آداب الزواج
الأغلب على الصوفية أن ينفروا من الزواج، وقد استشار رجل الشعبي في التزوج فقال:
«إن صبرت
عن الباه فاتق الله ولا تتزوج، فإن لم تصبر فاتق الله وتزوج».
١
وقيل لمالك بن دينار: لو تزوجت! فقال: إني طلقت الدنيا ثلاثًا فلا رجعة لي
فيها.
٢
وقيل لبعض الصالحين: إلام تبقى عزبًا ولا تتزوج؟ فقال: مشقة العزوبة أسهل من مشقة
الكد في
مصالح العيال.
٣
وهذا الجواب الأخير فيه سياسة الصوفية، فهم ينفرون من الزواج هربًا من تكاليف العيش،
وقد
حمل ذلك بعضهم على ابتكار المعاذير، ولكن السبب الأصيل هو الرغبة في راحة البال.
والظاهر أن الصوفية قبل الإسلام كانوا يميلون إلى العزوبة تأسيًا بالنصرانية، ولهذا
رأينا
الرسول يحاربهم أشد الحرب، فقد قال لعكاف بن وداعة: يا عكاف، ألك امرأة؟ قال: لا. قال
النبي: فأنت إذن من إخوان الشياطين، إن كنت من رهبان النصارى فالحق بهم، وإن كنت منا
فمن
سنتنا النكاح».
٤
وهذا السؤال من جانب الرسول لا يمكن أن يقع بمثل هذه الحدة إلا إن سبق بشواهد من حياة
عكاف، ونرجح أنه كان لعكاف هذا آراء تشبه الدعوة إلى التبتل والرهبانية.
وقد بقي شيء من هذا المعنى في أنفس الصوفية، فإنهم حدثوا أن سبب تزويج أبي أحمد القلانسي
أن شابًا من أصحابه خطب ابنة لصديق لأبي أحمد فلما حضر وقت عقد النكاح امتنع الشاب، واستحيا
من ذلك الرجل الذي كان يزوجه بابنته، فلما رأى ذلك أبو أحمد قال: يا سبحان الله! يزوج
رجل
بكريمته فتمتنع عليه! وعقد النكاح على أبي أحمد، فقبل أبو البنت رأسه وقال: ما علمت أن
لي
عند الله تعالى من المقدار أن يكون لها مثلك زوج.
٥
وهذه الحكاية فيها معنى لطيف هو أدب القلانسي في إنقاذ الموقف — كما نعبر في هذه
الأيام —
ولكن النتيجة كانت غريبة فقد بقيت تلك الفتاة ثلاثين سنة عند أبي أحمد وهي بكر.
٦
فمن أين جاء هذا التبتل؟ جاء من النصرانية أولًا، ومن الصابئية ثانيًا.
أما التبتل في النصرانية فمعروف، وأما الصابئون فإن العابد منهم ربما خصى نفسه
٧ وفي الجزء الرابع من عيون الأخبار
٨ أن ابن المبارك خصى نفسه وعاش مجبوبًا، وتلك نزعة صابئية، ولكنا رأينا بعد
البحث أن ما في عيون الأخبار خطأ، وأن الذي خصى نفسه هو أبو المبارك الصابي، وليس ابن
المبارك الصوفي، وقد هدانا إلى تصحيح هذا الخطأ ما كتبه الجاحظ عن الصابئين في الجزء
الأول
من الحيوان.
٩
وكلام الصوفية عن الزواج يشعر بأنه كان في أنفسهم من التكاليف الثقال، وعندهم أن
الفقير
إذا تزوج فمثله مثل رجل قد ركب السفينة فإذا ولد له فقد غرق،
١٠ ويؤيد هذا المعنى أنهم نصوا على آداب الزواج: «وليس من آدابهم أن يتزوجوا ذوات
اليسار ويدخلوا في رفق نسائهم، ومن أدب الفقير أن يتزوج بفقيرة مقلة وأن ينصفها، وإن
رغبت
فيه امرأة غنية أن لا يرتفق منها».
١١
وهذه آداب ترتكز على حفظ الكرامة، واستقلال النفس، والبعد من المغانم الدنيوية، وهم
يتمثلون أنفسهم فقراء، ولا يتسامون إلى المرأة الغنية، وإنما يقبلونها إن رغبت فيهم،
وكانت
الفتيات تميل إليهم في بعض الأحيان.
ويظهر أنه كان معروفًا عنهم التقصير في رعاية الأطفال، فإن السراج الطوسي يقول:
«وليس من آداب من تزوج أو كان له ولد أن يكل أمر عياله إلى الله تعالى، ويجب عليه
أن يقوم
بفرضهم إلا أن يكونوا مثله في الحال».
١٢
والنص على هذا الأدب لا يقع بغير سبب، وإنما هو موجّه إلى ناس كانوا يرون من التوكل
أن
يكلوا أمر عيالهم إلى الله.
وهذا من الصوفية ضعف رأى، إن وقع منهم، وهم صالحون لقبول مثل هذا الرأي الضعيف.
