في الوصايا ملامح من الأدب وأصول من الأخلاق
هذا الفن مزاج من الأدب والأخلاق: هو أدب لأن الناصحين كانوا يحرصون في الأغلب على
جمال الصورة، فيسجعون ويزاوجون، كقول علقمة بن لبيد:
يا بني، إذا نزعتك إلى صحبة الرجال حاجة فأصحب من إذا صحبته زانك، وإن خدمته
صانك، وإن أصابتك خصاصة مانك، وإن قلت صدق قولك، وإن صلت شد صولك، وإن مددت يدك
بفضل مدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن سألته أعطاك، وإن سكت عنه ابتداك، وإن
نزلت بك إحدى الملمات آساك.
١
وهو أخلاق لأن الناصحين كانوا يفكرون أولًا وقيل كل شيء في المعاني الخلقية، وكانت
النصائح لا تصدر إلا عن أناس عرفوا بالحكمة وأصالة الرأي، وكانت لا توجه إلا إلى ناس
يراد توجيههم إلى صالح الأعمال، ومن أجل ذلك أضفنا هذا الفصل إلى قسم الأخلاق.
قدم هذا الفن في اللغة العربية
والوصايا من أقدم الفنون التي عرفتها البيئات العربية، والقرآن يحدثنا أن لقمان قال
لابنه وهو يعظه:
يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ ۖ إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ …
يَا بُنَيَّ أَقِمِ
الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا
أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا
تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللهَ لَا
يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ
وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ.
٢
وهي كذلك من أقدم الفنون التي عرفتها البيئات الفارسية، ومن أشهر ما أثر عن الفرس
في
هذا الباب كتاب أردشير بن بابك إلى بنيه والملوك من بعده، وهو كتاب طويل نقتبس منه هذه
الفقرات:
رشاد الوالي خير للرعية من خصب الزمان. الملك والدين توأمان لا قوام لأحدهما
إلا بصاحبه … واعلموا أنه ليس ينبغي للملك أن يعرف للعباد والنساك بأن يكونوا
أولى بالدين منه … واعلموا أنكم ستبلون على الملك بالأزواج والأولاد والقرباء
والوزراء والأخدان والأنصار والأعوان والمتقربين والندماء والمضحكين، وكل هؤلاء
إلا قليلًا أن يأخذ لنفسه أحب إليه من أن يعطي منها عمله، وإنما عمله سوق ليومه
وذخيرة لغده. فنصيحته للملوك فضل نصيحته لنفسه، وغاية الصلاح عنده صلاح نفسه،
وغاية الفساد عنده فسادها، يقيم للسلطان سوق المودة ما أقام له سوق الأرباح
والمنافع … واعلموا أن لكل ملك بطانة، ولكل رجل من بطانته بطانة، ثم إن لكل
امرئ من بطانة البطانة بطانة، حتى يجتمع من ذلك أهل المملكة، فإذا أقام الملك
بطانته على حال الصواب فيهم أقام كل امرئ بطانته على مثل ذلك حتى يجتمع على
الصلاح عامة الرعية.
٣
وقد ازدهر هذا الفن في اللغة العربية، ودخل في أكثر أبواب الحياة، فهناك وصايا
الخلفاء والملوك وهي التي تسمى «العهود»، ولكل طائفة وصايا، ومن أشهر الوصايا الأدبية
وصية عبد الحميد بن يحيى التي وجهها إلى الكتاب، وهناك وصايا الآباء للأبناء، وقد كتبت
عنها ثلاث مقالات نشرتها في البلاغ، ثم تبينت أنها تحتاج إلى درس أطول مما اشتملت عليه
تلك المقالات الثلاث … وقد انتقل هذا الفن إلى الفكاهة، فرأينا نماذج كثيرة من وصايا
الطفيليين إلى أبنائهم، وكل أولئك يبين كيف صار هذا الفن مما يتبارى فيه الكتاب
والشعراء.
