الاستغاثات والأحزاب
رأينا نماذج من الأدعية والأوراد، وعرفنا أن لذلك صلة وثيقة بالحياة الخلقية، ورأى القارئ كيف آثرنا الإيجاز على الإطناب؛ لأن الإشارة تكفي في هذا الباب، ولأن الأطناب نفسه لا يطفئ الشوق إلى المزيد، فليرجع القارئ إلى كتب التصوف؛ ففيها أوراد تجل عن الإحصاء، وحسبه أن يعرف أن لتلك الأوراد ملامح أدبية وخلقية: فهي باب من الأدب؛ لأن مؤلفيها كانوا يتحرون دقة الأسلوب وروعة الخيال، وهي من صميم الأخلاق؛ لأنها رياضة على التقرب إلى الله، والانقطاع إليه، والفناء فيما يريد.
ولنأخذ الآن في الحديث عن الاستغاثات والأحزاب، ولنوجز أيضًا لأنه يتعذر توفية هذا النوع ما يستحق من الدرس في فصل من كتاب.
استغاثة السهيلي
ولنقف في الاستغاثات عند منظومة السهيلي المتوفى سنة ٥٨١ وكان يحدث أصحابه بأنه ما سأل الله بها إلا أعطاه
ولا تزال هذه الاستغاثة مما يتوسل به الصوفية وقد أثبتها مؤلفو مجموع الأوراد وأضافوا إليها هذا البيت في الصلاة على الرسول:
واهتم بتخميسها ثلاثة من أهل الفضل، وتخاميسهم محفوظة بدار الكتب المصرية.
الفرق بين الأحزاب والأوراد
أما الأحزاب فكثيرة جدًا، والفرق بين الورد والحزب: أن الورد يقرأ في أوقات منظمة فيقال أوراد النهار وأوراد الليل، أما الحزب فليس لقراءته وقت مخصوص، وسنكتفي في هذا الفصل بالكلام عن حزب البر لأبي الحسن الشاذلي. وهو في رأينا أفضل الأحزاب من حيث اللفظ والمعنى، فهو في لفظه تحفة فنية قليلة النظائر، وهو في معناه قوة روحية وعقلية نادرة المثال.
تحليل حزب البر للشاذلي
اللهم إنك تعلم أني بالجهالة معروف، وأنت بالعلم موصوف، وقد وسعت كل شيء من جهالتي بعلمك، فسع ذلك برحمتك كما وسعته بعلمك.
اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك، فهنيئًا لمن عرفك فرضي بقضائك، والويل لمن لا يعرفك، بل الويل ثم الويل لمن أقر بوحدانيتك، ولم يرض بأحكامك.
اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا، وحكمت عليهم بالفقد حتى وجدوا، فكل عز يمنع دونك فنسألك بدله ذلًا تصحبه لطائف رحمتك، وكل وجد يحجب عنك فنسألك عوضه فقدًا تصحبه أنوار محبتك.
اللهم إنا قد عجزنا عن دفع الضر عن أنفسنا من حيث نعلم بما نعلم فكيف لا نعجز عن ذلك من حيث لا نعلم بما لا نعلم.
وهذه الفقرة من خير ما أنتجت القرائح، ولا يفنى ما فيها من قوة المعنى وطراقة الخيال.
وقد أمرتنا ونهيتنا، والمدح والذم ألزمتنا، فأخو الصلاح من أصلحته، وأخو الفساد من أضللته، والسعيد حقًا من أغنيته عن السؤال منك، والشقي حقًا من حرمته مع كثرة السؤال لك، فأغننا بفضلك عن سؤالنا منك، ولا تحرمنا من رحمتك مع كثرة سؤالنا لك، إنك على كل شيء قدير.
يا شديد البطش يا جبار يا قهار يا حكيم نعوذ بك من شر ما خلقت، ونعوذ بك من ظلمة ما أبدعت، ونعوذ بك من كيد النفوس فيما قدرت وأردت، ونعوذ بك من شر الحساد على ما أنعمت، ونسألك عز الدنيا والآخرة كما سألكه نبيك سيدنا محمد ﷺ، عز الدنيا بالإيمان والمعرفة، وعز الآخرة باللقاء والمشاهدة، إنك سميع قريب مجيب.