١٣
وجملة القول أن الصوفية ينظرون إلى الزواج كأنه غل من الأغلال التي تشل حركة الروح،
وقليل
منهم من يفطن إلى ما في الزواج والذرية من المعاني الروحية، فالرجل المتأهل الذي يعاني
مشاق
العيش تتفتح أمامه أبواب من الجهاد لا تخلو من شرف ونبل، وفي رعاية الأهل ميدان لخبرة
الخلق
والروح، وأخشى أن يكون الميل إلى العزوبة جبنًا وهلعًا من تكاليف الحياة، ولعله لا يكون
إلا
كذلك، ولا عبرة بدعوى الانقطاع إلى الله، فالسعي في بر الأهل والذرية هو أيضًا انقطاع
إلى
الله.
وفي أعمال المرء كثير من الوجوه المادية، ولكنها عند النية تصبح وجوهًا روحية. وقصير
النظر هو الذي يتوهم أن العبادة لا تكون إلا في العزلة والتسبيح.
على أن في السعي للأهل تعرضًا لضروب من المعاملات تتبين فيها جواهر الأخلاق، وفي الاتصال
بالنسا عن طريق المعاش أبواب من المحن الخلقية يعرف عندها فضل الرجل الكريم الخلال.
للصوفية أن يفروا من الزواج، ولكن عليهم أن يتذكروا أنهم يفرون من الجهاد، وأي جهاد
أقسى
من السعي للأهل والأطفال؟ إن التصوف كل التصوف أن تواجه مكاره العيش اعتمادًا على رعاية
الله، أما إيثار العزوبة حبًا في السلامة، أو رغبة في الانقطاع إلى الله، فهو من أعمال
الجبناء والغافلين.
ومن الخير أن نشير إلى أن من الصوفية من لم يفته الترغيب في الزواج، وإن كان نفر
منه
المريدين، فقد حدث المكي أن بشر بن الحارث كان يقول في أحمد بن حنبل: فضّل عليّ بثلاث:
بطلب
الحلال لنفسه ولغيره وأنا أطلب الحلال لنفسي، واتساعه للنكاح وضيقي عنه، وقد جُعل إمامًا
للعامة وأنا أطلب الوحدة لنفسي. ونقل أن بشر بن الحارث رؤى في المنام بعد وفاته فسئل
عن
حاله فقال: رفعت سبعين درجة في عليين، وأشرف بي على مقامات الأنبياء، ولم أبلغ منازل
المتأهلين،
١٤ وأنه قال: وعاتبني ربي عز وجل فقال: يا بشر، ما كنت أحب أن تلقاني عزبًا، وأن
صاحب الرؤيا قال له: ما فعل أبو نصر التمار؟ فقال: رفع فوقي سبعين درجة، فقال الحالم:
بماذا؟ فقال: بصبره على بناته والعيال.
١٥
ومضى فحدث أن ابن مسعود كان يقول: لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام أموت في آخرها
لأحببت
أن أتزوج ولا ألقى الله عز وجل وأنا عزب، وأن رسول الله قال: تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر
بكم الأمم يوم القيامة، حتى بالسقط والرضيع.
١٦
وحدث أيضًا أن بعض الصالحين كان يعرض عليه التزوج فيأباه برهة من دهره، فانتبه من
نومه
ذات يوم فقال: زوجوني! فسئل عن سبب ذلك فقال: رأيت في نومي كأن القيامة قد قامت وكنت
في
جملة الخلائق في الموقف وبي من العطش ما يكاد يقطع عنقي، وكذلك الخلائق في شدة العطش
من
الحر والشمس والكرب. قال: فبينا نحن كذلك إذ الولدان يتخللون الجمع عليهم مناديل من نور،
وبأيديهم أباريق من فضة وأكواب من ذهب، وهم يسقون الواحد بعد الواحد، ويتخللون الجمع
ويجاوزون أكثر الناس. قال: فمددت يدي إلى أحدهم فقلت: اسقني شربة فقد أجهدني العطش. فقال:
ليس لك فينا ولد، إنما نسقي آباءنا. فقالت: ومن أنتم؟ فقالوا: نحن من مات من أطفال المسلمين.
١٧
ورواية أمثال هذه الأخبار هي دعوة إلى الزواج، وهذه الأحلام نفسها تدل على أن من الصوفية
من كان يشعر بأهمية الزواج من الوجهة الدينية.
ولنقيد ما تنبه إليه أحدهم من فضيلة الصبر على البنات والعيال، فهي لمحة تدل على بصر
بعزائم الأمور في عالم الأخلاق.
على أن الصوفية في زواجهم وعزوبتهم ينتهون إلى غاية واحدة هي الفناء، والرجل الجائع
الخامد يعسر عليه أن يأتي بنسل متين، وما نظن الرسول يكاثر بالأنباء الضعفاء، إنما يكاثر
بالذرية القوية التي تحفظ الثغور وتقيم الحصون، وهؤلاء لا ينجبهم إلا من يعرفون قوة الجسم
قبل أن يعرفوا صفاء الروح، وذخيرة الأمم في العوام لا في الخواص.