المقامات والأحوال
ما هو المقام وما هو الحال في اصطلاح الصوفية
المقامات: جمع مقام بالتذكير، وهو الخطبة أو العظة يلقيها الرجل في حضرة الخليفة أو
الملك، وقد عقد ابن قتيبة فصلًا في المجلد الثاني من عيون الأخبار سماه (مقامات الزهاد
عند الخلفاء والملوك) وقد تؤنث كقول بديع الزمان في أحد الواعظين (فاصبر عليه إلى آخر
مقامته، لعله ينبئ بعلامته)
١ والمقام في الأصل المجلس، ففي القرآن:
أَيُّ
الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وفي شعر زهير:
وفيهم مقامات حسان وجوههم
وأندية ينتابها القول والفعل
والمقام أيضًا الموقف العصيب. قال لبيد:
ومقام ضيق فرجته
بكلام وبيان وجدل
لو يقوم الفيل أو فيّاله
زلّ عن مثل مقامي وزحل
أما الصوفية فالمقام عندهم معناه: مقام العبد بين يدي الله عز وجل فيما يقام فيه من
العبادات والمجاهدات، والرياضات، والانقطاع إلى الله تباركت أسماؤه، ومنه آية القرآن:
ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ.
٢
أما الحال فنازلة تنزل بالقلوب فلا تدوم، والفرق بين المقام والحال أن المقام يكتسب
بطريق المجاهدات والعبادات والرياضات، وأن الحال يأتي من فيض الله، وقد أفصح الجرجاني
عن ذلك حين قال:
الحال عند أهل الحق معنى يرد على القلب من غير تصنع ولا اجتلاب، ولا اكتساب
من طرب أو حزن أو قبض أو بسط أو هيئة، ويزول بظهور صفات النفس سواء يعقبه المثل
أو لا، فإذا دام وصار ملكًا يسمى مقامًا، فالأحوال مواهب، والمقامات مكاسب،
والأحوال تأتي من عين الجود، والمقامات تحصل ببذل المجهود.
٣
أهمية المقامات والأحوال في تصوير الشخصية الخلقية
ودرس المقامات والأحوال يصور لنا فهم الصوفية للحياة الخلقية، وهم يرون الإنسان بين
حالين:
- الأول: حال المجاهدة،
- والثاني: تلقي الفيض،
فالشخصية الخلقية لا تنفك تجاهد الأهواء والشهوات، ولا تزال موجهة
القلب إلى النفحات الروحانية، فهي في شغل موصول بمواجهة أسباب الصفاء.
وأثر التصوف من هذه الناحية عظيم جدًا في الأخلاق، فالرجل المتصوف يحاسب نفسه في كل
لحظة، ويتلمس مواقع الفيض في كل لحظة، وهذه الشواغل الدائمة قد تكون مما يصرف النفس عن
التوجه لما يجدّ في عالم المحسوسات والمعقولات، وتصير الرجل من أهل الوسواس في تعقب ما
كان، وانتظار ما سيكون من أعمال القلب والوجدان، ولكنها عند الاعتدال تخلق من المرء قوة
خلقية تنفع في توجيه الإرادة إلى الصالح من الأعمال.
وعقل العصر الحاضر لا يفهم هذه الوسوسة الروحية؛ لأنه اندفع في التيارات الواقعية،
فلم يعد يدرك ما في هذه الوسوسة من الصدق والجلال. وأغلب الظن أن القلق في عالم العيش
هو الذي ضيق الخناق على المعاني الروحية؛ لأنها في نظر العقل الحاضر لا تقدم إلى
أصحابها شيئًا من البخار أو البنزين، والتصوف لا ينمو إلا في البيئات التي خفّت أثقالها
في عالم العيش، واستطاعت أن تغمض الجفون ولو لحظات لتنظر ما يجري في دنيا
الوجدان.
ونشهد أننا نجد مشقة في تقريب تلك السياسة النفسية من عقل هذا الزمان، ولكن ما حاجتنا
إلى ذلك؟ نحن نؤرخ بعض المذاهت الفلسفية، والمؤرخ لا يجمل به أن يشغل نفسه بالتحسين
والتقبيح، وإنما يجب عليه أن يقدم الصور الصحيحة لما وقع في التاريخ.
ولنواجه المشكلة بعزم وصراحة فنقول: إن تلك السياسة الصوفية أضرت من وجه وأحسنت من
وجوه، أضرت حين قصرت الشخصية الخليقة على الحياة الفردية، وقضت بأن يصم الرجل أذنيه في
أكثر الأحيان عما يجري في المجتمع من أخبار الجد والإبداع، وأحسنت حين ربطت مصير الفرد
بمجاهدة الأهواء، ومحاربة الشهوات، وأقنعته أن لا غنى له عن ترقب الفيض الإلهي في جميع
اللحظات، وراضته على احتقار المغانم الدنيوية، والإيمان بأن المغنم الحق هو الاتصال
بالمبدع الأول الذي وهب الروح لكل موجود، وصير العالم كتلة من الكهرباء.
عقل العصر الحاضر والحياة الروحية
ولنأخذ في شرح المقامات فنذكر أن المقام الأول هو التوبة النصوح، وهي ندم بالقلب،
واستغفار باللسان، وترك بالجوارح، وإضمار أن لا يعود التائب إلى الذنب.
٤
وجملة ما على العبد في التوبة وما تعلق بها عشر خصال:
- أولها: أن لا يعصي الله تعالى.
- والثانية: أن لا يصر إذا ابتلى بمعصية.
- والثالثة: التوبة إلى الله تعالى منها.
- والرابعة: الندم على ما فرط منه.
- والخامسة: عقد الاستقامة على الطاعة إلى الموت.
- والسادسة: خوف العقوبة.
- والسابعة: رجاء المغفرة.
- والثامنة: الاعتراف بالذنب.
- والتاسعة: اعتقاد أن الله قدر عليه ذلك، وأنه عدل منه.
- والعاشرة: المتابعة بالعمل الصالح ليكفر عما تقدم من السيئات.٥
وهذه الخصال تشهد بأن الصوفية يرون المرء مجردًا من الحول والقوة، فهو يذنب بقدر،
ويتوب بقدر، ومن واجبه أن يخاف العقوبة ويرجو المغفرة، وأن ينوي الاستقامة على الطاعة
إلى الموت.
