أدب الأخوة
اهتمام الصوفية بالأخوة
اهتم الصوفية بالأخوة أبلغ اهتمام، ولم يفرط منهم في بيان آدابها إلا القليل، وهم
يرون أنفسهم مسئولين عن رعاية ما سنه الحكماء في مختلف الملل من أدب الصداقة والوداد،
فيروون ما أثر عن النصارى واليهود، والفرس والروم، ويتمثلون بكلام الشعراء، وإن لم يكن
أولئك الشعراء من المعروفين بالزهد والصلاح.
وقد يستطيع الناقد أن يجد مغمزًا في أكثر ما سن الصوفية من شرائع الأخلاق، ولكن ما
كتبوه عن أدب الأخوة أمنع من أن يمتد إليه فكر بغمز أو تجريح، فهؤلاء الناس فهموا
الصداقة كما ينبغي أن تفهم، وكلامهم فيها كلام من يعرف قيمة الصديق، ولا نبالغ إذا قلنا
إن أكثر من كتبوا في آداب المودة عيال عليهم؛ لأن الصوفية يتكلمون عن الألفة كلام من
يعتقد أنه سيحاسب يوم القيامة عما قدم في عالم الأخوة والوداد. فلا تسأل أين الجديد في
كلامهم عن الصداقة، ولكن انظر إلى الحماسة التي صوروا بها أواصر المودة لترى فضلهم في
تعريف الناس بحقائق الإخاء، وليس المهم أن تدعو إلى فكرة، ولكن المهم أن تصل بالفكرة
إلى أعماق القلوب.
ولسنا في حاجة إلى تأكيد أهمية الصداقة في الحياة الروحية والاجتماعية، فمشاكل
الأفراد والجماعات يرجع أكثرها إلى انفصام عرى المودة بين الناس، ولو عرفت الجماهير كيف
تتعامل وكيف تتواد لانعدمت أصول كثيرة من جراثيم الشقاق.
وباب الأخوة والصحبة في مؤلفات الصوفية باب نفيس نود لو أخذت منه صورة للمطالعة في
المدارس الثانوية، ففيه من الحكم والأمثال والأقاصيص نكت بديعة تمتع العقل والروح.
وفيما كتب الصوفية عن أدب الأخوة ما يكفي لتوجيه النفوس إلى الاقتناع بأن الأخوة مشكلة
أخلاقية، وأنها جديرة بأن تكون مما يضوع في الموازين عند تقويم ملكات الرجال.
الأخوة عمل ينفع
وأعجب ما تنبهت له من كلام الصوفية ما قيل: إن الأخوين في الله عز وجل إذا كان أحدهما
أعلا مقامًا من الآخر رفع الآخر معه إلى مقامه، وأنه يلحق به كما تلحق الذرية بالأبوين
والأهل بعضهم ببعض؛ لأن الأخوة عمل كالولادة.
١
الأخوة عمل كالولادة؟ هذا والله عجيب، وهو يدلنا على فهمهم للمشقات التي يعانيها من
ينشئون الأخوات، فالمودة في تصورهم تحتاج إلى ضروب من السياسة العملية لا يصبر عليها
إلا الراشدون، والذي يرعى صديقه لا يقل جهدًا عن الذي يرعى ولده، وله من رعاية الصداقة
أجر في الآخرة يساوي أجره في رعاية الأهل والأطفال.
من هو الصديق في عرف الصوفية؟
ولكن من هو الصديق في عرف الصوفية؟
هو الأمين، ولا أمين إلا من خشي الله عز وجل، فلا تصحب الفاجر فتعلم فجوره، ولا تطلعه
على سرك. وليكن صاحبك من إذا خدمته صانك، وإن قعدت بك مؤونة مانك، وإن مددت يدك بخير
مدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن رأى منك سيئة سدها، وإن سألته أعطاك، وإن سكت ابتداك،
وإن نزلت بك نازلة واساك، وإن قلت صدق قولك، وإن تنازعتما آثرك، إن صديقك هو من يسد
خللك، ويستر زللك، ويقبل عللك. ومن حق الصديق عليك أن تتجاوز له عن ثلاث: عن ظلم الغضب،
وظلم الهفوة، وظلم الدالّة.
