أغراضُ الكتابِ
أشرنا إلى أن هذا الكتاب ينقسم إلى قسمين: قسم الأدب وقسم الأخلاق، فلنتبع ذلك شيء من التفصيل فنقول:
الغرض من تأليف هذا الكتاب هو إبراز الملامح الأدبية والخلقية للنزعة الصوفية، وقد دعانا ذلك إلى البدء بالكلام عن اشتقاق التصوف؛ لأن الباحثين اختلفوا فيه اختلافًا شديدًا، وأثر عنهم فيه كثير من الآراء والأقاويل.
ثم مضينا فبينَّا نشأة الصوفي منذ كان الصوفية يسمون القراء والزهاد والنساك، وأشرنا إلى ما أثر عنهم من الكنايات والإشارات، وبسطنا القول فيما تفردوا به من الألفاظ والتعابير التي تعين مقاصدهم وهم يتحدثون عن أدواء النفوس وأحوال القلوب.
ثم رأينا أن نقف وقفة عند آثار المرحلة الأولى من التصوف وهي الزهد، فتكلمنا بالتفصيل عن شعر أبي العتاهية؛ لأن زهدياته كانت طليعة الأدب الصوفي في اللغة العربية.
وأقبلنا بعد ذلك على عرض الخصائص التي امتاز بها أدب التصوف، ودرسنا طوائف من الصور الأدبية التي جاءت في وصف الدنيا أو شرح ما عانى الأنبياء والأصفياء من مكاره الحياة.
ثم عطفنا على الأدب الصرف الذي أثر عن الصوفية، فرأيناه ينقسم إلى مجموعات نثرية ومجموعات شعرية، وساقنا ذلك إلى الكلام عن حكم ابن عطاء الله، وهي تمثل ازدهار هذا الفن من الناحية النثرية، والكلام عن المنظومات التي أثرت عن أمثال ابن عربي واليافعي والنابلسي وحسن رضوان، وقفَّينا على ذلك بالحديث عمَّا أُثِرَ عن الصوفية من طرائف الأقاصيص.
•••
وكان لا بُدَّ لنا بعد ذلك من الإقبال على صميم المذاهب الصوفية من الوجهة الذوقية؛ لأن الأخلاق العملية ليست كل شيء عند أولئك القوم، فعبادتهم في الأغلب ترجع إلى قوة التأمل وطهارة الوجدان، وقد رأينا مذاهبهم في جوهرها ترجع إلى شُعَبٍ ثلاث: الأولى عاطفة الحب الإلهي، والثانية نظرية وحدة الوجود، والثالثة حب الرسول.
أما الحب الإلهي فقد عقدنا له فصلين، تكلمنا في الفصل الأول عن نشأة هذا الفن في اللغة العربية، وتكلمنا في الفصل الثاني عن أشواق ابن الفارض.
وإنما اهتممنا بالحب الإلهي؛ لأنه يمثل السموَّ في أذواق الصوفية؛ إذ كانوا يتشهون الفناء في الله، ويرون الأنس به أشرف الأغراض.
وللصوفية في هذا التسامي منطق طريف، فهم يرون أتباع الشرع طُلَّابَ جناتٍ ونعيم، أما هم فيرون أنفسهم عُشَّاقًا لرب الجنة، وشتان بين من يصافي المالك ومن يتعلق بالمملوك.
وهيام الصوفية بالحب الإلهي حولهم إلى أقباس روحية وذوقية، وجعل حياتهم أوتارًا دِقاقًا تصدح بأعذب الألحان في عالم الأرواح والأذواق.
وتظهر أهمية هذه العاطفة السامية حين ننظر أثرها في الأدب، ونتعرف ما تركت من أقباس الحنان، وقد وقف الصوفية في التعبير عنها موقفين مختلفين: موقف المنشئين وموقف المنشدين. أما المنشئون فهم الأدباء الكبار الذين استطاعوا قرض الشعر في التشوق إلى الذات الإلهية، وأما المنشدون فهم الذين عجزوا عن النظم، ولكن لم يعجزوا عن تحويل الأشياء الحسية إلى معان روحية، فكان شعراء النسيب ملاذهم حين يغنون.
وقد رأينا كيف يختلف حال البيت الواحد في موطنين: فله في كتب الصوفية نفحات لا نجدها حين نعثر عليه في كتب العشاق.
وإنما كان ذلك كذلك لأن الصوفية يضفون على الأشعار الحسية أثوابًا من الذوق والروح حين ينقلونها من عالم الأرض إلى عالم السماء.
•••
وعن الحب الإلهي تنشأن نظرية وحدة الوجود، فالصوفية لم يكفهم أن يكون لهم وجود ذاتي يمتاز عن وجود الناس، ولم يكفهم أن يعرفوا بالشوق إلى ذات الديان، وإنما وثب فريق منهم فادَّعوا أنهم جزء موصول بحقيقة أزلية هي حقيقة واجب الوجود.
فالفريق الذي يحب الله كان يتشرف بنسبة العاشق إلى المعشوق، أما الفريق الثاني فلا يرى عاشقًا ومعشوقًا، وإنما يرى شوقًا يتمثل في حنين الجزء إلى الكل، وهي وثبة جريئة في عالم المعقول.
