أدعية زين العابدين
زين العابدين هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكانت ولادته يوم الجمعة في بعض
شهور
سنة ثمان وثلاثين، وتوفي سنة أربع وتسعين، وقيل اثنين وتسعين بالمدينة ودفن
بالبقيع.
١
وكان يقال لزين العابدين ابن الخيرتين؛ لقول الرسول: لله تعالى من عباده خيرتان،
فخيرته
من العرب قريش ومن العجم فارس.
٢
وذلك أن زين العابدين قرشي الأب فارسي الأم فأمه سلافة بنت يزدجرد آخر ملوك
فارس.
٣
وكان كثير البر بأمه حتى قيل له: إنك أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صفحة.
فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما تسبق إليه عينها فأكون قد عققتها.
٤
وكان كبير البر بالمعوزين، البر الجميل الذي لا يطلع عليه الناس، وقد أحصى بعد موته
عدد
من كان يقوتهم سرًا فإذا هم نحو مئة بيت. قال محمد ابن إسحاق: كان ناس من أهل المدينة
يعيشون لا يدرون من أين معايشهم ومآكلهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون
به
ليلًا إلى منازلهم.
٥
وهذه شمائل لا تستكثر على أهل البيت الذين بعث جدهم ليتمم مكارم الأخلاق.
عاش زين العابدين في عصر كان يموج بالفتن والمكاره
والحتوف، في العصر الذي كان يسعى فيه الأمويون لاستئصال شأفة أهل البيت، ولذلك تفاصيل
شرحناها في كتاب «المدائح النبوية» وبينا أثرها في نهضة الشعر السياسي لعهد بني أمية.
وقد
بقيت تلك المكاره مرسومة في خيال زين العابدين حتى صح له أن يدعو على أهل الشام فيقول:
اللهم وقد شملنا زيغ الفتن، واستولت علينا عشوة الحيرة، وقارعنا الذل والصغار،
وحكم في عبادك غير المأمونين على دينك، فابتز أموال آل محمد من نقض حكمك، وسعى في
تلف عبادك المؤمنين، فجعل فيئنا مغنمًا وأمانتنا ميراثًا، واشتريت الملاهي والمعازف
والكبارات بسهم الأرملة واليتيم والمسكين فرتع في مالك من لا يرعى لك حرمة، وحكم في
أبشار المسلمين أهل الذمة، فلا ذائد يذودهم عن هلكة، ولا راحم ينظر إليهم بعين
الرحمة … اللهم وقد استحصد زرع الباطل وبلغ نُهيته واستحكم عموده … إلخ.
٦
والمراد بأهل الشام هم الحاكمون من بني أمية الذين استطرد في الدعاء عليهم فقال:
اللهم ولا تدع للجور دعامة إلا قصمتها، ولا
جنة إلا هتكتها، ولا كلمة مجتمعة إلا فرقتها، ولا قائمة إلا خفضتها، ولا راية إلا
نكستها وحططتها ولا علوا إلا أسفلته، ولا خضراء إلا أبدتها، اللهم وكور شمسه، وأطفئ
نوره، وأم بالحق رأسه،
٧ وفض جيوشه، وأرعب قلوب أهله، وأرنا أنصار الجور عباديد بعد الألفة،
٨ وشتى بعد اجتماع الكلمة، ومقمومي الرءوس بعد الظهور على الأمة.
٩
وقد أكثر من الدعاء على من خاصموه وحاربوه فدعا على حرملة بن كاهلة وعبيد الله بن
زياد
وضمرة بن معبد وعبد الملك بن مروان.
ومراجعة تلك الأدعية تصور بعض جوانب المجتمع في ذلك الحين.
وكان له دعاء خاص بساعته، وبيان ذلك أن في السالفين من اقترض أن النهار قُسم إلى
اثنتي
عشرة ساعة لينسجم مع عدد الأئمة الاثني عشر، وزين العابدين هو الرابع بين أولئك الأئمة
فساعته من النهار هي الرابعة، وهي من ارتفاع النهار إلى وقت الزوال.
١٠
وأهم ما ينبغي النص عليه في هذا المقام هو الأدعية الإنجيلية، أو المناجاة الإنجيلية،
وهي
أكبر مناجاة ظهرت من فيض الله على لسان زين العابدين.
١١
وسميت هذه المناجاة بالإنجيلية لأن فقراتها تشبه أكثر فقرات الإنجيل النازل على عيسى
عليه
السلام لا الإنجيل المتداول بين النصارى الآن.
١٢
وهنا بيت القصيد، فقد أشرنا مرات كثيرة إلى أن الصوفية كانوا يرون المسيح قدوة في
الشؤون
الروحية.
والواقع أن المسلمين عرفوا الإنجيل منذ زمن بعيد، وقد ترجموه ترجمة فصيحة جدًا، ومن
تلك
الترجمة الفصيحة شواهد كثيرة في كتب الأدب والتصوف كالذي نراه في كتاب عيون الأخبار لابن
قتيبة، وكتاب الإحياء للغزالي.
والتشابه كبير جدًا بين مذاهب النصارى ومذاهب الصوفية في التعبد، فالنصراني المتبتل
يدخل
الكنيسة وفي جيبه كتاب يشمل على طوائف من الأدعية والصلوات، والصوفي المخلص يدخل المسجد
وفي
يده كتاب يشمل على طوائف من الاستغاثات والأحزاب والأوراد.
وكتاب الصحيفة السجادية يشبه من نواح كثيرة كتاب الاقتداء بالمسيح والفرق الوحيد بين
الكتابين أن الدعاء في كتبا الاقتداء بالمسيح يوجه إلى عيسى، والدعاء في الصحيفة السجادية
يوجه إلى الله، ويتم التشابه حين نعرف أن النصارى يرون عيسى صورة الله.
والصحائف السجادية عند الشيعة تقابل مجموع الأوراد عند أهل السنة، والمخاطب واحد وهو
الله
واجب الوجود.
وقد اهتم النصارى بكتاب الاقتداء
بالمسيح Imitation de Jesus Christ فنقلوه من اللاتينية إلى الفرنسية نحو أربعين مرة، وكتبوه بالذهب
في كثير من الأحيان.
وأدعية زين العابدين كانت مما اهتم به الشيعة اهتمامًا شديدًا، فصححوا رواياتها ونقدوها
وكتبوها بالذهب في كثير من البلاد.
والمناجاة الإنجيلية تفيض بالمعاني الروحية، ولننظر كيف يقول زين العابدين:
اللهم لك قلبي ولساني، وبك نجاتي وأماني، وأنت العالم بسري وإعلاني فأمت قلبي عن
البغضاء، وأصمت لساني عن الفحشاء، وأخلص سريرتي وعلانيتي عن علائق الأهواء، واكفني
بأمانك عواقب الضراء، واجعل سري معقودًا على مراقبتك، وإعلاني موافقًا لطاعتك. وهب
لي جسمًا روحانيًا وقلبًا سماويًا، وهمة متصلة بك، ويقينًا صادقًا في حبك.
١٣
وكيف يقول: «اللهم ارحم من اكتنفته سيئاته، وأحاطب به خطيئاته، وحفَّت به جناياته.
بعفوك
ارحم من ليس له من عمله شافع، ولا يمنعه من عذابك مانع».
١٤
ولزين العابدين أدعية تلين الجلاميد، كأن يقول:
سيدي، حق لمن دعاك بالندم تذللًا أن تجيبه بالكرم تفضلًا، سيدي، أمن أهل الشقاء
خلقتني فأطيل بكائي، أم من أهل السعادة خلقتني فأبشر رجائي؟
سيدي، ألضرب المقامع خلقت أعضائي، أم لشرب الحميم خلقت أمعائي؟ سيدي، لو أن عبدًا
استطاع الهرب من مولاه لكنت أول الهاربين منك، لكني أعلم أني لا أفوتك.
سيدي، لو أن عذابي يزيد في ملكك لسألتك الصبر عليه، غير أني أعلم أنه لا يزيد في
ملكك طاعة المطيعين، ولا ينقص منه معصية العاصين.
سيدي، ما أنا وما خطري؟ هب لي خطاياي بفضلك، وجللني بسترك، واعف عن توبيخي بكرم
وجهك.
إلهي وسيدي، ارحمني مطروحًا على الفراش تقلبني أيدي أحبتي، وارحمني مطروحًا على
المغتسل يغسلني صالح جيرتي، وارحمني محمولًا قد تناول الأقرباء أطراف جنازتي، وارحم
في ذلك البيت المظلم وحشتي وغربتي ووحدتي، فما للعبد من يرحمه إلا مولاه.
١٥
وزين العابدين يجعل الأيام والشهور مواسم روحية، فله أدعية لأيام الأسبوع، ودعاء
ليوم
عرفة ودعاء لأول يوم رجب، وأدعية لأيام رمضان. وأول شهور السنة الهجرية عنده هو شهر رمضان.
١٦
ولا تخلو أدعيته على كثرتها من فصاحة التعبير، وقوة الروح.
والصوفية يعتقدون أن زين العابدين كان من أهل الأسرار، ويروون أنه قال:
يا رب جوهر علم لو أبوح به
لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي
يرون أقبح ما يأتونه حسنا
إني لأكتم من علمي جواهره
كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
١٧
ومعنى ذلك أنه كان يفرق بين ما يُلقى على العوام وما يُلقى على الخواص.