وقد تعبنا في البحث عن الفروق الجوهرية التي يتميز بها هذا الفن في كلام الصوفية،
ثم
رأينا أن الفروق على كثرتها ترجع إلى باب واحد، فالوصايا في الأغلب تدور حول الشؤون
المعاشية، وتطوف بالأصول من كرائم الخلال، كقول الأوس بن حارثة:
يا مالك، المنية ولا الدنية، والعتاب قبل العقاب، والتجلد لا التبلد، واعلم
أن القبر خير من الفقر، ومن كرم الكريم الدفاع عن الحريم، وخير الغنى القناعة،
وشر الفقر الضراعة، والدهر يومان: يوم لك ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر،
وإذا كان عليك فاصبر.
٤
ولكنها عند الصوفية تنصب على أمور ذوقية وروحية، كأن يحدث من يقول: «أقبلنا قافلين
من
بلاد الروم نريد البصرة، حتى إذا كنا بين الرصافة وحمص سمعنا صائحًا يصيح من بين تلك
الرمال — سمعته الآذان ولم تره العيون — يقول: يا مستور يا محفوظ، اعقل في ستر من أنت؟
فإن كنت لا تعقل من أنت في ستره فاتق الدنيا فإنها حمى الله، فإن كنت لا تعقل كيف
تتقيها فصيرها شوكًا ثم انظر أين تضع قدميك منها».
٥
وكأن يقول بعض الزهاد: «لا تغترن بطول السلامة مع تضييع الشكر، ولا تعملن نعمنة الله
في معصيته، فإن أقل ما يجب لمهديها ألا تجعلها ذريعة إلى مخالفته، واستدع شارد النعم
بالتوبة، واستدم الراهن منها بكرم الجوار، واستفتح باب المزيد بحسن التوكل».
٦
وكأن يقول غيلان: «إن التراجع في المواعظ يوشك أن يذهب يومها ويأتي يوم الصاخة، كل
الخلق يومئذ مصيخ يستمع ما يقال له ويقضى عليه، وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا
همسًا، فاصمت اليوم عما يصمتك يومئذ، وتعلم ذلك حتى تعلمه، وابتغه حتى تجده، وبادر قبل
أن تفجأك دعوة الموت، فإنها عنيفة إلا بمن رحم الله، فيقحمك في دار تسمع فيها الأصوات
بالحسرة والويل والثبور، ثم لا يقالون ولا يستعتبون، إني رأيت قلوب العباد في الدنيا
تخشع لأيسر من هذا وتقسو عند هذا، فانظر إلى نفسك أعبد الله أنت أم عدوه؟ فيا رب متعبد
لله بلسانه، معاد له بفعله، ذلول في الانسياق إلى عذاب السعير في أمنية أضغاث أحلام
يعبرها بالأماني والظنون، فاعرف نفسك، وسل عنها الكتاب المنير، سؤال من يحب أن يعلم،
وعلم من يحب أن يعمل … ولا تكن كعلماء زمن الهرج إن وعظوا أنفوا، وإن وعظوا عنفوا».
٧
فما الذي نراه في أمثال هذه النصائح؟ إنها نفثات موجهة إلى غاية واحدة هي إصلاح
القلوب، والوسيلة هي التذكير بقارة الدنيا والترغيب في الأعمال الصالحات، فالزاهد حين
ينصح لا يفكر في المعاش على نحو ما يفكر المعنيون بالشؤون الدنيوية، وإنما يفكر في
إعداد النفس ليوم الحساب.
