الموسيقا والغناء
فضل الموسيقا في التذكير بعالم الأرواح
ليس من المبالغة أن نحكم بأن الصوفية تفردوا بين أهل الأدب والأخلاق بالتجويد في الموسيقا والغناء، فهم الذين نظروا في ذلك نظرًا فلسفيًا، وهم الذين جعلوا الموسيقا والغناء من المشاكل الخلقية، وهم الذين صيروا إنشاد الشعر في المحافل العلنية بابًا من الأدب الرفيع.
ولنبدأ هذا الفصل بتحليل الحوار الممتع الذي وضعه إخوان الصفا في فضل الأنغام الموسيقية، فهو يمثل فهم الصوفية لأثر الموسيقا في تثقيف الأرواح والقلوب.
حدثوا أن جماعة من الحكماء والفلاسفة اجتمعوا في دعوة ملك من الملوك فأمر أن يكتب كل ما يتكلمون به من الحكمة، فلما غنّى الموسيقار لحنًا مطربًا قال أحد الحكماء: إن للغناء فضيلة يتعذر على المنطق إظهارها، ولم يقدر على إخراجها بالعبارة فأخرجها النفس لحنًا موزونًا، فلما سمعتها الطبيعة استلذتها وفرحت وسرّت بها فاسمعوا من النفس حديثها ومناجاتها.
وقال آخر: احذروا عند استماع الموسيقا أن تثور بكم شهوات النفس البهيمية نحو زينة الطبيعة، فتميل بكم عن سنن الهوى وتصدّكم عن مناجاة النفس العليا.
وقال آخر للموسيقار: حرّك النفس نحو قواها الشريفة من الحلم والجود والشجاعة والعدل والكرم والرأفة، ودع الطبيعة لا تحرك شهواتها البهيمية.
وقال آخر: الموسيقار إذا كان حاذقًا بصنعته حرك النفوس نحو الفضائل ونفى عنها الرذائل.
وقال آخر: سمع فليسوف نغمة القينات فقال لتلميذه: امض بنا نحو هذا الموسيقار لعله يفيدنا صورة شريفة، فلما قرب منه سمع لحنًا غير موزون ونغمة غير طيبة فقال لتلميذه: زعم أهل الكهانة أن صوت البوم يدل على موت إنسان، فإن كان ما قالوا صدقًا فصوت هذا الموسيقار يدل على موت البوم!
وقال آخر: لا يفهم معاني الموسيقار ولطيف عبارته عن أسرار الغيوب إلا النفوس الشريفة الصافية من الشوائب الطبيعية، والبريئة من الشهوات البهيمية.
وقال آخر: إن النفوس الناطقة إذا صفت عن الشهوات الجسمانية، وزهدت في الملاذ الطبيعية، وانجلت عنها الأصدية الهيولاينة، ترنمت بالألحان الحزينة، وتذكرت عالمها الروحاني الشريف العالي، وتشوفت نحوه فإذا سمعت الطبيعة ذلك اللحن تعرضت للنفس بزينة أشكالها، ورونق أصباغها، كيما تردّها إليها، فاحذروا من مكر الطبيعة أن تقعوا في شبكتها.
وقال آخر: إنما تشخص أبصار الناظرين إلى الوجوه الحسان؛ لأنها أثر من عالم النفس، ولأن عامة المرئيات في هذا العالم غير حسان لما يعرض لها من الآفات الشائنة المشوهة، إما في أصل التركيب أو بعده. وبيان ذلك أن الصغر من المواليد يكونون ألطف بنية وأظرف شكلًا وصورة لقرب عهدها من فراغ الصانع منها، وهكذا حكم ما يُرى من حسن الثياب ورونقها في مبدأ كونها قبل الآفات العارضة لها من الهوام والبلى والفساد.
اختلاف الناس في فهم الصور المعنوية للموسيقا والغناء
وإخوان الصفا من الصوفية، وإن لم يصرحوا بذلك، وهم يستشهدون بكلام أهل التصوف في مواطن كثيرة، وفي هذا الباب نقلوا من نوادرهم ما يؤيد رأيهم في اختلاف التأثيرات الموسيقية باختلاف النفوس. وهم يرون أن «كل نفس إذا سمعت من الأوصاف ما يشاكل معشوقها، ومن النغمات ما يلائم محبوبها، فرحت وسرت والتذت بحسب ما تصورت من رسوم معشوقها، واعتقدت في محبوبها، وتلك المعشوقات تختلف باختلاف الطباع، فللطبع السليم معشوقات روحانية، وللطبع العليل معشوقات أرضية، وقد صرحوا بأن أبصار الناظرين تشخص إلى الوجوه الحسان لأنها أثر من عالم النفس، كأن ذلك العالم كله جمال. وعلى هذا الأساس يكون الغناء العذب تذكيرًا بالمحاسن المغيبة في عالم الأرواح».