وقليل من الإنصاف يكفي لإعلان أن هذه اللمحة من أهم الدعائم في الحياة الخلقية، فكل
تردد في التوبة هو في بناء الخلق صدع وانحلال، وكل صدق في التوبة هو حجر متين في تقوية
الشخصية الخلقية.
ومن علامة صدق التائب في توبته أن يستبدل بحلاوة الهوى حلاوة الطاعة
٦ ولا تصح للتائب توبة إلا بأكل الحلال، ولا يقدر على الحلال حتى يؤدي حق
الله تعالى في الخلق، وحق الله تعالى في نفسه، ولا يصحّ له هذا حتى يبرأ من حركته
وسكونه إلا بالله تعالى وحتى لا يأمن الاستدراج بأعماله الصالحات.
٧
ومن شرط التوبة أنه ينبغي للتائب المنيب أن يبدأ بمباينة أهل المعاصي ثم بنفسه التي
كان يعصي الله تعالى لها فلا ينيلها إلا ما لا بد منه، ثم الاعتزام على أن لا يعود في
معصية أبدًا، ويلقى عن الناس مؤونته، ويدع كل ما يضطره إلى جريرة.
٨
وينبغي لأهل التوبة أن يحاسبوا نفوسهم في كل طرفة، ويدعوا كل شهوة، ويتركوا الفضول،
وهي ستة أشياء: ترك فضول الكلام، وترك فضول النظر، وترك فضول المشي، وترك فضول الطعام،
والشراب واللباس.
٩
ولا تنظر، أيها التائب إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيت،
١٠ فقد كانت الصغائر عند الخائفين كبائر، وكان من الصحابة من يقول:
إنكم لتعملون أعمالًأ هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها في زمن النبي
ﷺ من
الموبقات.
١١ وليس معنى ذلك أن الكبائر التي كانت على
عهد النبي صارت بعده صغائر، ولكن معناه أنهم كانوا يستعظمون الصغائر لعظمة الله تعالى
في قلوبهم، ولم يكن ذلك الوجدان في قلوب من بعدهم من المؤمنين.
واختلف الصوفية في نسيان ما سلف من الذنوب، فقال بعضهم: حقيقة التوبة أن تنصب ذنبك
بين عينيك، وقال آخر: حقيقة التوبة أن تنسى ذنبك. وهذان طريقان لطائفتين، وحالان لأهل
مقامين، فأما ذكر الذنوب فطريق المريدين وحال الخائفين، وأما نسيان الذنوب فطريق
العارفين وحال المحبين.
١٢
ونحن نرجح الرأي الثاني، ونرى الأخذ به في جميع الأحوال، فإن تذكر الذنوب الماضية
يشلّ العزيمة، ويفت في عضد التائب، ويخلق جوًا جديدًا للتعرف إلى ما سلف من الذنوب، وهو
فوق ذلك جهد ضائع وشغل للقلب بما لا يفيد. وإقامة المناحات على الهفوات الماضية علالة
سخيفة يتوهم فريق من الناس أنها تزيد في طهر القلوب، وهي في عالم الأخلاق تشبه بعض ما
يقع في عالم القضاء، فلو كان يصح للقضاة أن يتعقبوا ماضي الناس ليأخذوا بهفوات قدم
عليها العهد لاختل الميزان، وذهب جمال الحاضر، وزهد الناس في فضل المتاب، فإن الأصل في
التوبة أن تكون حجازًا بين عهدين، وأن يصبح التائب وكأنه مولود جديد، ولا ننسى أن
اجترار الذكريات الماضية سيء الأثر في نظام الأعصاب، وهو خليق بأن ينتهب العافية ويضيع
جمال الساعة الحاضرة، وهي العدة الخلقية في نظام الأعمال.
ولا يقف الصوفية عند التوبة من الذنوب؛ لأنها في رأيهم توبة العوام بل يدعون إلى
التوبة من الغفلة، وهي عندهم توبة الخواص «فأما لسان أهل المعرفة والواجدين وخصوص
الخصوص في معنى التوبة فهو ما قاله أبو الحسين النوري رحمه الله حين سئل عن التوبة
فقال: التوبة أن تتوب من كل شيء سوى الله تعالى، وإلى هذا أشار الذي أشار بقوله: ذنوب
المقربين حسنات الأبرار، وهو ذو النون، والذي قال أيضًا: رياء العارفين إخلاص المريدين
فشتان بين تائب وتائب، فتائب يتوب من الذنوب والسيئات، وتائب يتوب من الزلل والغفلات،
وتائب يتوب من رؤية الحسنات والطاعات».
١٣
مقام التوبة
المقام الثاني: مقام الصبر، وهو مقام شريف، وقد جعله علي بن أبي طالب ركنًا من أركان
الإيمان، فقال: بني الإسلام على أربع دعائم: على اليقين والصبر والجهاد
والعدل،
١٤ وروي عن النبي أنه قال: من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر، ومن أعطى
حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار، ولأن تصبروا على مثل ما أنتم
عليه أحب إلي من أن يوافيني كل امرئ منكم عمل جميعكم، ولكني أخاف أن تفتح عليكم الدنيا
بعدي فينكر بعضكم بعضًا، وينكركم أهل السماء عند ذلك، فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه،
ثم قرأ:
مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ
وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ،
١٥ وكان سهل يقول: أفضل منازل
الطاعة الصبر عن المعصية، ثم الصبر على الطاعة … وقال: الصالحون في المؤمنين قليل،
والصادقون في الصالحين قليل، والصابرون في الصادقين قليل، فجعل الصبر خاصية للصدق، وجعل
الصابرين خصوص الصادقين
١٦ وقد قال بعض العلماء: ما كنا نعد إيمان من لم يؤذ فيحتمل الأذى ويصبر عليه إيمانًا
١٧ وقد قال الله تعالى في جزاء المخلصين:
أُولَـٰئِكَ
لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ وقال تعالى في جزاء الصابرين:
إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ
قيل في التفسير: يغرف لهم غرفًا، والمعنى في ذلك: أن الصبر أشق على النفس، وأمر على
الطبع، ويصعب فيه الألم والكظم عند الذل والضيم. ومنه التواضع والكتم، وفيه الأدب وحسن
الخلق، وبه يكون كف الأذى عن الخلق، واحتمال الأذى من الخلق، وهذه من عزائم الأمور،
التي يضيق منها أكثر الصدور.
