الشجاعة الأدبية
حب الدنيا هو أصل الجبن
الشجاعة من أشرف مناقب الرجال، وهي من أظهر شمائل الصوفية، وإنما كان الصوفية من الشجعان لأنهم استهانوا بالدنيا، وزهدوا في طيبات العيش. وحب الدنيا والعيش أصل الجبن والخضوع، وما أحب رجل الدنيا إلا ذل، ورأى السلامة في التلمق والرياء.
شجاعة بنان الحمال
أعرابي ينصح سليمان بن عبد الملك
شعيب بن حرب والرشيد
وشعيب هذا صادق فيما حدث به، وهذا الصدق يرشدنا إلى ما كان يعرف عن الصوفية أحيانًا من الحذلقة والتكلف، وإلا فما معنى هذه التهمة الجوفاء: يا هارون، قد أتعبت الأمة، وأتعبت البهائم!
وهذا الخبر يفهمنا أنه كانت هناك وثبات للواعظين، وأن الخلفاء كانوا يعرفون ذلك، وأنه كان من لذات بعض الناس أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر.
والحق أنه يعسر الاطمئنان إلى صدق الشجاعة الأدبية في جميع الأحوال، فهي في بعض الأحيان زهو وخيلاء، والإثم فيها أكبر من النفع، وهي كسائر الفضائل عرضة للرياء، والرياء يمحق جلائل الأعمال.
الفضيل بن عياض
ومن المؤكد أن الصوفية لم يكونوا جميعًا مرائين، فلأكثرهم مقامات جمعت بين الشجاعة والصدق، ومن شواهد ذلك ما صنع الفضيل بن عياض مع الرشيد، فقد ذهب الرشيد لزيارته ليلًا مع الفضل بن الربيع، فلما وصلا إلى بابه سمعاه يقرأ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ فقال الرشيد للفضل: إن انتفعنا بشيء فبهذا. فناداه الفضل: أجب أمير المؤمنين. فقال: وما يعمل عندي أمير المؤمنين؟ قال الفضل فقلت: سبحان الله! أما له عليك طاعة؟ فنزل ففتح الباب ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج، ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت، فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا، فسبقت كف أمير المؤمنين قبلي إليه. فقال: يا لها من كف ما ألينها إن نجت غدًا من عذاب الله عز وجل! فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام من قلب تقي. فقال له: خذ فيما جئناك له رحمك الله! فقال له: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة، فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي، فعد الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة. فقال له سالم ابن عبد الله: إن أردت النجاة من عذاب الله فصم عن الدنيا، وليكن فطرك منها الموت. وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أبًا، وأوسطهم عندك أخًا، وأصغرهم عندك ابنًا، فوقِّر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك. وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت.
وإني أقول لك يا هارون: إني أخاف عليك أشد الخوف يومًا تزل فيه الأقدام، فهل معك رحمك الله من يشير بمثل هذا؟ فبكى هارون بكاء شديدًا حتى غشي عليه.
قال الفضل فقلت: ارفق بأمير المؤمنين! فقال: تقتله أنت وأصحابك، وأرفق به أنا؟
ثم أفاق. فقال له: زدني رحمك الله. فقال له: يا أمير المؤمنين، بلغني أن عاملًا لعمر ابن عبد العزيز شكا إليه، فكتب إليه: يا أخي، أذكرك بسهر أهل النار في النار مع خلود الأبد. وإياك أن يُنصرف بك من عند الله عز وجل فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء. فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز فقال له: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله عز وجل.
قال: فبكى هارون بكاءًا شديدًا ثم قال له: زدني يرحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباس عم المصطفى ﷺ جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، أمِّرني على إمارة، فقال له: يا عم، إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميرًا فافعل.
فبكى هارون بكاء شديدًا، وقال له: زدني رحمك الله، فقال: يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه فافعل، وإياك أن تصبح أو تمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك.
