كيف نشأ التصوف في الأخلاق
قدم التصوف
التصوف لون من الذوق عرفه العرب قبل الإسلام بأجيال طوال. ومن خطأ الرأي أن يقال إنه
كان معدومًا فخلقته النزعات الإسلامية، وإليكم البيان:
العرب أمة عريقة في التدين، والتدين في ذاته تصوف؛ لأنه نوع من الضعف، والضعف باب
إلى
التصوف؛ فإن الإنسان في الأصل حيوان شرس يقاتل ويغالب، ثم تاتي لحظات يصرعه فيها الضعف
فيقف ويتأمل: من أين أتى؟ وإلى أين يصير؟ وينتهي به الفكر إلى الاقتناع بأنه مخلوق
ضعيف، وعندئذ يكون التدين. والمتدينون فريقان: فريق لا يزال يحس القوة والعافية فيجالد
في ميادين الحياة، وفريق ينتهي به الضعف إلى التسليم المطلق فيرضى بالدون من العيش
ويتوجه إلى التفكير في ملكوت السماء.
وعند التأمل نرى الروحانيات لا تكثر إلا في الأمم الضعيفة، أما الأمم القوية فتوغل
في
الماديات، وتحرص على امتلاك ما فوق الأرض من أصول المنافع، ومثل الأمم في ذلك مثل
الأفراد، فالرجل في دور العافية والشباب تكون أطماعه في الأغلب مادية، فيبنى المنازل،
وينظم المزارع والمتاجر والمصانع، وفي دور الضعف والشيخوخة يقف موقف المتأمل فيما كان
وما سيكون. ويتحول إلى قوة روحية يستر بها الضعف الذي رمته به أحداث الزمان.
والمتصوف يتصنع في البداية، ثم يصير صوفيًّا بالطبع، حين تغلب عليه قوة الفكر
والإشراق.
ولنواجه هذه المسألة بعزيمة وصراحة فنقول: إن هناك شخصيتين: الشخصية الحيوانية،
والشخصية الإنسانية، أما الشخصية الحيوانية فهي الأصل، والفضائل فيها تقوم على أساس
الغلبة والعنف، وهي شخصية لا تزال محفوظة الملامح في كتب الأساطير، والناس يحنون إليها
حنينًا شديدًا، حتى لنراهم في الكتب الروائية يتمنون أن لا ينهزم القوى وإن بغى وخان.
وبفضل القوة وجد في القوانين الدولية ما يسمى حق الفتح، وهو رجعة إلى القانون الخلقي
في
عالم الشخصية الحيوانية.
أما الشخصية الإنسانية فهي شخصية مهذبة، والتهذيب هنا يراد به معناه اللغوي الأول،
أي: أن هذه الشخصية قلمت أظافرها، وقطعت أشواكها، وصنع بها ما يصنع بالحيوان المفترس،
أو الشجرة الشائكة، فأصبحت مصقولة الجوانب لا يخشى منها بطش ولا عدوان ما دامت محكومة
بصوارم القوانين.
وهذه الشخصية الإنسانية لم تخلق إلا بحكم الضعف، وقد استطاع جان جاك روسو أن يتصور
دقائق اللحظات التي خلقت فيها هذه الشخصية، وفي زعمه أن الناس تجمعوا وتعاقدوا،
واصطلحوا على أن يترك كل فرد منهم جزءًا من حريته، ليتكون من مجموع ما يتنازل عنه الناس
من حرياتهم قوة تنهض بها حكومة تحمي الضعفاء، وتكف عدوان الأقوياء.
ثم عادت الشخصية الإنسانية فانقسمت إلى شخصيتين: شخصية مادية، وشخصية روحية. فالأولى:
هي الشخصية التي لا تتأدب إلا بفضل القانون، أي: بفضل السيف والسوط، وهي شخصية سليمة
إن
نظرنا إليها من الوجهة الحيوانية، والثانية: هي الشخصية التي تتأدب بفضل الروح، وهي
شخصية سليمة إذا نظرنا إليها من الوجهة الإنسانية.
وبهذا نرى أن العافية الخلقية ليست إلا مسألة اعتبارية، فالعنف فضيلة عند قوم، ورذيلة
عند آخرين، هو فضيلة عند من يعيشون على المبادئ الحيوانية، وهو رذيلة عند من يعيشون على
المبادئ الإنسانية، وكذلك يقال في اللين فهو ضعف في عالم الأقوياء، وهو حلم في دنيا
الضعفاء.
ولنسجل هنا أن الضعف نفسه صار سلاحًا قويًا بفضل المهارة الإنسانية، فالإنسان حين
ضعف
اعتمد على فكره ولسانه في تقبيح الرذائل الحيوانية، وما زال يبدئ ويعيد حتى أشاع في
العالمين أن الظلم ملعون في الأرض ملعون في السماء.
وشواهد الحياة تؤيد رأى الضعفاء من الناس، فهؤلاء الضعفاء هم الذين قالوا بوجود قوة
قاهرة مسيطرة هي قوة الله، وهم الذين بسطوا ألسنتهم في الدنيا فرموها بالغدر، وحكموا
عليها بالفناء.
شواهد الحياة تؤيد رأي هؤلاء الضعفاء؛ لأن الدنيا حقًا فانية، ولأن الإنسان حقًا
ضعيف، ولا يمتري في هذه الحقائق أحد، فالرجل الهائل الذي يأمر وينهى ويبغي ويستطيل
ينقلب في لحظة واحدة إلى مخلوق ذليل حين يدهمه المرض، أوتلسعه حشرة حقيرة، أو يهجم عليه
كلب مسعور، أو يتردى في جبّ عميق.
وهو أذل وأحقر حين يصرعه الموت، وما ظنكم بمخلوق تفارقه الروح فتعلوه صفرة بشعة، وتهب
منه ريح يعجز عن ملاقاتها أشجع الناس؟
وما هي مصاير اللذات في الدنيا؟ أليس كل نعيم إلى زوال؟ أين ذهب ملك الطغاة
والمستبدين لعهد الفرس والعرب والرومان؟ وأين ما بقي من المتع الحسية التي رآها قصر
فرساي، وهو اليوم بلا فراش ولا أثاث؟ أين لا أين! إن كان في العالم قصيدة إنسانية خالدة
فهي التصوف، هو وحده الأنشودة الباقية يوم تبيد الأناشيد، ولو فنيت الدنيا دفعة واحدة
وبقي إنسان واحد يفتش عما حقّ فيها من الكلمات لما وجد أصدق من كلمة الصوفية.
الروحانية والضعف
نشأ التصوف إذن في ظلال الضعف، أي نشأ في ظلال الحق، يوم عرف الإنسان قيمة نفسه،
واطمأن إلى أنه مخلوق ضعيف إن تخلت عنه رعاية الله لحظة واحدة هلك وباد.
نشأ التصوف حين شك الإنسان في قيمة الحقائق الإنسانية، يوم رأى كل قوة إلى ضعف، وكل
وفاء إلى غدر، وكل حياة إلى موت، وكل شروق إلى غروب.
لا تسألوا متى اهتدى الإنسان إلى قيمته الذاتية، ويكفي أن تتذكروا أن البيئات العربية
عرفت كثيرًا من الأنبياء الذين آثروا الزهد والفرار من اللذات، وعرفت أن أطيب الناس
ذكْرًا في العالم القديم هو إبراهيم الخليل الذي حطم الأصنام، وأخلد إلى
التوحيد.
ويمكن الحكم بأن أقدم الآثار الصوفية هو «سفر أيوب» الذي شرح البلايا الإنسانية، وصور
حيرة المرء بين السعادة والشقاء، والهدى والضلال.