١٨
وللصوفية في الصبر كلام كثير. حدث السراج الطوسي قال: وقف رجل على الشبلي رحمه الله
فقال له: أي صبر أشد على الصابرين؟ فقال: الصبر لله. فقال الرجل: لا، فقال: الصبر مع
الله، فقال: لا. فغضب الشبلي رحمه الله وقال: ويحك، فأيش؟ فقال الرجل: الصبر عن الله
عز
وجل. فصرخ الشبلي رحمه الله صرخة كادت تتلف روحه
١٩ قال: وسألت ابن سالم بالبصرة عن الصبر فقال: على ثلاثة أوجه: متصبر وصابر
وصبّار، فالمتصبر من صبر في الله تعالى، فمرة يصبر على المكاره، ومرة يعجز، والصابر من
يصبر لله وفي الله، ولا يجزع، وأما الصبار فذاك الذي صبره في الله ولله وبالله، فهذا
لو
وقع عليه جميع البلايا لا يعجز ولا يتغير، من جهة الوجوب والحقيقة، لا من جهة الرسم والخليقة
٢٠ وكان الشبلي يتمثل بهذه الأبيات إذا سئل عن الصبر:
عبرات خططن في الخد سطرًا
قد قراها من ليس يحسن يقرا
إن صوت المحب من ألم الشو
ق وخوف الفراق يورث ضرا
صابر الصبر فاستغاث به الصبـ
ر فصاح المحب بالصبر صبرا
وعناية الصوفية بالصبر تمثل جانبًا هامًا من تصورهم لكرائم الخلال، فالصبر في جوهره
من عناصر الشجاعة في مقاومة الشدائد، والشدائد قد تكون حسية وقد تكون عقلية. والصبر
عنصر أصيل في الحياة الخلقية، ويظهر فضله في كل باب من أبواب العيش: فيكون في العبادات،
وفي طلب العلم، وفي الصناعات، وفي معاملة الناس، ويكون في الصحة وفي المرض، وفي الحب
وفي البغض، وفي النعيم وفي البؤس. ورياضة النفس على الصبر هي ذاتها من مصادر العافية
في
عالم الأخلاق.
والصوفية يتمثلون الصبر في صور جذابة تفصح عنها الحكاية الآتية:
حكى عن ذي النون أنه قال: دخلت على مريض أعوده، فبينما كان يكلمني أنّ أنة، فقلت:
ليس
بصادق في حبه من لم يصبر على ضربه. فقال المريض: بل ليس بصادق في حبه من لم يتلذذ بضربه.
٢١
فالصابر على هذا الوجه يتلقى المكاره بالقبول، ويراها من نعم الله، وعند التأميل نرى
العناية الإلهية تسوق إلينا الشدائد لحكمة عالية، والجاهل هو الذي يضجر ويحزن ويكتئب،
أما العاقل فيلتمس وجوه الخير فيما يبتليه الله به من الشدائد، وقد جربنا فرأينا النقم
تساق لمنافع مستورة نجهلها كل الجهل، ثم تظهر رويدًا رويدًا فنرى الخيرة فيما اختاره
الله، ونندم على ما أسلفنا من الحزن والاكتئاب.
إن التخلق بخلق الصبر على هذا الوجه من أهم الدعائم في بناء الأخلاق، وأقل مزاياه
أن
يورثنا ابتسامة دائمة ندفع بها ما قد نفجع به من آلام وخطوب. والخلق الصحيح هو الذي
يورثك رباطة الجأش حين تثور الأنواء، ويمنحك السيطرة على الحوادث، ويومض لك ببريق الفوز
في حلك البأساء.
مقام الصبر
ويميل أكثر الصوفية إلى تفضيل الصبر على الشكر؛ لأن الصبر حال البلاء، والشكر حال
النعمة، والبلاء أفضل لأنه على النفس أشق
٢٢ وعند أكثرهم أن الصابر العارف أفضل من الشاكر العارف؛ لأن الصبر حال الفقر
والشكر حال الغنى، فمن فضل الشكر على الصبر في المعنى فكأنه قد فضّل الغنى على الفقر.
قال المكي: وليس هذا مذهب أحد من القدماء، إنما هذه طريقة علماء الدنيا … فإن من فضل
الغنى على الفقر فقد فضل الرغبة على الزهد، والعز على الذل، والكبر على التواضع. وفي
هذا تفضيل الراغبين والأغنياء على الزاهدين والفقراء، ويخرج ذلك إلى تفضيل أبناء الدنيا
على أبناء الآخرة، وإنما فضلنا الصبر على الشكر في الجملة والمعنى؛ لأن الصبر حال من
مقامه البلاء، وأهل البلاء هم الأمثل فالأمثل بالأنبياء. ولأن الصبر أبعد من أهواء
النفوس، وأقرب إلى الضر والبؤس، وأشد في مكاره النفوس، وأنفر لطباعها، وأشد مباينة لما
يلائمها.
٢٣
وهذا الكلام يمثل اتجاه الصوفية في أكثر ضروب الحياة، فالجانب الأقرب إلى البؤس
والخمول هو عندهم أقرب إلى الطاعة والصفاء، والظاهر أنهم لم يتنبهوا كل التنبه إلى قيمة
الشكر في الغنى، ولو فطنوا له لعرفوا أن الشكر على الغنى يفرض على صاحبه مكاره قد تكون
أصعب من الصبر على البلاء. فالشكر على الغنى ليس كلمة تسهل فتقال، ولكنه جهاد عنيف يلقى
فيه الأغنياء بلايا من حرب النفس، وليس من القليل أن ينتصر الغني على نزواته وأهوائه
وأطماعه؛ فيؤدي حقوق الجاه، وحقوق المال، ويعيش عيش الأصفياء الذين لا يعرفون غير
الحلال.
مقام الشكر
على أن من الصوفية من فضل الشكر على الصبر، فقد قال مطرّف بن عبد الله: لأن أعافي
فأشكر أحب إلي من أن ابتلي فاصبر؛ لأن مقام العوافي أقرب إلى السلامة، فلذلك أختار
الشكر على الصبر؛ لأن الصبر حال أهل البلاء.