العمري
كنت بمكة وإلى جانبي عبد الله بن عبد العزيز العمري، وقد حج هارون الرشيد وقال له إنسان: يا أبا عبد الله، هو ذا أمير المؤمنين يسعى، وقد أُخليَ له المسعى، قال العمري للرجل: لا جزاك الله عني خيرًا، كلفتني أمرًا كنت عنه غنيًا. ثم قام فتبعه، فأقبل هارون الرشيد من المروة يريد الصفا، فصاح به: هارون! فلما نظر إليه قال: لبيك يا عمري! قال: ارق الصفا، فلما رقاهًا قال: ارم بطرفك إلى البيت، قال هارون: قد فعلت. قال: كم هم؟ قال: ومن يحصيهم؟ قال: فكم في الناس مثلهم؟ قال: خلق لا يحصيهم إلا الله! قال: اعلم أيها الرجل أن كل واحد منهم يُسأل عن خاصة نفسه، وأنت وحدك تسأل عنهم كلهم، فانظر كيف تكون! — فبكى هارون — فقال العمري: وأخرى أقولها. قال: قل يا عم! قال: والله إن الرجل ليسرف في ماله فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن أسرف في مال المسلمين!
ابن السماك
صالح بن عبد الجليل
وكلام صالح هذا فيه تصريح بأن الزهاد كان يسهل عليهم ما يتوعر على غيرهم من الوصول إلى الخلفاء، وفيه كذلك تصريح بأن من المواعظ ما كان يقبله الخلفاء قبول سمعة ورياء، ومعنى هذا أن تقريب الزهاد كان من السياسة قبل أن يكون من الدين، أو هو مزاج من السياسة والدين، وهذا الملحظ قد يحط من شجاعة الزهاد وإخلاص الخلفاء، ولكن لا ريب في أن هذه المظاهر فيها خير ملموس، والزهاد لا يصلون إلى هذه المواطن إلا بعد أن يكونوا استطاعوا تثبيت سلطتهم الروحية، والخلفاء لا يستقدمون الزهاد ليسمعوا مواعظهم إلا وفي قلوبهم شيء من عناصر الرشد وأصول الاهتداء.
عمرو بن عبيد
غير أن هذه الوصولية السياسية لم تطَّرد في جميع المقامات، فقد كان المنصور يعرف عمرو بن عبيد قبل أن يتولى الخلافة، وكان يعتقد أنه على جانب عظيم من الصدق والإخلاص، فكان يستقدمه لينتفع برأيه، وإن كان ذلك لا يمنع أنه كان يسرُّ بأن يقال إنه انتفع بمواعظ عمرو بن عبيد، والضمائر لا يعرفها إلا علام الغيوب.
ولنسق حديث ابن عبيد مع المنصور، فهو نموذج في الأدب وفي الأخلاق:
حدث إسحاق بن المفضل الهاشمي قال: إني لعلى باب المنصور يومًا وإلى جنبي عمارة بن حمزة إذ طلع عمرو بن عبيد على حمار، فنزل عن حماره ثم دفع البساط برجله وجلس دونه، فالتفت إلي عمارة وقال: لا تزال بصرتكم ترمينا منها بأحمق! فما فصل كلامه من فيه حتى خرج الربيع، وهو يقول: أبو عثمان عمرو بن عبيد، قال: فوالله ما دل على نفسه حتى أرشد إليه، فأتكأه يده، ثم قال له: أجب أمير المؤمنين، جعلت فداك! فمرمتكئًا عليه، فالتفت إلى عمارة فقلت له: إن الرجل الذي استحمقته قد أدخل وتُركنا، فقال: كثيرًا ما يكون ذلك، فأطال اللبث، ثم خرج الربيع وهو متوكئ عليه والربيع يقول: يا غلام، حمار أبي عثمان، فما برح حتى أتى بالحمار، فأقره على سرجه، وضم إليه نشر ثوبه، واستودعه الله. فأقبل عمارة على الربيع، فقال: لقد فعلتم اليوم بهذا الرجل ما لو فعلتموه بولي عهدكم لقضيتم ذمامه! قال: فما غاب عنك مما فُعل به أكثر وأعجب! قال عمارة: فإن اتسع لك الحديث فحدثنا، فقال الربيع: ما هو إلا أن سمع الخليفة بمكانه فما أمهل حتى أمر بمجلس ففرش لبودًا، ثم انتقل إليه والمهدي معه عليه سواده وسيفه، ثم إذن له. فلما دخل عليه سلَّم بالخلافة فرد عليه، وما زال يدنيه حتى أتكأه فخذه وتحفى به، ثم سأله عن نفسه وعن عياله يسميهم رجلًا رجلًا وامرأة امرأة، ثم