وأقرب الآثار الصوفية إلى أذهان الناس هو القرآن، ذلك الكتاب الذي أطال القول في وصف
الدنيا وذمها وثلبها وتحقيرها، وقضى بأنها لهو ولعب، وأنها في نضارتها ليست إلا متاع
الغرور، القرآن هو أقرب الآثار الصوفية إلى أذهان الناس وإن جهلوا ذلك، هم يعدونه كتاب
تشريع، ونراه كتاب تصوف.
إن التشريع في القرآن ليس إلا تنظيمًا للعلاقات الدنيوية، والعلاقات الدنيوية في نظر
القرآن الكريم هي تمهيد للصلات الروحية: صلات الناس بالله الكبير المتعال، وكل مغنم لا
يقرب المرء من ربه هو في نظر القرآن ذخرٌ باطلٌ سخيف.
والإنسان في نظر القرآن هو مخلوق مغرور تطغيه
النعمة، وتذله الباساء:
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن
بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا ۚ قُلِ اللهُ
أَسْرَعُ مَكْرًا ۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ *
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي
الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ
عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ
بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ
هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنجَاهُمْ
إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم ۖ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ثُمَّ
إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ *
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ
حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا
أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا
فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ
الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
١
والقرآن يذكر الناس بأن الأمر كله لله؛ فهو الذي
يحيي وهو الذي يميت:
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ
* أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ
تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا
بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَىٰ أَن
نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ *
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُم
مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ
نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا
فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ *
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي
تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ
الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا
تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا
أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ
* فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ * فَلَا
أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ
تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ.
٢
وسياق القول في القرآن كله يتجه وجهة روحية، ويذكر المرء بربه، ويخوفه من بطشه،
ويطمعه فيما أعد للصالحين من جزيل الثواب.
الضعفاء هم الذين اهتدوا إلى الإيمان وعرفوا قيمة النفس الإنسانية
وكان الرسول يتقشف تقشفًا صوفيًّا، وقد دخل عليه عمر بن الخطاب فوجده على حصير قد
أثر
في جنبه، فكلمه في ذلك فقال: مهلًا يا عمر، أتظنها كِسْرَويَّه.
٣
وأتاه رجل بهدية فذهب يلتمس وعاء يفرغها فيه فلم يجد، فقال له: فرغها في الأرض، ثم
أكل منها، وقال: آكل كما يأكل العبد، وأشرب كما يشرب العبد، لو كانت الدنيا تزن عند
الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء.
٤
وفي كتب الشمائل أخبار كثيرة عن تقشف الرسول، وهو نفسه قد عاش في بيئة صوفية، يدل
على
ذلك نهيه عن الرهبانية، وعن مواصلة الصوم، وهو لم يرغب في الزواج إلا لأنه رأى ناسًا
يتبتلون، ولم ينه عن وصل الصيام إلا لأنه رأى ناسًا يصلون الصيام، وهذا وذاك من سمات
التصوف.
والفرق بين تصوف الرسول وتصوف من عاصروه أنه كان يعتدل، وكانوا هم يسرفون.
والقرآن يوصي الرسول بأن يصبر نفسه مع الذين
يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وهذا تأديب للمؤمنين، وفيه اعتراف بشخصية من
ينصرف عن زينة الحياة الدنيا وينقطع لذكر الله. وقد ورد اسم المؤمنين في القرآن في سياق
يعين نسبتهم إلى الروحانية إذ قال:
إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، ولا
يسامح في مهجته إلا أجود الناس، وكان في شمائل الصحابة مصداق لهذه الروحانية، فقد جاد
أبو بكر بجميع ماله، وجاد عمر بشطر ماله، فقال له الرسول: ما أبقيت لأهلك؟ فقال: مثله.
وقال لأبي بكر: ما أبقيت لأهلك؟ فقال: الله ورسوله. فقال النبي: بينكما ما بين
كلمتيكما. فالصديق وفى بتمام الصدق فلم يمسك سوى المحبوب عنده وهو الله ورسوله،
٥ وذلك بالتأكيد تصوف وروحانية.
التصوف في سفر أيوب وفي القرآن
التصوف قديم عرفه العرب قبل الإسلام، وتخلقوا به لعهد الرسول، ولكن يظهر أنه لم يكن
ملحوظًا في كلام الناس، ولم يختصوه بدرس ولا بيان، وكانت الأعمال الروحية تندرج في
الأعمال الدينية. وأول من تلفت الناس إلى كلامه في المعاني الوجدانية وأسرار القلوب هو
حذيفة بن اليمان الصحابي الجليل، وقد قيل له: نراك تتكلم في هذا العلم بكلام لا نسمعه
من أحد من أصحاب رسول الله فمن أين أخذته؟ فقال: خصني به رسول الله
ﷺ كان الناس
يسألونه عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه، وعلمت أن الخير لا يسبقني.
وقال مرة: فعلمت أن من لا يعرف الشر لا يعرف الخير. وفي لفظ آخر: كان الناس يقولون يا
رسول الله ما لمن عمل كذا وكذا، يسألونه عن فضائل الأعمال، وكنت أقول: يا رسول الله،
ما
يفسد كذا وكذا، فلما رآني أسأل عن آفات الأعمال خصني بهذا العلم.
٦
قال المكي: وكان حذيفة قد خص بعلم المنافقين وأفرد بمعرفة علم النفاق، وبسرائر العلم،
ودقائق الفهم، وخفايا اليقين من بين الصحابة، فكان عمر وعثمان وأكابر أصحاب رسول الله
ﷺ يسألونه عن الفتن العامة، والفتن الخاصة، ويرجعون إليه في العلم الذي خص به،
وكان عمر يستكشفه عن نفسه هل يعلم فيه شيئًا من النفاق فبرأه منه، ثم يسأله عن علامات
النفاق، وآية المنافق فيخبر من ذلك بما يصلح مما أذن له فيه، ويستعفى مما لا يجوز له
أن
يخبر به فيُعذَر في ذلك.
٧
ومعنى هذا أن الرسول كان يكتم أسرار التصوف، ولا يمنحها غير الخواص، ومعناه أيضًا
أن
التصوف هو البصر بأسرار القلوب، وما يعرض لها من دقائق الرياء والنفاق.
وعن حذيفة بن اليمان تعلم الحسن البصري وهو إمام الصوفية أثره يقفون، وسبيله يتبعون،
ومن مشكاته يستضيئون،
٨ وقد كان الحسن البصري أحد المذكرين، وكانت مجالسه مجالس الذكر يخلو فيها مع
إخوانه وأتباعه من النساك والعباد مثل: مالك بن دينار، وثابت البناني، وأيوب السختياني،
ومحمد بن واسع، وفرقد السنجي، وعبد الواحد بن زيد، وكان يحدث أصحابه في خواطر القلوب،
وفساد الأعمال، ووسواس النفوس، وربما قنع بعض أصحاب الحديث ورأسه فاختفى من ورائهم
ليسمع ذلك، وكان من خيار التابعين بإحسان، وقد لقي سبعين بدريًا ورأى ثلاث مئة
صحابي،
٩ وكانت أمه مولاة لأم سلمة زوج النبي
ﷺ،
١٠ويقال: إنها ألقمته ثديها تعلله حين بكى فدرّ ثديها
عليه، وكان كلامه يشبه بكلام رسول الله
ﷺ١١ وكان أبو
قتادة العدوي يقول: عليكم بهذا الشيخ، فو الله ما رأينا أحدًا لم يصحب رسول الله
ﷺ أشبه بأصحاب رسول الله
ﷺ منه،
١٢ وكانوا
يقولون: كنا نشبهه بهدي إبراهيم الخليل
ﷺ في حلمه وخشوعه ووقاره وسكينته، فكان
على شمائله،
١٣ ونذت امرأة بالبصرة نذرًا إن فعل الله تعالى
ذلك بها أن تنسج من غزلها ثوبًا، وصفته، وتكسوه خير أهل البصرة، فرأت تمام نذرها فوفت
بما نذرت ثم سألت: من خير أهل البصرة؟ فقالوا: الحسن.