٢
ذلك هو الصديق في عرف الصوفية، فهو أولًا رجل يخاف الله، وهو ثانيًا رجل مواس ألوف،
كثير الصفح، وافر الحياء.
الأخ والصديق
وهذا الصديق أخ لك لم تلده أمك، والقرابة تحتاج إلى مودة، أما المودة فلا تحتاج إلى
قرابة، وقد قيل لحكيم بن مرة: أيما أحب إليك، أخوك أم صديقك؟ فقال: إنما أحب أخي إذا
كان صديقًا،
٣ وقال أكثم ابن صيفي: يا بني، تقاربوا في المودة، ولا تتكلوا على القرابة،
٤ وكان عبد الله بن الحسن البصري يعرف إخوان الحسن إذا جاءوه لطول لبثهم
عنده، ولشدة شغله بهم، فيقول لهم: لا تملوا الشيخ! فكان الحسن إذا علم ذلك يقول: دعهم
يا لكع، فإنهم أحب إليّ منكم، هؤلاء يحبوني لله عز وجل، وأنتم تريدوني للدنيا
٥ وكان الحسن وأبو قلابة يقولان: إخواننا أحب إلينا من أهلينا وأولادنا؛ لأن
أهلينا يذكرونا الدنيا وإخواننا يذكرونا الآخرة.
٦
فأساس العلاقة هو العمل الصالح لا المنافع الدنيوية، وأخوة القرابة عديمة القيمة إذا
عريت من أخوة المودة، وهذه نظرة سليمة تصلح لجميع الناس في كل زمان ومكان.
الحب في الله
وأصل الحب أن يكون في الله، وقد روي عن النبي أنه قال: ينصب لطائفه من الناس كراسي
حول العرش يوم القيامة، ووجوهم كالقمر ليلة البدر، يفزع الناس وهم لا يفزعون، ويخاف
الناس ولا يخافون، وهم أولياء الله عز وجل الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فقيل: من
هؤلاء يا رسول الله؟ فقال: هم المتحابون في الله عز وجل. ورواه أبو هريرة فقال فيه: إن
حول العرش منابر من نور، عليها قوم لباسهم نور، ووجوههم نور، ليسوا بأنبياء ولا شهداء،
يغبطهم الأنبياء والشهداء، فقالوا: يا رسول الله، صفهم لنا، فقال: هم المتحابون في الله
عز وجل، والمتجالسون في الله تعالى، والمتزاورون في الله تعالى
٧ وهؤلاء المتحابون في الله إذا التقوا فهش بعضهم إلى بعض تتحات عنهم الخطايا
كما يتحات ورق الشجر في الشتاء إذا يبس
٨ والمتآخيان في الله يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
٩
ومن شرط المحبة في الله: «أن لا تكون لرحم يصلها، أو لنعمة يربها
١٠» فقد جاء في الأثر أن رجلًا زار أخا في الله في قرية أخرى، فأرصد الله
تعالى على مدرجته ملكًا فقال: أين نريد؟ قال: أردت أخا لي في هذه القرية. قال: هل بينك
وبينه رحم تصلها، أو له عليك نعمة تربها؟ قال: لا، إلا أني أحببته في الله تعالى، قال
الملك: فإني رسول الله إليك، إن الله تبارك وتعالى قد أحبك كما أحببته فيه.
١١
والحب في الله يوجب التزاور والتباذل والتصافي. ولقاء الإخوان له لذة تعدل الصلاة
في
جماعة والتهجد من الليل.
١٢
وهذا النوع من المودة هو أفضل وأشرف ما يقع بين الناس من العلاقات الوجدانية.
كيف نعامل الصديق المذن
ومن واجب المؤمن أن يرعى حرمة الصداقة، وأن يتأسى بالدعاء المأثور «يا من أظهر
الجميل، وستر القبيح، ولم يؤاخذ بالجريرة، ولم يهتك الستر»،
١٣ فيظهر حسنات إخوانه، ويستر مساويهم، ويتجاوز عن سيئاتهم ويسدل الستر على ما يقعون
فيه من خطايا وهفوات.
