صورته في الأخيلة الشعبية
والواقع أن التنسك كان معروفًا في الجاهلية، وقد حدثنا ياقوت عن حنظلة بن أبي عفراء
الذي بنى دير حنظلة بالقرب من شاطئ الفرات «وكان قد نسك في الجاهلية وتنصر وبنى هذا
الدير فعرف به»،
٤ وحدث الخطيب البغدادي بسنده عن ابن المبارك عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في
قول الله تعالى:
يَا أُخْتَ هَارُونَ قال: كان رجلًا
صالحًا في بني إسرائيل حضر جنازته أربعون ألفًا ممن اسمه هارون سواه،
٥ والصلاح هنا هو التنسك، وأخت هارون هي مريم وكانت بأرض موصولة بالبلاد
العربية.
وكان في الجاهلية لفظة هي «الديان»، وكان في الجاهليين يزيد وعبد المسيح «ابنا
الديان» مدحهما الأعشى فقال:
فإن تفعلا خيرًا وترتديا به
فإنكما أهل لذاك كلاكما
وإن تكفيا نجران أمر عظيمة
فقبلكما ما سادها أبواكما
٦
والديان المتنسك في الدين، ومثله الرباني وهي كلمة قديمة عرفتها العربية والسريانية،
وظلت من ألفاظ التمجيد، وقد وصف البويطي بأنه «كان إمامًا ربانيًّا كثير العبادة والزهد»،
٧ والربانيون فوق الأحبار درجة.
٨
وقد فسر الرهبان في القرآن الزهاد.
٩
وروي عن النبي أنه قال: «لا صام من صام الأبد».
١٠
وصيام الأبد نوع من التصوف كان موجودًا قبل النبي، ولولا ذلك ما نهى عنه، وكان الذين
يصومون الأبد يحيون سنة جاهلية يحسبونها من كمال الدين.
وليس ما يمنع أن يكون التصوف عرف في الجاهلية باسمه ورسمه ثم كانت له رجعة في
الإسلام، فذلك مصير كثير من الآراء الأدبية والدينية والاجتماعية.
والفرض الثاني أن يكون الصوفي منسوبًا إلى الصوف، وقد تعقبنا هذا الفرض فرأيناه
أصح
الفروض وإن استضعفه الألوسي،
١١ ولتأييد هذا الفرض شواهد كثيرة جدًّا قيدناها في مطالعاتنا، وسنكتفي منها
بالمهم في هذا الباب.
فقد حدث اليافعي أن لباس الصوف كان غالبًا على المتقدمين من سلف الصوفية لكونه أقرب
إلى الخمول والتواضع والزهد؛ ولكونه لباس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد جاء أن
رسول الله
ﷺ كان يركب الحمار ويلبس الصوف، وعنه
ﷺ أنه قال: «مر بالصخرة
من الروحاء سبعون نبيًّا حفاة عليهم العباء يؤمون البيت الحرام». وعنه
ﷺ أنه
قال: «يوم كلم الله تعالى موسى عليه السلام كان عليه جبة من صوف وسراويل من صوف وكساء
من صوف». وقيل: إن عيسى عليه السلام كان يلبس الصوف والشعر ويأكل من الشجر ويبيت حيث
أمسى. وقال الحسن البصري (رضي الله عنه): لقد أدركت سبعين بدريًّا كان لباسهم الصوف.
١٢
وهذا الكلام صريح في أنه كان مفهومًا أن الأنبياء والصالحين كانوا يؤثرون لبس
الصوف.
وروي عن النبي أنه قال: «من لبس الصوف، وأكل خبز الشعير، وركب الأتان؛ فليس فيه شيء
من الكبر».
١٣ وروي عنه أنه قال: «البسوا الصوف وشمروا وكلوا في أنصاف البطون تدخلوا في
ملكوت السماء».
١٤
ويؤيد هذين الأثرين ما جاء في مرثية عمر لرسول الله إذ قال:
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد اتبعك في قلة سنك، وقصر عمرك، ما لم يتبع
نوحًا في كثرة سنه، وطول عمره، ولقد آمن بك الكثير وما آمن معه إلا القليل.