١٤
قال المكي: وكان الحسن رضي الله عنه أول من أنهج سبيل هذا العلم وفتق الألسنة به،
ونطق بمعانيه، وأظهر أنواره، وكشف قناعه، وكان يتكلم فيه بكلام لم يسمعوه من أحد من
إخوانه، فقيل له: يا أبا سعيد، إنك تتكلم في هذا العلم بكلام لم نسمعه من أحد غيرك،
فممن أخذت هذا؟ فقال: من حذيفة بن اليمان.
١٥
والحسن البصري شخصية جذابة، ويقال إنه الشاب الذي أثنى عليه علي بن أبي طالب، فقد
دخل
جامع البصرة، وجعل يخرج القصاص، ويقول: القصص بدعة، فانتهى إلى حَلقة شاب يتكلم على
جماعة فاستمع إليه فأعجبه كلامه، فقال: يا فتى، أسألك عن شيئين فإن خرجت منهما تركتك
تتكلم على الناس، وإلا أخرجتك كما أخرجت أصحابك. فقال: سلْ يا أمير المؤمنين، فقال:
أخبرني ما صلاح الدين وما فساده؟ فقال: صلاحه الورع، وفساده الطمع. قال: صدقت، تكلم،
فمثلك يصلح أن يتكلم على الناس.
١٦
وكان شديد الخوف من الله، ويقال: إنه ما ضحك أربعين سنة، وكان في حزنه كأنه أسير
قدم
ليضرب عنقه، وإذا تكلم حسبته يعاين الآخرة فيخبر عن مشاهدة، وإذا سكت ظننت النار تسعر
بين عينيه، وعوتب في شدة حزنه، فقال: ما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع عليّ في بعض ما
يكره فمقتني، فقال: اذهب فلا غفرت لك.
١٧
ومن كلامه وقد رأى هيئات الناس في أحد أيام رمضان: إن الله — تبارك وتعالى — جعل
رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون
فخابوا، فالعجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون،
أما والله لو كشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه، ومسيء بإساءته.
١٨
ونظر إلى قوم منصرفين من صلاة الفطر يتدافعون ويتضاحكون فقال: الله المستعان، إن
كان
هؤلاء قد تقرر عندهم أن صومهم قد تقبل فما هذا محل الشاكرين، وإن علموا أنه لم يقبل فما
هذا محل الخائبين.
١٩
قال الحصري: ويقال إنه لم يكن تابعي أفضل منه، هذا قول أهل العراق جميعًا، وأهل
الحجاز يقدمون سعيد بن المسيب عليه، وكان سعيد أحسن من الحسن ورعًا، وأشد الناس جزعًا،
وأقلهم كلامًا، وكان الحسن لا يدع أن يتكلم بما هجس في نفسه، وجاش في صدره.
٢٠
ونحن نعرف لم كان الحسن كثير الكلام؛ فقد كان معلمًا، والمعلمون أكثر الناس كلامًا،
ولا سيما إذا كانوا أصحاب مذاهب، وكان الحسن يعلم الناس أسرار القلوب، وكان يعرف أنه
صاحب مذهب، وأن عليه أن يشرح ما فيه من دقائق وأسرار، وكذلك نجد اسمه في جميع مؤلفات
الصوفية؛ لأنه المعلم، ولأن كلماته المأثورة تكاد تجلُّ عن الإحصاء.
تصوف الرسول
والمفهوم من أحوال البصري أنه اهتم بشرح التصوف، وتكلم عن آفات النفوس، وقد مات سنة
عشر ومئة، وهو بذلك أقدم الأشياخ عند الصوفية.
ويليه في المنزلة أبو حمزة الصوفي، وهو أستاذ البغداديين، وأول من تكلم ببغداد في
مذاهب التصوف: من صفاء الذكر، وجمع الهمة، والمحبة، والشوق، والقرب، والأنس، لم يسبقه
إلى الكلام بهذا على رءوس الناس ببغداد أحد.
٢١
وكان أبو حمزة من كبار القوم، وهو الذي يقول:
نهاني حيائي منك أن أكشف الهوى
وأغنيتني بالقرب منك عن الكشف
تراءيت لي بالغيب حتى كأنما
تبشرني بالغيب أنك بالكف
أراك وبي من هيبتي لك وحشة
فتؤنسني بالعطف منك وباللطف
وتحيي محبًا أنت في الحب حتفه
وذا عجب كون الحياة مع الحتف الحتف
٢٢
وخرج جماعة من الصوفية يستقبلونه من مكة فإذا به قد شحب لونه فقال الجريري: يا سيدي،
هل تتغير الأسرار إذا تغيرت الصفات؟ قال: معاذ الله، لو تغيرت الأسرار لتغير الصفات
لهلك العالم، ولكنه ساكن الأسرار فحماها، وأعرض عن الصفات فلاشاها.
ثم ولى وهو يقول:
كما ترى صيرني
قطع قفار الدمن
شردني عن وطني
كأنني لم أكن
إذا تغيبت بدا
وإن بدا غيبني
حذيفة بن اليمان
تلك صورة تقريبية لنشأة التصوف في الأخلاق، ولنتذكر أن مؤرخي هذا العلم مجمعون على
أن
لفظ التصوف لم يعرف مصحوبًا بالرسوم إلا في القرن الثاني، وإن كان منهم من أشار إلى أن
اللفظ كان معروفًا في القرن الأول،
٢٤ وكانت صحبة رسول الله أشرف الألقاب، فاستغنوا بها عن الاتّسام بالتصوف، ثم
قيل القراء والزهاد والنساك والعباد، ثم قيل الصوفية.
٢٥
والظاهر أن النساك كانوا فريقين: أحدهما: يتعبد في صمت، وثانيهما: يتعبد ويتفلسف،
فالذين اكتفوا بحسن الخلق والزهد في الدنيا والتأدب بأدب الشرع لقبوا بالنساك والقراء
والزهاد والعباد، والذين أقبلوا على دراسة النفوس وآفاتها، واهتموا بشرح ما يرد على
القلب من الخواطر، وحرصوا على أن تكون لهم صبغة مذهبية، ولقبوا بالصوفية.
وهؤلاء وأولئك كان لهم وجود محسوس، وعرفت لهم مقامات في وعظ الخلفاء والوزراء، وكانت
مذاهبهم بسيطة أول الأمر، ثم تعقدت وتشبعت بعد أن كثر اتصالهم بالناس، وطالت مجادلتهم
لأهل الفقه والتوحيد.
الحسن البصري
ويمكن الحكم بأن أول مشكلة عقلية عرضت لأولئك القوم هي الظاهر والباطن، أو الشرع
والحقيقة، وساعد على وجود هذه المشكلة ورود آيات في القرآن تحتاج إلى تأويل، من هذا
قوله تعالى:
ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ
فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا
طَائِعِينَ، فالبليد يفتقر في فهمه إلى أن يقدر لهما حياة يخلقها الله
للسماء واللأرض، وعقلًا وفهما للخطاب، وخطابًا هو صوت وحرف تسمعه السماء والأرض؛
فتجيبان بحرف وصوت وتقولان: أتينا طائعين، والبصير يعلم أن ذلك لسان الحال وأنه إنباء
عن كونهما مسخرتين بالضرورة ومضطرتين إلى التسخير … ومنه أيضًا قوله تعالى:
وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ فالبليد
٢٦ يفتقر فيه إلى أن يقدر للجمادات حياة وعقلًا ونطقًا بصوت وحرف حتى يقول
سبحان الله ليتحقق تسبيحه، والبصير يعلم أنه ما أريد به نطق اللسان، بل كونه مسبحًا
بوجوده ومقدسًا بذاته، وشاهدًا بوحدانية الله سبحانه، كما يقال:
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وكما يقال هذه الصنعة المحكمة تشهد لصانعها بحسن التدبير وكمال العلم لا بمعنى أنها
تقول أشهد بالقول، ولكن بالذات والحال … فهي تشهد لخالقها بالتقديس، يدرك شهادتها ذوو
البصائر دون الجاحدين، ولذلك قال تعالى:
وَلَـٰكِن لَّا
تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.