خصائص النصح عند الصوفية
وكان يتفق للصوفية أن يسلكوا في نصائحهم مسلك التعليل والتحليل كأكثر رجال الأخلاق،
فنرى منهم من يعجب حين يرى طالب الدنيا أجد من طالب الآخرة، وخائفها أتعب من خائف
الآخرة، وهو يعلم يقينًا أنه رب مطلوب في الدنيا قد صار حين نيل حتفًا لطالبه، وأنه رب
مخوف فيها قد لحق كرها بالهارب منه فصار حظًا له، وأن المطلوب إليه من أهلها ضعيف عن
نفسه، محتاج إلى ربه، مملوك عليه ماله، مخزونة عنه قدرته، ثم يقضي بأن جماع ما يسعى له
الطالب ويهرب منه الهارب أمران: أحدهما أجله، والآخر رزقه، ويعجب حين يرى الناس يختلفون
في أمر الآخرة ولا يختلفون في أمر الدنيا، وكيف لا يكون خائف الآخرة لربه كخائف الدنيا
لسلطانه، فيصبر على تجشم المكروه، وتجرع غصص الغيظ، ويتحفظ من أن يضمر له على غش أو يهم
له بخلاف «فإن ابتلي بالسخط من سلطانه فكيف حزنه ووحشته، وإن أنس منه رضا عنه فكيف
سروره واختياله، وإن قارف ذنبًا إليه فكيف تضعضعه واستخذاؤه، وإن ندبه لأمر فكيف خفته
ونشاطه، وإن نهاه عنه فكيف حذره واتعاظه، وهو يعلم أن خالقه ورازقه يعلم سره وجهره،
ويراه في متقلبه ومثواه، ويعاينه في فضائحه وعورته، فلم يزعه عنها حياء منه، ولا تقية
له، قد أمره فلم بأتمر، وزجره فلم يزدجر، حذره فلم يحذر، ووعده فلم يرغب، وأعطاه فلم
يشكر، وستره فلم يزدد بالستر إلا تعرضًا للفضائح، وكفاه فلم يقنع بالكفاية، وضمن له في
رزقه ما هو في طلبه مشيح، ويقظه من أجله لما هو عنه لاه، وفرغه من العمل لما هو عنه
بغيره مشغول».
٨
ولنذكر أن هذا نوع من النصح الملفوف، وهو من المذاهب التعليمية، فقد كتب رجل من
العباد خطابًا إلى صديق له يستفتيه في تلك الدقائق التي لخصناها في هذه الفقرة، فأجابه
الصديق بخطاب مطول بين فيه أن اليقين كالشجرة النابتة في القلب أغصانها العمل، وثمرتها
الثواب، ثم قال: «وأما قولك: كيف لم يكن خائف الآخرة لربه كخائف الدنيا لسلطانه، فإن
الله عز وجل خلق الإنسان ضعيفًا، وجعله عجولًا، فهو لضعفه موكل بخوف الأقرب، فالأقرب
مما يكره، وهو بعجلته موكل بحب الأعجل، فالأعجل مما يشتهي، وزاده حرصًا على المخلص من
المكروه، وطلبًا للمحبوب، حاجته إلى الاستمتاع بمتاع الدنيا الذي لولا ما طبع عليه
القلب من حبه، وسهل على المخلوقين من طلبه، لما انتفع بالدنيا منتفع ولا عاش فيها عائش».
٩
والخطاب والجواب يرجعان إلى أصل واحد هو تعليل ما يغلب على النفس الإنسانية من
الضعف.
نماذج من وصايا النساك
وأقدم النصائح الصوفية في الإسلام نصائح علي بن أبي طالب، وهي كثيرة جدًا، نكتفي
منها
بقوله: «إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل واحدة منهما
بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا. ألا إن الزاهدين في الدنيا
اتخذوا الأرض بساطًا والتراب فراشًا والماء طِيبًا، ألا من اشتاق إلى الجنة سلا عن
الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن الحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات».
١٠
وللقارئ أن يرجع إلى الجزء الأول من نهج البلاغة فينظر في الصفحات ٢٦٦، ٢٧٧، ٢٨٧،
٣٩٢، ٤٣٣ فإن فيها صورًا مختلفة من وصايا ابن أبي طالب، وهي في الأغلب ترمي إلى تطهير
النفس، وإصلاح القلب، والتنفير من الدنيا الفانية، والتشويق إلى دار البقاء.