بأبي أنت وأمي يا رسول الله لو لم تجالس إلا كفؤًا لك ما جالستنا، ولو لم تنكح
إلا كفؤًا لك ما نكحت إلينا، ولو لم تواكل إلا كفؤًا ما واكلتنا، فلقد والله
جالستنا ونكحت إلينا وواكلتنا، ولبست الصوف، وركبت الحمار، وأردفت خلفك، ووضعت
طعامك على الأرض، ولعقت أصابعك؛ تواضعًا منك.
١٥
وهذا النص على جانب عظيم من الأهمية، ومن المحتمل أن يكون الصوفية لبسوا الصوف أول
الأمر ليصح لهم الاقتداء بتواضع الرسول، ولا سيما إذا تذكرنا أن الرسول أقبل على أهل
الصُّفة فواساهم، ولم يكن عندهم غير جباب الصوف.
١٦
والصوف قديمًا كان مظهر التخشن والتقشف، وقد وصفوا ابن أدهم بأنه حمل جلده على ضعفه
خشونه الصوف،
١٧ وأخذوا على المرائين أنهم يعذبون أنفسهم بلبس الصوف،
١٨ وحدث المبرد أن محمد بن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك قال: قال أبي لأبيه
يحيى بن خالد بن برمك — وهم في القيود والحبس: يا أبت! بعد الأمر والنهي والأموال
العظيمة أصارنا الدهر إلى القيود ولبس الصوف والحبس».
١٩
فلبس الصوف هنا علامة الذل وسوء الحال، وفي هذا المعنى قول أبي تمام في تقلب الزمان:
كانوا برود زمانهم فتصدعوا
فكأنما لبس الزمان الصوفا
٢٠
وقول أبي فراس يخاطب سيف الدولة بن حمدان:
يا واسع الدار كيف توسعها
ونحن في صخرة نزلزلها
وقول الشريف الرضي يصف أباه بالوقار:
ما التذ لبس الصوف إلا
من تعمم بالقتير
متخدد الخدين مغبر
الذوائب والضفور
أسر الوقار طماحه
والقد أملك بالأسير
وكان مكتوبًا على أحد جوانب دير هند:
إن بني المنذر عام انقضوا
بحيث شاد البيعة الراهب
تنفح بالمسك ذفاريهم
وعنبر يقطبه القاطب
ومعنى هذا أن لبس الصوف كان يعيب المياسير.
وفي مثل هذا ما حدثوا أن إبراهيم بن أدهم كان من أبناء الملوك فخرج يومًا متصيدًا
فأثار ثعلبًا أو أرنبًا وهو في طلبه، فهتف به هاتف: يا إبراهيم! ألهذا خلقت؟ أم بهذا
أمرت؟ ثم هتف به أيضًا من قربوس سرجه: والله ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت، فنزل عن
دابته وصادف راعيًا لأبيه، فأخذ جبة الراعي من صوف ولبسها وأعطاه فرسه وما معه، ثم دخل
البادية.
٢٣
فالصوف من لباس الرعاة، وابن أدهم حين جاءه الهاتف ترك فرسه وما معه وتصوف؛ أي: لبس
الصوف ليلحق بالزهاد.
٢٤
وقال عبد الله بن شداد: «أربع من كن فيه برئ من الكبر: من اعتقل البعير، وركب الحمار،
ولبس الصوف، وأجاب دعوة الرجل الدون»، وهذا الكلام أثبته الجاحظ في البيان والتبيين،
٢٥ وهو يفسر ما نقلناه آنفًا من رثاء عمر بن الخطاب للرسول، فقد عدَّ من
تواضعه — عليه السلام — ركوب الحمار ولبس الصوف.
ومن كلام ابن الجوزي: «كان الزهد في بواطن القلوب فصار في ظواهر الثياب، كان الزهد
حرقة فصار اليوم خرقة، ويحك! صوف قلبك لا جسمك، وأصلح نيتك لا مرقعتك».
٢٦
والصوف في هذا الكلام علامة الزهد.
