الدنيا في أذهان الصوفية
ذم الصوفية للدنيا شاهد على تعلقهم بها
وإني لأخشى أن تكون هذه النظرة مما يصدق في أكثر الصوفية: فهم جميعًا يذمون الدنيا، ويخافون شرها، ويكثرون من تقبيحها والتنفير منها، ويندر أن يكتب في التصوف كتاب ولا تكون الدنيا شغل المؤلف وهمه في أكثر الفصول. والواقع أن الدنيا شغلت الصوفية فلم تخل منها قلوبهم طرقة عين، ولو خلت منها قلوبهم لما طوقوها بقلائد الهجاء، وإنما مثلها في أنفسهم مثل المرأة المطلقة التي يحن إليها زوجها ويتمنى لو عادت لياليها الملاح، وكيف يخلص الناس من فتنة دنياهم وهم مقيدون بما فيها من هواء وماء؟ إن النفحة السماوية التي يتشوقون إليها لم تكن إلا لفتة فنية، والتطلع إلى السماء إنما هو كبر إنساني شريف، ولكنه على ما فيه من شرف لا يخلو من تهور واعتساف، فالإنسان من الأرض خلق وإلى الأرض يعود، والنفس على ما فيها من رقة وصفاء قيدتها الإرادة الأزلية بأسباب العيش، وفرضت عليها الخضوع لسلطان الأمعاء، فليصنع الصوفية ما يشاءون فسيظل ابن آدم منسوبًا إلى الطين والماء.
هل الدنيا قبيحة في جميع الأحوال؟
وإسراف الصوفية في ذم الدنيا لا يخلو من غفلة وجهل، فللدنيا فتنة روحية، وفي الكفاح في مناكبها سحر وإشراق، والعليل هو الذي لا يدرك جمال هذا الوجود، ولا يعرف أن القبيح نفسه فيه شعر وجمال، وأن دمامة الأخلاق فيها فرص نورانية لمن يعرف على أي أساس بنيت هذه الدنيا الفيحاء.
إن الرجل الذي يعود إلى بيته وهو مهدم الأعصاب يزعجه صراخ الطفل، أفيكون انزعاجه دليلًا على وجود البشاعة في صراخ الأطفال؟ وكيف والرجل السليم يرى في بكاء الطفل ملامح شعرية، ويتوسم في انفعالاتهم بوارق من نور الوجود؟
إن إسراف الصوفية في ذم الدنيا هو الشاهد على انحرافهم في فهم الأخلاق، وهو كذلك الشاهد على أن قواعد الأخلاق أقيمت في الأغلب على الأهواء الذاتية، فنحن نرضى عن الدنيا ساعة ونغضب ساعات، فتكون لنا عند الرضى آراء، وعند الغضب آراء، والصوفية أولى الناس بالتهمة عند الانحراف؛ لأن التصوف يقع في أكثر الأحيان عند المرض والمشيب، والمريض الأشيب ينظر إلى الدنيا نظرة الحقد والازدراء.
حقائق
إن أشنع غلطة اقترفها الصوفية هي التنفير من الدنيا، والدعوة إلى هجر ما فيها من الطيبات، وإصرارهم على إقناع الناس بأنهم يلدون للموت ويبنون للخراب. والحق أن كل ميلاد إلى موت، وأن كل بناء إلى خراب، ولكن بين الحالين مواسم للخير والبر والجمال والصفاء، ومن الحمق أن يجهل المرء أنه خلق لغاية نبيلة تتمثل في تطوره من حال إلى حال، وتنقله بين الحلم والجهل، والعقل والجنون. وكان الصوفية أجدر الناس بأن ينظروا هذه النظرة، وأن يتصوروا ما في تقلب الطباع من رونق وبهاء، ولكن خبز الشعير ولباس الصوف والملح الجريش، كل أولئك طبع أرواحهم بطابع التلوم والاشفاق.
