا التفكير في شخصية ابن الفارض، وقد شاع في المشرقين أنها شخصية روحية.
والحب الحسي عند ابن الفارض كان أساس الحب الروحي، وقد هدتنا التجارب إلى أن المحبين في العوالم الروحية كانوا في بدايتهم محبين في الأودية الحسية، والهيام بالجمال الإلهي لا يقع إلا بعد الهيام بالجمال الحسي، ولو شئت لضربت المثل بقصة إبراهيم حين رأى القمر فقال: هذا ربي، فلما أفل قال: لا أحب الآفلين، والمحبون في الأودية الحسية لا يتجهون إلى العوالم الروحية إلا بعد أن تدلهم الدنيا على أن الجمال الإنساني كالظل يتحول ويزول. وأشعار ابن الفارض في جملتها تمثل معاني حسية، وهي في بعض الأحوال رمز للمعاني الروحية، وهذا الرمز تفرضه سيرة ابن الفارض وقد ذاق الكأسين فعرف الحب الحسي والحب الروحي، ويكاد يكون من اليقين عندنا أن حبه الأول هو السر في وقدة حبه الثاني؛ لأننا نعرف الله أول ما نعرف عن طريق المحسوسات، وكل جمال في عالم الحس هو إغراء بالجمال المكنون في عالم الروح، والمحسوسات نفسها لا توحي الشعر إلا حين تستعد النفس لفهم ما فيها من الدلالات الوجدانية. وأساس الحب هو التفاهم، فالتمثال من المرمر قد يوحي الإعجاب ولكنه لا يوحي العشق إلا إن تمثلنا ما يرمز إليه من الروح، والصورة الجميلة الحية قد تمر بلا حب ولا وجد حين تحرم التفاهم مع الشعراء، ألا تذكرون ما يسمونه لغة العيون؟ إن بعض العيون تتكلم بلا صوت فتوحي ما توحي من الهدى والضلال.
وابن الفارض على هذا مَدِين بمجده إلى حبه الأول، وهو مدين إلى الصور الجميلة التي ألهبت حواسه وهو يغدو ويروح في ميادين القاهرة، وأكاد أرى بعيني أشباحًا تختال في قصائده الصوفية، وهو نفسه استغل الأساليب والصيغ التي اصطنعها شعراء الحب الحسي من أمثال ابن الأحنف وابن زيدون.
أليس من العجب أن تعجز جماهير الصوفية في طوال الأزمان عن خلق لغة للحب الإلهي تستقل عن لغة الحب الحسي كل الاستقلال؟ ولم كان ذلك؟ لأن الحب الإلهي يغزو القلوب بعد أن تكون انطبعت علي لغة العوام أصحاب الصبوات الحسية، فيمضي الشاعر إلى العالم الروحي ومعه من عالم المادة أدوات وأخيلة هي عُدَّته في تصوير عالمه الجديد، ومثلهم في ذلك مثل ابن الجهم حين غلبت عليه أخيلة البادية وهو يخاطب الخليفة في بغداد.
منزلته الأدبية والروحية
وشعر ابن الفارض يتراوح بين الفطرة والتكلف، ومن المحتمل أن يكون ما صنع ابن بنته بشعره هو سبب ذلك التكلف، فقد سمعت أستاذنا المهدي — رحمه الله — يقول في محاضراته بالجامعة المصرية: إن ذلك السبط كان يضيف أبياتًا إلى بعض القصائد؛ غير أنه يجب أن نفرق بين التكلف والضعف؛ لأن التكلف كان يغلب على أكثر الشعراء في عصر ابن الفارض، فما وُسم من شعره بذلك الطابع لا يمكن أن يُشَك فيه كله، وإنما يتطرق الشك إلى ما يطهر عليه الضعف، كالذي وقع في الهمزية التي مطلعها:
ففيها كثير من التكلف، ولكنها لا تخلو من قوة، ولننظر هذه الأبيات:
وهذا من الشعر المقبول، ولكن هذه القصيدة ختمت بأبيات أرجِّح أنها من وضع ذلك السبط الذي أراد أن يزيد ثروة جده فأساء، ولنقرأ هذه الأبيات:
والديباجة واحدة أو متقاربة، ولكن النفس يختلف اختلافًا شديدًا يدركه الذوق، وأخشى أن يكون تدخل ذلك السبط هو العلة في أكثر ما وقع في ديوان ابن الفارض من الإسفاف.