٢٤
وصاحب هذا الكلام يرى العافية من أبواب السلامة، أي سلامة النفوس؛ لأن البلاء قد يعرض
النفس للجزع والارتياب، وتعريض النفس للفتنة غير مأمون العواقب، أما العافية فتحفظ
توازن النفس، وتجعل الرجل قادرًا على صالح الأعمال.
والحق أن الإنسان يكابر حين يرحب بالمصائب؛ لأنه أسير لنظام الأعصاب في أكثر الأحيان،
ومن الخير له أن يسأل الله العافية، وأن يتجنب التعرض للامتحان، فقد يضعف عن مواجهة ما
يشتهي من المصاعب، ويعرف بعد الانزلاق في هوة المكاره أن العزيمة قد تفتر أو
تخون.
وعند التأمل نرى النعم والعوافي تزيد في الصلة الروحية بين الإنسان وبين ربه، والفرق
بعيد بين الحالين: حال الطمأنينة، وحال الاحتساب، فالمطمئن ينظر إلى ربه نظرة المدين،
وهي نظرة كلها ترفق وتخشّع، أما الصابر المحتسب فيتعرض للزهو بالصبر على ما يعاني،
والزهو من أشد آفات النفوس.
٢٥
مقام الرجاء
وهناك مقام الرجاء، والرجاء: هو اسم لقوة الطمع في الشيء بمنزلة الخوف، اسم لقوة
الحذر من الشيء، ولذلك أقام الله تعالى الطمع مقام الرجاء في التسمية، وأقام الحذر مقام
الخوف، فقال:
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا
وَطَمَعًا٢٦ والرجاء من أوصاف المؤمنين، ولا يصح الإيمان إلا به، كما لا يصح الإيمان
إلا بالخوف، فالرجاء بمنزلة أحد جناحي الطائر، وهو لا يطير إلا بجناحيه، كذلك لا يؤمن
من لا يرجو من آمن به ويخافه، وهو أيضًا مقام من حسن الظن بالله تعالى، وجميل التأميل
له، وقد أوصى به الرسول فقال: لا يموتن أحدكم إلا وهو حسن الظن بالله تعالى؛ لأنه قال:
أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء.
٢٧
ومن علامة صحة الرجاء في العبد أن يكون الخوف باطنًا في رجائه، لأن من تحقق برجاء
شيء
خاف فوته لعظم المرجو في قلبه وشدة اغتباطه به، فهو لا ينفك في حال رجائه من خوف فوت
الرجاء. والرجاء هو ترويحات الخائفين، ولذلك سمت العرب الرجاء خوفًا؛ لأنهما وصفان لا
ينفك أحدهما عن الآخر، ومن مذهبهم إذا كان الشيء لازمًا لشيء أو وصفًا له أو سببًا منه
أن يعبروا عنه به، فقالوا: مالك لا ترجو كذا، وهم يريدون مالك لا تخاف.
٢٨
وللصوفية كلام كثير جدًا في الرجاء، واهتمامهم به هو أيضًا من دعائم الأخلاق؛ لأن
المذنب الذي لا يرجو ربه في قبول المتاب ينقلب إلى قوة يائسة خطرة لا يرجى لها صلاح،
ولا ينتظر منها نفع، وانقطاع الصلة بين المرء وبين ربه هو أقصى غايات الفساد. وتخويف
المرء من ربه له حدود، ولا ينبغي أن يصل الخوف إلى اليأس؛ فإن التربية التي تقوم على
الخوف المطلق تربية فاسدة؛ لأنها تطمس أصول النور في القلب، وتمنع عناصر الخير من
النهوض، ففي كل إنسان عواطف غافية تنتظر لحظات التيقظ والانتباه، والرياضة الصحيحة هي
التي تعني بإيقاظ ما غفا من عواطف الخير والبر والرشاد.
مقام الخوف
ومع أن الصوفية يوصون بالرجاء، فهم أيضًا يوصون بالخوف، ويرون أن المحب لا يسقى كأس
المحبة إلا من بعد أن ينضج الخوف قلبه، وكل مؤمن بالله تعالى خائف منه، ولكن خوفه على
قدر قربه
٢٩ والخوف نوعان: خوف العموم، وهو أن يحفظ رأسه وما حواه من السمع والبصر
واللسان، وأن يحفظ بطنه وما وعاه وهو القلب والفرج واليد والرجل، فأما خوف الخصوص فهو
أن لا يجمع ما لا يأكل، ولا يبني ما لا يسكن، لا يكاثر فيما عنه ينتقل، وهذا هو الزهد.
٣٠
والصوفية يرون الخوف ملاك الحياة الخلقية، فسر بعضهم هذه الآية
خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ فقال: يبلوكم بتقليب القلوب
في حال الحياة بخواطر الذنوب، وفي حال الموت بالحياد عن التوحيد، فمن خرجت روحه على
التوحيد وجاوزت البلاوي كلها إلى المبلي فهو المؤمن، وذلك هو البلاء الحسن، كما قال
الله تعالى:
وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً
حَسَنًا فهذه المعاني من العلم أوجبت خوف الخائفين من علم الله تعالى فيهم،
فلم ينظروا معها إلى محاسن أعمالهم، لحقيقة معرفتهم بربهم.
٣١
والخوف عند العلماء على غير ما يتصور في أوهام العامة، وخلاف ما يعدونه من القلق
والاحتراق أو الوله والانزعاج؛ لأن هذه خطرات وأحوال ومواجيد للوالهين، وليست من حقيقة
العلم في شيء، وإنما الخوف اسم لصحيح العلم وصدق المشاهدة، فإن أعطى عبد حقيقة العلم
وصدق اليقين سمى هذا خائفًا، ولذلك كان النبي
ﷺ من أخوف الخلق؛ لأنه كان على
حقيقة العلم، ومن أشدهم حبًا لله تعالى لأنه كان في نهاية القرب.
٣٢
وليس لدينا من الأنوار الروحانية ما نستطيع به شرح هذه الإشارة وهي تبدو لنا في غاية
من العمق، ويكفي أن نقول إنها تقسم الخائفين إلى طائفتين: طائفة تخاف العذاب فتقاسي
أهوال المخاوف الحسية، وطائفة يكمن خوفها في حقيقة العلم وصدق اليقين، ولا يظهر عليها
جزع ولا هلع ولا إشفاق.