وقد اختلف مذهب الصحابة في الأخ يحب أخاه في الله، ثم ينقلب الآخر عما كان عليه، هل
يبغضه بعد ذلك؟ فكان أبو ذر يقول: إذا انقلب عما كان عليه وتغير فأبغضه من حيث أحببته،
وكان أبو الدرداء يقول بخلاف ذلك، وقد حدثوا أن شابًا غلب على مجلسه حتى أحبه أبو
الدرداء، فكان يقدمه على الأشياخ ويقربه فحسدوه، وأن الشاب وقع في كبيرة من الكبائر
فجاءوا إلى أبي الدرداء وحدثوه وقالوا: لو أبعدته! فقال: سبحان الله ! لا نترك صاحبنا
لشيء. وقال بعض التابعين في مثله: إنما أبغض عمله وإلا فهو أخي. وكذلك قال الله عز وجل
لنبيه في عشيرته:
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا
تَعْمَلُونَ ولم يقل: قل إني بريء منكم للحمة النسب، وقد قيل للصداقة لحمة
كلحمة النسب. وكان أبو الدرداء يقول: إذا تغير أخوك وحال عما كان عليه فلا تدعه لأجل
ذلك، فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى، وكان يقول: داو أخاك، ولا تطع فيه حاسدًا فتكون
مثله. وقال إبراهيم النخعي: لا تقطع أخاك، ولا تهجره عند الذنب فإنه يركبه اليوم ويتركه
غدًا. وقال أيضًا: لا تحدثوا الناس بزلة العالم، فإن العالم يزل الزلة ثم يتركها، وروى
عن الرسول أنه قال: شرار عباد الله المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون
للبرآء العيب.
١٤
فالرأي الأول يقول بقطيعة المذنب، وله وجه، أما الرأي الثاني فهو غاية في التسامح،
وهو رأي حكيم؛ لأن مقاطعة المذنبين تغريهم بالإثم، وتزين لهم الفسوق، وتملأ صدورهم
بالحقد على الصالحين، وتلك جراثيم لفساد الأخلاق.
والرجل الصالح حقًا هو الذي يعرف ضعف النفس الإنسانية، ويعرف كيف يسوس المذنبين
فينقلهم من الغي إلى الرشد، ويغنمهم لحزب الهدى بعد أن غنمهم الشيطان مرة لحزب
الضلال.
ولكن هذه النظرة الحكيمة ليست من حظ جميع الصوفية، وإنما هي من حظ أشرافهم الذين
أغنتهم نفوسهم عن كسب الشرف المزيف الذي يجتلب باسم الغيرة على الخلق والدين.
والرجل النافع هو الذي يفكر عند أول وهلة في إنقاذ من زلت قدمه، ولا يشغل نفسه عن
الواجب بترديد الصياح والصراخ.
وعند هذه النقطة الدقيقة تزلُّ أقدام كثير ممن يتحدثون عن الأخلاق فأكثر أهل الغيرة
لا يغارون إلا على منافعهم الذاتية، ومن منافعهم أن تُسمع أصواتهم باستنكار الإثم
والفسوق!
وللشيطان في هذه المزالق حيل شيطانية! فهو يخيل للناس أن من واجبهم أن يصيحوا
ويصرخوا، وأن من التهاون أن يسكتوا عن منكر رأوه بأعينهم، أو ترامت أخباره إليهم، وكذلك
ينطلقون فيضيفون إثمًا إلى إثم، وعدوانًا إلى عدوان.
ولا سبيل إلى قهر الشيطان إلا بالموازنة بين الحالين: حال الغضب، وحال الستر. فالذي
يعلن غضبه حين يذنب أخوه يستطيع أن يضمن رضا العامة، ولكنه قد يبعد من رضا الله؛ لأن
إعلان الغضب قد يجر على أخيه المذنب مصائب أدبية واجتماعية، ويعرض رزقه ورزق أهله
للضياع، إذا كان ممن يعيشون بمعاملة الناس، وإعلان الغضب قد ينتهي إلى التشهير، ولذلك
عواقب وخيمة لا يستهين بها إلا الغافلون. وحين ينتهي الغضب المطبوع أو المصنوع إلى مثل
هذه الحال فهو بلا ريب من الكبائر عند من يفهمون دقائق الأخلاق.
