حياة اللهجات العربية في مؤلفات الصوفية
ترددت طويلًا في كتابة هذا الفصل. ثم شجعني عليه أنه لا يخلو من فائدة أدبية متصلة بالتصوف، وفي إنشائه توجيه لمن يهمهم أن يدرسوا تطور اللهجات في مختلف الأقطار العربية.
الصوفية يكتبون في الأغلب لعامة الناس
وخلاصة الفكرة أن الصوفية في الأغلب يكتبون لعامة الناس، فهم لا يبالغون في تخير الفصيح من الألفاظ ولا يدققون في صقل الأساليب، ومن أجل ذلك نرى في مصنفاتهم ألفاظًا وتعابير لا نجدها عند من يعاصرهم من الكتاب والشعراء والخطباء، وقد يتفق في أحيان كثيرة أن نرى عندهم ألفاظًا يعسر الرجوع إليها في المعجمات، ويتفق أيضًا أن نراهم يصوغون الجمل صياغة تنكرها قواعد النحو القديم، ويحدث كذلك أن يغلب عليهم إغفال الإعراب، وذلك مما يدل على أن البلاغة عندهم تقوم على أساس أصيل هو تبليغ الدعوة الأخلاقية إلى سواد الناس.
وبقليل من التأمل ندرك أن أولئك القوم لم يكونوا من الغافلين، فالبلاغة في الأصل هي إقناع المخاطب، وما تخاطب به العوام يجب أن يختلف عما تخاطب به الخواص، وإلا وقع الكاتب في العي الذي نهى عنه البلغاء.
اختلاف أساليب الكتاب وألفاظهم باختلاف بلادهم
ومن الحق أن فصحاء الكتاب تختلف ألفاظهم وأساليبهم باختلاف القطر الذي يعيشون فيه، ولا يستثنى من ذلك إلا الكتاب الذين عاشوا تحت سيطرة بغداد وإن كانوا أجانب عن العراق، فقد نرى في الكتاب المصريين والأندلسيين من يكتب على نحو ما كان يكتب الجاحظ أو ابن العميد، فإذا خلينا هؤلاء ومضينا نستقرئ ألفاظ الكتاب والشعراء رأينا فيها ملامح محلية تختلف باختلاف الأقاليم، وقد استطعت وأنا أنشئ كتاب (النثر الفني) أن أدل على شيء من ذلك، فبينت أن عند أحمد بن يوسف المصري ألفاظًا وتعابير هي في صميمها مصرية، وأن عند المطهَّر الأزدي ألفاظًا لا تعرف في غير البيئات العراقية، وعند مراجعة كتاب الأم الذي ألفه البويطي لاحظت أن فيه ألفاظًا وتعابير لا يعرفها إلا الفلاحون المصريون.
وهذا الذي أقول به هو الأصل، ويجب أن يُلحظ في كل مكان؛ لأن اللغة العربية احتلت بلادًا كانت لها لغات قوية فورثت عنها خصائص كثيرة، واللغة العربية في هذه الأيام تعاني شيئًا من ذلك، فقد بدا لي مرة أن أقارن بين الصحف المصرية والسورية فرأيت شواهد كثيرة من اختلاف الألفاظ والتعابير، فالصحف المصرية تقول: «إشاعة» والصحف السورية تقول: «شائعة» وإذا غاب طفل مصري عن أهله ونشر أبوه كلمة في الصحف لدلالة عليه قال: «قمحي اللون». وإذا غاب طفل شامي عن أهله وكتب أبوه كلمة للبحث عنه قال: «حنطي اللون».
عصبية القدماء لبلادهم
وهنا مثل قريب يمكن الاستئناس به، وهو مثل نأخذه من الصوفية الذين يعيشون في مصر، فألفاظ الأحمدية غير ألفاظ الشاذلية؛ وإنما كان ذلك لأن الأحمدية طال عهدهم بصحبة الفقراء في وادي النيل، أما الشاذلية فألفاظهم في الأصل مغربية، ولها خصائص لا يعرفها الأحمديون.
الألفاظ المدنية في كتب الصوفية
وأكثر الألفاظ المحلية التي نأخذها من الصوفية هي الألفاظ المدنية، أعني الألفاظ المتصلة بالمعاش، الألفاظ الفكرية التي تعين أحوال النفوس فقد بقيت في الأغلب على صورة واحدة: لأن الصوفية حرصوا عليها أشد الحرص، وأنشأوا في تفسيرها وتحديدها مباحث على جانب من الأهمية، وإن كان ذلك لا يمنع أن ألفاظ المتأخرين قد تختلف عن ألفاظ المتقدمين بعض الاختلاف.