قلت: إن التكلف كان كثيرًا في الشعر لعهد ابن الفارض، وكذلك تراه مفتونًا بفنون البديع من توية وجناس وطباق، وإن لم يسرف في الشغف بتلك الفنون، وقد اتفق له مرة أن يمعن في التكلف، وذلك في قصيدته الذالية فإن قافية الذال صعبة جدًّا، ولا يقبل عليها الشعراء إلا متكلفين، والذي يراجع القوافي العربية يرى الشعراء لا يتخذون الذال قافية إلا في الأبيات والمقطوعات، ويراهم لا يقفون قصائدهم بالذال إلا في النادر القليل. أما ابن الفارض فقد بدا له أن يُغرب، وأن يدُل معاصريه على امتلاكه لناصية تلك القافية الشَّموس، فقال:
وما نحب أن ننقل القصيدة كاملة، ويكفي أن نشير إلى أنها تجاوزت الخمسين بيتًا، فهي قصيدة طويلة، وطولها يشهد بما وقع فيها من التكلف. والشاعر حين يتخير قافية وعرة كقافية الذال يُشغل عن المعاني، ويتجه فكره إلى البحث عن الألفاظ، ونحن نعرف كيف تجني مثل هذه المحاولة على الشاعر، وتصرف روحه عن الأجواء الشعرية، وتحوله إلى صفوف «الفعلة» بعد أن كان من الفنانين.
ومن الاتجاهات الفنية التي غلبت على ابن الفارض ميله إلى «التصغير»، وقد غلب عليه هذا الميل غلبة قوية بحيث نجد آثاره في جميع القضائد، فأهل الحي وأهل الوُد هم غالبًا «أُهَيْل الحي وأُهَيْل الود»:
وفي هذا البيت وحده تصغيران.
والظبي عنده ظُبَيّ:
والهوى عنده هُوَيّ:
واللمى عنده لُميّ:
وفي هذا البيت تصغيران.
والأرى عنده أُريّ:
وفي هذه القافية وحدها تصغيرات كثيرة، وكذلك الحال في أكثر القصائد، وربما كان ابن الفارض أكثر من اهتموا بالتصغير بين شعراء اللغة العربية، وعند درس تصغيراته نراها مالت به أحيانًا إلى التكلف أو الجناية على المعنى، كالذي وقع في تصغير الهوى والأرى، ولا يقف كلفه بالتصغير عند الأسماء، بل يتعداه إلى الإكثار من تصغير فعل التعجب، كقوله:
وكما يكثر عنده التصغير تكثر عبارة «لعمرك» وهي عبارة جاهللية فتن بها عمر بن أبي ربيعة فتنة شديدة، وأنس بها ابن الفارض.
ومما شارك فيه ابن الفارض معاصريه الغرام بالألغاز، واللغز ليس من الشعر في شيء، إنما هو نظم يراد به اختبار الذكاء؛ ولذلك نرى اللغز بعيدًا عن فن ابن الفارض الذي يعتمد على الروح.
وألغازه من الوجهة النظمية منها الثقيل والمقبول، وقد راجعناها فلم نرض فيها عن شيء، ويكفي هذا الشاهد في الإلغاز بحلب:
ويمكن الرجوع في ديوانه إلى الصفحات ١١١–١١٥، ففيها ما يكفي لتصوير هذا الجانب من فنونه النظمية.