كيف غاب عنهم وجه الخير في هذه الهموم السود التي يعانيها أشراف الرجال؟ وكيف غفلوا عن المغانم النفيسة التي يظفر بها من يحارب الخسة والدناءة والإسفاف؟ إن فرص الجهاد لا تتاح إلا لمن ينغمس في الدنيا ويشهد ما يقع فيه الدنيويون من محاربة الشرف والصدق والنبل، ولو استمع العالم إلى نصائح الصوفية لضاعت أصول كثيرة من الخير والحق والجمال.
إن العالم الباقي لم يتمثل لعشاقه إلا عن طريق العمران: فهو قصور وأنهار وحدائق، وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون. ولو كان النعيم يبغض لذاته لما رضي الصوفية أن يجعلوه نصيبهم في دار البقاء، فلم يبق إلا أن يكون الكدر في هذه الدنيا أثرًا من الانحراف في أخلاق الناس، وتكون النتيجة أن الناس أعطوا ملكًا فلم يحسنوا سياسته، أعطاهم الله تلك الأنهار الجارية والرياض الحالية، وسخر لهم الشمس والقمر والنجوم، فغفلوا عن مفاتن ذلك الملك الذي ينتظم محاسن الأرض والسماء، وحولوا حياض الأزهار إلى ميادين تسفك فيها الدماء، وتزهق الأرواح.
الجمال في هذا الوجود
وكان الظن بالصوفية وهم من أهل البصائر والقلوب، أن يعرفوا قيمة هذه الدنيا، هذا الملك الذي ضيعه أهله، كان الظن بهم أن يجاهدوا ما فيه من شهوات وأباطيل، ولكنهم آثروا الهرب والانزواء، وصاروا يعرفون من أنهار الجنة ما لا يعرفون من أنهار هذا العالم، ويعلمون من أبواب جهنم ما لا يعلمون من أسباب انحطاط الأمم وضعف الشعوب، ويدركون من نعيم الآخرة ما لا يدركون من معنى الملك والقوة في هذا الوجود.
إن الاعتصام بشواهق الجبال فرارًا من ظلم الناس فيه ملامح شعرية، ولكنه دليل على حب السلامة، وذلك من أخلاق الضعفاء، وأشرف منه أن تدخل المعركة، وأن يخضب الدم وجهك وصدرك ويديك، وأن تلقى الله بوجه شريف لم يعرف صاحبه الجبن ولا الرياء ولا الخداع.
الدنيا جنة دانية القطوف، وفي بعض أركانها أفاع وصلال، وما أفاعيها إلا لئام الناس، فكيف خانتكم الشجاعة أيها الصوفية فلم تقتلوا ما في تلك الجنة من خبيث الحشرات؟
أفي الحق أن الدنيا بنيت على الكيد والفتك والنفاق؟ ليكن ذلك، ولكن لا تنكروا أنها أعظم مما تتوهمون، إن في الدنيا جمالًا جذابًا يستهوي العقول والقلوب، وهي صالحة كل الصلاحية لأن تكون من ميادين المجد في عالم الأخلاق، ولكن أين الصابرون؟ وأين المحتسبون؟ كل امرئ في دنيانا يودّ أن يغنم المعركة في لحظة واحدة، وإلا ففي مهاوي الفرار متسع للجميع، وقود عجز الصوفية ثم تواصوا بالتقهقر والانسحاب، فلنسجل عليهم هذه الخزية البلقاء.
الدنيا في كلام الأنبياء
شخصية المسيح
وما يهمنا في هذا المقام أن نبحث في صحة هذه الأحاديث وفيها الزائف والصحيح، لا يهمنا ذلك؛ لأن عناية الصوفية بدرسها وروايتها هي الشاهد على ما نراه في تصوير مذاهبهم الأخلاقية، وهم يذمون الدنيا إطلاقًا ولا يتسامحون في الرضا عنها إلا في رسوم ضيقة أشدّ الضيق، ولولا غلبة هذه النزعة عليهم لكان لهم موقف آخر في توجيه تلك الأحاديث، فما نظن أن الرسول كان يرى الدنيا جيفة في جميع الأحوال، والمعقول أنه كان يحقرها حين يرى الناس يتكالبون عليها ويقترفون في سبيلها منكر الآثام، ولو عرض الرسول لدنيا رجل صالح لقضى بأن الدنيا مطية المؤمن، وأن الغنى من نعم الله على عباده الصالحين.