ويخيل إليّ أن تفسير هذا الخوف يتمثل في طمأنينة من يعلم فيقف عند الواجب، ولا يعرّض
نفسه لزيغ ولا إثم ولا فسوق، ثم يترقى في خوفه فيتحلى بأشرف ما يتحلى به المقربون،
وعندئذ تنتقل مظاهر الخوف من عالم الجسم إلى عالم الروح، فتكون للعارف أشجان لا يدركها
إلا أهل الصفاء.
مقام الرضا
ويجيء بعد ذلك مقام الرضا، والرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا، وهو أن يكون قلب
العبد ساكنًا تحت حكم الله عز وجل.
٣٣
وأهل الرضا في الرضا على ثلاثة أحوال: فمنهم من
يعمل في إسقاط الجزع بحيث يستوي عنده ما يجري عليه من حكم الله، من المكاره والشدائد
والراحات والمنع والعطاء، ومنهم من يذهب عن رؤية رضائه عن الله برؤية رضا الله عنه، فلا
يثبت لنفسه قدم في الرضا، وإن استوى عنده الشدة والرخاء والمنع والعطاء، ومنهم من يجاوز
هذا ويذهب عن رؤية رضا الله عنه ورضاه عن الله لما سبق من الله تعالى لخلقه من الرضا
٣٤ والمتأمل يرى في هذا المقام قاعدة متينة من أصول الأخلاق، فالتسليم لله من
أدب النفس، وهو يطرد عن القلب نوازع كثيرة يخلقها التفكير في النصيب الحاضر من حظوظ
الحياة، ومن الواضح أن هذا المقام يحتاج إلى رياضة شديدة؛ لأن الرضا لا يكون إلا بعد
تطهير القلب من الوساوس النفسية.
وهو بالتأكيد من أسباب الاطمئنان، والطمأنينة أكبر الغنائم في الحياة الخلقية. وقد
يقال إن الرضا المطلق يبعث على البلادة ويغري النفس بإيثار الركود، ونجيب بأنه لا تنافي
بين الرضا بالواقع وبين الرغبة في تكميل النفس، وإمدادها بما تحتاج إليه من الأغذية
الدنيوية والعقلية والروحية.
مقام الزهد
ومن أهم المقامات مقام الزهد «وهو أساس الأحوال الرضية، والمراتب السنية، وهو أول
قدم
القاصدين إلى الله عز وجل والمنقطعين إلى الله والراضين عن الله والمتوكلين على الله
تعالى، فمن لم يُحكم أساسه في الزهد لم يصح له شيء مما بعده؛ لأن حب الدنيا رأس كل
خطيئة، والزهد في الدنيا رأس كل خير وطاعة».
٣٥
والمراد هو الزهد في الحلال الموجود، وأما
الحرام والشبهة فتركه واجب
٣٦ والزهاد على ثلاث طبقات: فمنهم
المبتدئون، وهم الذين خلت أيديهم من الأملاك وخلت قلوبهم مما خلت منه أيديهم، ومنهم
المتحققون في الزهد، وهم الذين تركوا حظوظ النفس من جميع ما في الدنيا، وإنما كان هذا
زهد المتحققين؛ لأن الزهد في الدنيا فيه حظ للنفس هو الثناء والمحمدة واتخاذ الجاه عند
الناس، فمن زهد بقلبه في هذه الحظوظ فهو متحقق في زهده، أما الفرقة الثالثة: فهي التي
تزهد في الزهد، ويمثلها قول الشبلي: الزهد غفلة؛ لأن الدنيا لا شيء، والزهد في لا شيء
غفلة.
٣٧
وقد يبدو لنا هذا القول غريبًا أشد الغرابة،
ولكن ما يهمنا؟ نحن نؤرخ فكرة فلسفية فيها الواضح والغامض، والمقبول والمردود، وليس من
المستبعد أن تمر بالنفس لحظات تؤمن فيها بأن الخلق كل الخلق أن يعتقد المرء أن الدنيا
لا شيء، ومن التجني أن نطلق القول بأن هذه النزعة علامة مرض، فقد تكون حينًا من علائم
العافية، ومن العدل أن نقضي بأن الخلق السليم قد يوجب الطمع حينًا، والزهد حينًأ، يوجب
الطمع حين يستطيع المرء أن يوجه منافع دنياه وجهة الخير والشرف، ويوجب الزهد حين يخشى
المرء أن تسير به دنياه إلى مزالق البغي والعدوان.
ونشهد صادقين بأننا نحار في تعليل هذه المقامات أشد الحيرة، ونخاف في أحوال كثيرة
من
عواقب التجني على الصوفية، ففي منافع العيش خير وشرف وجمال، ولكن فيها أحيانًا شر وضعة
وقبح، والذي يمشي على صراط الخلق يتذكر الصراط الذي وصفوه بأنه أدق من الشعرة وأحدّ من
السيف.
مقام الفقر
ويأتي بعد مقام الزهد مقام الفقر، وهو عند الصوفية مقام شريف، يؤيدهم فيه قول الرسول:
الفقر أزين بالعبد المؤمن من العذار الجيد على خد الفرس
٣٨ وقد وصفه الخواص فقال: الفقر رداء الشرف، ولباس المرسلين، وجلباب الصالحين،
وتاج المتقين، وزين المؤمنين، وغنيمة العارفين، ومنية المريدين، وحصن المطيعين، وسجن
المذنبين.
٣٩
والفقراء على ثلاث طبقات: فمنهم من لا يملك شيئًا ولا يطلب بظاهره ولا بباطنه من
أحد
شيئًا، ولا ينتظر من أحد شيئًا، وإن أعطى شيئًا لم يأخذ وهذا مقام المقربين، ومنهم من
لا يملك شيئًا ولا يسأل أحدًا، ولا يطلب ولا يعرض، وإن أعطى شيئًا من غير مسألة أخذ،
ومنهم من لا يملك شيئًا وإذا احتاج انبسط إلى بعض إخوانه ممن يعلم أنه يفرح بانبساطه
إليه.