٢٧
قال الغزالي: وهذا الفن مما يتفاوت أرباب الظواهر وأرباب البصائر في علمه، وتظهر
به
مفارقة الباطن للظاهر، وفي هذا المقام لأرباب المقامات أسرار.
٢٨
وكذلك يقال في قوله تعالى:
وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ
وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم وقوله:
وَقَالُوا
لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ
كُلَّ شَيْءٍ وكذلك المخاطبات التي تجري من منكر ونكير، وفي الميزان
والصراط والحساب ومناظرات أهل النار وأهل الجنة في قولهم:
أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ
اللهُ.
٢٩
فهذه وأمثالها مما اختلف فيه العلماء والصوفية، ففريق يقول: إن ذلك كله بلسان الحال،
وفريق يحسهم الباب ويمنع التأويل، وقد غلا في ذلك أحمد ابن حنبل حتى منع تأويل قوله:
كُن فَيَكُونُ، وزعم هو وأصحابه أن ذلك خطاب بحرف وصوت
يوجد من الله تعالى في كل لحظة بعدد كون كل مكون
٣٠ وبلغ به
الأمر أن منع تأويل قول الرسول: «الحجر الأسود يمين الله في أرضه» وقوله: «قلب المؤمن
بين إصبعين من أصابع الرحمن» وقوله: «إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن» وعند الغزالي
أن ابن حنبل لم يمنع التأويل إلا رعاية لصالح الخلق، فإنه إذا فتح الباب اتسع الخرق
وخرج الأمر عن الضبط وجاوز حد الاقتصاد، إذ حد الاقتصاد لا ينضبط.
٣١
أبو حمزة الصوفي
وما زال الفقهاء يمشون في طريق والصوفية في طريق حتى بعدت بينهم شقة الخلاف، واتفق
أن
كان العز بن عبد السلام يطعن على ابن عربي ويقول: هو زنديق، فقال له بعض أصحابه: أريد
أن تريني القطب، فأشار إلى ابن عربي. فقال له: فأنت تطعن فيه؟ فأجاب: أصون ظاهر الشرع
٣٢ ومعنى هذا أن ظاهر الشرع لا يعترف للصوفية بوجود صحيح.
وقال بعض الصوفية لأحد المريدين: إن كنت تريد الجنة فسر إلى ابن مدين، وإن كنت تريد
رب الجنة فهلم إلي.
٣٣
فالجنة طريقها الشرع، أما السبيل إلى الله فهو التصوف.
وكان ابن الكاتب إذا ذكر الروزباري يقول: سيدنا أبو علي. فقيل له في ذلك فقال: لأنه
ذهب من علم الشريعة إلى علم الحقيقة. ونحن رجعنا من علم الحقيقة إلى علم الشريعة.
٣٤
فالعلم الذي يسود صاحبه هو التصوف، أما الفقه فمحصول العامة من الناس.
وقيل لبعض الصوفية: كم يجب من الزكاة في مائتي درهم؟ فقال: أما على العوام بحكم الشرع
فخمسة دراهم. وأما نحن فيجب علينا بذل الجميع.
٣٥
وكانوا يقولون: أهل العلم على ضربين، عالم عامة، وعامة خاصة، فأما عالم العامة فهو
المفتي في الحلال والحرام، وهؤلاء أصحاب الأساطين،
٣٦ وأما عالم الخاصة فهو العالم بعلم التوحيد والمعرفة وهؤلاء أهل الزوايا وهم المنفردون.
٣٧
ورفض المحاسبي أن يأخذ شيئًا من ميراث أبيه، وكان ورث منه سبعين ألف درهم، وكان أبوه
يقول بالقدر فرأى من الورع أن لا يأخذ من ميراثه شيئًا. وقال: صحت الرواية عن النبي
ﷺ أنه قال: لا يتوارث أهل ملتين شيئًا.
٣٨
والشاهد في هذا الخبر أن الصوفية كانوا يرون أنفسهم ملة، ويرون مخالفيهم في الرأي
ملة
أخرى.
وكان ابن العفيف يقول: اقتدوا بخمسة من شيوخنا، والباقون سلموا لهم
حالهم.
٣٩
والخمسة الذين ذكرهم ابن العفيف جمعوا بين العلم والحقائق، فهم أهل للاقتداء، أما
الباقون فوقفوا عند الحقائق فينبغي أن يسلم لهم حالهم؛ لأن لهم بَدَوات لا تعرفها
الشريعة.
الزهد والتصوف
وما زال الخلاف بين الفرقتين يقوى ويشتد حتى رأينا من يقول: من لم يزن أفعاله وأحواله
في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال.
٤٠
ولو مضينا نستقصي ما كتب طعنًا في الصوفية لطال بنا القول، ويكفي أن يعرف القارئ سر
الخلاف، فأهل الظاهر يرون الشريعة قوانين محدودة منظمة يسهل الرجوع إليها في الفصل بين
الناس، ولا كذلك التصوف فإن أهله يعتمدون على الخواطر ويستفتون القلوب، وليس في ذلك شيء
مضبوط، وما يدركه هذا قد يجهله ذاك. ولو أضيفت سلطة الحكومة إلى الصوفية لسادت الظنون،
وأصبح أمر الناس إلى فساد، واشتبكت مسالك اليقين.
وقد وضع ابن القيم كتابًا نفيسًا سماه «تلبيس إبليس» عرض فيه لأحوال الصوفية بالذم
والتقريع، وهو كتاب يقوم على أساس الشرع والعقل، وقد عاب عليهم أن يظنوا أن المراد من
رياضة النفوس هو قمع ما في البواطن من الصفات البشرية، مثل: قمع الشهوة والغضب وغير
ذلك، وليس هذا مراد الشرع، ولا يتصور إزالة ما في الطبع بالرياضة، وإنما خلقت الشهوات
لفائدة، فلولا شهوة الطعام لهلك الإنسان، ولولا شهوة النكاح لانقطع النسل، وكذلك حب
المال مركوز في الطباع؛ لأنه يوصل إلى الشهوات. وإنما المراد كف النفس عما يؤذي من جميع
ذلك وردها إلى الاعتدال فيه.
٤١
وبفضل اعتماد الصوفية على الخواطر وإهمال الشرع
شاعت القالة بأنهم مجانين، ويروى عن الشافعي أنه قال: لو أن رجلًا تصوف أول النهار لا
يأتي الظهر حتى يصير أحمق،
٤٢ وأنه قال: ما لزم أحد الصوفية أربعين يومًا فعاد عقله إليه
أبدًا،
٤٣ وكان يونس بن عبد الأعلى يقول: صحبت الصوفية
ثلاثين سنة ما رأيت فيهم عاقلًا إلا مسلمًا الخواص.
٤٤
وعاب ابن القيم عليهم أن يقولوا (شريعة وحقيقة) وقال في تفنيد ذلك:
هذا قبيح؛ لأن الشريعة ما وضعه الحق لمصالح الخلق، فما الحقيقة بعدها سوى ما
وقع في النفوس من إلقاء الشياطين، وكل من رام الحقيقة في غير الشريعة فمغرور
مخدوع، وإن سمعوا أحدًا يروى حديثًا قالوا: مساكين، أخذوا علمهم ميتًا عن ميت،
وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت فمن قال حدثني أبي عن جدي قلت حدثني قلبي عن
ربي، فهلكوا وأهلكوا بهذه الخرافات قلوب الأغمار، وأنفقت عليهم لأجلها الأموال؛
لأن الفقهاء كالأطباء والنفقة في ثمن الدواء صعبة، والنفقة على هؤلاء كالنفقة
على المغنيات، وبغضهم الفقهاء أكبر الزندقة؛ لأن الفقهاء يحظرونهم بفتاويهم عن
ضلالهم وفسقهم والحق يثقل كما تثقل الزكاة.