أما الستر فهو من أخلاق الكرام بين الرجال، وهو عنوان النبل والدين وله مزايا
كثيرة:
فهو أولًا دليل على الرفق، ومن واجب المؤمن أن يستر عورة أخيه، وأن ينصحه في السر
لا
في العلانية، وهو ثانيًا شاهد على نزاهة النفس؛ لأن إظهار السخط على المذنبين يرجع في
أكثر الأحوال إلى شهوة خفية هي حب التسلط والاستعلاء.
فإن لم يكن بدّ من الغضب على المذنبين فليكن ذلك في حدود العقل، فإن كانت الذنوب
متصلة بالمصالح الاجتماعية والمعاشية بذل الناصح جهده ليجمع بين الفضيلتين: إنقاذ
المذنب بالنصح، والسعي الرزين لسلامة ما يتصل بأعماله من شؤون المعاش، وإن كانت الذنوب
واقعة في حدود التكاليف الذاتية التي يوجبها الشرع فمن الأدب أن نترك حساب ذلك لعلام
الغيوب.
وليس معنى هذا أنا نقول بترك الناس يذنبون كيف يشاءون، لا، ولكنا نقول بكفّ عادية
الناصحين، فأكثر النصح ظلم وعدوان، ومن أدعياء الأخلاق من يختلق لخصومه طوائف من
المساوئ والعيوب، ثم يمضي فيلبس ثياب الأتقياء، وينقلب إلى واعظ يبكي على الفضيلة بدموع
التماسيح. وأمثال هؤلاء تروج دعواتهم، ويمسون ولهم سوق في عالم الأراجيف، وقد يفسد
الزمن فيكون لمفترياتهم صوت مسموع، وفي الدنيا شهداء راحوا ضحية هذه الدعاوى الباطلة،
دعاوى الحرص على الفضيلة والأخلاق، وبدعوى الفضيلة والخلق تنتهب حقوق، وتضيع على أهلها
حقوق.
وهذا الذي نقول به تنبه له كبار الصوفية، فقد كان الرجل إذا كره من أخيه خلقًا عاتبه
فيما بينه وبينه، أو كاتبه في صحيفة. قال المكي: وهذا لعمري فرق بين النصيحة والفضيحة،
فما كان في السر فهو نصيحة، وما كان في العلانية فهو فضيحة، وقلما تصح فيه النية لله
تعالى؛ لأن فيه شناعة.
١٥
وقد أفصح الغزالي عن ذلك حين قال:
وروى في الإسرائيليات أن أخوين عابدين كانا في جبل، ونزل أحدهما ليشتري من
المصر لحمًا بدرهم، فرأى بغية عند اللحام فرمقها وعشقها واجتذبها إلى خلوة
فواقعها، ثم أقام عندها ثلاثًا، واستحيا أن يرجع إلى أخيه حياء من جنايته،
فافتقده أخوه واهتم بشأنه، فنزل إلى المدينة فلم يزل يسأل عنه حتى دُلّ عليه،
فدخل إليه وهو جالس معها فاعتنقه وجعل يقبله ويلتزمه، وأنكر الآخر أنه يعرفه
لفرط استحيائه منه، فقال: قم يا أخي؛ فقد علمت شأنك وقصتك، وما كنت قط أحب إلي
ولا أعز من ساعتك هذه. فلما رأى أن ذلك لم يسقطه من عينه قام فانصرف
معه.