والمؤلف يكشف في هذه الفقرة عن معان نفسية تمثل الخوف من مكنونات الوجود والفزع من شر الناس، ويفصح عن أمله في عز الدنيا والآخرة، فعز الدنيا هو المعرفة والإيمان، وعز الآخرة هو المشاهدة واللقاء. أما المال هنا والنعيم هناك فليس له حساب، والمؤمن المتصوف لا يفكر في النعيم المحسوس، وإنما يوجه رغائبه إلى النعيم المعقول.
يا سميع يا قريب يا مجيب يا ودود. حل بيننا وبين فتنة الدنيا والنساء والغفلة والشهوة وظلم العباد وسوء الخلق، واغفر لنا ذنوبنا، واقض عنا تبعاتنا، واكشف عنا السوء، ونجِّنا من الغم، واجعل لنا منه مخرجًا، إنك على كل شيء قدير.
وزحزحنا في الدنيا عن نار الشهوة، وأدخلنا بفضلك في ميادين الرحمة، واكسنا من لدنك جلابيب العصمة، واجعل لنا ظهيرًا من عقولنا، ومهيمنًا من أرواحنا، ومسخرًا من أنفسنا؛ كي نسبحك كثيرًا، ونذكرك كثيرًا، إنك كنت بنا بصيرًا.
والمهم في هذه الفقرة هو الرجاء في أن يجعل الله لنا ظهيرًا من العقول، ومهيمنًا من الأرواح، ومسخرًا من النفوس.
ثم يقول: «واذكرنا إذا غفلنا عنك بأحسن ما تذكرنا به إذا ذكرناك، وارحمنا إذا عصيناك بأتم ما ترحمنا به إذا أطعناك. واغفر لنا ذنوبنا ما تقدم منها وما تأخر، والطف بنا لطفًا يحجبنا عن غيرك ولا يحجبنا عنك، إنك بكل شيء عليم».
وصدر هذه الفقرة في غاية من الحسن عند من يتأملون.
ولننظر قوله في الخوف من النفس ومن خطرات المعصية: «اللهم إنا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها، وذكِّرنا بالخوف منك قبل هجوم خطراتها، واحملنا على النجاة منها ومن التفكر في طرائقها، وامح من قلوبنا حلاوة ما اجتنيناه منها، واستبدلها بالكراهة لها والطعم لما هو بضدها، وأفض علينا من بحر كرمك وعفوك حتى تخرج من الدنيا على السلامة من وبالها».
والمؤلف في هذه الفقرة يصور ما تتعرض له النفس من الشوق إلى ما اجتنت من اللذات: فقد تتلفت النفس إلى لذاتها الماضية فيفسد عليها روح المتاب، وهو يرجو أن يذكره الله بالخوف منه قبل هجوم الخطرات، خطرات المعاصي والذنوب.
ثم يقول: «واجعل سيئاتنا سيئات من أحببت، ولا تجعل حسناتنا حسنات من من أبغضت، فالإحسان لا ينفع من البغض منك، والإساءة لا تضر مع الحب فيك، وقد أبهمت علينا الأمر لنرجو ونخاف: فآمنْ خوفنا، ولا تخيب رجاءنا، وأعطنا سؤلنا، فقد أعطيتنا الإيمان من قبل أن نسألك».
فهأنذا عبدك إن تعذبني بجميع ما علمت من عذابك فأنا به حقيق.
في الأحزاب إشارات لا يفهمها غير كبار الحكماء
فليس كرمك مخصوصًا بمن أطاعك وأقبل عليك، بل هو مبذول بالسبق لمن شئت من خلقك وإن عصاك وأعرض عنك. وليس من الكرم أن لا تحسن إلا لمن أحسن إليك، وأنت المفضال الغني، بل الكرم أن تحسن إلى من أساء إليك وأنت الرحيم العلي، كيف وقد أمرتنا أن نحسن إلى من أساء إلينا، فأنت أولى بذلك منا.
تلك إشارات إلى ما في حزب البر من الآيات فليرجع إليه القارئ إن شاء. وليرجع إلى أمثاله من مختلف الأحزاب ففيها خلق وفيها بيان. ومن موجبات الأسف أن لا يقرأ هذه الأحزاب غير العوام، مع أن فيها من دقائق الإشارات ما لا يفهمه غير كبار الحكماء.