الألحان في الأغاني الدينية وفي القرآن
ولا تزال الكنائس المسيحية منذ نشأتها الأولى عامرة بالأناشيد، وللكنائس الفرنسية تأثير في الموسيقا والغناء يعرفه من يهتم باللوحات الغنائية، وقد جمعت عددًا وفيرًا من أناشيد الرهبان، ولا سيما الأناشيد المعروفة بالجريجوارية.
رأي الصوفية في السماع
حسن النية وشرف القصد هما الأساس في إباحة الغناء
بين الفقهاء والصوفية
أما طريقة التغني في مجالس الصوفية فقد بينها الأستاذ التفتازاني في مقال نشره في مجلة المعرفة — عدد يونيه سنة ١٩٣١ — وهو يقول:
«إن الصوفية درجوا منذ القديم على أن يبدأوا مجالس الذكر بـ (لا إله إلا الله) وتعرف عندهم بالأرضية، ويأخذ (الرسيم) الذي هو رئيس المجلس في التدرج بالذاكرين أثناءها من الراست «الرصد» إلى الدوكه إلى السيكاه إلى الجهر كاه (الجركاه) إلى الحجاز ثم الرهاوي فالكردي فالبياتي فالصبا. وهنا تبدو مقدرة الرئيس في نقل الذاكرين من نغمة إلى نغمة كما تبدو مقدرة المنشدين في متابعتهم للأنغام والإنشاد. والغالب في الإنشاد على الأرضية أن يكون من كلام الصوفية كقولهم:
إلى آخر القصيدة، ثم ينفرد رئيس المنشدين بعد الوصول إلى نغمة الرصد أو إلى النغمة التي ينتهي عندها إنشاد القصيدة بالاستغاثة (أغثنا أدركنا يا رسول الله) ثم يقول الموال من نفس النغمة، فالأبيات التي سينشدها عند قيام المجلس من نفس النغمة أيضًا ينشدها على الأرض مقطعة، وعند قيام الذاكرين يكرر الأبيات بالطريقة المألوفة، ثم ينفرد بعد ذلك بالمقطعات والقصائد والرقائق وما إليها من كلام الصوفية. وقد يستبيح بعضهم أن ينشد الأدوار الموسيقية بمذاهبها وورودها المعروفة على مجلس الذكر، ولكن هذه الطريقة قاهرية محضة، ويكاد لا يتبعها إلا رجال الطريقة الليثية أصحاب الفضل على هذا الفن وأساتذة مبرّزيه وحملة ألويته في القاهرة منذ مائتي عام».
طرائق الإنشاد في مجالس الذكر
وقد لا حظت أن مجالس الصوفية كانت تنقلب أحيانًأ إلى مجالس فنية، فهي مجالس تعقد ظاهرًا لذكر الله، ولكن الغرض منها الغناء. فقد كان في حي الحسين منزل تقام فيه حضرة كل ليلة ثلاثاء. وكان ذكر الله في الصورة الشكلية يتولاه طائفة من العجزة عجزة الدراويش، أما نظام المجلس فيقوم على فن الشيخ حسن الحويحي، وكان منشدًا حلو الصوت، عذب الأداء، خفيف الروح، وكان ينشد في الحضرة أبياتًا من شعر ابن الفارض، مثل:
ثم يندفع فيغني «آنست يا نور الوجود، شرفت يا روح المهجة، بعد البعاد أنا قلبي عليك» أو «الكمال في الملاح صدف» إلى آخر الأغاني الطريفة التي كانت تغنى في الليالي الملاح.
وكنت ألاحظ أن أهل ذلك المنزل يجعلون ليلة الحضرة ليلة قصف فيجمعون خلانهم حول الموائد ويتندرون بأطايب الأحاديث.
وكان المستمعون يقترحون «الأدوار» على نحو ما كانوا يفعلون في حفلات الطرب والأنس، وقد اقترح بعضهم دور «حود من هنا وتعال عندنا»؛ فغضب الشيخ الحويحي وقال: نحن لسنا في الأزبكية … أما أنا فكنت أفهم من شواهد الحال أن الأزبكية ليست منهم ببعيد!
مجالس الصوفية تنقلب أحيانًا إلى مجالس فنية
وكانت مجالس الذكر مدرسة لتخريج المغنين ففيها ظهرت تباشير النبوغ للمرحومين عبده الحامولي، ومحمد عثمان، وسلامة حجازي، ويوسف المنيلاوي، وسيد درويش. وفي القرى المصرية مئات من قراء الموالد هم في الأصل من أتباع الصوفية.
أثر الغناء في الأدب
واهتمام الصوفية بالغناء عاد على الأدب بكثير من النفع؛ فهناك مجموعات شعرية وضعت لحفظ الأناشيد الصوفية، منها سفينة النجاة، وهي مجموعة صنفت منذ عشرين عامًا صنفها الأديب محمود نسيم، وقد عاونته على ترتيبها يوم كنت موصول العهد بالسادة الشاذلية.