وشارك معاصريه أيضًا في الإشارات النحوية، وإن لم يسرف في ذلك، وحسبنا هذا الشاهد:
وقد جانس في هذا البيت بين النَّصْب والنَّصَب فلم يصل بما تكلف إلا إلى معنى هزيل.
وابن الفارض كأكثر الشعراء لا يعيِّن اسم الحبيب، وإنما يدور حول طائفة من الأسماء، فهواه حينًا عند سعاد كأن يقول:
وحينًا عند رُقَيّ — مرخم رقية — كقوله في اليائية:
وقد جرى اسم «ليلى» في شعره مرات كثيرة، ولكن أرق الأسماء عنده اسم «نعم» وهو يدور حوله بحنان:
وقد ضرب بها المثل حين قال في وصف الراح:
ويتفق له أن يجمع أسماء مختلفة في بيت واحد، كما جمع بين نعم وسعدى وجمل في البيت الذي مر آنفًا، وكقوله في الجمع بين ريا وعتبة وسلمى:
ومثل هذا البيت يدل على أن الأسماء ليست عنده إلا إشارات مبهمة لما يرمز إليه في عالم الروح.
ولقب ابن الفارض عند الصوفية لقب طريف، وهو: «سلطان العاشقين»، وقد شهد لنفسه بهذه السلطنة الوجدانية في مواضع كثيرة، فجعل نفسه إمام العشاق، ومحبوبه إمام الملاح، حين قال:
وهو معنى جيد انتهبه أحد الزجالين في العصر الحاضر وهو عزت صقر فقال:
وجعل نفسه قدوة للأولين والآخرين حين قال:
وجعل المحبين جنده حين قال:
وهو في هذا المعنى بصوره المختلفة مسبوق بالشاعر الذي ألهمه فن الحجازيات وهو الشريف الرضيُّ حين قال:
ولابن الفارض معان كلف بها كلفًا شديدًا، ودار حولها طويلًا، وأظهر ما اهتم به وصف النحول، وقد عرض له بصور كثيرة منها المتكلف والمقبول، فتارة يحدثنا أنه ضني حتى خفي عن العواد فيقول:
وتارة يحدثنا بأنه كان يخفي عن نفسه فيقول:
وحينًا يترفق فيذكر أن جسمه ضني حتى كاد يشف عما يضمر من أسرار الهوى، وأنه ما زال يضني بالنحول حتى خفي عن برء الأسقام وبرد الأوام، فيقول:
والكلام عن الضنى والنحول كثير جدًّا في قصائد الشعراء، ولكن إمعان ابن الفارض في هذا المعنى جعله من خواصه الشعرية، وافتنانه فيه افتنان طريف تظهر طرافته لمن يتأمل كيف قصر الهوى على تعرف جسمه النحيل … وليتذكر القارئ أن أكثر الشعر في النحول ليس إلا مظهرًا من مظاهر الذكاء، وحظ العاطفة فيه قليل، فالحسين بن مطير يجعل جسمه أضعف من أن يهتز له عود الثمام فيقول:
والمتنبي يزعم أن جسمه لم يبق من آثاره غير الصوت فيقول:
وقد بلغ أحد المولدين غاية الظرف حين قال:
أما ابن الفارض فيجمع بين العاطفة والذكاء حين يتكلم عن النحول، ومن التجني أن نقول: إن قطعته الأخيرة ليست إلا براعة فنية في تلوين الخيال.