٤٥
إلى آخر ما وعت جعبة ابن القيم من النبال.
أهل الظاهر وأهل الباطن
وابن القيم لم يفتر شيئًا على الصوفية حين اتهمهم بازدراء أهل الفقه والحديث، فهم
بالفعل يرون أنفسهم ورثة الأنبياء، ويسميهم إخوان الصفا «أولياء الله وعباده الصالحين»
ويذكرون من صفاتهم أنهم لا يذكرون في مجالسهم وخلواتهم أحدًا إلا الله، ولا يتفكرون إلا
في مصنوعاته، ولا ينظرون إلا إلى فنون إحسانه، وعظيم إنعامه، وجميل آلائه، ولا يعملون
إلا لله، ولا يخدمون إلا إياه، ولا يرغبون إلا إليه، ولا يرجون إلا منه … وذلك أنهم
يرونه رؤية الحق في جميع متصرفاتهم، ويشاهدونه في كل حالاتهم، لا يسمعون إلا منه، ولا
ينظرون إلا إليه، ولا يرون غيره على الحقيقة. فمن أجل ذلك انقطعوا إليه عن الخلق،
واشتغلوا بالخالق عن المخلوق وبالرب عن المربوب.
٤٦
ويذكر إخوان الصفا أن نعت هؤلاء القوم ورد في آيات كثيرة من القرآن، وأن النبي أثنى
عليهم فقال: «لا يزال في هذه الأمة أربعون رجلًا من الصالحين على ملة إبراهيم الخليل
٤٧ وأن هؤلاء الصالحين هم الذين سماهم الله في كتابه «أولي الألباب» و«أولي
النهى» و«أولي الأبصار» فهم أولياء الله وأحباؤه، وإليهم أشار بقوله لإبليس
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وإليهم أشار
الرسول في وصيته لأبي هريرة بقوله: «عليك يا أبا هريرة بطريق أقوام إذا فزع الناس لم
يفزعوا، وإذا طلب الناس الأمان من النار لم يخافوا» قال: من هم يا رسول الله صفهم لي
حتى أعرفهم قال: قوم من أمتي في آخر الزمان يحشرون يوم القيامة محشر الأنبياء، إذا نظر
إليهم الخلائق ظنوهم أنبياء حتى أعرفهم أنا بسيماهم فأقول: أمتي أمتي، ليعرف الخلائق
أنهم ليسوا بأنبياء، ويمرون مثل البرق والريح، ويغشى أبصار الجميع نورهم. قال أبو
هريرة: قلت يا رسول الله مرني بمثل عملهم لعلي ألحق بهم. فقال الرسول: يا أبا هريرة،
إن
القوم ارتكبوا طريقًا صعبًا لحقوا بدرجة الأنبياء، آثروا الجوع بعدما أشبعهم الله،
والعرى بعد ما كساهم الله تركوا ذلك رجاء ما عند الله، تركوا الحلال مخافة حسابه، صحبوا
الدنيا بأبدانهم من غير أن تعلق بشيء منها قلوبهم، تعجب الأنبياء والملائكة من طاعتهم
لربهم، فطوبى لهم، وددت أن الله جمع بيني وبينهم … ثم بكى رسول الله شوقًا إلى رؤيتهم».
٤٨
أصل الخلاف
وهذا الكلام صريح في أن الصوفية يرون أنفسهم
ورثة الأنياء، بل هو صريح في أنهم نظائر الأنبياء، وليس في هذا غرابة، فالصوفية من
أوائل المتمردين على التقاليد الشرعية، وهذا التمرد فيه ضعف وفيه قوة، هو ضعف من حيث
أنه يفتح باب الفوضى في عالم الأخلاق، ويمكن من لا يعرف من الخوض في الشؤون المعاشية
والوجدانية بأحكام ما أنزل الله بها من سلطان، وهو قوة من حيث يدعو إلى قوة الشخصية
والاحتكام إلى الوجدان.
والصوفية يذكرون أن النبي قال: «استفت قلبك، وإن أفتاك المفتون»
٤٩ وأنه قال: «استفت قلبك، وإن أفتوك وأفتوك»
٥٠
كأنهم يحتاجون إلى سند من كلام الرسول!
وعند التأمل نرى الوقوف عند ظاهر الشريعة لا يليق إلا بالعوام من الناس، أما الخواص
فلهم مجالات يدركها العارفون، وما كان يمكن أن يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون في
فهم دقائق الأشياء، ففي العالم أسرار يطلع على بعضها الخواص، والشرع نفسه فيه دقائق
كثيرة لا يفهمها العوام من الفقهاء … على أن رجال الظاهر أسرفوا في التزمت وبلغ بهم
الحمق أن أقفلوا باب الاجتهاد، كأن الدنيا انتهت إلى ما انتهت إليه أئمتهم، وكأن العالم
ظهرت بواطنه وخوافيه فلم يبق فيه من المستورات ما يحتاج إلى شرح أو تأويل.
ولكن هل يكفي هذا ليصبح الأمر كله إلى الصوفية، ويصح للغزالي أن يحكم بأن الاشتغال
بعلم الظاهر بطالة؟
إن ضيق الذهن لحق بالفريقين فلم يتيسر لهما اتفاق، ولو تأمل أهل الظاهر لعرفوا أن
النفس الإنسانية أعمق من أن تبر أغوارها في جيل أو جيلين، وأن وساوس الصوفية ليست إلا
شواهد لعلم النفس، وأن الإنسان لا يهذي ولا يسخف إلا وقفًا لقوانين مستورة يوجب العقل
أن نبحث عما لها من عناصر وأصول، وما قد يبدو سخفًا وهذيانًا له أحيانًا وجوه من الحق
يعلمها الراسخون في علم النفس وعلم منافع الأعضاء.
فمن الفضول أن يتحكم الفقهاء في مصاير النفس الإنسانية، وأن يقضوا بأن كل خروج على
آفاقهم زيغ وضلال، وأن نصوص القرآن والحديث لا يجوز أن توجه إلى غير ما يقتضيه ظاهر
الحروف. ولو عقل الصوفية لعرفوا أن من الخرق أن تكون آراؤهم دستورًا يجب احترامه في
جميع البيئات، وكيف يُفرض علىالناس جميعًا أن يقضوا أعمارهم في التفكر والتدبر؟ إن
الفكر شيء جميل، ولكن فرضه على جميع الناس سخف لا يعدله سخف، وكيف غاب عنهم أن الغفوات
العقلية التي يتمتع بها الجماهير هي أساس النظام في هذا الوجود؟ وكيف كانت تصبح الدنيا
لو أن العوام تفلسفوا، وادعوا الاتصال بالله، كلما عرض لهم خاطر جديد؟
أعداء الصوفية
وخلاصة القول أن العداوة بين أهل الظاهر وأهل الباطن لا تقوم على أساس صحيح، فأهل
الظاهر وجودهم ضروري لأنهم يحمون الناس من الاستسلام إلى الأوهام والأضاليل، وأهل
الباطن وجودهم ضروري لأنهم يعطرون الشريعة بعبير الروح ويسكبون عليها أنداء
الخيال.
وأهل الظاهر هم الذين حفظوا العلوم الشرعية، وصيروا الإسلام من الشرائع المؤسسة على
قواعد من الثقافة الفقهية.
وأهل الباطن هم الذين خلقوا العصبية الدينية، وصوروا الرسول، وأصحابه بصور روحية
رائعة هي التي حفظت القوة المعنوية للدين الحنيف.