قال الغزالي: فهذه طريقة قوم، وهي ألطف وأفقه من
طريقة أبي ذر رضي الله عنه، وطريقته أحسن وأسلم. فإن قلت: ولم قلت هذا ألطف وأفقه
ومقارف هذه المعصية لا تجوز مؤاخاته ابتداءً، فتجب مقاطعته انتهاء؛ لأن الحكم إذا ثبت
بعلة فالقياس أن يزول بزوالها، وعلة عقد الأخوة التعاون في الدين، ولا يستمر ذلك مع
مقارفة المعصية؟ فأقول: أما كونه ألطف فلما فيه من الرفق والاستماله والتعطف المفضي إلى
الرجوع والتوبة لاستمرار الحياء عند دوام الصحبة، ومهما قوطع وانقطع طمعه في الصحبة أصر
واستمر، وأما كونه أفقه فمن حيث أن الأخوة عقد ينزل منزلة القرابة، فإذا انعقدت تأكد
الحق، ووجب الوفاء بموجب العقد، ومن الوفاء به أن لا يُهمل أيام حاجته وفقره، وفقر
الدين أشدّ من فقر المال، وقد أصابته جائحة، وألمت به آفة افتقر بسببها في دينه، فينبغي
أن يراقب ويراعى ولا يهمل، بل لا يزال يتلطلف به ليعان على الخلاص من تلك الواقعة التي
ألمت به، فالأخوة عدة للنائبات وحوادث الزمان، وهذا من أشد النوائب، والفاجر إذا صحب
تقيًا وهو ينظر إلى خوفه ومداومته فسيرجع على قرب، ويستحيي من الإصرار، بل الكسلان يصحب
الحريص في العمل فيحرص حياء منه.
١٦
فضل الصفح والإغضاء
وعلى الصديق أن يعاتب صديقه إذا جدَّ ما يوجب ذلك، فمعاتبة الصديق خير من فقده
١٧ ومن واجب الرجل أن يصبر لأخيه، ويشكر له، ويحلم عنه
١٨ وليتذكر أن من اقتضى إخوانه ما لا يقتضون منه فقد ظلمهم، ومن اقتضى منهم ما
يقتضون منه فقد أتعبهم؛ ومن لم يقتضهم فقد تفضل عليهم.
١٩ وعليه أن يزور صديقه، وأن يشيعه حين يتفضل بزيارته، وأن يسأل عنه حين يغيب،
فقد كان عطاء يقول: تفقدوا إخوانكم بعد ثلاث، فإن كانوا مرضى فعودوهم، وإن كانوا مشاغيل
فأعينوهم، وإن نسوا فذكروهم.
٢٠
أدب الصديق
ومن الأدب أن يسكت الرجل عن ذكر عيوب الصديق في غيبته وحضرته، وأن يسكت عن التجسس
والسؤال عن أحواله، وإذا رآه في طريق أو حاجة لم يفاتحه بذكر غرضه من مصدره ومورده، ولا
يسأله عن وجهته، فقد يثقل عليه ذلك أو يحتاج إلى أن يكذب فيه، ومن الأدب أن يسكت عن
أسراره التي بثها إليه، ولا يبثها إلى غيره ألبتة، ولا إلى أخص أصدقائه، ولا يكشف شيئًا
منها ولو بعد القطيعة، فإن ذلك من لؤم الطبع، وأن يسكت عن القدح في أحبابه وأهله وولده،
وأن يسكت عن حكاية قدح غيره فيه. ولا ينبغي أن يخفى ما يسمع من الثناء عليه، فإن السرور
به يحصل أولًا من المبلِّغ، ثم من القائل، وإخفاء ذلك من الحسد، وخلاصة القول أنه يحسن
السكوت عن كل كلام يكرهه الصديق جملة وتفصيلًا، إلا إذا وجب عليه النطق في أمر بمعروف،
أو نهي عن منكر، ولم يجد رخصة في السكوت.
٢١
وهذه الآداب تدل على بصر الصوفية بأسرار النفوس، فالمرء يحب بفطرته أن يحتفظ بأشياء
كثيرة من شؤونه الشخصية، ويسوءه أن يتعقب أسراره أخ أو صديق، ومن الناس من يظن أن
الصداقة تعطيه الحق في أن يعرف تفاصيل ما أنت عليه في شؤونك الوجدانية والمعاشية، ويرى
من سوء الرعاية أن تطوِي عنه بعض أخبارك، ومنهم من يتوهّم أن الأدب يفرض عليه أن ينقل
إليك ما يهمس به أعداؤك وحاسدوك، وينسى أن لذلك عواقب بعضها خطر وبعضها قبيح، فقد
تتأرّث بذلك عداوات كانت خمدت، وقد يفل ذلك من عزم الصديق فيقتل حيويته ويصده عن الكفاح
المشروع، ومن الأصدقاء من يحسب أن من حقه أن يتعرض بالنقد والملام لأحبابك وأهلك
وأبنائك، وتلك ضروب من الفضول لا يقع فيها رجل حصيف.