وابن الفارض يشارك جمهور الشعراء في الحديث عن طيف الخيال، ولكن صوره الشعرية في هذا الباب تمتاز بألوان من القلق الروحاني؛ لأنه يستصغر زيارة الطيف، وكان البحتري والمتنبي يريانها من متع الوصال، ولننظر هذه الأبيات التي يصف فيها الخيال بالإرجاف:
فهو يرى الطيف لا يروي الغليل، وقد ذهب إلى أبعد غايات الشره الروحاني؛ إذ قال:
ونراه في مكان آخر لا ينتظر طيف الحبيب في النوم، وإنما يتصيده وهو يقظان، ولننظر هذه الأبيات:
وهذا الطيف أظرف الأطياف، والشاعر يحدثنا بأنه يرى في البعد قربًا وفي الجفاء حنوًّا؛ لأن محبوبه يبعد ويجفو عن عمد، وتعمد الهجر صورة من صور الوصال، ثم يحدثنا بأنه يتخذ السهاد شَرَكًا يتصيد به طيف المحبوب، ثم ينظر إلى البدر فيرى فيه خيال محياه، ثم يهتف بهذا البيت:
ومن طريف ما تلفت إليه تعلقه بطيف الملام، حين يعز عليه طيف المنام؛ إذ يقول:
فهو يتذوق اللوم ويتشهاه؛ لأنه يصله بصورة المحبوب، وهو في هذا مسبوق بقول دعبل:
وهذا السبق لا يغض من فضل ابن الفارض؛ لأنه تناول المعنى بروح مغمور بصدق الإحساس، ودليل ذلك أنه يعود إلى هذا المعنى من حين إلى حين، كأن يقول في مخاطبة العذول:
وهو في هذه الأبيات يجعل السمع نظرًا يرى به طيف الملام، والتكلف في هذه الصورة تكلف مقبول؛ ومن التكلف ما يقبل لأنه يمثل لنا أخص النواحي الوجدانية في ابن الفارض وهو شغفه باستحضار صورة المحبوب، ألسنا نراه يشطر وجوده شطرين يحسد أحدهما الآخر، ويجعل بصره يتمنى لو عاد سمعًا لينعم بأخبار الحبيب؛ إذ يقول:
واستحضار صورة المحبوب من أسرار العبقرية في شعر ابن الفارض فهو في أكثر شعره لا يشغلنا بنفسه كما يشغلنا بذلك الحبيب، وإنه ليرى روحه أصغر من أن تقدم هدية لمبشره بقدوم أهل هواه:
وكل شيء في الوجود يمثل لروحه صورة الحبيب فهو يراه في ملامة العذال وفي لمع البرق، وفي نغمة العود والناي، وفي مسارح الظباء، وفي برد الصباح والأصيل، وفي مساقط الأنداء على بساط الأزهار، وفي أذيال النسيم، ويراه في ثغر الكأس وريق المدام، ولا قيمة للغربة ولا معنى للانزعاج ما دام في صحبة المحبوب:
وقد يقال: إن استحضار صورة المحبوب واضح في كل قصائد النسيب، وهذا صحيح، ولكنه في شعر ابن الفارض أوضح، والصبابة في تشبيبه تبلغ غاية القوة في كثير من الأحيان، ولا نغالي إذا قلنا: إن هذه الالتفاتة الوجدانية مما تفرد به ابن الفارض، أليس هو الذي يقول في قوة عاتية:
أرأيتم كيف يسعى الشاعر لتفريغ قلبه عن وجوده الذاتي، ويقصر خطراته النفسية على الشغل بالمحبوبة عساه يظفر من ذلك بخلوة روحية؟
وانظروا كيف يبهركم وجه تلك المحبوبة وهو يمثل لكم لآلأه بهذه الأبيات:
وهذه القطعة لا تحتاج إلى تعليق، وقد نقلناها على طولها لأهميتها في تأييد ما نقول به من غرام هذا الشاعر باستحضار صورة المحبوب، وهي في أنفسنا حية كل الحياة، ولا يرى فيها فتورًا أو ركاكة إلا من يقصر وجدانه عن إدراك ما فيها من معاني الشوق والحنان.
