أثر التصوف في الفنون
أثر الصوفية في إذاعة المعاني الفنية والذوقية والاجتماعية
الفن والأدب يتصل بعضهما ببعض، وقد رأينا كيف أثر التصوف في الأدب، فهل يمكن الحكم بأنه أثر في الفن أيضًا؟
لقد بينا في كتاب (الأخلاق عند الغزالي) أن الصوفية حاربوا الفنون، وفصلنا ذلك تفصيلًا شافيًا، وما نريد أن نجمل هنا ما نفصلناه هناك؛ فكيف يمكن القول: بأنهم ساعدوا على إذاعة الفنون؟
الحق أن الصوفية حاربوا الفنون من الوجهة النظرية، ولكنهم ساعدوا على نشرها من الوجهة الذوقية والعملية. وإليكم البيان:
وبقليل من الاستقراء ندرك أن من ينهون عن شيء قد يكونون في الأغلب من أقوى الدعاة لذلك الشيء، فالصوفية نهوا عن الغناء، أو ما يدعو إلي الفجور من الغناء، ولكنهم عمليًّا برعوا في الغناء الفاجر أكثر مما برعوا في الغناء العفيف.
وكيف ننسى أن حياة الصوفية قامت على الذوق، والذوق أساس التفوق في الفنون، فالصوفي الحق هو رجل ذواقة يلتمس المعاني في جميع ما ينظر وما يقرأ، وما يسمع. ومن هنا كان الصوفية أعرف الناس بالشعر الجيد ولا سيما أشعار التشبيب؛ لأن الفجرة من الشعراء عرفوا برقة الحس، ودقة الذوق، وغلب عليهم الفهم للغرائز والطباع، وبراعة الصوفية في التذوق هي التي رفعت من وجوههم الحوائل، وهم يعاقرون المعاني التي اخترعها شعراء الحواس.
وما نريد في هذا الفصل أن نتكلم عما صنع الصوفية في الأدب والغناء، فقد فصلنا ذلك في مواطن كثيرة من هذا الكتاب، وإنما نريد أن نتكلم عما صنعوا من التماثيل.
تماثيل…؟ وهل عرف الصوفية إقامة التماثيل؟ وكيف وهم الذين حاربوا النحت والتصوير؟
الحق أن الصوفية عرفوا التمثال واستطاعوا أن يجملوا المدن الإسلامية بألوان مختلفات من التماثيل، وإذا كان يروعك أن ترى المدن الأوربية مزدانة بألوف التماثيل فاعرف أيضًا أن الصوفية زينوا المدن الإسلامية بألوف التماثيل.
ولكن كيف؟ هل وضعوا تمثالًا للسيد البدوي، أو إبراهيم الدسوقي، أو أبي العباس المرسي؟ إن إقامة التماثيل محرمة تحريمًا قاطعًا. والصوفية أنفسهم حاربوا الأنصاب والأصنام والأوثان … هذا صحيح، ولكني مع ذلك أجزم بأنهم عرفوا التماثيل.
عرفوها في الأضرحة والقباب، وهل كانت قباب الأضرحة إلا نوعًا من التمجيد يؤدي ما تؤديه التماثيل؟
إن القباب العالية التي تقام للأولياء والصالحين هي شارات التبجيل والتعظيم التي تقام لمن يجب تخليد ذكراهم من المسلمين. ولك أن تزور القرى والدساكر والحواضر لترى كيف افتن الصوفية في تخليد ذكريات الأولياء.
قد تقول: وهل معنى ذلك أن الصوفية كانوا من المهندسين والبنائين؟
وأجيب بأن تلك الروائع الفنية كانت من وحيهم بلا جدال؛ ولهذا نراهم ينوهون بالمزارات ويحجون إليها داعين مبتهلين، وهم أنفسهم الذين أذاعوا هذه البدعة في الأمم الإسلامية حتى وصل صداها إلى قبر الرسول، فهو ﷺ يعيش برفاته في ظل بدعة أقامها المتصوفون.
ولكن لا بد من الإشارة إلى الفرق بين الضريح والتمثال:
إن التمثال للفكرة فقط، وتنصرف عنه العيون بعد أن تراه، أما الضريح فيراد للفكرة ويراد للتهذيب والتثقيف، ألست ترى كيف كانت الأضرحة معاهد علمية يحج إليها طالبوا العلم في الصباح والمساء؟ ألست ترى كيف صار من المألوف أن تتبع الأضرحة بالزوايا والمساجد؟ إن هذا يشعرك بأن الضريح لم يكن كتلة فنية صماء، وإنما كان مرجعًا لطائفة من المعاني الروحية والذوقية والاجتماعية.