ترك المماراة
وقد اهتم الصوفية اهتمامًا خاصًا بتقبيح المماراة والمدافعة في كل ما يتكلم به
الصديق، وحدثوا أن الرسول قال: من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة، ومن
ترك المراء وهو محق بنى له بيت في أعلا الجنة. هذا مع أن تركه مبطلًا واجب، وقد جعل
ثواب الفضل أعظم لأن السكوت عن الحق أشد على النفس من السكوت عن الباطل. وعلى الجملة
فلا باعث على المماراة إلا إظهار التميز بمزيد العقل والفضل. واحتقار المردود عليه
بإظهار جهله، وهذا يشتمل على التكبر والاحتقار والإيذاء والشتم بالحمق والجهل، ولا معنى
للمعاداة إلا هذا.
٢٢
وأشهد أن هذا الأدب من خير ما دعا إليه الصوفية، وقد غَفَلتُ عنه في حياتي الأدبية
فأضعت جميع أصدقائي، وأكاد أحكم بأن حملة الأقلام في عصرنا هذا قل أن يبقى لهم صديق،
فباسم حرية الرأي، وحرية النقد، وحرية النشر، وحرية القول تقع كلمات وعبارات تأتي على
المودة من الأساس.
ولا أنكر أن في الجدل والمماراة فوائد تعليمية، وباسم هذه الفوائد ترتكب من الشطط
ما
لا يباح، ولكن لا يمكن نكران ما في انهدام صروح المودات من الخسران المبين.
وأذكر أني قمت وأنا طالب في الجامعة المصرية فماريت طالبًا ألقى درسًا من دروس
التمرين، وكانت مماراة عنيفة غضب لها الأستاذ الدكتور منصور فهمي وأقبل يعاتبني في
قسوة، فقلت: إني لا أضمر سوءًا لهذا الطالب فهو صديقي، فقال الأستاذ: ما هكذا يعامل
الصديقُ الصديق!
ولو تأدبنا بأدب الصوفية في ترك المماراة لما شاهدنا كل يوم مصرعًا في الحياة
السياسية والاجتماعية، ففي أكثر الأحزاب يشبُّ الخلاف وتتقد نيران المماراة، ثم تصل إلى
الصحف فيضيف لها اللغط وقودًا إلى وقود، وما هي إلا أيام حتى تستفحل العداوات بين
أصدقاء كان تآلفهم مضرب الأمثال.
وقد يقال إن ناسًا تصاولوا في ميادين الأدب والسياسة ثم ظلوا أصدقاء وهذا صحيح، ولكن
من يضمن سلامة القلوب من الندوب التي يورثها الجدل العنيف؟ هؤلاء لم يظلوا أصدقاء على
نحو ما كانوا في سال العهد، ولكنهم يتجملون فيخفون العتب ويظهرون الوداد.
ترك الخلاف
ولا يكتفي الصوفية بتقبيح المماراة، بل يوصون بترك الخلاف، وكل صاحب تقول له: قم
بنا،
ويقول إلى إين؟ فليس بصاحب
٢٣ والخلاف أصل كل فرقة، وهي لطيفة الشيطان في افتراق المتحابين في
الله.
٢٤ وقال أبو سعيد الخراز: صحبت الصوفية خمسين سنة
ما وقع بيني وبينهم خلاف، فقيل له: وكيف ذاك؟ فأجاب: لأني كنت معهم على
نفسي.
