الحب الحب الحب!
بداية الصوفية في الحب
يجب أن يكون عنوان هذا الفصل على هذه الصورة، فما أعرف كلمة من أسماء المعاني شغلت الصوفية كما شغلتهم كلمة الحب، ويكفي أن نتذكر أن أناشيد الصوفية تدور كلها حول الحب، وأن التصوف لا يصلح إلا بفضل الحب، ولا يفسد إلا بسبب الحب؛ فالحب هو الأول والآخر في حياة أولئك الناس.
وكان ابن جابر هذا من المعروفين بالزهد والصلاح.
وخرج أبو حازم الصوفي يرمي الجمار ومعه قوم متعبدون وهو يكلمهم ويحدثهم ويقص عليهم، فإذا هو بامرأة حاسر قد فتنت الناس بحسن وجهها وألهتهم بجمالها، فقال لها: يا هذه، إنك بمشعر حرام، وقد فتنت الناس وشغلتهم عن مناسكهم؛ فاتقي الله واستتري، فإن الله عز وجل يقول في كتابه العزيز: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ. فقالت: يا أبا حازم، إني من اللاتي قال فيهن الشاعر:
ونحن نرى ذلك ظرفًا صوفيًّا قبل أن يكون ظرفًا حجازيًّا.
ظرف الصوفية
وهم يقيسون الحب الروحي بالحب الحسي، ويقولون: إذا استولى الحب أدهش عن إدراك الألم، والتجربة أعدل شاهد على ذلك، ويذكرون أن سمنون المحب قال: كان في جوارنا رجل له جارية يحبها غاية الحب، فاعتلت، فجلس الرجل يصنع لها حيسًا، فبينا هو يحرك ما في القدر إذ قالت الجارية: آه. فدهش الرجل وسقطت الملعقة من يده، وجعل يحرك ما في القدر بيده حتى تساقط لحم أصابعه، وهو لا يحس بذلك.
بين النوازع الحسية والعواطف الروحية
وشعراء الصبوات هم ألسنة أرباب العوارف الروحية، وقد سمع أبو الفتح الأعور الصوفي هذا البيت:
فتواجد وصاح ودق صدره إلى أن أغمي عليه وسقط، فلما انقضى المجلس حركوه فوجدوه ميتًا، فغسلوه ودفنوه.
وهذا البيت الذي قتل رجلًا صوفيًّا هو من قطعة لرجل فاجر هو عبد الصمد بن المعذل الذي يقول:
ونقل الأنطاكي قول البهاء زهير في هجر الدلال:
فالبهاء زهير على هذا عارف القلب أو عارف اللسان؛ أي إنه يتكلم فيعبر عن المعاني الروحية بألفاظ حسية، وكل الشعراء ذلك الرجل إن شاء الصوفية.
وكيف تحتاج هذه اللمحة إلى تقييد، ونحن نرى جمهور المؤلفين في الحب والمحبين لا يخلون من نزعة صوفية، فابن داود صاح الزهرة، وابن حزم صاحب طوق الحمامة، وابن القيم صاحب الروضة، والأنطاكي صاحب تزيين الأسواق، كل أولئك فيهم نفحات صوفية، والجمع بين النزعة الحسية والروحية يظهر لهم من الأمور التي لا تحتاج إلى جدل ولا تأويل.
وفي بعض الآثار الإلهية: إن عبدي كل عبدي يذكرني وهو ملاق قرنه؛ فعلامة المحبة الصادقة ذكر المحوب في الرغب والرهب، كما قال بعض المحبين في محبوبته:
تأييد الحب الحسي بالمعاني الدينية
فتنة الصوفية بالأحداث
وقد شغل ابن الجوزي نفسه بتعقب الصوفية، فنقل عنهم حكايات غريبة، وعلق عليها تعليقات تدل على بصر بدقائق علم النفس والأخلاق، ولا بد لنا من عرض نماذج من ملاحظاته؛ لأنها ثمرة من ثمرات التصوف، وكل ما كتب للتصوف أو عليه فهو مظهر من آثاره في الحياة العقلية والذوقية.