فهمنا المعاني الروحية والذوقية، فما هي المعاني الاجتماعية؟
إننا نرى كل ضريح يتبع غالبًا بما يسمى «الحضرة» وهي حفلة أسبوعية تقام للذكر والغناء وقراءة الأوراد، وهذا ينفع من الوجهة الذوقية والروحية، ثم نرى بعض الأضرحة يوجب أن تقام حوله الموالد السنوية، وهذه الموالد لها تأثير شديد من الوجهة الاجتماعية والاقتصادية فهي أولًا موسم يتلاقى فيه الناس ويأخذ بعضهم عن بعض، وكانت المصاهرات في الأزمنة القديمة تعتمد على ألوان من التعارف تخلقها الموالد. وهي ثانيًا معارض تبرز فيها الفنون والمبتكرات، حتى الشعوذة والتهريج. وهي ثالثًا أسواق جامعة تروج فيها التجارات والصناعات وتعمر بها الجيوب. والحكومات تعرف ذلك وهي تشجع على إقامة الموالد لينتفع الناس بعضهم من بعض؛ ولتنتفع هي أيضًا من موارد السكك الحديدية.
وقد اتفق الناس على أن الموالد يكثر فيها الرجس والدنس والفتون، وهذا يؤيد ما نقول به: فالمفاتن والمفاسد والفواحش لا تنهض إلا حيث تنهض الحياة، والهدى لا يعلن عن الحياة كما يعلن الضلال.
أعرفتم الآن أن الصوفية ساعدوا على نشر الفنون بإقامة التماثيل؟
إن الأضرحة والقباب تجمع الناس على الحق والباطل، وتنشر فيهم معاني الرشد والغواية، وتحملهم على اعتناق مذاهب الصلاح والفساد، والحياة في صميمها مزاج من الخير والشر، والرشد والغي، والهدى والضلال.
أقول هذا وأنا آسف على تضعضع الموالد؛ لأنها كانت تقوم على فكرة دينية فيجيء الخير أصلًا ويجيء الشر تبعًا، وقد حلت محلها مواسم مدنية يجيء فيها الشر أصلًا ويجيء الخير تبعًا.
وما يهمني أن أشرح هذه الحقيقة، وإنما يهمني أن أسجل أن الصوفية ساعدوا على رقي المجتمع في مذاهبه الذوقية والفنية، وإن كانت الظواهر تشهد بأنهم حاربوا الفنون.
وفي النجف جبانة واسعة تسمى (وادي السلام)، وقد وصفتها في كتاب (ليلى المريضة في العراق)، وقد شاع الاعتقاد هناك بأن من يدفن في ذلك الوادي يعافي من الحساب في البرزخ، وهم يؤكدون أن بعض الآثار تقول: بأن طوله مسيرة يوم، فهو قادر على أن يبتلع ملايين الأموات، وهنا يقوم الشاهد: فمن أهل الهند وأهل إيران من يحبون أن يدفنوا موتاهم هنالك، وقد سخر شاعرهم أحمد الصافي من ذلك حين أشار في بعض قصائده إلى أن «محصول بلده جنائز»، ولكن هذا المحصول الذي سخر منه الصافي هو من أسباب عمران النجف، ولولا قبر أمير المؤمنين لأصاب النجف ما أصاب الحيرة من الخراب.
وعند التأمل نرى أن هذه المزارات كانت من الثمرات لكثير من البلاد في مصر والشام والمغرب والحجاز والعراق، وقد ضعف سلطانها منذ شاعت التعاليم المدنية ومنذ أصر الشبان في الجيل الحديث على الاعتقاد بأنها أحجار هوامد.
وما نريد أن نحكم في هذه القضية باسم المنطق والعقل، وإنما نسجل ظاهرة تاريخية متصلة بالتصوف، وكان لهذه الظاهرة تأثير شديد في حيوات الناس من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والعلمية، فقد كانت تلك المزارات بما يقام حولها من الموالد شبيهة بالمعارض الدولية. وهل من القليل لمنفعة العراق أن ينفق سلطان البهرة ألوف الدنانير لتجميل الأماكن المقدسة في النجف وكربلاء؟ إن الرجل البصير بأسرار المجتمع لا يحتكم إلى العقل في كل حين.