٢٥
الوفاء في الحياة وبعد الممات
والوفاء من شروط الإخاء، وهو أن يكون الرجل لصديقه في غيبته ومن حيث لا يعلم ولا
يبلغه مثل ما كان له في شهوده ومعاشرته، ويكون له بعد موته ولأهله من بعده كما كان له
في حياته، وكان من الصالحين من يخلفُ أخاه في عياله بعد موته أربعين سنة لا يفقدون إلا
وجهه، ويقال: إن مسروقًا ادَّان دينًا ثقيلًا وكان على أخيه خيثمة دين، فذهب مسروق فقضى
دين خيثمة وهو لا يعلم، وذهب خيثمة فقضى دين مسروق سرًا وهو لا يعلم. فمن حقيقة
المؤاخاة في الله عز وجل إخلاص المودة بالغيب والشهادة، واستواء القلب مع اللسان،
واعتدال السرِّ مع العلانية في الجماعة والخلوة، فإذا لم يختلف ذلك فهو إخلاص الأخوة،
وإن اختلف ففيه مداهنة في الأخوة، وممازقة في المودة، وذلك دخل في الدين، ولا يكون مع
حقيقة الإيمان.
٢٦
والصوفية لا يبذلون المودة لجميع الناس؛ فلا تصح مؤاخاة مبتدع في الله تعالى، ولا
محبة فاسق على فسوقه، ولا محبة فقير أحب غنيًا لأجل دنياه، وقد تصح الأخوة بين العالم
والجاهل، وبين الصالح والطالح، إذا صحت النية، وكان للعالم رجاء في تعليم الجاهل،
وللصالح أمل في تقويم الطالح.
٢٧
وقال سهل بن عبد الله: اجتنب صحبة ثلاثة أصناف من الناس: الجبابرة الغافلين، والقراء
المداهنين، والمتصوفة الجاهلين.
٢٨
ومع هذا التحرز يوصون عند المحبة بالقصد في الحب كما يوصون عند العداوة بالقصد في
البغض، عملًا بما روي عن علي: أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض
بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما، وتأدبًا بقول عمر بن الخطاب: لا يكن حبك
كلفًا، وبغضك تلفًا، وقول أسلم في تفسيره: إذا أحببت فلا تكلف كما يكلف الصبي بالشيء
يحبه، وإذا أبغضت فلا تبغض بغضًا تحب أن يتلف به صاحبك ويهلك.
٢٩
الصوفية لا يبذلون المودة لجميع الناس
والمحبة عند الصوفية عمل، وكل عمل يحتاج إلى حسن خاتمة، فمن لم يحسن عاقبة الصحبة
أدركه سوء الخاتمة، وبطل عنه ما كان عليه قبل ذلك.
٣٠
القصد في الحب والبغض
فإن سأل القارئ: كيف تفرد الصوفية بإطالة القول في أدب الأخوة؟ فإنا نجيب بأن فراغ
حياتهم من الشواغل المادية مال بهم إلى الإكثار من الكلام عن الشواغل المعنوية، والرجل
الخلي البال من هموم المعاش يجد متسعًا من الوقت لتأمل آداب الصحبة والألفة ومعاملة
الرجال، أما الذين تكثر شواغلهم الدنيوية فينصرفون عن النوازع الوجدانية، ولا يلتفتون
إلى دقائق الخواطر والإشارات فيما يتصل بأدب التودد إلى الناس.
كيف تفرد الصوفية بإطالة القول في أدب الأخوة
يضاف إلى هذا أن الصوفية يقفون عند المودة المنزهة عن الأغراض، وهي مودة لا تخلو لها
قلوب المشغولين من أهل المنافع، الذين لا يبذلون التحية إلا لغرض مكنون.
وليتذكر القارئ أنا نكتب هذا وخواطرنا موزعة بين أشتات من شواغل الحياة، فلسنا ندرك
أغراض الصوفية على نحو ما كانوا يدركون، ومن المؤكد أن علائقهم فيما بينهم كانت تجلب
إليهم ضروبًا من المتع والمسرات لا تتيسَّر لمن يقفون في ألفتهم عند الحدود الرسمية
والمعاشية.
ولست أدري كيف يعسر على من يعيشون عيش الصخب والضجيج أن تكون لهم جوانب روحية يخلون
إليها من وقت إلى وقت ليتنسموا روح الأنس والصفاء في ظلال المودة والإخاء
الأمين!