ولكن ما هي الكتب التي تدرس في هذا الفصل للدلالة على تطور اللهجات العربية؟ أتدرس بعض كتب الشام والعراق؟ كنت أحب ذلك ولكنني أخشى أن لا أحس الألفاظ العراقية والشامية إحساسًا قويًّا يدلني على ما فيها من الصبغة المحلية، فلم يبق إلا أن ندرس كتبًا مصرية، وهنا أذكر أني أنست كل الأنس بتقييد ألفاظ الشعراني؛ لأني كنت أسمعها في طفولتي، وهو قد نشأ في بلد يجاور البلد الذي نشأت فيه، فألفاظ الشعراني هي ألفاظ شعراوية أو سنتريسية قبل أن تكون قاهرية؛ لأن الناس في العصور الخوالي كانوا يتعصون لبلادهم أشد التعصب، وكانوا يتميزون بالنسبة إلى نشأتهم الأصلية، وقد يحدث في أحيان كثيرة أن ينسى اسم الرجل ولا يعرف إلا وهو منسوب: فالسيوطي والمحلي والأشموني والأسنوي والشعراني والشنشوري والأجهوري والسبكي، أمثال هؤلاء يعرَفون منسوبين، وقد لا تعرف أسماؤهم إلا بالرجوع إلى كتب الطبقات.
ومن المؤكد أن عند الشعراني ألفاظًا كثيرة لا يحسها تمام الإحساس إلا أهل المنوفية؛ لأن مصر في القرن العاشر كان يقل فيها ربط أهالي الأقاليم بعضهم ببعض لقلة المواصلات. ومع أن ذيوع الصحف في هذه الأيام يؤثر تأثيرًا شديدًا في توحيد الألفاظ والتعابير، فإنا نجد لأهل كل إقليم ألفاظًا محلية لا يعرفها القاهريون، ويظهر ذلك جليًّا في مناقشات مجلس النواب، وهل يتكلم علوي الجزار كما يتكلم خليل أبو رحاب؟
وإنما نصصت على هذا ليعرف القارئ أن ألفاظ الشعراني هي ألفاظ شعراوية أو سنتريسية، وليست كلها قاهرية، فإن من العسير أن تثبت الألفاظ المحلية في مثل مدينة القاهرة أربعة قرون؛ لأن المدائن الكبيرة قليلة الحرص على موروث الألفاظ والأساليب. والألفاظ التي أنص عليها هي الألفاظ التي لا تزال حية في سنتريس، أما الألفاظ التي ماتت ولم أفهمها إلا بفضل السياق فسأغفلها كل الإغفال؛ لأن تحقيقها يحتاج إلى شرح طويل.
طائفة من الألفاظ والتعابير المصرية
ولكن ماذا نصنع؟ أنذكر كل كلمة في عبارة؟ أخشى إن فعلت ذلك أن أنسب إلى الفضول.
لقد قيدت ألفاظًا كثيرة وحفظت أمكنتها من الكتب ومن الصفحات، ولكني أرى من الخير أن أدعو القارئ إلى تصديق فأغفل المراجع، وليس في هذا ما يضاد المناهج العلمية في البحث؛ لأن ذكر المرجع لا يكون إلا عند غرابة النص، وليس الأمر هنا كذلك، فإن الألفاظ البلدية عند الشعراني مبثوثة في كل صفحة، والجو الأدبي في كتب الشعراني يتأرج بالأخيلة المصرية، والفرق بينه وبين رجل مثل الغزالي أظهر من أن يحتاج إلى بيان.
وإليكم بعض ما عنده من الألفاظ والتعابير:
وكانت «الجلبية» من ملابس المترفين، وما عداها من الملابس اسمه الثوب وكانت «الجلبية» لا تلبس إلا في الأفراح.
الجو الأدبي عند الكاتب الصوفي يختلف عن الجو الأدبي عند المنشئ الأديب
أما بعد فنحن لا نريد الاستقصاء؛ لأن هذا ليس من أثر التصوف في الأدب، فهي آثار شعبية انطبعت بها كتب الصوفية، وإنما اهتممنا بها؛ لأنها تتصل بأثر التصوف في الأدب بعض الاتصال. فلنقف عند هذا الحد راجين أن يكون في هذه الإشارة توجيه ينفع من يهمه أن يدرس تطور اللهجات في الأقاليم العربية.
انظر الأحياء جزء ٣ صفحة ١٢٦.