٤٠
ونحن في هذا المقام نواجه شخصية «الدرويش» وهي شخصية نمقتها أشد المقت؛ لأنها حرب
على
الأخلاق، وتنتهي إلى إيثار الهرب من تكاليف الحياة. فالفقير الأول الذي لا يملك ولا
يطلب ولا يقبل ليس إلا صورة خيالية، والأمعاء لم تخلق عبثًا، وإنما هي جنود تقوم بوظائف
حيوية لا يمتري فيها إلا المكابرون. والفقير الذي لا يملك ولا يطلب ثم يقبل هو من
الشخصيات الضعيفة الحول في هذه الحياة، والفقير الذي لا يملك ثم ينبسط إلى إخوانه حين
يحتاج هو إنسان رقيع، والخير له أن ينبسط إلى العمل والجد والكفاح في ميادين الرزق
الحلال.
ولا ننكر أن الصوفية استطاعوا تزيين هذه الشخصيات، فقد قال أبو علي الروزباري: سألني
أبو بكر الدقاق فقال: يا أبي علي، لم ترك الفقراء أخذ البلغة في وقت الحاجة؟ فقلت:
لأنهم مشغولون بالمعطى عن العطاء، فقال: نعم، ولكن وقع لي شيء آخر، فقلت: هات أفدني ما
وقع لك. فقال: لأنهم قوم لا ينفعهم الوجود إذ الله فاقتهم، ولا تضرهم الفاقة إذ الله
وجودهم.
٤١
وهذا كلام طريف، ولكن يجب أن تقف طرافته عند هذا الحد فلا تتعداه إلى وضع القواعد
الخلقية، وإلا سادت الفوضى وعمّ الكسل والجمود.
٤٢
مقام الورع
ومن المقامات الشريفة مقام الورع، وهو ملاك الدين، ومن الصوفية من يتورع عن الشبهات،
وهي ما بين الحرام البين والحلال البين وما لا يقع عليه اسم حلال مطلق ولا اسم حرام
مطلق فيكون بين ذلك
٤٣ ومنهم من يتورع عما يقف عنه قلبه ويحيك في صدره، وهذا لا يعرفه إلا أرباب
القلوب، وهناك ورع العارفين والواجدين، وهم الذين يرون أن كل ما يشغلك عن الله فهو
مشئوم عليك.
٤٤
ومن أشرف ما قيل في الورع قول أبي سعيد الخراز: الورع أن تتبرأ من مظالم الخلق ومن
مثاقيل الذر حتى لا يكون لأحدهم قبلك مظلمة ولا دعوى ولا طلبة.
٤٥
وهذا رأى سديد، فنحن في الأغلب ننسى حقوق الناس، وهي كثيرة جدًا، يتصل بعضها بالسلوك،
وبعضها بالمعاش، ولا يستطيع تحقيق الورع على هذا الوجه إلا الأقلون.
حال المراقبة
ومن شريف الأحوال المراقبة، وأشرف أحوال المراقبة أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم
تكن
تراه فإنه يراك،
٤٦ أو أن تراقب الله وتسأله أن يرعاك، فإنه
لا يكل خاصته في جميع أحوالهم إلى نفوسهم، ولا إلى أحد
٤٧
وقال ابن عطاء لبعض حكماء خراسان ممن قد ولع بالجهل وقارن التقشف: أو ما علمت أن ما
تقارن ببدنك أقذار في جنب ما تطالع بقلبك، وما تطالعه بقلبك هباء في جنب ما تراقب في
سرك؟ فراقب الله في سرك وعلانيتك فإنه خير مما تقارن من عملك وعبادتك.
حال القرب
وقد ينشأ عن المراقبة حال القرب وحال الحب، أما القرب فسبيله الطاعة وصدق العبودية،
كما قيل:
تحققتك في السر
فناجاك لساني
فاجتمعنا لمعان
وافترقنا لمعان
إن يكن غيبك التعــ
ـــظيم عن لحظ عياني
فلقد صيرك الوجـــ
ـــد من الأحشاء داني
وأما المحبة فسبيلها الأنس بالنعم الإلهية، والمحبون على ثلاثة أحوال:
- فالحال الأول: محبة العامة، ويتولد ذلك من إحسان الله تعالى إليهم، وعطفه عليهم،
وشرط هذا الحال صفاء الود مع دوام الذكر، وموافقة القلوب لله وبذل
المجهود، والمبالغة في الثناء على المحبوب.
- والحال الثاني: يتولد من نظر القلب إلى جلال الله وعظمته وعلمه وقدرته، وهو حب
الصادقين، وشرطه هتك الأستار، وكشف الأسرار، ومحو الإرادات.
- وأما الحال الثالث: فهو محبة الصديقين والعارفين، وهي تتولد من نظرهم ومعرفتهم بقديم حب
الله تعالى بلا علة، فيحبونه كذلك بلا علة.
وقد سئل ذو النون فقيل له: ما المحبة الصافية التي لا كدرة فيها؟
فأجاب: حب الله الصافي الذي لا كدرة فيه سقوط المحبة عن القلب والجوارح حتى لا تكون
فيها المحبة، وتكون الأشياء بالله ولله، فذلك المحب لله.
وحب الله من أهم القواعد في بناء الأخلاق، وهو يحولنا إلى أرواح لطيفة لا يصدر عنها
شرّ ولا عدوان، وقد يصل بنا إلى حبّ كل شيء في الوجود، حين تتمثل العالم كله من صنع
المحبوب. وهذا بالطبع لا يتيسر إلا حين يغلب علينا الصفاء، فننسى البغض والحق والانتقام
والحسد، وسائر الدسائس الصغيرة التي تفسد جمال الحياة، وتصير الأحياء أشقياء.