نقل بسنده أن عبد الله بن الزبير الحنفي قال: كنت جالسًا مع أبي النصر الغنوي وكان من المبرزين العابدين، فنظر إلى غلام جميل فلم تزل عيناه واقعتين عليه حتى دنا منه فقال: سألتك بالله السميع، وعزه الرفيع، وسلطانه المنيع، إلا وقفت علني أروى من النظر إليك. فوقف قليلًا ثم ذهب ليمضي فقال له: سألتك بالله الحكيم المجيد، الكريم المبدئ المعيد، إلا ما وقفت! فوقف ساعة، فأقبل يصعِّد النظر إليه ويصوبه، ثم ذهب ليمضي. فقال: سألتك بالواحد الأحد، الجبار الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، إلا وقفت! فوقف ساعة فنظر إليه طويلًا، ثم ذهب ليمضي، فقال: سألتك باللطيف الخبير، السميع البصير، وبمن ليس له نظير، إلا وقفت! فوقف فأقبل ينظر إليه ثم أطرق رأسه إلى الأرض، ومضى الغلام، فرفع رأسه بعد طويل وهو يبكي فقال: قد ذكرني هذا بنظري وجهًا جل عن التشبيه، وتقدس عن التمثيل، وتعاظم عن التحديد، والله لأجهدن نفسي في بلوغ رضاه بمجاهدتي جميع أعدائه، وموالاتي لأوليائه، حتى أصير إلى ما أردته من نظري إلى وجهه الكريم، وبهائه العظيم، ولوددت أنه قد أراني وجهه وحبسني في النار ما دامت السموات والأرض، ثم غشى عليه.
ونقل بسنده أن أحدهم قال: كنت مع محارب بن حسان الصوفي في مسجد الخيف ونحن محرمون، فجلس إلينا غلام من أهل المغرب فرأيت محاربًا ينظر إليه نظرًا أنكرته، فقلت له بعد أن قام: إنك محرم في شهر حرام في بلد حرام في مشعر حرام، وقد رأيتك تنظر إلى هذا الغلام نظرًا لا ينظره إلا المفتون! فقال لي: تقول هذا، يا شهواني القلب والطرف! ألم تعلم أنه قد منعني من الوقوع في شرك إبليس ثلاث؟ فقلت: وما هي؟ فقال: سر الإيمان، وعفة الإسلام. وأعظمها الحياء من الله تعالى أن يطلع علي وأنا جاثم على منكر نهاني عنه، ثم صعق حتى اجتمع الناس علينا.
وروى بسنده أن بعضهم قال: قلت لأبي الكميت الأندلسي وكان جوالًا في أرض الله: حدثني بأعجب ما رأيت من الصوفية فقال: صحبت رجلًا منهم يقال له مهرجان، وكان مجوسيًا فأسلم وتصوف، فرأيت معه غلامًا جميلًا لا يفارقه، وكان إذا جاء الليل قام فصلى ثم ينام إلى جانبه، ثم يقوم فزعًا فيصلى ما قدر له، ثم يعود فينام إلى جانبه، حتى فعل ذلك مرارًا، فإذا أسفر الصبح أو كاد يسفر أوتر، ثم رفع يديه وقال: اللهم إنك تعلم أن الليل مضى علي سليمًا لم أقترف فيه فاحشة، ولا كتبت علي فيه الحفظة معصية، وأن الذي أضمره بقلبي لو حملته الجبال لتصدعت، أو كان بالأرض لتدكدكت، ثم يقول: يا ليل اشهد بما كان مني فيك، فقد منعني خوف الله عن طلب الحرام، والتعرض للآثام، ثم يقول: سيدي! أنت تجمع بيننا على تقى، فلا تفرق بيننا في يوم تجمع فيه الأحباب! فأقمت معه مدة طويلة أراه يفعل ذلك في كل ليلة، وأسمع هذا القول منه. فلما هممت بالانصراف من عنده قلت له: سمعتك تقول إذا انقضى الليل كذا وكذا فقال: وسمعتني؟ قلت: نعم! قال: فو الله يا أخي إني لأداري من قلبي ما لو داراه سلطان من رعيته لكان الله حقيقًا بالمغفرة له، فقلت: وما الذي يدعوك إلى صحبة من تخاف على نفسك العنت من قبله؟
ونقل بسنده أن أبا حمزة الصوفي قال:
رأيت ببيت المقدس فتى من الصوفية يصحب غلامًا مدة طويلة، فمات الفتى وعال حزن الغلام عليه حتى صار جلدًا وعظمًا من الضنى والكمد، فقلت له يومًا: لقد طال حزنك على صديقك، حتى أظن أنك لا تسلو بعده أبدًا فقال: كيف أسلو عن رجل أجل الله عز وجل أن يصيبه معي طرفة عين أبدًا، وصانني عن نجاسة الفسوق في خلال صحبتي له وخلواتي معه في الليل والنهار.