وذكر الذين يلبسون الصوف عند الحسن فقال: أكنوا الكبر في قلوبهم، وأظهروا التواضع
في
لباسهم، والله لأحدهم أشد عجبًا بكسائه من صاحب المطرف بمطرفه.
٢٧
وفي أخبار الحاكم أنه في سنة أربع مئة لبس الصوف يوم عاشر رمضان وركب الحمار وأظهر
النسك.
٢٨
وتلك رجعة إلى سيرة الرسول التي رأيناها آنفًا في مرثية عمر بن الخطاب.
وعبر دعبل الجسر ببغداد وأبو سعد واقف على دابته عند الجسر وعليه ثوب صوف مشبه بالخز
مصبوغ، فضرب دعبل بيده على فخذه وقال: دعي على دعي.
٢٩
يريد أنه يدعي الجاه بلبس ثوب مشبه بالخز، مع أن ثوبه في الحقيقة من صوف، وهو لباس
الفقراء.
وسئل أبو علي الروذباري فقيل له: من الصوفي؟ فقال: من لبس الصوف على الصفا.
٣٠
فلبس الصوف عنده إشارة الزهد ولكنه لا يغني عن الصفاء.
وقيل لأبي الحسين بن سمعون: أيها الشيخ! أنت تدعو الناس إلى الزهد في الدنيا والترك
لها، وتلبس أحسن الثياب، وتأكل أطيب الطعام، فكيف هذا؟ فقال: كل ما يصلحك لله فافعله،
إذا صلح حالك مع الله بلبس لين الثياب وأكل طيب الطعام فلا يضرك.
٣١
كأنهم كانوا ينكرون أن يلتئم لين الثياب مع الزهد، أما أخشنها فهو الصوف.
وقال الجنيد: إذا رأيت الصوفي يعنى بظاهره فاعلم أن باطنه خراب.
٣٢
والظاهر هو خشونة الثوب.
وأنشد أبو حيان في جاهل لبس صوفًا وزهد فيه:
أيا كاسيًا من جيِّد الصوف نفسه
ويا عاريًا من كل فضل ومن كيس
أتزهى بصوف وهو بالأمس مصبح
على نعجة واليوم أمسى على تيس
٣٣
ومعناه أن لبس الصوف لا يغني عند عري النفس عن الفضل والذكاء.
المرقعات في البيئات الصوفية
والواقع أن الصوف كان شارة الزهد، وهو المراد بزي الصوفية الذي وصف به المقري أحد
الفقهاء،
٣٤ والذي جعله الغزالي من صفات من يصرف إليهم ما يوصى به للصوفية،
٣٥ وبه يوجه قول ياقوت: «وكان التوحيدي صوفي السمت والهيئة»،
٣٦ والصوف هو «شعار الصالحين» الذي أضافه الثعالبي إلى الكنايات،
٣٧ ومن أجل ثوب الصوف ظن جماعة أن يحيى بن أكثم من الصوفية حين رأوه ولم يعرفوه،
٣٨ ونقل المستر مرجوليوث عن قاموس دوزي من كتاب اسمه رياض النفوس: «رأيت رجلًا
عليه جبة من صوف فقلت له: يا صوفي».
٣٩
وكلف أبو نواس بغلام نصراني ولم يدر كيف يحتال في أمره «فعمد إلى جبة صوف قصيرة
فلبسها، وسروال قصير، ونعل رقيق، وتزيا بزي الزهاد» إلى آخر الحكاية.
٤٠
فالفجرة كانوا يعرفون أن لبس الصوف يدفع عنهم الشبهات.