والصوفية يشترطون في الحب أن يتصل بأدب النفس، فمن المحبة الاستراحة إلى علم الله
وحده بحال المحب، وإخلاص المعاملة لوجهه، وحسن الأدب فيها وهو الإخفاء لها، وكتم ما
يحكم به من الضيق والشدائد، وإظهار ما ينعم به من الألطاف والفوائد، وكثرة التفكر في
نعمائه وخفي ألطافه وغرائب صنعه وعجائب قدرته، وحسن الثناء عليه في كل حال، والصبر على
بلائه؛ لأن المحب قد صار من أهله وأوليائه. والمحبوب قد يعنف بأحبابه لتمكنه منهم
ومكانتهم عنده؛ لعلمه أنهم لا يريدون به بدلًا، ولا يبغون عنه حولًا: إذ ليست لهم راحة
لسواه، ولا بغية في سواه، ولا همّ لهم إلا فيه، كما قال بعض المحبين: ويلي منك، وويلي
عنك، أفزع منك وأشتاق إليك، إن طلبتك أتعبتني، وإن هربت منك طلبتني، فليس لي معك راحة،
ولا لي في غيرك استراحة.
٤٨
وكانت رابعة العدوية من المحبين، سألها النوري فقال: لكل عبد شريطة ولكل إيمان حقيقة،
فما حقيقة إيمانك؟ فقالت: ما عبدت الله خوفًا من الله فأكون كالأمة السوء إن خافت عملت،
ولا حبًا للجنة فأكون كأمة السوء إن أعطيب عملت، ولكني عبدته حبًا له وشوقًا إليه.
٤٩ وخطبها محمد بن سليمان أمير البصرة على مئة ألف وقال: لي غلة عشرة آلاف في
كل شهر أدفعها إليك، فكتبت إليه: ما يسرني أنك لي عبد وأن كل ما تملكه لي، وأنك شغلتني
عن الله طرفة عين.
٥٠
ولها أبيات في معنى المحبة رواها كبار الرجال من القوم:
أحبك حبين حب الهوى
وحبًا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حبُّ الهوى
فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك للحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
ولننظر شرح المكي لهذه الأبيات؛ لأنه يصور فهم الصوفية للحب، وهو يستكثر أن يدركه
من
لا ذوق له ولا قدم له فيه، ويقول في معنى حب الهوى: «إني رأيتك فأحببتك عن مشاهدة عين
اليقين، لا عن خبر وسمع وتصديق من طريق النعم والإحسان فتختلف محبتي إذا تغيرت الأفعال
لاختلاف ذلك عليّ، ولكن محبتي من طريق العيان فقربت منك، وهربت إليك، واشتغلت بك
وانقطعت عمن سواك، وقد كانت لي قبل ذلك أهواء متفرقة، فلما رأيتك اجتمعت كلها فصرت أنت
كلية القلب وجملة المحبة فأنسيتني ما سواك، ثم إني مع ذلك لا أستحق على هذا الحب ولا
أستأهل أن أنظر إليك في الآخرة على الكشف والعيان في محل الرضوان؛ لأن حبي لك لا يوجب
عليك جزاء عليه، بل يوجب علي في كل شيء لك كل شيء مما لا أطيقه، ولا أقوم بحقك فيه
أبدًا، إذ كنت قد أحببتك فلزمني خوف التقصير، ووجب علي الحياء من قلة الوفاء، فتفضلت
علي بفضل كرمك، وما أنت له أهل من تفضلك، فأريتني وجهك عندك آخرًا كما أريتنيه اليوم
عندي أولًا، فلك الحمد على ما تفضلت به في ذا عندي في الدنيا ولك الحمد على ما تفضلت
به
في ذاك عندي في الآخرة، ولا حمد لي في ذا ههنا ولا حمد لي في ذاك هناك، إذ كنت إنما
وصلت إليهما بك، فأنت المحمود فيهما لأنك وصلتني بهما».
٥١
وهذا التفسير يدل على أن الصوفية لا يقفون في فهم الحب عند المعاني الفطرية، ولكنهم
يتوغلون فيعللون ويحللون ويصبغون الحب بصبغة الفكر والعقل، فهم ينظرون إلى الحب نظرة
فلسفية ويضيفونه إلى دقائق المشكلات العقلية.
حال الحب
ويتصل بحال الحب حال الشوق، وقد روى عنه
ﷺ أنه كان يقول في دعائه: أسأكل لذة
النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك. ولذة النظر إلى وجه الله تعالى في الآخرة، والشوق إلى
لقائه في الدنيا.
٥٢ وسئل بعضهم عن الشوق فقال: هيمان القلب عند ذكر المحبوب، وقال آخر: الشوق
نار الله تعالى أشعلها في قلوب أوليائه حتى يحرق بها ما في قلوبهم من الخواطر والإرادات
والعوارض والحاجات
٥٣ وأهل الشوق في الشوق على ثلاثة أحوال: فمنهم من اشتاق إلى ما وعد الله
تعالى لأوليائه من الثواب والكرامة والفضل والرضوان، ومنهم من اشتاق إلى محبوبه من شدة
محبته، وتبرمه ببقائه شوقًا إلى لقائه، ومنهم من شاهد في قرب سيده أنه حاضر لا يغيب،
فتنعم قلبه بذكره، وقال: إنما يشتاق إلى غائب وهو حاضر لا يغيب، فذهب بالشوق عن رؤية
الشوق فهو مشتاق بلا شوق، ودلائله تصفه عند أهله بالشوق وهو لا يصف نفسه
بالشوق.
٥٤
وهذا نظر دقيق، فقوة الحب تذهل المحب عن إدراك حال الشوق؛ لأن التفكير في المحبوب
ليس
إلا من أحوال أهل البدايات في الحب، فإذا امتزجت الأرواح نسي الحب ونسي الشوق.
حال الشوق
أما حال الأنس فلا يمكن التعبير عنه بأكثر من قول الطوسي: معنى الأنس بالله الاعتماد
عليه والسكون إليه والاستعانة به
٥٥ ومن شواهده ما روي أن
مطرف بن عبد الله كتب إلى عمر بن عبد العزيز:
«ليكن أنسك بالله وانقطاعك إليه، فإن لله تعالى عبادًا استأنسوا بالله فكانوا
في وحدتهم أشد استئناسًا من الناس في كثرتهم، وأوحش ما يكون الناس آنس ما
يكونون، وآنس ما يكون الناس أوحش ما يكونون».