وقد انتقل فريق من تلك الأناشيد إلى الأغاني الحسية، أغاني المرح والطرب في عالم الحس الذي يتاخم عالم الروح. ومنذ ليال كان صالح عبد الحي يغني في قاعة المذياع:
وهي قصيدة صوفية يتلقاها أكثر الناس بالقبول، وهي في أنفسهم صورة من الوجد الحسي المشبوب.
وأكثر الأغاني الصوفية رمزيات وفيها ما يفصح عن أغراضهم كالذي نراه في هذه الحائية:
بين الرمز والإفصاح
وفي الصوفية من اهتم بتحديد المعاني المنقولة من الحسيات إلى الذوقيات، فقد حدث ابن عربي أن من سماعهم قول ابن حيوس:
وهذه العبارة فيها حيرة، حيرة ابن عربي بين مقام الله ومقام الرسول، وسبب ذلك يرجع إلى قوله بالحقيقة المحمدية، فالنبي مألوه من جانب وإله من جانب، فهو رب ومربوب، هو رب حين تراه صاحب الفضل على جميع الموجودات، وهو مربوب حين تتصور تبعيته لواجب الوجود، وقد فصلنا هذه القضية في الجزء الأول تمام التفصيل.
ثم حدثنا أن من سماع الصوفية قول مهيار:
وهذا الكلام على ركاكته واضح المدلول، فهو يعني أن الصوفية قد يتغنون بأشعار حسية، ولكنهم ينقلونها إلى آفاق روحانية.
وما احتاج ابن عربي إلى هذا الشرح إلا لأنه كان مشغوفًا بتقعيد التصوف، أي إقامته على قواعد وأصول.
وكان الأفضل أن يترك هذه المعاني بلا شرح، فللأرواح آفاق أوسع وأرحب مما يظن، والصوفي الموصول القلب والروح بعالم المعاني قد يفهم من الغناء أشياء لا يصل إليها شرح ولا تفسير ولا تأويل.
وشعراء الحواس أنفسهم لا تفتنهم «ليلى» من حيث هي امرأة، وإنما يتمثلون بها معاني كثيرة جدًا، منها الهجر والوصل والعذاب والنعيم.
والصوفي يعجز حقًا وصدقًا عن شرح أسباب هيامه حين يسمع الغناء، ومثله مثل الموسيقار الحساس الذي يطرب من حيث لا يعرف بالضبط كيف طرب.
والصوفي الحق لا ينكر المحسوسات، فهو قد يحب «ليلى» الحقيقية بجانب «ليلى» المجازية؛ لأن ليلى الحقيقية سطر جميل في لوح الوجود.
الصوفي الحق لا يحتاج إلى التبرؤ من جميع المحسوسات كما يتبرأ أمثال ابن عربي؛ لأن المحسوسات هي التصوير للمعقولات، وهي المفتاح الذي تدخل به فردوس المعاني.
الصوفي الحق يرتاح لكل قول، ولكل صوت، ولكل منظر، ولكل مخبر، وهذه المرئيات ليست من الأوهام، وإنما هي شواهد تشير إلى حقائق، كما تشير الألفاظ إلى المعاني.
الصوفي الحق يعذر جميع المضللين وجميع المفتونين؛ لأنهم في رأيه من السالكين وإن جهلوا الطريق.
الصوفي الحق يطرب لكل شيء، ويأنس بكل شيء، ويتغافل عن الشروح؛ لأنها تفسد النفحات الوجدانية التي تأخذ عبيرها من الإبهام والغموض.
الصوفي الحق لا يعرف ماذا يريد، وهل كان مجنون ليلى يعرف بالضبط ماذا يريد؟
الصوفي الحق يرتاح إلى الحيرة كما يرتاح الجاهلون إلى اليقين.
•••
اللهم ضللني في هواك، واجعلني وحدي أسير الضلال في هواك، فبفضلك ورحمتك ذاق العارفون طعم الضلال.
وهل كانت الهداية الصريحة إلا نصيب الأغبياء!
وبالقرب منه كان بيت الشيخ مصلح، وكان صوفيًا متأنقًا يعيش عيش المترفين، وكان الحضرة تقام في بيته ليلة الإثنين، وما كان فيها ذكر ولا أناشيد، وإنما كان يجتمع القراء المشهورون لقراءة القرآن بالألحان. وكان القراء يجدون الفرصة لتكوين سمعتهم بين الجماهير، قبل أن تخلق الإذاعة اللاسلكية بأعوام طوال. والشيخ مصلح مدفون بقرية الشيخ عبيد بجوار المطرية، وقد حدثني الأستاذ محمد لطفي جمعة أن بيته لا يزال معمورًا بمريديه القدماء.