ويقول ابن الجوزي في التعقيب على هاتين القصتين:
واستطرد ابن الجوزي فذكر أنه كان ببلاد فارس صوفي كبير فابتلي بحدث فلم يملك نفسه أن دعته إلى فاحشة، فراقب الله عز وجل، ثم ندم على هذه الهمة، وكان منزله على مكان عال ووراء منزله بحر من الماء، فلما أخذته الندامة صعد السطح ورمى بنفسه إلى الماء، وتلا قوله تعالى: فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ فغرق في البحر.
ونقل أن يوسف بن الحسين كان يقول: كل ما رأيتموني أفعله فافعلوه إلا صحة الأحداث فإنها فتنة الفتن، ولقد عاهدت ربي أكثر من مئة مرة أن لا أصحب حدثا ففسخها عليّ حسن الخدود، وقوام القدود، وغنج العيون، وما سألني الله معهم عن معصية، وأنشد قول مسلم بن الوليد في معنى ذلك:
وقد أطلنا الاقتباس من ابن الجوزي لأن الصفحات التي كتبها في هذا الموضوع من خير ما قرأنا في الدراسات النفسية والخلقية، ولأنها تصور ما كان يعرض للصوفية من الحيرة المطبقة في تفهم الفروق بين مسالك الرشد والغي، ومعالم الهدى والضلال.
هجوم ابن الجوزي عليهم
وهذا نظر قريب من نظر ابن الجوزي، ويمتاز مع ذلك بالتلطف والرفق فهو يعترف بعفاف ابن داود، ولكنه لا يجعله قدوة لمن سواه، وحسب ابن داود من السلامة أن لا يحشر في زمرة الآثمين.
رأي ابن القيم في صبابة ان داود
الدفاع عن الصوفية
ولكن ما دلالة هذه الشواغل؟ هي بلا جدال باب من الأخلاق والمخلصون من الصوفية عرفوا خطر هذه المزالق الوجدانية، وتنبهوا إلى خطرها في عالم الأخلاق.
ولابن الجوزي أن يقول فيهم ما شاء، فلن ينكر أحد أن هؤلاء القوم وقفوا موقف التحرز والخوف من فتن جائحة كانت تقتل الكرامات والعزائم والنفوس في كثير من الأندية الأدبية والسياسية، وكانوا وحدهم أصحاب الضمائر في عهود كان فيها استهداء الغلمان شريعة من شرائع الاجتماع.
وهل من القليل أن يتواصى الصوفية بالحذر من صحبة الأحداث في أزمنة كان يشتري فيها الغلمان المتخيرون ليمسوا زينة القصور في قرطبة والقاهرة ودمشق وبغداد؟
إن من سوء الرعاية أن نغفل أثر هذا التحرز في عالم الأخلاق، لقد كان الصوفية يؤاخذون على النظرة في أيام كانت تكتب فيها أخبار الفسق والمجون بعبارات مكشوفة ينكرها الأدب ويأباها الحياء.
ومن الذي يضمن أن يكون ابن الجوزي صادقًا في كل ما كتب عن مغامز الصوفية؟
أولئك قوم كانت لهم في شبابهم صبوات، فلما منّ الله عليهم بالتوبة والهداية ظل خصومهم يتذكرون ماضيهم، ويضيفون إليه ما شاء الإفك والبهتان، ليغضوا من أقدارهم وليصرفوا عنهم الناس.
ونحن مع ذلك لا ننكر أن من الصوفية من زلت أقدامهم في صحبة الأحداث، فالعصمة لله وحده، وادعاء العصمة هو في ذاته وقاحة خلقية، ولا يدعي التصون المطلق إلا خادع أو مخدوع، ولكن من المكابرة أن نجحد ما أثر عن الصوفية من الفضل في هذا الباب، وهل في الأدب كله كلمة أبلغ وأفصح وأنصع وأصدق من قول الواسطي طيب الله ثراه: «إذا أراد الله هوان عبد ألقاه إلى هؤلاء الأنتان والجيف!».
أترون كيف تضطرم نار الغيرة على الكرامة في أحشاء هذه الحروف؟ وهل رأيتم صدقًا أكرم وجهًا من صدق هذا المعنى؟ هل رأيتم احتقارًا للشهوات الحسية أعنف من هذا الاحتقار؟ أرأيتم كيف تكون بلاغة من من خبر الدنيا، وعرف مكارهها، وتبين عناصر الشر فيها، واهتدى إلى معالم النجاة والهلاك؟ الحق أن هذه المسألة في غاية الدقة: فالصوفية على خطر، وناقدوهم على خطر الصوفية على خطر؛ لأن الاعتبار بالجمال قد يكون وسوسة خفية من مكر الشيطان.