٥٦
وأهل الأنس في الأنس على ثلاثة أحوال: فمنهم من أنس بالذكر واستوحش من الغفلة، وأنس
بالطاعة واستوحش من الذنب. ويفسر هذا قول سهل بن عبد الله: أول الأنس من العبد تأنس
النفس والجوارح بالعقل، ويأنس العقل والنفس بعلم الشرع، ويأنس العقل والنفس والجوارح
بالعمل لله خالصًا فيأنس العبد بالله، أي يسكن إليه
٥٧
والحال الثاني: أن يأنس العبد بالله ويستوحش مما سواه من العوارض والخواطر الشاغلة،
ويفسره قول ذي النون وقد قيل له: ما علامة الأنس بالله؟ فقال: إذا رأيته يؤنسك بخلقه
فإنه هو ذا يوحشك من نفسه، وإذا رأيته يوحشك من خلقه فهو ذا يؤنسك بنفسه.
٥٨ والحال الثالث: هو الذهاب عن رؤية الأنس بوجود الهيبة والقرب والتعظيم مع
الأنس. وسئل الشبلي عن الأنس فقال: وحشتك منك ومن نفسك ومن الكون.
٥٩
حال الأنس
والأنس بالله يقتضي الطمأنينة، وهي ضروب: طمأنينة العوام الذين إذا ذكروا ربهم
اطمأنوا إلى ذكرهم له، فحظهم منه الإجابة للدعوات باتساع الرزق ودفع الآفات، وطمأنينة
الخواص الذين يرضون بقضاء الله ويصبرون على بلائه، وطمأنينة خواص الخواص وهم الذين
علموا أن سرائرهم لا تقدر أن تطمئن إليه هيبة وتعظيمًا؛ لأنه ليس له غاية تدرك، وليس
وليس كمثله شيء.
٦٠
حال الطمأنينة
والطمأنينة تقتضي المشاهدة، وهي وصل بين رؤية القلوب ورؤية العيان، وتتمثل في مشاهدة
الأشياء بأعين الفكر، وأشرف أحوالها أن تشاهد قلوب العارفين مشاهدة تثبيت فيكونوا
حاضرين غائبين وغائبين حاضرين على انفراد الحق في الغيبة والحضور، فيشاهدوه ظاهرًا
وباطنًا وآخرًا وأولًا.
٦١
حال اليقين
والمشاهدة تقتضي حال اليقين، واليقين هو ارتفاع الشك، وليس لزياداته نهاية، وكلما
تفقه المريدون في الدين ازدادوا يقينًا إلى يقين، ونهاية اليقين تحقيق التصديق بالغيب
بإزالة كل شك وريب.
٦٢
درجات العشق ونقلها إلى التصوف
إلى هنا عرف القارئ صورًا من المقامات والأحوال، ورأى كيف تمثل هذه النوازع فهم
الصوفية للحياة الخلقية. ولنقرر أننا اعتمدنا في هذا البحث على كتاب اللمع وكتاب قوت
القلوب، وبين هذين الكتابين تفاوت قليل في فهم المقامات والأحوال، فما يكون حالًا عند
هذا قد يكون مقامًا عند ذاك.
أما تقسيم بعض المقامات أو الأحوال إلى درجات ثلاث، فهو من صنع الطوسي في اللمع، ومن
واجبنا أن ننبه القارئ إلى أن هذا التقسيم لا يعدو حدود التقريب، فالنفس قد يكون لها
في
الحال الواحد مئات من الأشكال، وقد يتقلب القلب في اللحظة الواحدة إلى ضروب مختلفة من
الأنس واليقين، وتلك وثبات روحية لا يعلم تصرفها غير علام الغيوب.
ولنشر في ختام هذا الفصل إلى رأي المسيو ماسينيون في مقامات العشق، وهو يرى أن العشاق
نقلوا أحوال الحب عن الصوفية، ومن أمثلة ذلك قول محمد بن داود: «إن الأحوال التي تتولد
عن السماع والنظر مختلفة ولها مراتب: فأول ما يتولد عن النظر والسماع الاستحسان، ثم
يقوى فيصير مودة، والمودة سبب الإرادة، فمن ود إنسانًا ود أن يكون له خلًا، ومن ود
غرضًا ود أن يكون له ملكًا. ثم تقوى المودة فتصير محبة، ثم تقوى المحبة فتصير خلة، ثم
تقوى الخلة فتوجب الهوى، ثم يقوى الهوى فتصير عشقًا، ثم يزداد العشق فيصير تتيمًا، ثم
يزداد التتيم فيصير ولهًا. والشوق تابع لكل واحدة من هذه الأحوال، والمستحسن يشتاق إلى
ما يستحسنه على قدر محله من نفسه، ثم كلما قويت الحال قوي معها الاشتياق».
٦٣
والواقع أن الحب الذي يفهمه ابن داود هو ذاته نزعة صوفية، فقد وقف عند قول أبي
الشيص:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي
متأخر عنه ولا متقدَّم
أجد الملامة في هواك لذيذة
حبًا لذكرك فليلمني اللوم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم
إذ كان حظي منك حظي منهمُ
وأهنتني فأهنت نفسي جاهدًا
ما من يهون عليك ممن أكرم
ثم قال: ولو لم يقل أبو الشيص في عمره بل لو لم يقل أحد من أهل عصره غير هذه الأبيات
لكانوا غير مقصرين، وإذا كانت كل خواطر العاشق فيما يتمناه واقعة ممن يهواه على الأمر
الذي يرضاه، فهذه هي المشاكلة الطبيعية التي لا يفنيها مر الزمان، ولا تزول إلا بزوال
الإنسان، وإذا صح هذا المذهب لم يعجب من أن يميل الإنسان إلى الإنسان بخلة أو خلتين،
فإذا زالت العلة زال الهوى، فلا يزال المرابط متنقلًا إلى أن يصادف من يجتمع فيه هواه
فحينئذ يرضاه فلا ينعطف عنه إلى أحد سواه.
وليس من المستبعد أن يكون الصوفية هم الذين أخذوا المقامات والأحوال عن المحبين،
فالحب الحسي يقع أولًا، ويجيء الحب الروحي ثم الإلهي ثانيًا. والعرب حين قالوا (تيم
اللات) أو (تيم الله) إنما نقلوا التتيم من المحسوس إلى المعقول، فشبهوا الحب الروحي
بالحب الحسي؛ لأن المحسوس أقوى في الظهور من المعقول.
وقد ظل الحب الحسي مقياسًا للصدق، حتى صح لأحدهم أن يقول:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقًا لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع