أدعية التوحيدي
فهو يذكر الخوارزمي باسمه وكنيته ويصفه بالشاعر البليغ، وفي هذا إشارة إلى عطفه عليه بسبب الروح الذي تنسمه في هذا الدعاء.
فهو يمجد التصوف ولا يمقت إلا الأدعياء.
اللهم خذ بأيدينا فقد عثرنا، واستر علينا فقد أعورنا، وارزقنا الألفة التي بها تصلح القلوب وتنقى الجيوب، حتى نعيش في هذه الدار مصطلحين على الخير مؤثرين للتقوى عاملين بشرائط الدين، آخذين بأطراف المروءة، آنفين من ملابسة ما يقدح في ذات البين، متزودين للعاقبة التي لا بد من الشخوص إليها، ولا محيد من الاطلاع عليها، إنك تؤتي من تشاء ما تشاء.
وقد يقال إن أكثر المؤلفين يبتدئون مؤلفاتهم بالدعاء. ونجيب بأن هنا نفحة صوفية لا نجد مثلها فيما دعا به الجاحظ في فاتحة «البيان والتبيين».
اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الطلب إلا منك، ومن الرضا إلا عنك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الصبر إلا على بلائك، وأسألك أن تجعل الإخلاص قرين عقيدتي، والشكر على نعمك شعاري ودثاري، والنظر إلى ملكوتك دأبي وديدني، والانقياد لك شأني وشغلي، والخوف منك أمني وإيماني، واللياذ بذكرك بهجتي وسروري. اللهم تتابع برك واتصل خيرك، وعظم رفدك، وتناهى إحسانك، وصدق وعدك، وبر قسمك، وعمت فواضلك، وتمت نوافلك، ولم تبق حاجة إلا وقد قضيتها أو تكفلت بقضائها، فاختم ذلك كله بالرضا والمغفرة، إنك أهل ذلك والقادر عليه.
والقارئ مرجو أن ينظر براعة هذا الكاتب في تلوين الفواصل مع حروف الخفض في صدر هذا الدعاء، وما اتسق له بعد ذلك من المقابلة والازدواج.
اللهم إني أسألك خفايا لطفك، وفواتح توفيقك ومألوف برك، وعوائد إحسانك، وجاه المجتبين من ملائكتك، ومنزلة المصطفين من رسلك ومكاثرة الأولياء من خلقك، وعاقبة المتقين من عبادك، وأسألك القناعة برزقك، والرضا بحكمك، والنزاهة عن محظورك، والورع في شبهاتك، والقيام بحجتك، والاعتبار بما أبديت، والتسليم لما أخفيت، والإقبال على ما أمرت، والوقوف عما زجرت، حتى أتخذ الحق حجة عندما خف وثقل، والصدق سنة فيما عسر وسهل، وحتى أرى أن شعار الزهد أعز شعار، ومنظر الباطل أشوه منظر، فأتبختر في ملكوتك فضفاض الرداء بالدعاء إليك، وأبلغ الغاية القصوى بين خلقك بالثناء عليك.
وفي هذا الدعاء فنون من البديع لا تخفى على القارئ، وموضوعه يخالف موضوع الدعاء السالف.
وهذا الدعاء على جانب عظيم من الأهمية، وفي صدره بعض الضعف، ولكن الشطر الأخير غاية في القوة، وهو يمثل كثيرًا من المعاني النفسية كالبطر عند الغنى، والضجر عند الفقر، والغفلة عند الكفاية، والفسولة عند الراحة، والطغيان عند المنازلة، والاعتراض عند البحث.
ولا مفر من الثناء على هذه الفقرة إذ يخاطب الكاتب ربه فيقول: «إنه لا عز إلا في الذل لك، ولا غنى إلا في الفقر إليك، ولا أمن إلا في الخوف منك، ولا قرار إلا في القلق نحوك، ولا روح إلا في الكرب لوجهك، ولا ثقة إلا في تهمة خلقك».
والكلمة الأخيرة من وثبات الخيال.
اللهم ببرهانك الصادع، وبنور وجهك الساطع، صل على محمد نبيك نبي الرحمة، وقائد الأمة، وإمام الأئمة، واحرس علي إيماني بك بالتسليم لك، وخفف عني مؤونة الصبر على امتحانك، وواصل لي أسباب المزيد عند الشكر على نعمتك، واجعل بقية عمري في غنى عن خلقك، ورضا بالمقدم من رزقك. اللهم إنك إن آخذتنا بذنوبنا خسفت الأرض بنا، وإن جازيتنا على ظلمنا قطعت دوابرنا، فإنك قلت: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِي اللهم إليك نشكو قسوة قلوبنا، وغل صدورنا، وفتنة أنفسنا، وطموح أبصارنا، ورفث ألسنتنا، وسخف أحلامنا، وسوء أعمالنا، وفحش لجاجنا، وقبح دعوانا، ونتن أشرارنا، وخبث أخيارنا، وتلزق ظاهرنا، وتمزق باطننا. اللهم فارحمنا، وارأف بنا، واعطف علينا، وأحسن إلينا، وتجاوز عنا، واقبل الميسور منا؛ فإننا أهل عقوبة وأنت أهل مغفرة، وأنت بما وصفت به نفسك أحق منا بما وسمنا به أنفسنا، فإن في ذلك ما اقترن بكرمك، وأدى إلى عفوك … الخ.
ومن دقيق ما فيه الإشارة إلى قبح الدعوى، وفحش اللجاج، والنص على نتن الأشرار وخبث الأخيار، فهو يرى أن في الأخيار خبثًا، وذلك من جانبه إسراف في اتهام الطبيعة الإنسانية، إلا إن قدرنا أنه يشير إلى أن الأخبار لا غنى لهم عن التحرز والخوف من سوء الخواتم.
«اللهم احجز بيننا وبين كل ما دل على غيرك ببيانك، ودعا إلى سواك ببرهانك».
«اللهم قيض لنا فَرَجًا من عندك، وأتِح لنا مخلصًا إليك، فأنا قد تعبنا بخلقك وعجزنا عن تقويمهم لك، ونحن إلى مقاربتهم في مخالفتك أقرب منا إلى منابذتهم في موافقتك».
«اللهم إليك المفر من دار منهومها لا يشبع، وحائمها لا ينقع، وطالبها لا يربع، وواجدها لا يقنع … اللهم كما ابتليت بحكمتك الخفية التي أشكلت على العقول وحارت معها البصائر فعاف برحمتك اللطيفة التي تطاولت إليها الأعناق، وتشوفت نحوها السرائر».
اللهم إنا نسألك ما نسأل لا عن ثقة ببياض وجوهنا عندك، وأفعالنا معك، وسوالف إحساننا قبلك، ولكن عن ثقة بكرمك الفائض، وطمعًا في رحمتك الواسعة، نعم، وعن توحيد لا يشوبه إشراك، ومعرفة لا يخالطها إنكار، وإن كانت أعمارنا قاصرة عن غايات حقائق التوحيد والمعرفة، نسألك أن لا ترد علينا هذه الثقة بك فتشمت بنا من لم تكن له هذه الوسيلة إليك.
حرام على قلب استنار بنور الله أن يفكر في غير عظمة الله.
حرام على لسان تعود ذكر الله أن يذكر غير الله.
حرام على نفس طهرت من أدناس الدنيا بطاعة الله أن تدنس بشيء من مخالفة الله.
حرام على عين نظرت إلى مملكة الله أن تحدق إلى غير الله.
حرام على كبد ابتلت بالثقة بالله أن تطمئن إلى غير الله.
حرام على من لم ير الخير إلا من الله أن يجد طمعًا في غير الله.
حرام على من شرف بخدمة الله أن يتضع بخدمة غير الله.
حرام على من ألف فناء الله أن يعرج إلى غير الله.
حرام على من تلذذ بمناجاة الله أن يناجي غير الله.
حرام على من رتع في نعمة الله أن يعبد غير الله.
حرام على من سكن حرم الله أن يتعرض لحرم الله.
حرام على من دعا إلى الله أن يحب غير الله.
حرام على عبد الله أن يتخذ مولى سوى الله.
حرام على من أنس بالله أن يأنس بغير الله.
حرام على من عرف قدرة الله أن يتعرض لسخط الله.
وهذه قطعة طريفة تفيض بقوة الروح.
والشاهد من كل ما سلف أن التوحيدي يرى الدعاء من الفنون الأدبية فهو يكتب الأدعية كتابة الأديب الفنان، ويقصد إلى جعلها من النماذج البارعة في عالم البيان.
فمن أين جاءته هذه النزعة؟ أترون هذا الفن من مبتكراته؟ هيهات! لقد كان الرجل يزاحم ناسًا ملأت أدعيتهم آفاق الأندية الأدبية، وهؤلاء الناس هم الزهاد والنساك والصوفية، وكان لنصائحهم ووصاياهم وأدعيتهم مكان مرموق في عالم الآداب.
إن الفن الأدبي لا يزدهر إلا حين يجد نفسًا تصبو إليه وتتشهاه، وكان التوحيدي سُبق بأجيال عرفت فضل البلاغة في كلام النساك، وكان الجاحظ قدوة التوحيدي، والجاحظ كان يحرص على تعطير كتبه برواية أقوال النساك والزهاد، فليس غريبًا أن يعمد التوحيدي إلى ذلك الفن من البلاغة الدينية فيحتذيه احتذاء يدل على ذكاء القلب، وصفاء النفس، وحياة الوجدان.
فإن سأل القارئ: وأين مظاهر هذا الفن في العصر الحديث؟ فإنا نجيب بأنه انقرض ولم تبق إلا روايته وإنشاده في مجالس الصوفية، وربما رأينا من أهل التصوف في مصر من ينظم الأدعية ولكنهم يتكلفون متابعة القدماء. والصفاء في خواطرهم قليل. وأين الطرف المكحول من الطرف الكحيل!