قال: يا أبا عثمان، عظنا. فقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ومر فيها إلى آخرها وقال: إن ربك يا أبا جعفر لبالمرصاد. قال: فبكى المنصور بكاءً شديدًا كأنه لم يسمع تلك الآيات إلا تلك الساعة، ثم قال: زدني. فقال: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك منه ببعضها، واعلم أن هذا الأمر الذي صار إليك إنما كان في يد من كان قبلك ثم أفضى إليك، وكذلك يخرج منك إلى من هو بعدك، وإني أحذرك ليلة تمخض صبيحتها عن يوم القيامة. قال: فبكى أشد من بكائه الأول حتى رجف جنباه. وفي رواية أخرى أنه لما انتهى إلى آخر السورة قال: يا أمير المؤمنين، إن ربك لبالمرصاد لمن عمل مثل عملهم أن ينزل به مثل ما نزل بهم، فاتق الله فإن من وراء بابك نيرانًا تأجج من الجور، ما يعمل فيها بكتاب الله، ولا بسنة رسوله، فقال: يا أبا عثمان، إنا لنكتب إليهم في الطوامير نأمرهم بالعمل بالكتاب، فإن لم يفعلوا فما عسى أن أصنع؟ فقال له: مثل أذن الفأرة يجزيك من الطوامير، الله، أتكتب إليهم في حاجة نفسك فينفذونها وتكتب إليهم في حاجة الله فلا ينفذونها؟ والله لو لم ترض من عمالك إلا رضا الله إذن لتقرب إليك من لا نية له فيه.
وكان في المجلس سليمان بن مجالد فقال: رفقًا بأمير المؤمنين؛ فقد أتعبته منذ اليوم.
فقال له عمرو بن عبيد: بمثلك ضاع الأمر وانتشر، لا أبا لك، وماذا على أمير المؤمنين أن بكى من خشية الله!
وفي رواية أخرى أن سليمان بن مجالد لما قال له ذلك رفع عمرو رأسه فقال له: من أنت؟ فقال أبو جعفر: أولا تعرفه، يا أبا عثمان؟ قال: لا، ولا أبالي أن لا أعرفه! فقال له: هذا أخوك سليمان بن مجالد. فقال: هذا أخو الشيطان! ويلك، يا ابن مجالد، خزنت نصيحتك عن أمير المؤمنين، ثم أردت أن تحول بينه وبين من أراد نصيحته. يا أمير المؤمنين، إن هؤلاء اتخذوك سلمًا لشهواتهم، فأنت كالآخذ بالقرنين وغيرك يحلب! فاتق الله فإنك ميت وحدك، ومحاسب وحدك، ومبعوث وحدك، ولن يغني عنك هؤلاء من ربك شيئًا.
فقال له المنصور: يا أبا عثمان، أعنِّى بأصحابك أستغن بهم. فقال له: أظهر الحق يتبعك أهله.
ثم قال المنصور: بلغني أن محمد بن عبد الله بن الحسن كتب إليك كتابًا. فقال: قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه. قال: فبماذا أجبته؟ قال: أولست قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف إلينا وأني لا أراه؟ قال: أجل. ولكن تحلف ليطمئن قلبي. قال: لئن كذبتك تقية لأحلفن لك تقية! فقال المنصور: أنت الصادق البار، وقد أمرت لك بعشرة آلاف درهم تستعين بها على زمانك. فقال: لا حاجة لي فيها، فقال المنصور: والله لتأخذنها، فقال عمرو: والله لا آخذنها، فقال له المهدي: يحلف أمير المؤمنين وتحلف؟ فأقبل عمرو على المنصور وقال: من هذا الفتى؟ فقال: هذا ابني محمد، وهو المهدي وليّ العهد، فقال: والله لقد سميته اسمًا ما استحقه بعمل وألبسته لبوسًا ما هو لَبوس الأبرار. ولقد مهدت له أمرًا أمتع ما يكون أشغل ما تكون عنه.
ثم قال المنصور: يا أبا عثمان، هل من حاجة؟ قال: نعم، يرفع هذا الطيلسان عني — وكان المنصور طرح عليه طيلسانًا حين دخل عليه.
ثم قال له المنصور: لا تدع إتياننا، يا أبا عثمان.
فقال: نعم، لا يضمني وإياك بلد إلا دخلت إليك، ولا بدت لي حاجة إلا سألتك، ولكن لا تعطني حتى أسألك، ولا تدعني حتى آتيك!
فقال المنصور: إذن لا تأتينا أبدًا!