ولا يمكن إغفال ما أفاد الإسلام من الثقافة الصوفية، فالتصوف هو الذي ملأ الجوانب
الخالية من قلوب المسلمين، وهو الذي أنساهم الخشونة المادية التي أذاعتها الثقافة
الفقهية، وقد نشرت جريدة السياسة في ٣ يونية سنة ١٩٣٢ نبذة من كتاب فلسفة الدين الذي
ألفه بالإنجليزية المستر ادوار روس (ص١٢٤) جاء فيها قوله:
إن كلمة الإسلام معناها الإذعان لإرادة الله، وأخلق بذلك أن يفضي إلى اعتبار
الله قضاء متحكمًا غير مفهوم، من العبث التمرد عليه، وليس من صفاته لا القداسة
ولا الحب، ومع ذلك فقد ظهر مسلمون لا يرتاحون إلى هذا الدين الجاف، وإن في ظهور
الفرق الصوفية التي انتشرت في الإسلام لشهادة بوجود الشوق إلى اتصال يكون أوثق
بإله حي يفيض بالحب.
وهذه الكلمة صحيحة، لولا ما فيها من وصف الإسلام بالجفاف، وليس من الضروري أن تتصور
الله رفيقًا عطوفًا في جميع الأحيان، فمن الجهل أن ننسى غضب الله على الأشقياء
والظالمين، ولكن من الجهل أيضًا أن لا تتمثل الله إلا وفي يده سوط، فالله لطيف جدًا،
وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم.
والفقهاء سدوا منافذ الرفق حين صوروا الله بالقسوة والعنف. والصوفية سدوا منافذ الحزم
حين وصفوا الله بالرفق المطلق. وحب الله لا يتوقف على ما ينتظرون من الرفق، فقد نحب
الله ونحن نخافه أشد الخوف، ومن لا يعرف الرهبة فليس بمحب ولا محبوب.
الصوفية يرون أنفسهم ورثة الأنبياء
وهنا تعرض مسألة جوهرية في نظام الأخلاق هي
الفرق بين الزهد والتصوف، فالزهد هو ترك الدنيا خوفًا من الحساب، والتصوف، هو الإقبال
على صفاء النفس لتتصل بالله، فغاية الزاهدين هي السلامة، وغاية الصوفية هي الوصول،
فالزاهد يخاف الدنيا لأنها قد تبعده من الجنة، والصوفي يخاف الدنيا لأنها قد تشغله عن
الله، وهذا الفرق فرض صرف، فليست هناك حدود واضحة تفصل الزهد عن التصوف، وإنما أخذنا
هذا الفرض من التاريخ، فالعباد كانوا يسمون زهادًا ونساكًا في العهد الأول قبل أن يوجد
التعمق في دراسة الأسرار النفسية، ثم سموا صوفية في العهد الذي كثر فيه الاهتمام بدرس
أسرار القلوب.
فضل الفقه وفضل التصوف
إلى هنا عرفنا صورًا من تطور التصوف. أفيستطيع القارئ أن يتصور أن الصلة لا تزال
وثيقة بين ما ابتدأ به التصوف وما انتهى إليه؟
لقد قلنا إن التصوف قديم في البيئات العربية، واتخذنا من القرآن شواهد للتصوف، أفيمكن
الحكم بأن الصوفية وقفوا عند روحانية القرآن؟
إنه لا مفر من الاعتراف بأن شخصية المسيح كان لها أثر في تلوين النزعات الصوفية، فما
تكاد كتب التصوف تخلو من الاستشهاد بكلام المسيح.
وقد رأينا فيما سلف أن شخصية الراهب كانت محترمة، وأن الصوفية كانوا ينقلون كلام
الرهبان، وكان الناسك من المسلمين يذكر النصارى بالمسيح.
٥١
فلنضف إلى ما سلف أن الصوفية كان يسرهم أن يسجلوا أنهم أعرف بربهم من الرهبان، وأن
التصوف الحق يرجع إلى الحب المطلق الذي لا ينتظر الجزاء، ولا يخاف العقاب، أو الثقة
المطلقة التي لا يعروها شك ولا يساورها ارتياب.
وقد حدثوا أن أحد العارفين اجتاز يومًا في بعض سياحته براهب في صومعة على رأس تل فوقف
بإزائه فناداه فأخرج الراهب رأسه من صومعته وجرت بينهما المحاورة الآتية:
الراهب
:
من هذا؟
الصوفي
:
رجل من أبناء جنسك الآدميين.
الراهب
:
وما الذي تريد؟
الصوفي
:
كيف الطريق إلى الله؟
الراهب
:
في خلاف الهوى.
الصوفي
:
فما خير الزاد؟
الراهب
:
خير الزاد التقوى.
الصوفي
:
لم تباعدت عن الناس وتحصنت في هذه الصومعة؟
الراهب
:
مخافة على قلبي من فتنتهم، وحذرًا على عقلي من الحيرة من سوء
عشرتهم، فطلبت راحة نفسي من مقاساة مداراتهم، وقبيح أفعالهم، وجعلت معاملتي مع
ربي فاسترحت منهم.
الصوفي
:
أخبرني كيف وجدتهم؟
الراهب
:
أسوأ قوم وشر أصحاب ففارقتهم.
الصوفي
:
كيف وجدتم يا أتباع المسيح معاملتكم مع ربكم؟
الراهب
بعد تردد
:
أسوأ معاملة.
الصوفي
:
وكيف ذلك؟
الراهب
:
لأنه أمرنا بكد الأبدان، وجهد النفوس، وصيام النهار وقيام
الليل، وترك الشهوات المركوزة في الجِبِلة، ومخالفة الهوى الغالب، ومجاهدة
العدو المتسلط، والرضا بخشونة العيش، والصبر على الشدائد والبلوى ومع هذه كلها
جعل الأجر نسيئة في الآخرة بعد الموت مع بعد الطريق والحيرة. فهذه حالنا في
معاملتنا مع ربنا. فخبرني عنكم، يا معشر أتباع أحمد، كيف وجدتم معاملتكم مع
ربكم؟
الصوفي
:
خير معاملة.
الراهب
:
صفها لي.
الصوفي
:
إنه أعطانا سلفًا كثيرة قبل العمل ومواهب جزيلة لا تحصى فنون
أنواعها من النعم والإحسان والإفضال قبل المعاملة: فنحن ليلنا ونهارنا تتقلب في
أنواع من نعمه، وفنون من آلائه، ما بين سالف معتاد، وآنف مستفاد، وخالف
منقاد.
الراهب
:
كيف خصصتم بهذه المعاملة دون غيركم والرب واحد؟
الصوفي
:
أما النعمة والإحسان والإفضال فعموم للجميع، قد عمتنا٥٢ كلنا، ولكن نحن خصصنا بحسن الاعتقاد وصحة الرأي والإقرار بالحق
والإيمان والتسليم، فوفقنا لمعرفة الحقائق لما أعطينا بالانقياد والإيمان
والتسليم وصدق المعاملة من محاسبة النفس وملازمة الطريق، وتفقد تصاريف الأحوال
الطارئة من الغيب ومراعاة القلب بما يرد عليه من الخواطر والوحي والإلهام ساعة
بساعة.
الراهب
:
زدني في البيان.