إن وقوف الصوفية عند هذا الجانب من كلام الرسول لم يقع إلا عن قصد، فذلك هو منحاهم في الأخلاق، والشخصية الخلقية عندهم هي شخصية فقيرة معدمة لا تعرف غير التفكير في الجزء المجرد من الملكوت، أما النظر في هذا العالم الصاخب المملوء بالمحاسن والعيوب فذلك لأهل الدنيا الذين قضى عليهم الصوفية بالغفلة والسقوط.
واهتمام الصوفية بأدب المسيح يؤكد ما نراه في نزعتهم الأخلاقية، فالمسيح هو أعظم درويش عرفه هذا العالم، وهو في ذاته شخصية جذابة، ولكن الاقتداء به اقتداء مطلقًا لا يخلو من عدوان على مُلك العقل، ولا يصح النظر إلى المسيح كشخصية مستقلة تمام الاستقلال، وإنما يجب النظر فيما كان يحيط به من تكالب أرباب الأموال، وتصور ما كانوا عليه من قذارة التعامل وسفاهة الإجحاف، فاليهود الذين عرفهم عيسى كانوا بغوا في الأرض واشتروا رقاب الناس بالربا الفاحش، وكذلك كانت دعوته إلى بغض الدنيا دعوة طبيعية يقرها الأدب والذوق.
دفاع المؤلف عن الصوفية
ولكن كيف نبخل على الصوفية بما سمحنا به للمسيح، وكيف نحرّم هنا ما حللناه هناك؟
والواقع أن الصوفية نشأوا في بيئات غلب عليها الفساد، فساد الخلق والدين، وما كانت المعاملات بين الناس في العهود الماضية إلا ضروبًا من الختل والعدوان، وهل صلح الناس في زماننا هذا مع قوة القانون وحزم القضاء؟ حدثني كم رجلًا فيمن تعرف يصلح للتعاون بلا صكّ مكتوب؟ وكم رجلًا فيمن تصادق تأتمنه فلا يخون؟ وكم رجلًا فيمن تؤاخي يحفظ سرك ويرعى عهدك، ويظل ظهيرك في المحضر والمغيب؟
لقد نشأ الصوفية في أزمان لم يكن فيها لغير الحاكم المسيطر أمر يطاع، وكانت الدسائس والوشايات أساس الحل والعقد في قصور الخلفاء والأمراء والوزراء، وكان الندمان والمحاسيب هم محور الحركة والسكون، وأصل الإدبار والإقبال، على نحو ما يقع أحيانًا كثيرة في هذا الزمان، فكيف ننكر أن يكون إسراف الصوفية في ذم الدنيا أثرًا من آثار ذلك الإضطراب في السياسة والخلق والدين؟ وما هي تلك الدنيا البشعة التي يستجيز أهلها الغدر والعقوق؟ وهل يغدر الغادر ويعق العاق إلا وهو مؤيد بقوى خفية من الطمع والجشع، وحب التملك والاستعلاء؟
إن مطامع الدنيا هي الأصل في فساد الأخلاق، فهل يلام الصوفية على تحقيرهم إياها، ورمى عشاقها بالإثم والبهتان، وحربهم بأقوال الحكماء والأنبياء والمرسلين؟
إننا نتهم الصوفية بالضعف حين يفرون من دنيا السفهاء، فلنجالد نحن، ولننظر عواقب المعركة بين الهدى والضلال، وأغلب الظن أننا سنرمي الراية يائسين؛ لأن هنالك سرًا لا يعلمه إلا علام الغيوب، هنالك المشكلة الباقية التي قضت بأن لا يخلص العالم من اشتباك الحلم والجهل، والعقل والجنون.
إن رجل الأخلاق ليس أحسن حالًا من راعى الغنم، يجمع هذه فتنفر تلك، ولا يزال معذب القلب بين الشاردات والواردات، وليس أعظم قدرة من المدرس الذي يساق إليه التلاميذ بلا تخير ولا اصطفاء، ثم يطلب منه أن يتعلم تلاميذه جميعًا وأن ينجحوا جميعًا.
من الحق أن تطالب رجل الأخلاق بالثبات، ولكن من الظلم أن لا تشفق عليه حين ينهزم؛ فإن الضعف أنفذ سهمًا من القوة في عالم الأخلاق، أنت تعظ ولكن أين من يسمع؟ وتسير في طريق الهدى ولكن أين من يسايرك؟ وتبنى، ولكن أين من يشد أزرك، ويحمل معك أحجار الأساس؟!
- الأول: شعورهم بالتبعة الأخلاقية.
- والثاني: ضعفهم عن مقاومة الرذائل الاجتماعية.
- والثالث: فساد ما نشأوا فيه من البيئات الدينية والمعاشية.
ذم الدنيا وأثره في الأخلاق وفي الأدب
فإن سأل القارئ عن أثر ذلك في الأخلاق، فإنا نجيب بأن كتمان الصوفية لأسباب الهزيمة صور فرارهم من الدنيا بصورة العمل المقبول، فاقتدى بهم كثير من الناس وشاع الزهد في الطيبات فضاع من العالم الإسلامي جزء كبير من الثروة المعنوية التي يمثلها جمال العمران وتتابع الرزق في عالم الاقتصاد.
وما نريد أن نطيل في بيان ما غنم الأدب من تبرم الصوفية بدنيا الناس فقد عقدنا لذلك فصلًا موجزًا في القسم الأول بينّا فيه كيف أولع الصوفية بتصوير الدنيا، وكيف لونوها وعرضوها في مختلف التشبيهات …
ولننص في هذا المقام على أن ما قالوه حق، فالدنيا سخيفة لا ثبات لنعيمها ولا بقاء، ولكن الإصرار على إحقاق هذا الحق، والدوران حوله من وقت إلى وقت، أو تمثله في أغلب الأحوال، إنما هو من أوهام النفوس العليلة التي يتراءى لها شبح الموت في كل حين. والموت حق، ولكن الحياة أيضًا حق، والشغل بها من دلائل الفتوة الجسمية والعقلية والروحية، وإليها المرجع في تصوّر النعيم المأمول، وعلى ما فيها يقاس ما سيكون في دار البقاء.
مشكلة خلقية
فالحسن يقاوم التنعم، وينهى عنه الأغنياء الذين يؤدون حقوق المال.
وفي هذا الحكم اعتدال، وهو يقضى بأن الدنيا خليقة بالحب، وليس في حبها ما يعيب، على شرط أن لا تكون هي الغالبة، وأن يكون ما فيها من الطيبات وسيلة لصالح الأعمال.
المحمود والمذموم في الشؤون الدنيوية
وقد وضع الغزالي علائم واضحة للمحمود والمذموم من الشؤون الدنيوية، ويتلخص كلامه المطول في الفقرة الآتية:
النفس كالشجرة التي تحيا بالحرية في مكافحة الهواء
وهذا الكلام في ذاته مقبول. ولكنه ينتهي إلى غاية واحدة: هي أن يكون الإنسان كتلة خلقية لا يتقدم ولا يتأخر إلا وفقًا لسياسة روحية ضيقة المسالك. ومن الجميل أن يكون الإنسان كتلة خلقية، وأن يكون له في كل خطوة هاد من القلب والوجدان، ولكني أخشى أن يكون في ذلك ما يهدم جانبًا من دعائم الأخلاق، فالنفس قريبة الشبه بالشجرة الصغيرة التي تحيا بالحرية في مكافحة الهواء، ويؤذيها أن يرعاها الجنان في كل لحظة، وأن لا يدعها بغير سناد، وكذلك تخمد النفس حين تسأل عن كل شيء، فلا تقرب الطعام إلا لغرض، ولا تباشر اللباس إلا لغرض، ولا تنظر في في كتاب إلا بعد أن تميز لأي غاية ألف، ولا تصحب أحدًا إلا بعد أن تستوثق من الطهر في قصده المكنون.
لقد أسرف الصوفية في ذم الدنيا وأهلها، وأسرفوا في الدعوة إلى التحرر منها، ولو كانوا أصحاء لآثروا الاعتدال.