ثم ودّع المنصور ونهض، فلما ولّى أتبعه بصره وأنشأ يقول:
أحزاب المعارضين وسياستهم في اختراع النصائح
والظاهر أن المنصور كان من الشخصيات المعروفة بالتسامح، فقد رأينا آنفًا كيف يقف رجل فيذكره بالله وهو يخطب، وقد ذكر ابن قتيبة أنه سمع وهو يطوف ليلًا قائلًا يقول: «اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع».
فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، إن أمّنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها، وإلا احتجزت منك واقتصرت على نفسي ففيها لي شاغل، فقال المنصور: أنت آمن فقل، فقال: إن الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين ما ظهر من البغي والفساد لأنت!
فقال المنصور: ويحك! وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي، والحلو والحامض عندي؟
ولكن أكان المنصور حقًا متسامحًا حتى يستمع مثل هذا الحساب؟ أنا أستبعد أن يكون هذا الحديث صحيحًا، وأرجح أنه وضع لغاية من غايات المعارضين، ودليل هذا الترجيح أن القائل مجهول: فهو أحد الزهاد، وأنه حُفظ بلغة قوية، لا يعقل أن تُسمع فتُحفظ، ولو كان حوارًا طارئًا طُلب صاحبه فلم يوجد لما أمكن أن تحفظ منه هذه الصورة القوية.
والمعقول أن يكون هذا الحديث من وضع رجل ثائر كان يكره بني أمية وبني العباس، فإن التعمق في وصف حجاب المنصور، وما كان يقع لعهده من إغفال المظالم، ومن سيطرة الوزراء لا يتفق إلا لرجل ثائر على تقاليد ذلك العهد. والثورة على الاستبداد بالملك وتصريف أمور الناس كانت كثيرة الوقوع في تلك الأيام، وكانت التورية عن فساد النظام مما يطيب للكتاب والشعراء. وقد كثر القول بأن ابن المقفع لم يترجم كليلة ودمنة إلا ليحارب به ما كان يراه من ظلم الخلفاء، فليس من المستبعد أن توضع الأحاديث على ألسنة الزهاد ليكون في إذاعتها تنديد بالسياسة الظالمة التي يرتكبها خلفاء بني العباس في بعض الأحيان.
ولنتذكر أن شخصية «الوزير» ملحوظة في هذا الحديث، والوزير كان في تلك العهود نموذجًا من نماذج الغطرسة والعنف والإجحاف، وكان لا بد أن يحاربه الناس بسوء القالة إن عجزوا عن محاربته بالسلاح.
ومنشئ هذا الحديث جعل بطله من الزهاد، وهذا يدلنا على أن الصوفية في تلك الأيام كانت لهم سلطة روحية وخلقية، وكان من المعروف عنهم أن يجهروا بكلمة الحق، وأن لا يبالوا غضب الخلفاء والوزراء، فاختيار بطل الحديث من الصوفية هو الشاهد على ما كان يعرف عنهم من الشجاعة الأدبية.
ولسنا نعرف بالضبط من أي حزب كان منشئ هذا الحديث، والظاهر أنه كان يميل إلى الصوفية، فقد قال له المنصور: كيف أحتال لنفسي؟ فأجاب: إن للناس أعلامًا يفزعون إليهم في دينهم، ويرضون بهم، فاجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاورهم في أمرك يسددوك.
ولم يكتف بهذا في تمجيد أصحابه من أهل الزهد، بل ادَّعى أن المنصور قال: قد بعثت إليهم فهربوا مني، وهو بذلك يجعلهم أصلح الناس لولاية الأمر، وأخوفهم من الاتصال بأهل الدنيا، وأقدرهم على احتقار المناصب البراقة: مناصب الوزراء.
وجملة القول: أن هذا الحديث يشهد بأن أحزاب المعارضين كانت تتستر باسم الزهاد والصوفية، ومعنى ذلك أن الزهاد والصوفية كانوا معروفين بالجرأة والشجاعة في الدفاع عن الحق، وكان ما ينشر باسمهم خليقًا بأن يتلقاه كبار الناس بالقبول. وبعض ذلك كاف للاقتناع بأنهم كانوا قوة خلقية في ذلك الحين.