الصوفي
:
نعم، اسمع ما أقوله وافهمه واعقل ما تفهم، إن الله جل ثناؤه خلق
الإنسان خلقًا سويًا، بنية صحيحة تامة وقامة منتصبة وحواس سالمة، ثم رباه
وأنشأه وأنماه بفنون من لطفه وغرائب من حكمته إلى أن بلغ أشده واستوى، ثم آتاه
حكمًا وعملًا، وقلبًا ذكيًا، وسمعًا دقيقًا، وبصرًا حادًا، ولسانًا ناطقًا،
وعقلًا صحيحًا، وفهمًا جيدًا، ومشيئة واختيارًا، وجوارح طائعة، ثم علمه الفصاحة
والبيان، والصناعة والزراعة والتجارة، والتصرف في المعاش وطلب العز والسلطان
والأمر والرياسة والتدبير والسياسة وسخر له ما في الأرض جميعًا من الحيوان
والنبات والمعادن فغدا متحكمًا عليها تحكم الأرباب، ثم أراد الله أن يزيده من
إحسانه وفضله وجوده وإنعامه شيئًا آخر أجل وأشرف، وهو ما أكرم به الله ملائكته
وخالص عباده وأهل جنته من النعيم الذي لا يشوبه نقص ولا تنغيص، وهو نعيم
الفردوس، فبعث بلطفه أنبياءه ورسله يرغبونهم في الجنة ويدلونهم على طريقها كيما
يطلبوها ويكونوا لها مستعدين قبل الورود إليها، ولكي يسهل عليهم مفارقة ما
ألفوا في الدنيا من شهواتها ولذاتها، وتخف عليهم شدائد الدنيا ومصايبها،
ويحذرونهم أيضًا التواني في طلب الجنة كيلا يفوتهم ما وعدوا به، فإنه من فاتته
فقد خسر الدنيا والآخرة وضل ضلالًا بعيدًا … فهذا رأينا واعتقادنا يا راهب في
معاملتنا مع ربنا، وبهذا الاعتقاد طاب عيشنا في الدنيا، وسهل علينا كد العبادة
فلا نحس بها، بل نرى أن ذلك نعمة وكرامة وعز وشرف، إذ جعلنا أهلًا أن نذكره،
وإذ هدى قلوبنا، وشرح صدورنا، ونور أبصارنا، لما عرفنا من كثرة إنعامه، وفنون
ألطافه وإحسانه.
الراهب
:
جزاك الله خيرًا من واعظ ما أبلغه، وطبيب رفيق ما أحذقه، وأخ
ناصح ما أشفقه.٥٣
ومن الواضح أن هذه محاورة خيالية، وليس من الضروري أن يرتاب الراهب في مصيره كل هذا
الارتياب، ولكن الشاهد يظهر بهذه المقارنة.
فمؤلف هذه المحاورة يعتقد أن المسيحية تصورها شخصية الراهب، وأن الإسلام الحق تصوره
شخصية المتصوف.
أثر المسيحية في التصوف
ولم يكن المسيح بالصورة الوحيدة التي فتنت الصوفية، فهناك عباد بني إسرائيل، وأولئك
العباد لهم كلمات وأحوال حفظها الصوفية.
وكذلك يمكن الحكم بأن التصوف هو مجموعة من الأفكار الإسلامية والنصرانية واليهودية،
أو هو الخلاصة الروحية من تلك الديانات الثلاث.
وأغلب الظن أن الصوفية لم ينطبعوا على تلك الآراء طائعين، وإنما سرت إليهم فأثرت فيهم
على غير وعي، فلما استفحل أمرهم أخذوا يجهرون بأنهم ورثة الأنبياء، وهذا القول فيه رجعة
إلى كلمة قديمة عُرفت عن بعض فلاسفة اليونان الذين قالوا بأنهم ورثة الآلهة. والأستاذ
الدكتور منصور فهمي يرجح انسياق ذلك الخيال اليوناني إلى الصوفية، وهو ترجيح تؤيده
المشابهة بين القولين واتفاقهما في المدلول.
والجيلاني يسمى العارفين رجال الغيب، وهم عنده ستة أقسام:
- القسم الأول: هم الصنف الأفضل، والقوم الكمل، هم أفراد الأولياء، المقتفون آثار
الأنبياء، غابوا عن عالم الأكوان، في الغيب المسمى بمستوى الرحمن، فلا
يعرفون ولا يوصفون، وهم آدميون.
- القسم الثاني: هم أهل المعاني، وأرواح الأواني، يتصور الولي بصورهم، فيكمل الناس في
الباطن والظاهر بخيرهم، فهم أرواح، وكأنهم أشباح، سافروا من عالم
الشهود، فوصلوا إلى فضاء غيب الوجود، فصار غيبهم شهادة، وأنفاسهم
عبادة، وهؤلاء أوتاد الأرض، القائمون لله بالسنة والفرض.
- القسم الثالث: ملائكة الإلهام والبواعث. يطرقون الأولياء، ويكلمون الأصفياء، لا
يبرزون إلى عالم الإحساس، ولا يتعرفون لعوام الناس.
- القسم الرابع: رجال المناجاة.. يتصورون للناس، في عالم الإحاس، وقد يدخل أهل
الصفاء، إلى ذلك اللواء، فيخبرونهم بالمغيبات، وينبئونهم
بالمكتمات.
- القسم الخامس: رجال البسابس، هم أهل الخطوة في العالم، وهم من أجناس بني آدم،
يظهرون للناس ثم يغيبون، ويكلمونهم فيجيبون، أكثر سكنى هؤلاء في الجبال
والقفار، والأودية وأطراف الأنهار.٥٤
- القسم السادس: يشبهون الخواطر لا الوساوس. هم المولدون من أبي الفكر وأم التصور، لا
يؤبه إلى أقوالهم، ولا يتشوق إلى أمثالهم، فهم بين الخطأ والصواب، وهم
أهل الكشف والحجاب.٥٥
وهذا الكلام يدل على أن من الصوفية من نسي التعاليم الدينية وتسامى إلى الاتصال بعالم
الأرواح، وهم لا يذكرون الأنبياء إلا اتقاء لشر الناس ولو أعطيت لهم الحرية لصرحوا بأن
ليس بينهم وبين الله وسيط. والإسلام لا يوجب وساطة بين العبد والرب، ولكنه يحتم أن نعرف
الله ونعبده في حدود ما أوصى به الأنبياء، على أن من الصوفية من فضل الولاية على النبوة
وكانت حجته أن الأنبياء يوحى إليهم بواسطة، وأن الأولياء يتلقون من الله بلا واسطة، وهو
كلام رفضه الأكثرون.
محاورة بين صوفي وراهب
وقد توغل الصوفية في الفروض فزعموا أن الرسول قال: لا يزال في هذه الأمة أربعون رجلًا
من الصالحين على ملة إبراهيم الخليل
٥٦ وزعموا أن من بين هؤلاء الأربعين أربعة هم الأبدال، وإنما سموا الأبدال
لأنهم بدلوا خلقًا بعد خلق وصفوا تصفية بعد تصفية، وذلك أن هؤلاء الأربعين منتقون — في
زعمهم — من جملة أربع مئة من الزاهدين العارفين المحققين؛ وهؤلاء الأربع مئة منتقون من
أربعة آلاف من المؤمنين التائبين المخلصين، وكلما مضى شخص من الأربعة قام في رتبته شخص
من الأربعين، وإذا مضى شخص من الأربعين قام في رتبته شخص من الأربع مئة، وإذا مضى شخص
من الأربع مئة ارتقى إلى منزلته شخص من الأربعة آلاف فبلغ مرتبته وقام مقامه، وكلما مضى
شخص من الأربعة آلاف ارتقى مكانه بدلًا منه واحد من المؤمنين التائبين المخلصين فبلغ
درجته وقام مقامه.
٥٧
ومعنى هذا أن الجمعية الصوفية تؤلف وحدة قومية، هي الصفوة المختارة من المؤمنين.
والقارئ يذكر أننا أشرنا في مقدمة الجزء الأول من هذا الكتاب إلى طائفة من اصطلاحات
الصوفية جاء فيها أن القطب وهو الغوث عبارة عن الواحد الذي هو موضع نظر الله من العالم
في كل زمان، وأن الأوتاد عبارة عن أربعة رجال منازلهم على منازل أربعة من أركان العالم،
وأن البدلاء هم سبعة، ومن سافر من القوم عن موضعه ترك جسدًا على صورته حتى لا يعرف أحد
أنه فُقد، وأن النقباء هم الذين استخرجوا خبايا النفوس وهم ثلاث مئة، وأن النجباء
أربعون، وهم المشغولون بحمل أثقال الخلق، وأن الإمامين شخصان أحدهما عن يمين الغوث
ونظره في الملكوت والآخر عن يساره ونظره في الملك، وهو أعلا من صاحبه وهو الذي يخلف
الغوث.
