آداب الدعاء
وقد اهتم الصوفية بشرح ما تجب ملاحظته عند الدعاء، فوضعوا لذلك عشرة آداب، وتلك الآداب العشرة تدل على فهمهم للأحوال النفسية، وبصرهم بتهيئة القلوب للدعاء.
فهم الصوفية لأحوال النفس
-
الأدب الأول: أن يترصد المؤمن لدعائه الأوقات الشريفة: كيوم عرفة من السنة، ورمضان من
الأشهر، ويوم الجمعة من الأسبوع، ووقت السحر من ساعات الليل.
ونحن لا نفهم قيمة هذا التخصيص، ولا بد من الاعتراف بأنه من التقاليد الموسمية، ولكن هذا لا يمنع من الموافقة على ما فيه من الفائدة من حيث توجيه النفس والقلب إلى أوقات يحترمها المسلمون لاتصالها بأكبر مواسم العبادات.
-
الثاني: أن يغتنم الأحوال الشريفة: فيدعو عند زحف الصفوف في سبيل الله، وعند نزول
الغيث، وعند إقامة الصلوات المكتوبة، وعند الصوم، وعند السجود.
وفي هذا رياضة على تمجيد بعض الأحوال، وخاصة زحف الصفوف في القتال المشروع.
- الثالث: أن يدعو مستقبل القبلة ويرفع يديه بحيث يرى بياض إبطيه: وقيمة هذا من الوجهة النفسية ترجع إلى الاهتمام بالدعاء، وقد تحدث عن هذا الأدب كثير من المؤلفين.
-
الرابع: خفض الصوت بين المخافتة والجهر:
وذلك ليطمئن الداعي إلى أن الله ليس بأصم ولا غائب، كما قال الرسول حين رأى ناسًا يرفعون أصواتهم بالدعاء.
السجع في الدعاء
-
الخامس: أن لا يتكلف السجع في الدعاء:
وهذا أدب جميل يراد به تربية النفس على إيثار الطبع وترك التكلف، وقد روي أن النبي أنكر السجع في الدعاء وقال: «إياكم والسجع في الدعاء، حسب أحدكم أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل» ومر بعض السلف بقاص يدعو بسجع فقال له: «أعلى الله تبالغ؟».
والمكروه هو تكلف السجع أما السجع المقبول فلا كراهة فيه، فقد أثرت عن رسول الله أدعية مسجوعة، كقوله: «أسألك الأمن يوم الوعيد، والجنة يوم الخلود، مع المقربين الشهود، والركع السجود، الموفين بالعهود، إنك رحيم ودود، وإنك تفعل ما تريد».
وأثر عن الرسول أنه قال: «سيكون قوم من هذه الأمة يعتدون في الدعاء والطهور»، وفسر ابن الأثير الاعتداء في الدعاء بالخروج عن الوضع الشرعي والسنة المأثورة، وعرض له الغزالي في موطنين باب الوضوء١ وباب الدعاء عند الكلام عن السجع، فكأنه فسر الاعتداء بالسجع، وكذلك فسر الآية ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، ولكن سياق الآية يعين أن المراد هو النهي عن رفع الصوت.ونقل النويري أن ابن عباس قال: «إياك والسجع في الدعاء، فإني شهدت النبي ﷺ وأصحابه لا يفعلون ذلك».٢وفي منظومة الاستغفار للسيد البكري:
أستغفر الله من نظم القوافي ومننثر وما قد جرى سجعًا على نسق٣وهو متأثر بما ورد من كراهة الشعر والسجع.
ولكن ذلك كله لا ينقض ما ورد من السجع في القرآن والحديث، فالمكروه هو السجع المتكلف، لا مطلق السجع. وقد فصلنا هذه القضية في الجزء الأول من كتاب (النثر الفني).
إعداد النفس لتلقي الفنحات الآلهية
- السادس: التضرع والخشوع والرغبة والرهبة.
- السابع: أن يوقن بالإجابة: وهذا أدب يراد به صدق اليقين بفضل الله عز وجل.
- الثامن: أن يلح في الدعاء ويكرره ولا يستبطئ الإجابة.
- التاسع: أن يفتتح الدعاء بذكر الله والصلاة على نبيه.
- العاشر: التوبة ورد المظالم، وهو خير آداب الدعاء.
ولهذه الآداب تفاصيل يجدها القارئ في الجزء الأول من الإحياء والجزء الخامس من نهاية الأرب، وقد اهتم الغزالي بالأدب الباطن وقال: «هو الأصل في الإجابة»، وذكر أخبارًا عن بني إسرائيل، وكيف استسقى موسى عليه السلام فلم يسق الله قومه، وأوحى إليه: «إني لا أستجيب لك ولا لمن معك وفيكم نمام».
وجملة هذه الآداب تبين كيف يحرص الصوفية على صفاء النفس، وكيف يعدونها لتلقي النفحات الإلهية، وللقارئ أن يتصور حال النفس حين تراض على هذه الآداب، فوصل النفس بالله، واستحضار فقرها إليه، ورهبتها منه ورغبتها فيه، وانتظارها لفضله في ثقة ويقين، كل أولئك من العوامل في صقل النفس، وتطهير القلب، وتربية الوجدان.
وانتظار الخير كله من الله، وتهيئة النفس لذلك باب أصيل في بناء الملكات الأخلاقية، ولا سيما إذا لاحظنا مخلصين أن الأمر كله بيد الله، وأن العبد لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا.
فمن كان في ريب فليجرب الثقة بالله مرة واحدة، وليدعه فإنه عز شأنه لا يرد الدعاء.