وكانت الجماهير لا تتمثل الصالحين إلا في الثياب الصوفية، قال الزبيدي نقلًا عن
كتاب
بهجة الناظرين وأنس العارفين: ومما حدثنا به من أدركنا من المشيخة أن الإمام أبا حامد
الغزالي لما حضرته الوفاة أوصى رجلًا من أهل الفضل والدين كان يخدمه أن يحفر قبره في
موضع بينه، ويستوصي أهل القرى التي كانت قريبة إلى موضعه ذلك بحضور جنازته، وألا يباشره
أحد حتى يصل ثلاثة نفر من الفلاة لا يعرفون ببلاد العراق: يغسله اثنان منهما، ويتقدم
الثالث للصلاة عليه بغير أمر ولا مشورة. فلما توفي فعل الخادم كل ما أمره به، وحضر
الناس، فلما اجتمعوا لحضور جنازته رأوا ثلاثة رجال خرجوا من الفلاة، فعمد اثنان منهم
إلى غسله، واختفى الثالث ولم يظهر، فلما غسل وأدرج في أكفانه، وحملت جنازته، ووضعت على
شفير قبره ظهر الثالث ملتفًّا في كسائه وفي جانبه علم أسود، معممًا بعمامة من صوف، وصلى
عليه وصلى الله بصلاته، ثم سلم وانصرف وتوارى عن الناس.
٤١
والقصة مصنوعة، ولكنها تمثل رأي الجماهير في لباس الصوف.
وفي قصة عنترة بن شداد — وهي تمثل النزعات الشعبية — أنه بينما كان النمرود جالسًا
في
منظره عالية تشرف على خارج المدينة نظر إلى جماعة من الأحبار العباد عليهم لباس الشعر
والصوف … إلخ.
٤٢
ويؤكد التزام الصوفية للبس الصوف حرصهم على المرقعة؛ أي: الثوب المرقع، ومن رأي
ابن
الجوزي أنهم لما سمعوا أن النبي كان يرقع ثوبه وأنه قال لعائشة: لا تخلعي ثوبًا حتى
ترقعيه وأن عمر بن الخطاب كان في ثوبه رقاع اختاروا المرقعات،
٤٣ وكذلك صارت المرقعة عنوانًا عليهم، وروي عن الثوري أنه قال: «كانت المرقعات
غطاءً على الدر فصارت جيفًا على مزابل»،
٤٤ ونظر محمد بن محمد الكتاني إلى أصحاب المرقعات فقال: «إخواني! إن كان
لباسكم موافقًا لسرائركم فقد أحببتم أن يطلع الناس عليها، وإن كان مخالفًا لسرائركم فقد
هلكتم ورب الكعبة».
٤٥ وقال محمد بن عبد الحق لبعض أصحابه:
«لا يعجبنك ما ترى من هذه اللبسة الظاهرة عليهم، فما زينوا الظواهر إلا بعد أن خربوا
البواطن».
٤٦
وهذا التقريع لا يوجه إلا لقوم يلبسون المرقعة بلا انقطاع؛ ولذلك كره بعض شيوخهم
لبس
المرقعة خوفًا من طوارق الرياء ومن التعرض للسؤال،
٤٧ ولا يكون لبس المرقعة بابًا إلى الرياء إلا حين تكون علامة قاطعة على
التصوف وهي لا تعرض صاحبها للصدقات إلا لدلالتها على الفقر والبؤس.
ويؤيد ذلك الملحظ ما حدث النضر بن شميل إذ قال: قلت لبعض الصوفية: تبيع جبتك الصوف؟
فقال: إذا باع الصياد شبكته فبأي شيء يصطاد؟!
٤٨
وكانوا يرون نزع المرقعة علامة الإقبال على الدنيا، ويذكرون أن محمد بن أحمد بن موسى
قدم بغداد وأقام بها مدة يتكلم بلسان الوعظ، ويشير إلى طريقة الزهد، ويلس المرقعة،
ويظهر عزوف النفس عن طلب الدنيا، فافتتن به الناس لما رأوا من حسن طريقته، وكان يحضر
مجلس وعظه قوم لا يحصون، ثم إنه قبل ما كان يوصل به بعد امتناع شديد كان يظهره من قبل،
وحصل له ببغداد مال كثير، ونزع المرقعة ولبس الثياب الناعمة الفاخرة وجرت له أقاصيص
وصار له تبع وأصحاب.