طبقات أهل الغيب
فمن أين جاء الصوفية بهذا النظام الغريب؟
يرى ابن خلدون أنهم نقلوه عن الشيعة «حتى أنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه
أصلًا لطريقتهم ونحلتهم رفعوه إلى علي رضي الله عنه».
٥٨
والواقع أن الصلة وثيقة بين التشيع والتصوف، فعلي هو معبود الشيعة وهو إمام الصوفية،
أليس هو الذي أشار إلى العارفين حين قال لكميل بن زياد: أولئك الأقلون عددًا، الأعظمون
عند الله قدرًا، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح حقيقة اليقين
٥٩ أليس هو الذي أثنى على الحسن البصري إمام الصوفية.
٦٠
وقد حدثوا أن الجنيد أخذ الطريقة عن خاله سري السقطي، وكان أخذها عن معروف الكرخي،
ومعروف الكرخي أخذها عن علي بن موسى الرضا.
٦١
ونحن نعرف مَن علي بن موسى الرضا، فهو من أقطاب أهل البيت. والشيعة أنفسهم يعطفون
على
الصوفية أبلغ العطف، وقد أثنى الشريف المرتضى في أماليه على الحسن البصري أطيب الثناء.
٦٢
والصوفية ينقلون فرحين ما روي عن علي أنه قال: علمني رسول الله
ﷺ سبعين بابًا
من العلم لم يعلم ذلك أحدًا غيري.
٦٣
وقد أثنى عليٌّ على عمر بن الخطاب، ونقل الطوسي ذلك الثناء وقال: ولأهل الحقائق أسوة
وتعلق بعمر رضي الله عنه، ثم ذكر أنه اختار لبس المرقعة والخشونة وترك الشهوات واجتناب
الشبهات وإظهار الكرامات وقلة المبالاة بمن لامه من الخلق عن انتصاب الحق.
٦٤
ألا ترون كيف فسر الطوسي ثناء عليّ على عمر فألبس ابن الخطاب شمائل صوفية؟
وقام رجل إلى علي بن أبي طالب فسأله عن
الإيمان فقال: الإيمان على أربع دعائم، على الصبر واليقين والعدل والجهاد، ثم
وصف الصبر على عشر مقامات، وكذلك اليقين والعدل والجهاد، فوصف كل واحد منها على
عشر مقامات.
٦٥
قال الطوسي: فإن صح ذلك عنه فهو أول من تكلم في الأحوال والمقامات.
الصلة بين التشيع والتصوف
وطبيعة الأشياء توجب أن يقترب التشيع والتصوف، فالشيعة انهزموا في ميدان السياسية،
والصوفية انهزموا في ميدان الحياة، والاشتراك في الهزيمة يقرب بين النفوس، وقد مضت في
هذا الكتاب فقرات كثيرة تبين أن المرء يتصوف حين ينهزم؛ لأنه حين يفقد سنده في عالم
المادة يذهب فيلتمس الغوث في عالم الروح.
ومما يقرب بين المذهبين أن الشيعة والصوفية يؤمنون بالأسرار، ويبحثون عن النجاة في
العوالم الغيبية، ولذلك تشابهت أوهامهم وظنونهم وأمانيهم، وتقاربت مذاهبهم المعاشية
والاجتماعية، وصرت ترى لديهم شمائل مشتركة في تناول الأشياء، وفهم الحياة والناس، حتى
أدبهم يتشابه، فتقع أمامك القطعة من الشعر فتنسبها إلى من شئت فتمضي طائعة إلى من
تضيفها إليه من الشيعة أو الصوفية … وأصدق دليل على اقتراب المذهبين أن أهل فارس هم
أكثر الناس تصوفًا بين الأمم الإسلامية، وإنما كانوا كذلك لأن التشيع ألقى رحاله
هناك.
ولو مضينا ندرس التصوف في مصر لرأينا عند الصوفية من المصريين ألفاظًا كثيرة كانت
مما
يستعمله الفاطميون. فليس من الغريب أن يحكم ابن خلدون بأن الصوفية نقلوا نظامهم عن
التشيع.
قيمة التصوف في الحياة الخلقية
لم يبق بعد هذه التفاصيل إلا أن نقول إن الصوفية يمتازون من بين رجال الأخلاق بصفة
أساسية هي التفلسف، فأولئك قوم مسلمون يأبون أن يقفوا عند حرفية النصوص فيمضون في الدرس
والتأويل، ثم يقبلون على النفس فيجعلونها محور الأخلاق.
فالمسلم يعمل في حدود الأوامر الشرعية، وينزجر في حدود الزواجر الشرعية، أما الصوفي
فيتسامى إلى إدراك المغيبات، ويحرص على فهم الدقائق الخفية في حركات الخواطر
والقلوب.
وخلاصة القول أن الصوفي يحترم الشخصية كل
الاحترام فيستفتي قلبه وإن أفتاه المفتون، وقد كان لذلك عيوب منها الإسراف في التصورات
العقلية التي انتهت إلى القول بوحدة الوجود، أو بالحلول، أو بتفضيل الأولياء على
الأنبياء. وتلك عيوب في نظر من يقيسون الأخلاق بالمقاييس الشرعية، أما الذي يقيسونها
بالمقاييس الفلسفية فيرون عند الصوفية أصولًا من إجلال الفكر وإعزاز العقل. وليس ذلك
بالفضل القليل.
أقول هذا وأنا أعرف أن ليس لي من عمل في هذا الكتاب إلا تأريخ هذا المذهب الفلسفي،
فليس من همي أن أحارب التصوف أو أن أدافع عنه فلا يظنّ قوم أني أتحزب للتصوف، وإن كان
من حقي أن أعطف عليه في حدود الاعتدال.
نظام البحث
أما خطتنا في هذه الدراسات فهي عرض المسائل الأساسية التي تتكون بها الشخصية الخلقية،
ولن نهتم بالجزئيات، لأن أمرها يطول، ويكفي أن يعرف القارئ بهذه الدراسات خطر التصوف
في
الأخلاق.
ولنقيد هنا أننا وقفنا عند المعاني، فلم نهتم بالأشخاص ولا التاريخ، وفي هذا التمهيد
ما يكفي لبيان الأطوار التي مرت بها فكرة التصوف في العهود الإسلامية.
ومن الواضح أن لنا الحق في اختيار المنهج الذي نرتضيه لنظام الكتاب ولا يطلب منا إلا
مسايرة ما ارتضيناه في أسلوب التأليف. وقد لا يكون هذا الأسلوب خير الأساليب، ولكنه يصل
بنا على خير وجه إلى تحقيق ما نريد.
هذا القسم خاص بالأخلاق، ولكن القارئ سيرانا نبتدئه بالكلام عن الأدعية والأوراد،
وفيها ملامح أدبية خليقة بأن يجعلها من القسم الأول، ولكنا رأينا بعد التأمل أن فصل
الأدعية تغلب عليه النزعة الخلقية؛ لأن فيه حديثًا عن إعداد النفس للدعاء، ولأن الأدعية
في ذاتها من وسائل الاتصال بالله، والاتصال بالله هو الغاية الخلقية عند أهل
التصوف.
ومن المؤكد أن الأوراد تمثل النظام الخلقي في حياة المريد، فوضعها في قسم الأخلاق
ليس
من الفضول.
ونعترف مخلصين، أن هذا البحث يحتاج إلى جهد أكبر مما نملك، ولكن يعزينا أن القارئ
سيذكر أن جهد المقل غير قليل.