ولننظر لوعة الوجد في ختام هذا القصيد، وهي تمثل ذلك المعنى أصدق تمثيل:
والصبابة الصادقة تواجه من يقرأ ديوان ابن الفارض في مواضع كثيرة، برغم ما يقع فيه أحيانًا من التعمل والإسفاف، وأكثر الناس يعرفون الفائية التي يستهلها بهذا الابتهال:
ومن هذا الباب قصيدته الميمية التي يشرح فيها كيف طاب له الافتضاح ولذ له الاطراح، وكيف رضي بالذلة بعد العزة، وحلا له التهتك وخلع العذار وارتكاب الآثام بعد النسك والتقوى، إلى أن يقول:
وهذا المنظر بعينه مر في قصيدة للشريف الرضي، وكلا الشاعرين يتحدث عن العفاف. أما الشريف فيذكر أنه قضى الليل مع محبوبته في عناق عفيف:
أما ابن الفارض فقد اقترح أن يبيتا على المنى، وتلك أقصى غاية العفاف.
ومن أهم قصائد ابن الفارض قصيدة «شربنا على ذكر الحبيب»، وهي قصيدة رمزية بلا جدال، والخمر فيها خمر الحقيقة التي شغفت الصوفية، وملأت قلوبهم بألحان الوجد والحنين.
ومن أجل هذا نرى مبالغاته مقبولة كل القبول حين يصف تلك الخمر بالقدرة على كل شيء:
وهذه الخمر العالية هي خمر الحقيقة، هي الذات الإلهية التي تقول للشيء: كن فيكون.
وهل في عالم المعاني أدق وأبره من هذا الالتفاف الطريف؛ إذ يقول هذا الشاعر النشوان:
وهذا البيت يعين أنها خمر الحقيقة، ولو أراد خمر أبي نواس لما صح له أن ينكر شرب الرهبان من تلك الراح، وكيف والرهبان كانوا سادة الشاربين، وإلى دياراتهم كان يحج عشاق الرحيق!
وابن الفارض يمضي فيقول:
وهذه النشوة التي سبقت الوجود ليست كتلك النشوة التي وقعت في قول أحد المتحذلقين:
وإنما هي نشوة من يؤمن بخلود الروح ويعتقد أن لها نشوات قدسية قبل الخلق وبعد الموت.
ولا يسع من يهتم بدرس ابن الفارض أن يغفل التائية الكبرى، وهي في نحو ست مئة بيت، وقد نظمها تحت وحي التصوف، وهي قصيدة يغلب عليها التكلف، وفيها مع ذلك مواقف مضمَّخة بعبير الروح، كأن يقول:
وكأن يقول في خطاب الحقيقة السرمدية:
والمتأمل في شعر ابن الفارض من الوجهة الفنية يراه تأثر بعض التأثر باللغة المصرية، فهو يجمع الفعل حين يكون الفاعل جمعًا، وذلك معروف عن المصريين في لغة التخاطب، وإن كان لا يفعل ذلك إلا حين تقهره ضرورة شعرية.
وبمناسبة مصر نذكر أنها لا تمر في شعره إلا قليلًا، فقد كان هواه كله في الحجاز، وأظهر موضع مر فيه اسم مصر هو قوله في التشوق إلى أهل نجد:
ومؤرخو الأدب العربي لا يرون ابن الفارض من الفحول، وفي ظني أن سيفكر فيه ناس بعد قراءة هذا البحث؛ على أن ابن الفارض لا ينتظر أن يحييه المؤرخون، فقد حيي على ألسنة الجماهير حياة قوية، ولا أزال أذكر كيف كان يحتشد الناس في بيت الصواف بحي سيدنا الحسين؛ ليسمعوا الشيخ حسن الحويحي، وهو يتغنى بهذه الأبيات:
وقصيدة «ته دلالًا فأنت أهل لذاكا» يسمعها الجمهور في «أسطوانة» للشيخ علي محمود، ولا تزال قصائد ابن الفارض متعة السامرين في سهرات الصوفية.
وقد اهتم رجال من المؤلفين المشهورين بدرس ديوانه وشرحه، وفي ذلك الحياة كل الحياة.
كل شيء حي في ابن الفارض حتى قبره، وقد زرته مرة فرأيته مزدحمًا بأفواج المبتهلين، والمحبون لا تهجر قبورهم في جميع الأحيان.