٤٩
وترقيع الثياب في الأصل من علامات الفقر، ومنه قول عروة بن الزبير: لقد تصدقت عائشة
(رضي الله عنها) بخمسين ألفًا وإن درعها لمرقع،
٥٠ وهذه الخمسون ألفًا لا يمكن أن تكون دنانير.
وينكر ابن الجوزي أن يكون للمرقعة أصل في السنة،
٥١ وهذا يدل على أن الصوفية كانوا يتسامون إلى جعل المرقعة من السنن النبوية،
وذلك دليل جديد على تشبثهم بالمرقعات.
على أنه لا موجب لكل هذا العناء في الاستقصاء، فالصوفية كانوا يعرفون نسبتهم إلى
الصوف، قال أبو سليمان الداراني لرجل لبس الصوف: إنك قد أظهرت آلة الزاهدين، فماذا
أورثك هذا التصوف؟ فسكت الرجل. فقال له: يكون ظاهرك قطنيًّا وباطنك صوفيًّا.
٥٢ ودخل أبو محمد ابن أخي معروف الكرخي على أبي الحسن بن بشار وعليه جبة صوف،
فقال له أبو الحسن: يا أبا محمد! صوفت قلبك أو جسمك؟ صوف قلبك والبس القوهيّ على
القوهيّ.
٥٣
وكان لبس الصوف يؤكد الخشوع كقول من قال: «رأيت امرأة متبتلة تلبس صوفًا».
٥٤
وهذا كله ظاهر، ولكن يهمنا أن نقيد في هذا البحث أن لبس الصوف كان من تقاليد
النصرانية، وهي في أصلها تصوف وروحانية، روى ابن قتيبة بسنده قال:
بلغني أن عيسى خرج على أصحابه وعليه جبة من صوف وكساء وتبان
٥٥ حافيًا مجزوز الرأس والشاربين، باكيًا شعثًا مصفر اللون من الجوع،
يابس الشفتين من العطش، طويل شعر الصدر والذراعين والساقين، فقال: السلام عليكم
يا بني إسرائيل! أنا الذي أنزلت الدنيا منزلها، ولا عجب ولا فخر، أتدرون أين
بيتي؟ قالوا: أين بيتك يا روح الله؟ قال: بيتي المساجد، وطيبي الماء، وإدامي
الجوع، ودابتي رجلي، وسراجي بالليل القمر، وصلائي في الشتاء مشارق الشمس،
وطعامي ما تيسر، وفاكهتي وريحاني بقول الأرض، ولباسي الصوف وشعاري الخوف،
وجلسائي الزمنى والمساكين، أصبح وليس لي شيء، وأمسي وليس لي شيء، وأنا طيب
النفس غني مكثر، فمن أغنى وأربح مني؟
٥٦
نقض الرأي القائل بنسبة الصوفي إلى الصفاء أو نسبته إلى (سوفيا) من اللغة
اليونانية
أقول هذا ولا أجزم بأن في لبس الصوف رجعة إلى التقاليد المسيحية، ولكن القارئ عرف
أن
النبي محمدًا كان يستحب لبس الصوف تواضعًا، وأن النبي عيسى كان يستحب لبسه كذلك
تواضعًا، وأن الرهبان في المسيحية والزهاد في الإسلام كان يستحبون لبس الصوف، وفي مجموع
ما أسلفنا من الشواهد مقنع لمن يرتاب في نسبة الصوفي إلى الصوف.
يضاف إلى ذلك ما روي من أن كلمة «صوفي» وردت في كلام منسوب إلى الحسن البصري وهو
من
التابعين فقد قال: رأيت صوفيًّا في الطواف فأعطيته شيئًا فلم يأخذ وقال: معي أربعة
دوانق يكفيني ما معي،
٦٦ ويشبه هذا قول سفيان: لولا أبو هاشم الصوفي ما عرفت دقائق الرياء،
٦٧ ويؤيد هذا وذاك ما جاء في كلام بعض المؤلفين من أن مكة كانت خلت قبل
الإسلام في وقت من الأوقات حتى كان لا يطوف بالبيت أحد وكان يجيء من بلد بعيد رجل صوفي
فيطوف بالبيت ثم ينصرف
٦٨ فاللفظة على ذلك قديمة، وقدمها يرجح نسبتها إلى من استحبوا الصوف من
الأنبياء.