وناقدوهم على خطر؛ لأن الإحساس بروعة الجمال قد يكون بابًا إلى صقل النفس والوجدان.
وقد يكون الماضي كله ضلالة من الضلالات يوم تنكشف الحقائق، ويتبين أن الوجود كله معقود الأواصر بقوة كهربائية لا نملك منها الفرار، قد يظهر يومًا أننا لا نملك الرغبة، ولا نملك الزهد، وإنما نحن مسخرون في وجود عجيب يربطنا بقوة قاهرة حول تيارات من الحسن والقبح. إنه ليوم عصيب، ذلك اليوم الذي نعرف فيه أننا لا نملك غير الثرثرة، وأن قانون الوجود يسخرنا كما يشاء، وأن تاريخ المذاهب الأخلاقية لم يكن إلا مظهرًا من مظاهر ذلك القانون.
أترون الرجل يخرج على مألوف العرف وهو طائع؟ أترونه يثور على التقاليد الدينية والاجتماعية وهو مطلق الاختيار والحرية؟ ولماذا لا يكون هذا النزاع بين الغواية والهداية نزاعًا فرضته تلك القوة الكهربائية التي لم نعرف من أسرارها إلا شيئًا يشبه السراب حين يتمثل في الأحلام؟
ثم ما رأيكم في هذه الفلسفة؟ أترونها نوعًا من الشطح؟ ليكن ذلك، فنحن من تلاميذ الصوفية، وهم أقدر الناس على الشطح والهيام في أودية الخيال!
ولكن حذار أن تنكروا أن الفتن التي اصطدم بها الصوفية كانت مما لا يمكن تحاشيه في هذا العالم الغريب، إن الدنيا خلقت كما شاء البارئ أن تخلق، ففيها الخير والشر، والرشد والغي، والهدى والضلال، وفيها ما شاء البارئ من السم والترياق، فانظروا كيف شئتم، ولكن تأدبوا، وتذكروا أن النار إن سلطت عليكم فستحولكم إلى رماد مهين مهما اعتصمتم بالفروض والظنون.
قولوا — إن شئتم — إن هناك قوانين أخلاقية عاش بفضلها العالم إلى اليوم ثم تذكروا أن هناك شيئًا اسمه الوقاحة، وشيئًا اسمه الحياء، فإن وصلتم إلى هذه الغاية فاعترفوا — إن كنتم منصفين — أن الصوفية تفردوا بين الناس بالحرص على فضيلة الحياء.
إن الوسوسة الخلقية هي في ذاتها أدب عظيم، والصوفية هم الذين ملأوا الدنيا بالتنفير من فتنة الجمال، والجمال في ذاته نفحة إلهية، ولكن الفسق يحوله إلى عصارة قذرة لا يسكن إليها رجل في شمائله ذوق، وفي روحه صفاء.
وكيف كان الفسق قذرًا مع أنه من النتائج الطبيعية لنظام الأرواح والأبدان؟
عند هذه المشكلة نتبين رغبة الإنسانية في الكمال المطلق، فالفسق لا يقع إلا بسبب نزعتين: الاستعلاء الآثم من جانب، والاستحذاء الساقط من جانب، ولا كذلك العفاف فإنه لا يكون إلا بفضل عاطفتين شريفتين: الإبقاء الكريم من جانب، والإباء النبيل من جانب.
فإن قلتم: وكيف اعترفت بهذه المصطلحات؟ فإني أجيب بأن بقاءها على هذه الأزمنة الطوال يدل على أن تلك القوة الكهربائية لها في بقائها سر خاص. وحين يصح أن هناك فروقًا جوهرية بين التحليق والإسفاف في عالم الأخلاق فسنعرف أن الصوفية كانوا أشرف الناس.
على أن التحرز فيه معنى المقاومة، والمقاومة من أصول التغلب في هذا الوجود، ولو قد نظر ابن الجوزي هذه النظرة لعرف فضل هذا المعنى في قصة ذلك الصوفي الذي ابتلي بحب الجمال المحسوس، ثم قاوم وغالب حتى فارق الحياة وهو نقى الثياب.
وإنا لنرجو القارئ أن يرحمنا من تهمة التعصب للصوفية، فنحن — يشهد الله — لا نحب إلا الوقوف في صف المظلومين، والصوفية قاسوا من الظلم ألوانًا كثيرة، منها اتهامهم بالفسق والمجون، وممّن؟ من ناس يتركون قصور الوزراء والأمراء والملوك تعج بالدنس والرفث والقذارة والرجس، ثم يوجهون جهودهم إلى حرب طائفة من الفقراء الذين لا يجدون الكفاف إلا بشق الأنفس في هذا العالم السخيف.
يرحمكم الله، أيها المؤلفون في الأخلاق، فأكثركم من أهل الجبن والتلفيق وأي مظهر للجبن أقبح وأبشع من أن تصنف الكتب الطوال العراض في مثالب الصوفية، على حين يترك الملوك الظالمون في العصور الماضية بلا رقيب ولا حسيب؟
أين ما وضع ابن الجوزي وأمثاله في نقد الاستبداد، وكان يعيش في عصر لا تحترم فيه ملكية ولا تحفظ حقوق؟ أين ما كتب هؤلاء المتفيهقون في الفساد الخلقي والاجتماعي الذي كان يندلع لهيبة من قصور الأمراء والوزراء؟ أين ما دونوا من أصول الأخلاق القومية والدولية في أزمان طغى فيها تيار المطامع الأجنبية، وتعرضت ديار العرب والإسلام للخراب والإقواء؟
إن الفقير كان ولا يزال مكشوف العورات، والغنى منذ الزمن القديم يستر العيوب. ألم نجد ناسًا ينكرون أن يكون الرشيد عرف مجالس الشراب!
ولكن ما هذا؟ لعلنا نسرف في اتهام الإنسانية بإيثار الملق والمداهنة والرياء؟
إن الصوفية كانوا دعاة الأخلاق، فمن واجب الناس أن ينبهوهم إلى ما ينزلقون فيه، ومن حق الناس أن يحسدوهم على دعوى التفرد بالشرف والاستقامة والتدين، فالصوفية هم الذين خلقوا أسباب الحسد، وهم الذين دعوا الناس إلى محاسبتهم على ما يقولون وما يعملون.
أما الملوك والأمراء والوزراء فلم يكن فيهم من يدعي أنه نموذج في الأخلاق، ولهذا سكت عنهم أكثر المؤلفين في الأخلاق، وأريد المؤلفين المخلصين، أما المنافقون فلم يكن لهم بد من مداراة أصحاب الملك، وأرباب الجاه والثراء.
لكل إنسان أن يعيش كيف يشاء، وعلى الله حساب الناس فيما يسرون وما يعلنون، ولكن ليحذر من ينصب نفسه داعية للخلق الجميل، فإن الناس سيحاسبونه على كل صغيرة وكبيرة، وسيقولون فيه كل شيء، بالحق وبالباطل، فلينظر أين يضع قدمه، وأين يوجه خطراته النفسية والروحية، وكيف تكون صلته بالله وصلته بخلق الله. إن الدعوة إلى الخلق الجميل كالدعوة إلى الدين الحق، وقد رأينا كيف عانى الأنبياء، من ظلم الجاهلين والسفهاء، فمن تسامت نفسه إلى الدعوة إلى البر والشرف فليوطن نفسه على احتمال الضيم والأذى والعقوق.
رأي ابن القيم في الجمال
ولنقيد أن هذه الأزمات لا تقع إلا حين تكون الريب والشبهات، فإذا صفت النفس، وأمن المريد من عنف الشهوة، فإن الصوفية يطلقون لأخيلتهم العنان في تصوير الجمال، وقد تحفظ ابن القيم ما شاء أن يتحفظ ولكنه عقد فصلًا مهمًا في كتاب (روضة المحبين) وهو الفصل التاسع عشر الذي تكلم فيه عن «فضيلة الجمال، وميل النفوس إليه على كل حال».
وقد قسم الجمال إلى قسمين: ظاهر، وباطن، وبين أن الجمال الباطن هو المحبوب لذاته، وهو جمال العلم والعقل والجود والعفة والشجاعة، وهذا الجمال الباطن هو محل نظر الله من عبده وموضع محبته، وهو يزين الصورة الظاهرة وإن لم تكن ذات جمال. وأما الجمال الظاهر فزينة خص الله بها بعض الصور عن بعض، وهي من زيادة الخلق التي قال الله تعالى فيها: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ.
ومن الواجب أن نتأمل ما في هذا الكلام من التربية الخلقية، فابن القيم يجعل الحسن الظاهر من طيبات الأرزاق، ولكنه يشترط لذلك أن يحسن الخلق ويكمل الدين، وهو يلح في هذا المعنى بصيغ مختلفة من التأكيد، ويستشهد بكلام الرسول وكلام الحكماء.
وهذا التأكيد يدل على قوة الحاسة الخلقية، فالحسن الفاجر هو في الواقع حسن وضيع، وفي الخلق السليم جمال أبرع من الجمال المحسوس، والمعنويات في جوهرها أشرف من المحسوسات، والعقل الصحيح يتمثل المحسوس من صور التقريب للمعقول، والجمال الحسي لا يمكن أن يكون غاية إلا عند أهل الضعة والإسفاف من طلاب الدون في عالم الشهوات.
والجمع بين المعقول والمحسوس هو غاية الغايات، ولا يتفق ذلك إلا حين يشاء الله أن يسبغ نعمه على بعض العباد، كالذي وقع في حياة محمد بن عبد الله ويوسف بن يعقوب.
صور مبتكرة في التنفير من الحب الأثيم
ويمضي ابن القيم فيقول: ولما كان الجمال من حيث هو محبوبًا للنفوس، معظمًا في القلوب، لم يبعث الله نبيًا إلا جميل الصورة، حسن الوجه، كريم الحسب، حسن الصوت، كذا قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وكذلك يدور ابن القيم حول الجمال يمدحه ويطريه ويصف به أشرف الناس، وما كان لنا أن نهتم بهذا لولا دلالته على نزعة أصيلة من نزعات الصوفية: فالنبي جميل، والله جميل، وصفوة الله من خلقه هم المؤمنون من أهل الجمال.
وأظرف موقف في هذه الأحاديث هو موقف الحسن البصري وقد رأى تلك الحسناء، والحسن البصري هو إمام الصوفية، وهو مع ذلك يعرف كيف يقول: «ما على رجل كانت هذه في زاوية بيته ما فاته من الدنيا».
وهي عبارة بصرية تمثل اللهفة والشوق إلى أفنان الجمال.
دعوة النفس إلى حرب الهوى
أولئك هم الصوفية، وتلك نظراتهم إلى صباحة الوجوه، أفلا يكون لذلك أثر في فهمهم للأدب وتصورهم للأخلاق؟
وكيف يمكن أن لا تؤثر هذه النزعات في اتجاهاتهم الخلقية والأدبية؟ إن الخلق يصدر عن النفس، والأدب ينبغ من القلب، وأمثال هذه النفوس والقلوب لا تفيض إلا بالرحيق السلسبيل في الأدب والأخلاق. ولا يمكن أن يمتري منصف في قوة الخلق عند أولئك القوم، وإن جهد ناس في رميهم بالحصيات، أما الأدب فحسبهم من التفوق فيه أن تفردوا بالإخلاص، والإخلاص هو أساس العظمة في جميع الميادين.
بين العقل والدين
إن حوادث الصوفية في الحب العفيف كانت تروى، وهي آيات من الأدب الممتع، وأي جمال فات هذه القصة، وقد رواها المبرد بسنده عن رجاء بن عمرو النخعي قال:
كان بالكوفة فتى جميل الوجه، شديد التعبد والاجتهاد، فنزل في جوار قوم من النخع فنظر إلى جارية جميلة فهويها وهام بها عقله، ونزل بالجارية ما نزل به، فأرسل يخطبها من أبيها، فأخبره أبوها أنها مسماة لابن عم لها، فلما اشتد عليهما ما يقاسيانه من ألم الهوى أرسلت إليه الجارية: قد بلغني شدة محبتك لي، وقد اشتد بلائي بك، فإن شئت زرتك، وإن شئت سهلت لك أن تأتيني إلى منزلي، فقال للرسول: ولا واحدة من هاتين الخلتين، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، أخاف نارًا لا يخبو سعيرها، ولا يخمد لهيبها، فلم أبلغها الرسول قوله قالت: وأراه مع هذا يخاف الله؟ والله ما أحد أحق بهذا من أحد، وإن العباد فيه لمشتركون. ثم انخلعت من الدنيا وألقت علائقها خلف ظهرها وجعلت تتعبد، وهي مع ذلك تذوب وتنحل حبًا للفتى وشوقًا إليه حتى ماتت من ذلك، فكان الفتى يأتي قبرها فيبكي عنده، ويدعو لها، فغلبته عينه ذات يوم على قبرها فرآها في منامه في أحسن منظر، فقال: كيف أنت، وما لقيت بعدي؟ فقالت:
فقال: على ذلك، إلام صرت؟ فقالت:
فهذه القصة من وضع الصوفية، وهي من القصص التعليمية التي ألفت لرياضة النفس على إيثار العفاف، وهي — على جمال مغزاها من الوجهة الخلقية — متخيرة الألفاظ، بارعة الخيال.
وأجمل من هذه القصة وأمتع ما حدثوا أن امرأة جميلة كانت بمكة، وكان لها زوج، فنظرت يومًا إلى وجهها في المرآة فقالت لزوجها: أترى أحدًا يرى هذا الوجه ولا يفتن؟ قال: نعم. قالت: من؟ قال: عبيد بن عمير. قالت: فائذن لي فيه فلأفتننه! قال: قد أذنت لك. فأتته كالمستفتية، فخلا معها في ناحية من المسجد الحرام، فأسفرت عن وجه مثل فلقة القمر، فقال لها: يا أمة الله، استتري! فقالت: إني قد فتنت بك! فقال: إني سائلك عن شيء، فإن أنت صدقتني نظرت في أمرك. قالت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك. قال: أخبريني لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك، أكان يسرك أن أقضي لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، فلو دخلت قبرك وأجلست للمسائلة، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين أتأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، فلو أردت الممر على الصراط ولا تدرين هل تنجين أو لا تنجين، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، فلو جيء بالميزان وجيء بك فلا تدرين أيخف ميزانك أم يثقل، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت، فلو وقفت بين يدي الله للمساءلة أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت. ثم قال: اتقي الله فقد أنعم عليك، وأحسن إليك.
أرأيتم ما في هذه القصة من وجوه التربية الخلقية؟
إن هذا الفن من الأقاصيص هو من وضع الصوفية ومن نحا نحوهم من أهل الزهد والعفاف، وهو بما فيه من عناصر الصدق والإخلاص خليق بمطاردة ما وضع المفسدون من أخبار الفسق والمجون، فإن لم يكن الصوفية خلقوا هذا الفن فهم الذي أحيوه وأذاعوه، فإليهم الفضل في حياته على كل حال، وهو فضل ليس بالقليل.
ويتصل بهذا روايتهم للأخبار القصيرة التي تردع الهوى، وترد شارد العقل، من أمثال هذه الكلمات:
ولهذه الكلمات نظائر كثيرة جدًا، وهي تؤيد ما ذهبنا إليه من أن اهتمام الصوفية بالجمال ساقهم إلى فنون ممتعة من صور الأدب والأخلاق.
- الأول: عزيمة حر يغار لنفسه وعليها.
- الثاني: جرعة صبر يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة.
- الثالث: قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة، والشجاعة كلها صبر ساعة، وخير العيش ما أدركه العبد بصبره.
- الرابع: ملاحظته حسن موقع العاقبة، والشفاء بتلك الجرعة.
- الخامس: ملاحظته الألم الزائد على لذة طاعة هواه.
- السادس: إبقاؤه على منزلته عند الله تعالى وفي قلوب عباده، وهو خير وأنفع له من لذة مرافقة الهوى.
- السابع: إيثار لذة العفة وعزتها وحلاوتها على لذة المعصية.
- الثامن: فرحه بغلبة عدوه، وقهره له. ورده خائبًا بغيظه وغمه وهمه، حيث لم ينل منه أمنيته.٣٣
- التاسع: التفكير في أنه لم يخلق للهوى، وإنما هيء لأمر عظيم لا يناله إلا بمعصية الهوى.
- العاشر: أن لا يختار لنفسه أن يكون الحيوان البهيم أحسن حالًا منه، فإن الحيوان يميز بطبعه بين مواقع ما يضره وما ينفعه، فيؤثر النافع على الضار، والإنسان أعطى العقل لهذا المعنى.٣٤
- الحادي عشر: أن يسير بفكره في عواقب الهوى: فيتأمل كم أفاتت معصيته من فضيلة، وكم أوقعت في رذيلة، وكم أكلة منعت أكلات، وكم من لذة فوتت لذات، وكم من شهوة كسرت جاهًا، ونكست رأسًا، وقبحت ذكرًا، وأورثت ذمًا، وألزمت عارًا لا يغسله الماء، غير أن عين الهوى عمياء.
- الثاني عشر: أن يتصور العاقل انقضاء غرضه ممن يهواه، ثم يتصور حاله بعد قضاء الوطر، وما فاته وما حصل له.
- الثالث عشر: أن يتصور ذلك في حق غيره حق التصور، ثم ينزل نفسه تلك المنزلة، فحكم الشيء حكم نظيره.
- الرابع عشر: أن يتفكر فيما تطالبه به نفسه من ذلك، ويسأل عنه عقله ودينه يخبرانه بأنه ليس بشيء.
- الخامس عشر: أن يأنف لنفسه من ذل طاعة الهوى، فإنه ما أطاع أحد هواه إلا وجد في نفسه ذلًا، ولا يغتر بصولة أتباع الهوى وكبرهم، فهم أذل الناس بواطن، قد جمعوا بين الكبر والذل.
- السادس عشر: أن يوازن بين سلامة الدين والعرض والمال والجاه، وبين نيل اللذة المطلوبة، فإنه لا يجد بينهما نسبة ألبتة، فليعلم أنه من أسفه الناس يبيعه هذا بهذا.
- السابع عشر: أن يأنف لنفسه أن يكون تحت قهر عدوه، فإن الشيطان إذا رأى من العبد ضعف عزيمة وسقوط همة، وميلًا إلى هواه طمع فيه وصرعه، وألجمه بلجام الهوى، وساقه حيث أراد، ومتى أحس منه بقوة عزم وشرف نفس وعلو همة لم يطمع فيه إلا اختلاسًا وسرقة.
- الثامن عشر: أن يعلم أن الهوى ما خالط شيئًا إلا أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضلالة، وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء، وإن وقع في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة، وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم وصده عن الحق، وإن وقع في القسمة خرجت عن قسمة العدل إلى قسمة الجور، وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين حيث يولي بهواه، ويعزل بهواه، وإن وقع في العبادة خرجت عن أن تكون طاعة وقربة، فما قارن الهوى شيئًا إلا أفسده.
- التاسع عشر: أن يعلم أن الشيطان ليس له مدخل على ابن آدم إلا من باب هواه، فإنه يطيف به ليعرف أين يدخل عليه حتى يفسد قلبه وأعماله، فلا يجد مدخلًا إلا من باب الهوى فيسري منه سريان السم في الأعضاء.
- العشرون: أن يتذكر أن مخالفة الهوى تورث العبد قوة في بدنه وقوة في لسانه، وأن أغزر الناس مروءة أشدهم مخالفة لهواه، وأنه ما من يوم إلا والهوى والعقل يعتلجان، فأيهما قوي على صاحبه طرده وتحكم وكان الحكم له، وأن الله سبحانه جعل الخطأ واتباع الهوى قرينين، وجعل الصواب ومخالفة الهوى قرينين.
- الحادي والعشرون: أن يعرف أن الهوى تخليط ومخالفته حِمية، وأنه يخاف على من أفرط في التخليط وجانب الحمية أن يصرعه داؤه. وأن الهوى رق في القلب، وغل في العنق، وقيد في الرجل، ومتابعه أسير، فمن خالفه عتق من رقه وصار حرًا، وخلع الغل من عنقه، والقيد من رجله، واستطاع مسايرة الصالحين.٣٥
وهذه الأمور لخصناها من كلام مطول أثبته ابن القيم في نهاية كتابه الممتع (روضة المحبين) وقد وصل به اجتهاده إلى نحو خمسين وسيلة لدعوة النفس إلى حرب الهوى. وفي هذه الشواهد مقنع لمن يمتري في مزج الصوفية بين العقل والدين، فهم لا يعتمدون على الشرع وحده، وإنما يجعلون الكرامة الإنسانية مما تنصب له الموازين، وهل كان الشرع في جوهره إلا مبعث يقظة للعقل والوجدان؟
والواقع أن الذين ثاروا عليه لم يفهموا ما يرمي إليه، فقد كان الرجل من القائلين بوحدة الوجود، والصور الجميلة من أنفس العناصر في الوحدة الوجودية، وربما كان التأمل فيها هو الذي ألهم الصوفية فتنة القول بالحلول أو القول بوحدة الوجود.
وما نقول به يختلف عما يقول به الشيرازي بعض الاختلاف، فالميل إلى الجمال هو في رأينا تربية للذوق تنتهي بالانتقال من المحسوس إلى المعقول، وهو عند الشيرازي خطوة أساسية في سبيل الوصول؛ إذ كان الجمال المحسوس جزءًا من الجمال المطلق الذي يتكون من المحسوس والمعقول.
والظاهر أن الشيرازي أجرأ منا وأصرح.