وأثرت عن الصوفية أجوبة تعليمية في مسائل كثيرة، فقد قيل للحسن البصري: قد أكثر الناس
تعلم الآداب، فما أنفعها عاجلًا وأوصلها آجلًا؟ فقال: التفقه في الدين فإنه يصرف إليك
قلوب المتعلمين، والزهد في الدنيا فإنه يقربك من رب العالمين، والمعرفة بما لله عليك
يحويها كمال الإيمان.
١١
وسئل ابن سيرين: أي الآداب أقرب إلى الله تعالى وأزلف للعبد عنده؟ فقال: معرفة
بربوبيته، وعمل بطاعته، والحمد لله على السراء، والصبر على الضراء.
١٢
وكتب يوسف بن الحسين إلى بعض الحكماء: (أشكو ركوني إلى هذه الدنيا وما أجد في طبعي
من
الأخلاق التي لست أرضاها من نفسي لنفسي).
فكتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصل كتابك، وفهمت ما ذكرت، ومخاطبك أكرمك الله شريكك في شكواك، ونظيرك في
بلواك. إن رأيت أن تديم الدعاء وقرع الباب فإنه من قرع الباب ولم يعجز عن القرع
دخل، وإن تهيَّا لك ما تريد من الصفاء والطهارة فدع ما أنت فيه من البلاء من
اقتراف مساوئ لا تجدي عليك منفعة في دينك ولا دنياك، وتجنب قرب من لا تأمن على
نفسك في مواصلة الغفلة والبطالة، واستعن على ذلك كله بالقناعة والتجزي، وسله أن
يمنَّ عليك بتوبة طهري لا عملي، والسلام.
١٣
وكتب بعض إخوان سري السقطي إليه:
يا أخي، أوصيك بتقوى الله الذي يسعد بطاعته من أطاعه، وينتقم بمعصيته من
عصاه، فلا تدعونك طاعته إلى الأمن من عذابه، ولا تدعونك معصيته إلى الإياس من
رحمته، جعلنا الله وإياكم حذرين من غير قنوط، وله راجين من غير اغترار، والسلام.
١٤
وقد نظرت فرأيت للصوفية رسائل كثيرة تجري مجرى
النصح، وتعين مقاصدهم في الحياة، وتبين إلى أي حد كانوا يهتمون بالأخلاق، ولنثبت هنا
رسالة الجنيد إلى أبي بكر الكسائي، ففيها كثير من الإشارات التي توضح كيف كانوا يتواصون
بالأدب والرفق:
أخي، أين محلك عند تعطيل العشار، وأين دارك وقد خربت الديار، وأين منزلك
والمنازل قاع صفصف قفار، وأين مكانك والأماكن عواف دوارس الآثار، وماذا خبرك
عند ذهاب جوامع الأخبار، وفيم نظرك عند اصطدام محاضر النظار، وفيم فكرك وليس
بحين نظر ولا افتكار، وكيف هدوءك على ممر الليل والنهار، وكيف حذرك عند وقوع
فواجع الأقدار، وكيف صبرك ولا سبيل إلى عزاء ولا اصطبار، فابك الآن إن وجدت
سبيلًا إلى البكاء، بكاء الوالهة الحزينة الموجعة الثكلى بفقد أعزة الألاف،
وفناء أجلة الأخلاف، وإبادة ما مضى من الاكتناف، وذهاب مشايخ الاعتطاف، وورود
بداية الاختطاف، وروادف عواصف الارتجاف وتتابع قواصف الانتساف، وبواهر قواهر
الاعتكاف، وثواقب ملامح الاعتراف، فإلى أين موئلك، وإلام يبلغ مصدرك، والأحلام
متمزقة، والقلوب متصدعة، والعقول منخلعة، والأنباء كلها مرتفعة، وأنت في أوابد
مندمسة، ونجوم منطمسة، وسبل ملتبسة، قد أضلك في اختلاف مناهجها ظلماؤها،
وانطبقت عليك أرضها وسماؤها. ثم أفضى بك ذلك إلى لجة اللجج والبحر الزاخر