والفرض الثالث نسبتها إلى الصفاء، وليس هذا الفرض إلا حذلقة من بعض الصوفية الذين
عبر أبو الفتح البستي عن غرورهم حين قال:
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا
فيه وظنوه مشتقًّا من الصوف
ولست أنحل هذا الاسم غير فتي
صَافَى فَصُوفِيَ حتى لقب الصوفي
وقد سخر منهم أبو العلاء فقال:
صوفية ما رضوا للصوف نسبتهم
حتى ادعوا أنهم من طاعة صوفوا
٦٩
وقد استبعد ذلك القشيري وهو من أقطاب الصوفية.
والفرض الرابع — وهو نسبتها إلى سوفيا اليونانية — ليس إلا ضربًا من الإغراب، وقد
قال به أبو الريحان البيروني سنة ٤٤٠ وقال به فون هامر من المستشرقين وتعصب له الأديب
عبد العزيز الإسلامبولي،
٧٠ والأستاذ محمد لطفي جمعة في مقال كتبه في المعرفة،
٧١ ومقال كتبه في البلاغ.
وكلمة «سوفيا» اليونانية معناها الحكمة، ومنها فيلسوف: أي محب الحكمة وكانت الفلسفة
عند اليونان القدماء تهتم بالعلوم الطبيعية، وكان كثير من فلاسفتهم أطباء، وقد ترجمها
العرب فسموا الطب الحكمة، وكلمة حكيم لا تزال تؤدي معنى كلمة طبيب، والفلسفة نفسها
سماها العرب الحكمة، وقالوا: تاريخ الحكماء، فهم عرفوا من «سوفيا» الفلسفة والطب. أما
الحكمة الروحانية فمن البعيد أن يكونوا لمحوها؛ لأنهم كانوا يرون اليونان من عبدة
الأوثان.
على أنه ما الذي يمنع من أن تكون «سوفيا» بمعنى الحكمة الروحانية جاءت من كلمة صوف،
وهي قديمة في العربية؟ إن التصوف قديم جدًّا عند العرب، وهو أساس المسيحية، ولبس الصوف
كان علامة التقشف، فليس من المستبعد أن ترحل كلمة صوف إلى معابد اليونان.
ولا يفوتنا أن نقيد أن العرب كانوا مولعين بحفظ ما يدخل لغتهم من الألفاظ الأجنبية،
ولو كان «التصوف» من «سوفيا» لنصوا عليه في كثير من المؤلفات فلم يبق إلا أن يكون
ورودها في كلام البيروني بابًا من الإغراب.
خاتمة البحث
وقد بقيت فروض لا تقوى على احتمال البحث كالنسبة إلى الصَّف بالفتح، والصُّفَّة
بالضم، والصِّفة بالكسر، وعند التأمل نجد هذه الفروض لم تعرف إلا بعد الصدر الأول حين
استقل الصوفية نسبتهم إلى الصوف!
وغرام بعض الكاتبين من أهل هذا الزمان برد الصوفي إلى سوفيا اليونانية يمثل إحدى
النزعات العصرية، ففي أهل هذا الزمن من يرد كل كلمة عربية إلى أصل أجنبي حين يرد لها
مشابه في لغة أجنبية، فإذا وجدت اللفظة في العربية والعبرية فالأصل للعبرية، وإذا وجدت
في العربية والسريانية فالأصل للسريانية. أما اليونانية فهي عند كثير من المعاصرين سيدة
اللغات في الشرق القديم!
وليس معنى هذا أننا نجعل العربية أصلًا في جميع الأحوال، ولكنا نتحرز حين نجد التأويل
يمت إلى نزعة يغلب عليها التجني والافتعال.
هذا ولست أدعي أكثر من أني عانيت مشقة عظيمة في إعداد هذا البحث وسأظل راضيًا عنه
إلى
أن توجد نصوص جديدة تحمل على الشك فيما قدمت من البينات.
٧٢