شجاعة الأوزاعي في مواقف تحكمت فيها الأحقاد السياسية
ويماثل هذا المقام مقام الأوزاعي بين يدي المنصور، ذكره عبد الله المبارك عن رجل من أهل الشام قال: دخلت عليه فقال: ما الذي أبطأ بك عني؟ قلت: يا أمير المؤمنين، وما الذي تريد مني؟ فقال: الاقتباس منك. قلت: انظر ما تقول؛ فإن مكحولًا حدثني عن عطية بن بشير أن رسول الله ﷺ قال: «من بلغه عن الله نصيحة في دينه فهي رحمة من الله سقيت إليه، فإن قبلها من الله بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه، ليزداد إثمًا وليزداد الله عليه غضبًا، وإن بلغه شيء من الحق فرضي فله الرضا، وإن سخط فله السخط، ومن كرهه فقد كره الله؛ لأن الله هو الحق المبين».
فلا تجهلن. قال: وكيف أجهل؟ قال: تسمع ولا تعمل بما تسمع!
ولهذا الحديث بقية، وما سلف منه يبين مسلك الأوزاعي في النصح، وجرأته في مصارحة الخلفاء. والشجاعة من أخص صفات الزاهدين والصالحين.
وللأوزاعي موقف مع عبد الله بن علي يعد من أخطر المواقف؛ لأنه يمس الأحقاد السياسية، وللسياسة أحقاد سود تذهب بالحلم والعقل، وكان ذلك الموقف بعد أن أجلى عبد الله بني أمية عن الشام، وأزال الله دولتهم على يديه، فقد طلب الأوزاعي ليسأله رأيه فيما صنع ببني أمية، وكان ينتظر بالطبع أن يظفر منه بكلمات من الثناء يفلّ بها حدّة من ينكرون عليه الإسراف في النهب والقتل، ولكنه فوجئ بما لم يكن في الحسبان، وأراه الأوزاعي أن في الدنيا ناسًا يجهرون بكلمة الحق في أحرج المواقف والمقامات.
- الأول: أن الأمراء والملوك كانوا منذ ذلك الزمان يشعرون بقوة أهل العلم والزهد والصلاح، وكانوا يحبون أن يستظهروا بهم، وكانوا كذلك يعرفون عنهم اللين في أغلب الأحيان، ولولا ذلك لقلَّت الرغبة في استدعاء مثل الأوزاعي في مثل ذلك الموقف.
- والثاني: أن الزهاد كانوا استطاعوا أن يخلقوا لهم عصبية يحسب حسابها في الأزمات السياسية، يؤيد هذا ما روى أن بعض الولاة هدد الأوزاعي مرة فقال له أصحابه: دعه، فو الله لو أمر أهل الشام أن يقتلوك لقتلوك.٢١
وطمع الولاة والأمراء في لين أهل التصوف لا ينقض ما عرفوا به من الشجاعة الأدبية، فنحن لا نقول بأن تلك الشجاعة كانت من نصيب كل من تصوف، وإنما نجزم بأنها كانت من أخلاق كل من صدق في التصوف، والعصبية التي كانت تحميهم لا يمكن أن تغض من شجاعتهم الأدبية؛ لأنها في الأكثر عصبية عزلاء، ولأنها على كل حال من مغانمهم الأخلاقية؛ لأنهم اكتسبوها بفضل الصلاح والتقوى، وهو مكسب تبذل في سبيله أثمان غالية يعرفها من يعانون رياضة النفس على التجمل بالآداب الدينية.
والطريف في هذا الموقف أن ابن هبيرة أمر للحسن بأربعة آلاف درهم، وأمر لابن سيرين والشعبي بالفين، فقالا: رققنا فرقق لنا!
خلاصة البحث
وهناك مواقف لأبي حازم مع سليمان بن عبد الملك، وابن السماك مع الرشيد. والمقام يضيق عن الاستقصاء، ولو مضينا نستقري أخبار الصوفية في مختلف العصور لرأينا لهم كثيرًا من أمثال هذه المواقف، والناس في مصر وفي تركيا خاصة يذكرون حوادث جرت لأهل الورع والدين مع الولاة والسلاطين، ومناقب الصوفية تفيض بأمثال هذه الأخبار. وأكثرها صدق، والمخترع منها له دلالة خلقية، فهو شاهد بأن الناس كانوا يشهدون للصوفية بالشهامة والجهر بكلمة الحق.
وقد ورد هذا المقام في الكشكول ص٢٣٥ بصورة تختلف عن هذه الصورة بعض الاختلاف.