الغامر المختلج، الذي كل بحر دونه أو لجّة، فهو فيه كتفلة أو مجة، فقد قذف بك
في كثيف أمواجه، وتلاطم عليك بعظيم هوله وارتجاجه، فمن مستنقذك من متلفات
المهالك، أو مخرجك مما هنالك؟ كتابي إليك، أبا بكر، وأنا أحمد الله حمدًا
كثيرًا، وأسأله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وصل إليّ منك كتب فهمت ما
ذكرت فيها، ولم يمنعني من إجابتك عليها ما وقع في وهمك، وشقّ علي ما ذكرت من
غمك، وليس حالك عندي حال معتوب عيه، بل حالك عندي حال معطوف عليه، وبحسبك من
بلائك أن أكون سببًا للزيادة في البلاء عليك، وإني عليك لمشفق، وإنما منعنى من
مكاتبتك أني حذرت أن يخرج ما في كتابي إليك إلى غيرك بغير علمك، وذلك أني كتبت
منذ مدة كتابًا إلى أقوام من أهل أصبهان ففتح كتابي وأخذت نسخته، واستعجم بعض
ما فيه على قوم فأتعبني تخلصهم، ولزمني من ذلك مؤونة عليهم، وبالخلق حاجة إلى
الرفق، وليس من الرفق بالخلق ملاقاتهم بما لا يعرفون، ولا مخاطبتهم بما لا
يفهمون، وربما وقع ذلك من غير قصد إليه، ولا تعمد له، جعل الله عليك واقية
وجنة، وسلمنا وإياك، فعليك رحمك الله بضبط لسانك، ومعرفة أهل زمانك، وخاطب
الناس بما يعرفون، ودعهم مما لا يعرفون، فقلَّ من جهل شيئًا إلا عاداه، وإنما
الناس كالإبل المئة ليس فيها راحلة، وقد جعل الله تعالى العلماء والحكماء رحمة
من رحمته وبسطها على عباده، فاعمل على أن تكون رحمة على غيرك إن كان الله قد
جعلك بلاء على نفسك، واخرج إلى الخلق من حالك بأحوالهم، وخاطبهم من قلبك على
حسب مواضعهم، فذلك أبلغ لك ولهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
١٥
وإنما نقلنا هذا الخطاب على طوله لأنه وثيقة صوفية، والجنيد يبتدئ خطابه بالتذكير
والتخويف، ويشير غلى ما ينتظر المتخلفين من الهول والفزع، ثم يترفق فيذكر أنه لم ينقطع
عن مكاتبة رفيقه إلا خوفًا من أن يقع كتابه في يد أناس لا يفقهون ما يقول، ويحكى أنه
كتب مرة إلى أقوام من أهل أصبهان ففتح كتابه، وأخذت نسخته، واستعجم بعض ما فيه على قوم
فأتعبه التخلص من ملاحقتهم بالقيل والقال، وكثرة السؤال. وفي هذه النقطة يظهر شيء من
أحوال الصوفية: فقد كانوا يتكاتبون بما يشق فهمه على عامة الناس.
ثم ينتقل الجنيد فينصح رفيقه بهذه الكلمات:
فعليك رحمك الله بضبط لسانك، ومعرفة أهل زمانك، وخاطب الناس بما يعرفون،
ودعهم مما لا يعرفون، فقلّ من جهل شيئًا إلا عاداه.
ونشهد بأن هذه هي السياسة العليا، وهي تصلح للصوفية وغير الصوفية ولكن الصوفية إليها
أحوج، لأنهم يعيشون في أودية من المعاني لا يفطن إليها إلا القليل.
وقد رأى الجنيد أن العلماء والحكماء رحمة من رحمة الله على عباده، ثم توجه إلى رفيقه
بهذا النصح الحصيف: «فاعمل على أن تكون رحمة على غيرك، إن كان الله قد جعلك بلاء على
نفسك».
وهو بذلك يوصيه أن يجمع بين حالين: حال الرفق مع الناس، وحال العنف مع النفس.