وهذه النظرية لها مكان في هذا الكتاب، وكان يمكن أن يفرد لها بحث خاص، ولكننا اكتفينا بما أوردناه في درسها وشرحها ونقدها عند الكلام عن ابن عربي؛ لأنه أشهر من دافعوا عن هذه النظرية؛ ولأن درسها في أثناء الحديث عنه يهيئ لها جوًّا قد لا نستطيع تهيئته حين نفردها بالحديث.
ويحسن أن ننبه إلى أن هذه النظرية شغلت كثيرًا من الصوفية، وشطرتهم شطرين: شطرًا يؤثر الرفض، وشطرًا يؤثر القبول. وكان لمعتنقيها ضحايا أشهرهم الحلاج.
ولكن لا بد من الاعتراف بأن التصوف في جملته يرجع إلى هذه النظرية؛ إذ كان الصوفي الحق لا يهمه إلا الفناء في الله، فإن لم يكن فناء الجزء في الكل فهو فناء العاشق في المعشوق، وربما كان تهيبهم من إعلان هذه النظرية نوعًا من التقية وإيثار السلامة من مكايد الناس.
والذي يتأمل آراء الصوفية في مختلف الشئون يراهم لا يقيمون وزنًا للظواهر، وإغفال الظواهر لا يستقيم إلا لمن يؤمن إيمانًا جازمًا بأن هناك حقيقة علوية خليقة بأن تشغله عمن سواها من كل موجود.
وكان من همنا في هذا الكتاب أن نبين أثر هذه النظرية في المعاني الأدبية والذوقية، وقد وصلنا من ذلك إلى بعض ما نريد.
•••
وعن نظرية وحدة الوجود ينشأ حب الرسول الذي أبدع في اللغة العربية فنًّا جديدًا هو فن المدائح النبوية.
وإنما نشأ حب الرسول عن وحدة الوجود؛ لأن من قالوا بهذه النظرية قرروا أن محمدًا عليه السلام هو أول مظهر للذات الأحدية، وأنه خاتم النبيين، وأول الأولين، وآخر الآخرين، وأنه البرزخ بين الذات الأحدية وسائر الموجودات.
وقد نظرنا فيما ترك حب الرسول من الآثار النثرية والشعرية، وسيراه القارئ فيما بعد، فليكن هذا الإجمال في انتظار ذلك التفصيل.
•••
ثم رأينا أن نبين كيف نستفيد من كتب التصوف في الدراسات الأدبية فقررنا أنها سجل لصور المجتمع الإسلامي وحياة اللهجات، وساقنا ذلك إلى اتخاذ مؤلفات الشعراني وثيقة صورنا بها المجتمع المصري في القرن العاشر، راجين أن تتاح الفرصة لدرس سائر المجتمعات الإسلامية وفقًا للصور الباقية في كتب الصوفية.
وساقتنا الحماسة إلى كتابة فصل أكملنا به القسم الأول، وهو فصل تحدثنا فيه عن أثر التصوف في الفنون، والصلة بين الأدب والفن لا تحتاج إلى من يقيم عليها الدليل.
•••
أما القسم الثاني فقد ابتدأناه بدرس مفصل عن نشأة التصوف في الأخلاق، ثم مضينا فتكلمنا عن الأدعية والأوراد والاستغاثات والأحزاب والمقامات والأحوال والتجريد والأسباب وآداب الزواج والطعام والصيام والسماع، وما إلى ذلك مما يمثل مذاهب الصوفية في الحياة الاجتماعية والمعاشية والذوقية.
وختمنا الكتاب بدرس آداب المريدين كما يراها الشعراني؛ لأنه في نظرنا من كبار الباحثين في الآداب العملية؛ ولأن آراءه لا تزال تسيطر على الجماهير من أهل هذه البلاد.
•••
ولا بد من النص مرة ثانية على أنه كان من الصعب أن نفصل بين مظاهر الأدب والأخلاق فصلًا تامًّا في فصول هذا الكتاب، فكل نص أدبي يحمل في سطوره معاني أخلاقية، وكل حكمة خلقية أو ذوقية تحمل في ثناياها صورة أدبية، ومن أجل ذلك قاسيت ضروبًا من العناء في ربط فصول هذا الكتاب بعضها ببعض، ولم أصل إلى نظامه الحاضر إلا بعد جهد عنيف.
ولو كان هذا الكتاب في تاريخ التصوف لكان المنهج أوضح وأسهل، ولو كان في شرح المذاهب الصوفية لما لاقينا في نظامه كثيرًا من العناء، ولكنه وقع في موضوع كانت طرافته كالأزهار تحميها الأشواك، فتعبنا وأتعبنا، ولولا الصبر لأعيتنا وعورة الطريق «وكلما عظم المطلوب وشرف صعب مسلكه، وطال طريقه، وكثرت عقباته» كما قال الغزالي طيب الله ثراه.
وسبحان من لو شاء لجزانا بفضله وكرمه، وأسبغ على عملنا حلة القبول.